فانظر تر كيف قرن هذا الإمام الرئيس صدق الشعر بالمحاكاة، لأن المحاكاة الحسنة في الأقوال الصادقة وحسن إيقاع الاقترانات والنسب بين المعاني مثل التأليف الحسن في الألفاظ الحسنة المستعذبة.
ثم قال ابن سينا: "ولا يلتفت إلى ما يقال من أن البرهانية واجبة والجدلية ممكنة أكثرية والخطابية ممكنة متساوية لا ميل فيها ولا ندرة، والشعرية كاذبة ممتنعة. فليس الاعتبار بذلك، ولا أشار إليه صاحب المنطق".
وقال أبو علي أيضًا في موضع آخر: "وليس يجب في جميع المخيلات أن تكون كاذبة، كما لا يجب في المشهورات وما يخالف الواجب قبوله أن تكون لا محالة كاذبة. وبالجملة التخييل المحرك من القول متعلق بالتعجب منه: إما لجودة هيأته أو قوة صدقه أو قوة شهرته أو حسن محاكاته".
١٦- تنوير: واعلم أن للأقاويل المتعلقة بمناصحة ذوي التصافي، والتي لا يليق بها ذلك هي المقصود بها مغاشة ذوي الأضغان. فلا تكون في ما كان نصحا محضا في الأكثر إلا صادقة.
وإن كان لقاصد النصح أيضًا أن يتعرض للكذب النافع في طريق النصح، كمن يحذر قوما من عدو يتوقع إناخته عليهم، فإن له أن يقرب البعيد ويكثر القليل في ذلك ليأخذوا لأنفسهم بالحزم والاحتياط. ولا تكون في قصد به الغش إلا كاذبة.
وأكثر ما يمال بالأقاويل الشعرية في صغوى الصدق والكذب بحسب هذين المقصدين في مواطن إدارة الآراء والإشارة بوجوه الحيل والمكائد والتدابير لما يستقبل ويتوقع.
وهذه الأقاويل هي التي يسميها أبو علي ابن سينا "بالمنشوريات".
١٧- إضاءة: فقد تبين من هذا ومما قبله أن الشعر له مواطن لا يصلح فيها إلا استعمال الأقاويل الصادقة، ومواطن لا يصلح فيها إلا استعمال الأقاويل الكاذبة، ومواطن يصلح فيها استعمال الصادقة والكاذبة واستعمال الصادقة أكثر وأحسن، ومواطن يحسن فيها استعمال الصادقة والكاذبة واستعمال الكاذبة أكثر وأحسن، ومواطن تستعمل فيها كلتاهما من غير ترجح. فهي خمسة مواطن، لكل مقام منها مقال.
وقد بين أبو علي ابن سينا كون التخييل لا يناقض اليقين وكون القول الصادق في مواطن كثيرة أنجع من الكاذب. فقال: "والمخيل هو الكلام الذي تذعن له النفس فتنبسط لأمور أو تنقبض عن أمور من غير روية وفكر واختيار. وبالجملة تنفعل له انفعالا نفسانيا غير فكري، سواء كان المقول مصدقا به. فإن كونه مصدقا به غير كونه مخيلا أو غير مخيل. فإنه قد يصدق بقول من الأقوال ولا ينفعل عنه، فإن قيل مرة أخرى أو على هيئة أخرى انفعلت النفس عنه طاعة للتخيل لا للتصديق. فكثيرا ما يؤثر الانفعال ولا يحدث تصديقا، وربما كان المتيقن كذبه مخيلا. وإن كانت محاكاة الشيء لغيره تحرك النفس وهو كاذب فلا عجب أن تكون صفة الشيء على ما هو عليه تحرك النفس وهو صادق، بل ذلك أوجب، لكن الناس أطوع للتخييل منهم للتصديق. وكثير منهم إذا سمع التصديقات استكرهها وهرب منها. وللمحاكاة شيء من التعجيب ليس للصدق لأن الصدق المشهور كالمفروغ منه، ولا طراءة له. والصدق المجهول غير ملتفت إليه. والقول الصادق إذا حرف عن العادة وألحق به شيء تستأنس به النفس فربما أفاد التصديق والتخييل معا، وربما شغل التخييل عن الالتفات إلى التصديق والشعور به".
وقد قال أبو نصر في كتاب الشعر: "الغرض المقصود بالأقاويل المخيلة أن ينهض السامع نحو فعل الشيء الذي خيل له فيه أمر ما من طلب له أو هرب عنه".
ثم قال: "سواء صدق بما يخيل إليه من ذلك أم لا كان الأمر في الحقيقة على ما خيل له أو لم يكن".
فأنت ترى هذين الرجلين كيف جعلا التخييل قد يكون بما هو حقيقة في الشيء، وقد يكون بما لا حقيقة له.
١٨- تنوير: وإنما غلط في هذا -فظن أن الأقاويل الشعرية لا تكون إلا كاذبة- قوم من المتكلمين لم يكن لهم علم بالشعر، لا من جهة مزاولته ولا من جهة الطرق الموصلة إلى معرفته.
ولا معرج على ما يقوله في الشيء من لا يعرفه، ولا التفات إلى رأيه فيه. فإنما يطلب الشيء من أهله. وإنما يقبل رأي المرء فيما يعرفه. وليس هذا جرحة للمتكلمين ولا قدحا في صناعتهم، فإن تكليفهم أن يعلموا من طريقتهم ما ليس منها شطط.
1 / 26