لقد أوضحنا كيف تتفق آسيا وأفريقيا في ماض واحد وكيف تتلاقيان في حاضر واحد، وبقي أن نكمل الصورة ببيان يوضح التقاءهما في مصير واحد.
إن من أهم الظواهر المشتركة بين هاتين القارتين ما يقوم به المثقفون من قيادة فكرية نحو مستقبل منشود. نعم إن المستنيرين في كل بلاد الأرض يتولون زمام القيادة الفكرية، لكن موقفهم في قارتينا يلفت النظر ببعض الخصائص المميزة؛ بسبب الفجوة التي كانت - وما تزال إلى حد ما - تفصل جماهير الشعب من جهة، والطبقات العليا من جهة أخرى؛ فحيث لا تكون هنالك فجوة بين هذين الطرفين، تكون مهمة المستنيرين هي التنوير العقلي والتهذيب الوجداني بطريقة لا يكون الدور القيادي فيها واضحا. أما حين يكون هناك مثل هذه الفجوة، فإن المستنيرين يكونون مركز الحساسية أولا ثم مكان القيادة الظاهرة ثانيا، هادفين إلى سد الفجوة الفاصلة بين طرفي الشعب الواحد.
وأمام المستنيرين في شعوبنا الآسيوية الإفريقية فجوتان من نوعين مختلفين؛ فالمسافة بعيدة داخل البلد الواحد بين العلية والجماهير، والمسافة بعيدة كذلك بين البلد كله من ناحية والعالم العلمي الصناعي الفني المتسلط من جهة أخرى، فلا مندوحة لها عن قيادتين في آن واحد: إحداهما ترمي إلى التسوية بين المرتفع والمنخفض في الداخل، والأخرى نهوض عام ليلحق البلد كله ببلاد سبقته فسيطرت عليه بسبقها.
وليس بد أمام المستنيرين منا - لكي يحققوا أهدافهم - من إشعال الروح القومية بشتى الوسائل. ومن هذه الوسائل تركيزهم على إحياء التراث القومي، ليظهر لكل شعب مجده القديم فيستحثه هذا على استرداد شخصيته وكرامته، ليصل طارفا بتليد.
وتلك نظرة إلى المستقبل تنظرها القارتان كأنما هما تنظران نظرة واحدة. وحين يتحقق لها أملها يتحقق للإنسانية كلها أمل أخفق الغرب في بلوغه، ألا وهو العدالة والسلام؛ لأن فوارق كثيرة؛ مما يسبب الظلم. والحروب ستزول؛ فستزول الفوارق العنصرية، وفوارق الثروة بين قارات العالم، وفوارق العلم، وفوارق القوة بشتى ضروبها.
ولقد أراد الله للقارتين أن يظهر بين أبنائهما قادة يحسنون التعبير عن آمال شعوبهم، ويحسنون القيادة نحو تحقيق تلك الآمال، فرأينا رجالا في مستوى أبطال التاريخ ينبغون هنا وهناك دفعة واحدة كأنما هم والقدر على ميعاد.
هؤلاء الهداة البناة العمالقة يشتركون معا في بناء آسيا وأفريقيا بناء جديدا، يعيد لها قيادة الحضارة. فمن بين سبعين قرنا من قرون التاريخ الحضاري، لبث زمام القيادة في أيدي هاتين القارتين العظيمتين ما يقرب من خمسة وستين، ولم يفلت منهما الزمام إلا مدى الخمسة القرون الأخيرة. أيكون حلما بعيد التحقيق - إذن - أن تعود القارتان من جديد، وهما اللتان علمتا الإنسان أصول الحضارة وفروعها، فتعلمانه مرة أخرى درسا نسيه فجلب عليه الكوارث بنسيانه، وهو أن المساواة بين البشر أساس لا بد من إقامته أولا قبل أن يذوق العالم طعما للسلام؟
صفحه نامشخص