إن أهل القارتين يشتركون اليوم في شعورهم بأن بلادهم قد أصبحت بلادهم! نعم إن في هذه العبارة شيئا من المفارقة اللفظية؛ إذ لا يعقل أن تكون بلادهم بلاد سواهم، لكنها الحقيقة المرة برغم ما فيها من تناقض في اللفظ والمعنى؛ فلم تكن البلاد الآسيوية الإفريقية بلاد أهلها إلا منذ قريب، منذ خرج الآسيويون والإفريقيون من كفاحهم ظافرين أو أوشكوا على الظفر. أما قبل ذلك فقد كانت بلادهم مرتعا خصيبا لسواهم، فكان الدوح - كما قال شاعرنا - حراما على بلابله، حلالا على الطير من كل جنس.
كنا إلى عهد قريب شعوبا تعد بالجماعات كأنها القطعان، وتوزن بالموارد الطبيعية كأنها من الحجر الأصم ؛ بل كان الساسة في الغرب يجتمعون معا على موائد المفاوضات وأمامهم خرائط بلادنا، وفي أيديهم أقلام يخطون بها خطا هنا وخطا هناك، فكانت كأنها أيدي القدر، تفتت الشعوب وتفتك بالأمم كلما رسمت من تلك الخطوط خطا. وإنه لمما يروى عن بلفور صاحب الوعد المشئوم، أنه حين خط بقلمه على خريطة أمامه ما قد أرادت نزواته أن ينزله على أرض فلسطين الحبيبة من مصير، سأله سائل: وماذا تنوي أن تصنع بأهل هذا الإقليم المقتطع؟ فأجاب في دهشة مصطنعة سائلا بدوره: ألهذا الإقليم أهل وفيه ناس؟ هكذا كنا إلى عهد قريب، فأصبحنا نعد أنفسنا بالآحاد، لأن كل فرد منا له عندنا قيمة. لم يكن للفرد في قارتينا إلا حرية واحدة تركوها له، وهي حريته الدينية، لا بل حتى هذه الحرية الواحدة كثيرا ما جعلوها موضع الأطماع، فراحوا يحاولون تغييرها كلما أمكنهم ذلك؛ وأما سائر الحريات من اقتصادية وسياسية واجتماعية فلم تكن قط من حقنا؛ فالاقتصاد في أيديهم، والسياسة لهم، والأوضاع الاجتماعية من صنعهم، فهم الذين يرفعون وهم الذين يخفضون كيف شاءت لهم مصالحهم؛ ففي هذا الميلاد الجديد تتشابه القارتان.
وكذلك تتشابه القارتان فيما قد خيم عليهما من جهل فرض عليهما فرضا، حتى إذا ما استرخت قبضة المستعمر عنهما، فتحت المدارس والجامعات فتحا بالعشرات والمئات؛ فقد تعمد المستعمرون - كل فيما قد وقع في براثنه - أن يهملوا التعليم كما وكيفا، فلا المدارس يتناسب عددها مع تعداد الشعب، ولا مستويات التعليم ترتفع إلى حاجة العصر؛ فقد كان يندر جدا أن يزيد التعليم في أي بلد إفريقي عن مستوى المدرسة الثانوية، فلم يكن في الكونجو كلية جامعية واحدة، ولم يكن في أفريقيا الغربية الفرنسية مدرسة عالية واحدة، ولا في نيجيريا مدرسة عليا واحدة، وهكذا. وإنه لمما يلفت النظر أن التعليم العالي حتى إن وجد لم يوجه إلى الجانب العلمي الذي من شأنه أن يخلق الصناعة، بل وجه كله تقريبا إلى الدراسات الأدبية، وحتى هذه الدراسات الأدبية لم توجه نحو ما من شأنه أن يلهب الشعور القومي ، بل وجهت الوجهة التي تظهر الآداب الغربية بالقياس إلى التراث الشعبي بمظهر العملاق. وكادت أبواب المدارس توصد في وجه المرأة، لأن المستعمرين يدركون أتم إدراك مدى ما تصنعه المرأة المستنيرة في النهوض ببلدها. أإذا وجدت بلاد آسيا وأفريقيا أن هذه الغشاوة تنزاح عنها معا، وأنها معا - كأنها على اتفاق - قد أخذت تنهض ببنيها نهوضا قويا سريعا بفتح الجامعات والمدارس العليا، وبتوجيه التعليم في الاتجاه العلمي الذي سيلد لها الصناعة فتخلق خلقا جديدا، ألا تكون هذه الروح المشتركة رباطا يجمع أشتاتها في شخصية واحدة؟
وأقول «أشتاتها» لأن المستعمر لم يغب عنه منذ اللحظة الأولى أن الوحدة إذا تماسكت استعصت عليه، وهي تهون إذا تفككت أشتاتا؛ ولهذا جعل يقسم البلد الواحد أقساما، والعصبة الواحدة أحزابا، حتى نظرت كل رقعة من الأرض إلى نفسها فإذا هي أجزاء متنافرة برغم ما بينها من وحدة جغرافية واقتصادية وجنسية ولغوية وثقافية ومعاشية. ويا ليتهم شطروا الجسم الواحد أشطرا ثم وقفوا عند هذا، بل راحوا يؤلبون كل شطر على الآخر، حتى حركوا العصبية القبلية وشجعوا النزعات الانفصالية على نحو ما نشاهده اليوم في مواضع كثيرة. ونحن إذا كنا نجتمع اليوم متضامنين، فإنما نرد اللطمة بلطمة مثلها.
وإن حديث التضامن الآسيوي الإفريقي لينقلنا إلى سمة لعلها أبرز سمات هذا العصر إطلاقا، كما أنها بغير شك أوضح ملامح الشخصية الآسيوية الإفريقية التي نتحدث عنها الآن، فلنقف عندها وقفة قصيرة:
لقد قال وليم إدوارد دي بوا
Du Bois - الكاتب الأمريكي الزنجي - في أوائل هذا القرن «إن مشكلة القرن العشرين هي مشكلة الفاصل اللوني.» ففهمت عبارته بادئ ذي بدء على أنها تعني مشكلة الزنوج في أمريكا على وجه التخصيص؛ لكن الرجل كان أوسع أفقا وأغزر علما وأنفذ بصيرة من أن يجعل مشكلة الزنوج في أمريكا هي مشكلة القرن العشرين كله؛ فالذي عناه بعبارته تلك هي أن مشكلة هذا القرن هي نهضة الشعوب الملونة نهضة تهز قوائم العرش الذي تربع عليه أصحاب الجلدة البيضاء زمنا ما؛ وهذا يذكرنا أيضا بنبوءة تنبأ بها قيصر ولهلم الثاني في مطلع الحرب العالمية الأولى، حين قال إن أكبر صراع ستشهده البشرية حين ينشأ الصراع بين آسيا والغرب، بين الأصفر والأبيض؛ إنها ستكون أفظع الأزمات التي حاقت بسكان الأرض، وإنها لوشيكة الوقوع؛ فلو أضفنا - في نبوءة ولهلم الثاني - إلى آسيا أفريقيا، ثم أضفنا إلى اللون الأصفر الأسود والأسمر، رأينا صدق نبوءة القيصر.
فلأول مرة في التاريخ اجتمعت الآسيوية الإفريقية في مؤتمر باندونج عام 1955م؛ لأول مرة في التاريخ اجتمعت الدول نفسها التي حرص الغرب قبل ذاك على ألا يجعل لها نصيبا في السياسة الدولية؛ فما الذي كان يربط بينها؟ إننا نجيب عن هذا السؤال بلسان الرئيس سوكارنو؛ حيث قال عندئذ: «هذا أول مؤتمر دولي للشعوب الملونة في تاريخ البشر. إن الروابط التي توحدنا أهم بكثير من الفوارق السطحية التي تفرق بيننا ... والذي يوحدنا هو اتفاقنا جميعا على مقت التفرقة العنصرية.» إذن فالثورة الآسيوية الإفريقية المشتركة هي في أعماقها ثورة على ما كان الغرب قد أراده لبني الإنسان من عدم المساواة. لقد كان المجتمعون في باندونج يمثلون شعوبا احتقرت في قلب بلادها، وزحزحت إلى الصفوف الخلفية من الجماعة البشرية، وصب عليها الاستغلال ونزل بها الاضطهاد، لا من الوجهة السياسية وحدها، بل من الوجهة العنصرية كذلك؛ فجمع أهل اليابان وأهل الصين وأهل إندونيسيا وأهل الهند وأهل الشرق الأوسط وأهل أفريقيا، جمعوا كلهم في عين الغربي في مجموعة واحدة، قوامها اللون اللاأبيض؛ فما كان من هذه الشعوب كلها اليوم إلا أن تقبل هذا التحدي، وتجعل من نفسها مجموعة واحدة بالفعل، على هذا الأساس العنصري نفسه، وبهذا اجتمعت اجتماعها التاريخي في باندونج، اجتمعت تسع وعشرون دولة اختلفت مذهبا، لكنها اتحدت عنصرا؛ وكان لهذا مغزاه السياسي العميق؛ فقد كانت سياسة الدول الغربية مدى سبعة قرون استقرت على أساس أن التفاوت العنصري بين الغرب والشرق قد انحسمت فيه الكلمة إلى الأبد، وأن تفوق الغربي لن يصبح موضعا لنزاع، وعلى هذا الأساس حيكت خيوط العلاقات الدولية طوال هذا الأمد الطويل، وها هي ذي الدول الآسيوية والإفريقية قد اجتمعت كلها معا في باندونج لتمحو من سجل السياسة الدولية آية وتثبت مكانها آية.
ثم تلا ذلك الاجتماع اجتماعات تضامنية أخرى بين دول آسيا وأفريقيا؛ ففي القاهرة عام 1957م اجتمعت أربع وعشرون دولة إفريقية آسيوية، وأيدت فيما أيدته مبادئ باندونج.
وفي أكرا عاصمة غانا عام 1958م اجتمعت ثماني دول إفريقية مستقلة، فأكدت التعاون فيما بينها عند النظر إلى المشكلات الدولية عامة وإلى مشكلات القارة الإفريقية بصفة خاصة. وفي أديس أبابا عام 1960م انعقد مرة أخرى مؤتمر للدول الإفريقية المستقلة، لتؤكد فيه هذه الدول من جديد تضامنها ومؤازرتها لقرارات باندونج. وفي الدار البيضاء بالمغرب عام 1961م اجتمع أقطاب أفريقيا وتناولوا الموقف في الكونجو وغيره من الأحداث العالمية الكبرى. فهذه كلها اجتماعات تدل على أن الشخصية الآسيوية الإفريقية قد أخذت ملامحها تظهر واضحة، وعلى أن هذه الشخصية الموحدة ستتولى توجيه العالم إلى المساواة وإلى العدل وإلي الحرية بمعناها الصحيح.
صفحه نامشخص