من النقل إلى الإبداع
من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (٣) التراكم: تنظير الموروث قبل تمثل الوافد - تنظير الموروث - الإبداع الخالص
ژانرها
21
يظهر السجع كإيقاع موسيقي يجمع بين الدين والأدب. فبعد البسملة والحمدلة ووصف الله بالعظم الأعظم والقدم الأقدم، والعلم الأعلم، والحكيم الأحكم، والرحيم الأرحم، والكريم الأكرم، والحليم الأحلم ، تظهر آيات العلم والقلم والفضل والقصص والقلب والمشاهدة ووحدة الشهود، ووحدة الوجود ، والظاهر والباطن، والختم والطبع، وسنن الله في الكون، وتكثر الآيات أوقات الاستغراق الصوفي في المرحلة الخامسة ووقت مخاطبة العامة في المرحلة السادسة والأخيرة. كل ذلك أثناء سطوة الفقهاء الذين ينكرون مواجيد الصوفية ونظرياتهم في الحلول والاتحاد. وتظهر التعبيرات القرآنية غير المباشرة. فالقرآن إعجاز أدبي، مخزون نفسي، يفرض نفسه على الأسلوب. تغيرت الناس من سداد الرأي إلى فساده، ومن الفطر الفائقة إلى الفاسدة، ومن الكمال إلى النقص. فأصبحوا كالأنعام بل هم أضل سبيلا. ويظهر الحديث القدسي الشهير الذي يوحد بين السمع الإلهي والسمع الإنساني، والبصر الإلهي والبصر الإنساني في حالة الاتحاد. كما يظهر حديث خلق الله آدم على صورته، المرآة المزدوجة بين الله والإنسان، كل يرى الآخر ذاتا وموضوعا.
22
وتنتهي القصة بالصلاة والسلام على الرسول صاحب الخلق الطاهر والمعجز الباهر والبرهان القاهر والسيف الشاهر وكأننا في المدائح النبوية وعلى آله وصحبه والتسليم عليهم.
والأدب الصوفي أو الفلسفي الرمزي معروف قبل رواية حي بن يقظان «رسالة الطير» لابن سينا كنماذج للتصوف الفلسفي أي الفلسفة الصوفية. في الفلسفة بعض الجوانب الصوفية كما هو الحال في «الإشارات والتنبيهات» وفي التصوف بعض الجوانب الفلسفية كما هو الحال في الفلسفة الإلهية عند ابن عربي وابن سبعين مما يبين وحدة العلوم بالرغم من تمايزها، وكما اتحد الكلام بالفلسفة في علم الكلام المتأخر. ويظل التمايز في الفلسفة قائما بين تيارين، تيار عقلاني طبيعي عند الكندي والرازي وابن رشد، وتيار عقلاني إشراقي عند الفارابي وابن سينا وابن باجه وابن طفيل، ويبدو المنحى الصوفي في الإحالة إلى ضيق الألفاظ واتساع الحقيقة والتلويح والإشارة والظاهر والباطن، والمقامات والأحوال، والقلم والعقل، والمشافهة والمعاينة. لذلك يذكر ابن طفيل الهند. فآسيا موطن الحكمة المشرقية. فهو أقرب إلى البيروني منه إلى مسكويه وأنصار حكمة فارس. ولم يظهر عند القدماء أنصار حكمة الصين لبعد المكان.
ويبدو الإشراق من العنوان «حي بن يقظان» حي من الحياة، ويقظان أبوه. فالحياة بنت اليقظة، والحياة دون اليقظة موت ، وحياة الكائن الحي بنت حياة الشعور أساسه في الوعي وليس في العضو . تلك دلالة أسماء الأعلام وليس شخصياتها المطابقة لها في الواقع أو الخيال، مثل أن يقظان هو الأب الذي تزوج سرا من الأم بعد أن رفض أخوها تزويجها للأكفاء. ذلك هو الحامل الاجتماعي، الزواج بين الأكفاء. ويمكن تفسير العنوان، الاسم بأن حي هو العقل ويقظان هو الله، والنطق من الله. وتختلف الدلالات باختلاف أعماق الفهم في الداخل وليس في الخارج.
وتبدأ القصة بتفسير كيف نشأ حي بن يقظان. هناك مذهبان في نشأة الإنسان في الكون: الأول الولادة الطبيعية التي هي منشأ توالد الإنسان من الإنسان بعد الإنسان الأول. والثاني التطور الطبيعي ونشأة الإنسان من اجتماع درجة معينة من الحرارة ودرجة معينة من الرطوبة كما هو الحال في آدم الذي خلق من طين أي الأرض ثم نفخت فيه الروح أي الحرارة. وتلك أهمية الجمع بين الطب والفلسفة، بين البدن والنفس. وقد تم التوالد الذاتي في الهند تحت خط الاستواء حيث الحرارة والمطر. ثم تتحول القصة من الجغرافيا إلى التاريخ بمجرد بدايتها، وذكر الخلاف بين المسعودي مؤرخا. خط الاستواء (جزر الهند) أعدل الأجواء وبين الفلاسفة والأطباء واعتبارهم الأعدل الإقليم الرابع ومعارضة ابن طفيل لهم وانتصاره للمسعودي. فهل صحيح ذكر المسعودي هذا التعليل أم أنه مجرد خيال لمتطلب القص؟ وهل التعليل بالنور والاستواء حقيقة أم مجازا، طبيعية أم إشراقا؟
23
وتتداخل عدة خطوط في القصة تبدو في أقسامها الأربع غير المتساوية كما وغير المتسقة كيفا. أولا، الافتتاحية الدينية التي توحي بالجو الديني العام الذي كتبت فيه القصة، ثانيا، تاريخ الفلسفة الإسلامية مع ذكر أسماء الحكماء وأعمالهم، ثالثا نشأة حي بن يقظان وعرض المذهبين، الخلق والتولد الطبيعي، رابعا التعليم الفلسفي والرقي الروحي حتى سن الثالثة والستين، عمر آخر الأنبياء. يبدأ الوعي الفلسفي في السابعة ويكتمل في الخمسين. وأطول سنوات العمر كشف الخامسة والثلاثين. وتوجد ست مراحل للعمر، سنوات الحسم فيها الثانية، والسابعة، والحادية والعشرون، والثامنة والعشرون، والخامسة والثلاثون، والخمسون. وتكشف الرواية بعد الخلق أو التولد الذاتي وكلاهما من الوحي والطبيعة عن مراحل الوعي بالذات وبالعالم عن تقليد الإنسان للأصوات ونشأة اللغة، وتسخير العقل في فهم الطبيعة، واكتشاف الموت، والنار والطاقة، والسمك، والجهات الأربع، والروح والنفس، والأبعاد الثلاثة. والإنسان في المعرفة متوحد بالطبع، وفي المجتمع مدني بالطبع. يعرف حي الحقيقة بمفرده، يعبر عنها ويبلغ بها ويؤسسها إلى آخر. ويكتشف الشريعة أيضا بالعقل مثل الصوم، فقد صام أربعين يوما.
24
صفحه نامشخص