من النقل إلى الإبداع
من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (٣) التراكم: تنظير الموروث قبل تمثل الوافد - تنظير الموروث - الإبداع الخالص
ژانرها
16
وابن سينا عند ابن طفيل مؤسس الحكمة الإشراقية التي تعني الفلسفة الإشراقية. ولا يكاد يذكر ابن طفيل السهروردي ربما لأن حكمة الإشراق لم تصل إليه. وقد تعني المشرقية ما يأتي من المشرق، اليونان والرومان. وهذا هو المعنى الجغرافي الحضاري. وقد تعني ما يأتي عن طريق الذوق في مقابل ما يأتي عن طريق العقل، وهو المعنى المعرفي الخالص. وقد انتقلت الحكمة المشرقية من ابن سينا إلى الغزالي إلى ابن طفيل. وهي رد فعل على منتحلي الفلسفة في عصره. وهم الحفاظ الشراح لأرسطو، أصحاب المعارف المنقولة، أنصار الوافد المشروع الذين ينقلون دون فهم أو يعلقون دون تجربة. يستبدل بها ابن طفيل طريق البحث والنظر وطريق الذوق والمشاهدة تحولا من النقل إلى الإبداع. ومع ذلك ينقد ابن طفيل ابن سينا بأن «الشفاء» ليس على مذهب أرسطو بل نقلة نوعية فيه، والفرق بينهما واضح يقينا. «الشفاء» معقد غامض لا يفطن إلى مقصده إلا عند بلوغ أسرار التأويل. أرسطو عقلي، والشفاء إشراقي. ابن سينا نموذج الحكيم الإشراقي صاحب الذوق وليس صاحب النظر سواء كان ذلك بالفعل أم قراءة من ابن طفيل. ويستشهد على ذلك بنصين من ابن سينا دون تحديد مكانهما. يصف ابن طفيل حالة حي كما وصفها ابن سينا، وهي حالة العرفان التي يصل إليها الصوفي بعد الرياضة والمجاهدة، حالة المرآة المزدوجة بين الذات الإلهي والذات الإنساني، كل منهما يرى ذاته فيها، ذاتا لنفسه وموضوعا لغيره سواء عرف ابن طفيل هذه الحالة ثم قرأها عند ابن سينا أو عرفها عن ابن سينا قبل أن يحصل عليها بالتجربة.
17
وقد ذكر ابن باجه نموذجا ثانيا للفلسفة المشرقية مع اقتباس نصوص منه لدرأ المسافة بين طريق النظر وطريق الذوق، بين البحث والتصوف. فيمكن الوصول إلى الحقيقة إما عن طريق البحث وهو طريق ابن باجه وإما عن طريق ابن سينا وهو طريق ابن سينا والغزالي وابن طفيل. ويختار ابن طفيل نظرية الاتصال عند ابن باجه ليبدأ منها لعله يمكن ضمها إلى التراث الإشراقي وأسرار الحكمة المشرقية. العلم الحاصل بالاتصال هو علم المعاني أو التصورات العقلية المباينة للمادة وأقرب ما تكون إلى الأمور الإلهية التي يهبها الله لمن يشاء من عباده. وهي رتبة ينتهي إليها ابن باجه عن طريق العلم النظري والبحث الفكري دون أن يتخطاها إلى الذوق والمعاينة. وحال الناظر دون المعاينة كالأعمى الذي يعرف اللون عن طريق الاسم والشرح وليس عن طريق النظر. أما ابن سينا والغزالي وابن طفيل فقد اختاروا طريق الذوق. والطريق الأول أقل قدرا وقيمة من الطريق الثاني على عكس اللقاء الشهير بين ابن رشد وابن عربي حين قال ابن رشد: إنه يشاهد ما يعلم، وقال ابن عربي إنه يعلم ما يشاهد. يصف ابن طفيل تطور الوعي الفلسفي التاريخي لحظة ابن باجه، جيلا وراء جيل، كل جيل لاحق أحذق وأكمل من الجيل السابق. ولكن ابن باجه شغلته الدنيا حتى وافته المنية. ولم يظهر خزائن علمه، ولم يبث خبايا حكمته. وما بقي من كتبه مخرومة من أواخرها مثل كتاب «النفس» و«تدبير المتوحد»، وما كتبه في المنطق وعلم الطبيعة. أما كتبه الكاملة فهي وجيزة، رسائل مختلسة أي سريعة كما صرح هو بذلك في رسالة الاتصال بأنه لا يمكن العثور على معناها إلا بعد عسر شديد، وأن ترتيب عباراته ليس على الوجه الأكمل. ولو اتسع له الوقت لقام بتعديلها. اطلع ابن طفيل على كتابات ابن باجه ولم يتعرف على شخصه بالرغم من التقارب بينهما في الزمان (533ه / 581ه). وأما من عاصره وكان في مرتبته فلم يكن له تأليف. فهل كان ابن رشد وغياب تأليف في الحكمة الإشراقية عنده؟ وأما غيرهم من المعاصرين له فهم كثر بغير كمال أو لم تصل لابن طفيل حقيقة أمرهم.
18
ويذكر الغزالي بعد ابن باجه وكأن التصوف التأملي لديه أقرب لابن طفيل من التصوف العملي عند الغزالي. ويستشهد ببيت له على المعارف الإلهية والعلوم اللدنية تعجز اللغة عن التعبير عنها وانتقاء العبارات والصياغات لها. فبعد أن طوف بالفلسفة انتهى إلى التصوف طريقا لليقين. وكفر الفلاسفة في «التهافت» لإنكارهم حشر الأجساد وإثبات الثواب والعقاب للنفوس. وقد تخبط مثل الفارابي في أمر المعاد، وهو الموضوع الرئيسي عند ابن طفيل. ويشير إلى مؤلفاته أكثر من الإشارة إلى شخصه مستشهدا بنصوص منها، من «التهافت» و«الميزان» و«المنقذ» و«الجواهر» و«المعارف العقلية» و«النفخ» و«التسوية» و«مسائل مجموعة»، و«المقصد الأسنى»، و«المشكاة». والعيب الرئيسي عند الغزالي هو تغيير خطابه بحسب الجمهور. للعامة خطاب هو الخطاب الفقهي، وللخاصة خطاب آخر هو الخطاب الفلسفي، ولخاصة الخاصة خطاب ثالث هو الخطاب الصوفي. الأول يشارك به الإنسان الجمهور، والثاني بحسب كل سائل ومسترشد، والثالث بين الإنسان وبين نفسه لا يطلع عليه إلا من كان شريكا له في اعتقاده. وهذه بداية خلط الغزالي؛ إذ صرح بالحكمة إلى الجمهور فاضطرب. ربط في محل، وأحل في ربط. ونشأ الاضطراب لديه لتأرجحه بين المستويات الثلاثة للخطاب. والبداية بالشك من أجل النظر، والنظر من أجل البصر، وإلا وقع الإنسان في العمى والحيرة والضلال. التصوف إذن ممثلا في الحركة الإشراقية هو بداية التحول من النقل إلى الإبداع، ومن العقل إلى القلب، ومن النظر إلى الذوق، ومن الكتاب إلى التجربة، ومن الفهم إلى المشاهدة. وقد وصل الغزالي إلى هذه المرحلة، فهو الذي يفصل تاريخ الفلسفة إلى مرحلتين. تحدث بالرمز والإشارة لأنها «المضنون به على غير أهله». ومن هو مؤهل لها صاحب البصر والبصيرة القادر على فهمها بأبسط إشارة. لم يصل إلى الأندلس منها شيء باستثناء «المعارف العقلية» و«النفخ والتسوية» و«مسائل مجموعة» و«المقصد الأسنى». بها أقل الإشارات، وليست ضمن المضنون به على غير أهله. وقد توحي «المشكاة» بأنها من المضنون به على غير أهله. أساء فهمه الناس، أنه يقول بالكثرة في الواحد وليس بالوحدانية. ومع ذلك فهو من الواصلين السعداء .
19
ويشير ابن طفيل إلى الفارابي شارحا أرسطو وعارضا له، ومنتسبا إلى نفس التيار، وهو النظر، بضرورة تجاوزه لعدم كفايته في الإبداع الفلسفي الذي يحتاج إلى الذوق والمشاهدة. معظم مؤلفات الفارابي في المنطق بالرغم مما يذكره ابن طفيل من كتبه الأخلاقية مثل «الملة الفاضلة» و«السياسة المدنية» وشرح كتاب الأخلاق. وما ورد فيها من الفلسفة كثير الشكوك فيما يتعلق ببقاء النفوس الشريرة بعد الموت في آلام وبقاء إلى الأبد كما بين ذلك في «الملة الفاضلة». ثم عاد وقال إنها سائرة إلى العدم في «السياسة المدنية»، وأنه لا بقاء إلا للنفوس الفاضلة الكاملة. ثم بين في «شرح كتاب الأخلاق» أمر السعادة الإنسانية وأنها تكون في هذه الحياة. وكل ما سوى ذلك هذيان وخرافات عجائز بنص الفارابي دون تحديد لمكانه. لذلك أيأس الفارابي الخلق جميعا، وجعل الفاضل والشرير في رتبة واحدة بعد أن جعل مصير الكل إلى العدم. كما جعل النبوة بقوة خيالية وفضل الفلسفة عليها. فهل هذا التأويل للفارابي صحيح أم أنه قراءة ابن طفيل له؟ هل صحيح أن الفارابي تخبط في أمر المعاد وتناقض في موضوع بقاء النفس بعد الموت، وساوى بين النفوس الشريرة والنفوس الخيرة في البقاء أو الهلاك؟ وإذا كان الموضوع الغالب على الفارابي هو المنطق فكيف يكون نقد ابن طفيل له في معظمه منصبا على الأخلاق، بقاء النفس بعد الموت؟ هل قدم ابن طفيل الفارابي اللغوي المنطقي أم الإشراقي الصوفي طبقا لفلسفة ابن طفيل؟ هل يرفض ابن طفيل أن تكون النبوة من فعل القوة الخيالية وأن تكون الفلسفة تجاوزا للخيال إلى العقل ذاته؟ هل صحيح أن الفارابي أيأس الخلق جميعا وجعل الفلسفة والدين للخاصة دون العامة وأن مهمة ابن طفيل العودة إلى العامة لخلاصها؟
20
وقد استشهد ابن طفيل بعدة آيات قرآنية في المقدمة والوسط والنهاية حيث تختلط العواطف الدينية بالعواطف الأدبية.
صفحه نامشخص