قلت: لست وكيل الوزارة! ومن تكون إذن؟ قال: لست وكيل الوزارة، وإنما أنا قرينك الذي دخل الحياة معك يوم دخلتها، وسيخرج من الحياة معك يوم تخرج منها.
فأما وكيل الوزارة فستراه مقبلا عليك بإثمه بعد لحظات قصار. وقد كنت أكتفي إلى الآن بالإيحاء إلى ضميرك وتحريك قلبك ونفسك دون أن أظهر لعينيك أو أتحدث إلى أذنيك، فلما رأيت أن الوحي لا يبلغ من نفسك ما أريد، وأن ضميرك يمتنع علي امتناعا شديدا ملحا، أزمعت أن أظهر لك شخصا حيا كما تراني، وأن أمنعك من المضي في هذه المظالم التي تقحم نفسك فيها أو تقحمك الحياة فيها عن إرادة منك حينا وعلى كره منك حينا آخر.
فاحذر أن تمضي ما سيعرض عليك، ولئن حاولت إمضاءه لأمنعنك مما تحاول، وانظر الآن فهذا الوكيل مقبلا.
وانظر فإذا باب الغرفة يفتح على مصراعيه كما فتح منذ حين، وإذا الوكيل يدخل فرحا باسما باسطا إلي يده كما فعل ذلك الشخص من قبله. وكنت أقدر أنه سيرى ذلك الشخص كما أراه ويحييه كما حياني، ولكنه لم ير أحدا ولم يحي أحدا. وهممت أن ألفته ولكني أسمع في أذني همسا ليس بالقوي ولا بالخفي، وإنما هو صوت يبلغ النفس ويتغلغل في أعماق الضمير ويقول: أتريد أن يظن بك الجنون؟!
وقد رأى وكيل الوزارة علي شيئا من اضطراب وتخاذل فسألني عن صحتي مرتاعا، وهدأته، وهونت عليه الأمر وأخذت معه في أطراف الحديث حتى إذا هدأ روعي وروعه وهم أن يعرض علي ما كان يحمل إلي من أوراق أحسست ضعفا لم أحس مثله من قبل، وسمعتني أطلب إليه أن يؤجل الأمور الهامة إلى غد؛ لأني لا أجد من نفسي نشاطا للعمل ولا إقبالا عليه. وأنا بعد مضطر إلى أن ألقى رئيس الوزراء، وقد أعود إلى الوزارة وقد لا أعود، فإذا عدت فليعرض علي ما شاء، وإلا فإلى غد.
ثم نهض ولم يشك وكيل الوزارة في أن أمرا ذا بال يدفعني إلى لقاء الرئيس قبل أن ينتصف النهار. ولم يكن هناك أمر يقتضي لقاء الرئيس، بل لقد نهضت ولست صادق النية ولا واضح العزم على لقاء الرئيس، ولكني خرجت وخرج معي ذلك الشخص الغريب أراه أنا ولا يراه غيري، ماذا أقول؟! لقد أخذ بذراعي وانحدر معي إلى السيارة يتحدث إلي، أسمعه أنا ولا يسمعه أحد ممن كانوا يحيطون بي، وهو يحمد لي ردي على الوكيل، ويشجعني على زيارة الرئيس، ويعلن إلي أني أراه متى ركبت السيارة، ولن أراه عند رئيس الوزراء، ولكنه هو سيراني وسيصاحبني وسيراقبني وسيردني عن كل أمر يرى أنه لا يليق بي أن أمضي فيه.
وأركب السيارة فلا أرى فيها أحدا غيري، وأصغي من حولي فلا أسمع ذلك الصوت الذي كنت أسمعه منذ حين، وألقى رئيس الوزراء فلا أرى عنده أحدا، وإنما أتحدث إليه في الأمور العامة والخاصة كما تعودت أن أفعل كلما لقيته، ثم أنصرف عنه وأعود إلى الوزارة فلا أكاد أدخل مكتبي حتى أرى صاحبي قد وقف أمامي وأشرف بقية الصباح على كل ما أذنت به من زيارة. أمضيت أوراقا لم أجد في إمضائها مشقة، ونظرت في أوراق أخرى وهممت أن أمضيها، ولكني كنت أحس يدا تمس كتفي فأؤجل الإمضاء إلى غد. ونهضت حين انتصفت الساعة الثانية وإذا هو يصحبني إلى السيارة ثم يهمس في أذني: إلى اللقاء، لن أشق عليك بمنظري ولا بمحضري إلا في ساعات العمل، وسيكون ذلك دأبك ودأبي حتى تسقط الوزارة أو تستقيل أنت منها.
هذا كله وقع صباح اليوم، لست أدري كيف وقع! ولست أعرف له تعليلا ولا تأويلا، والغريب أني استشرت طبيبي دون أن أقص عليه من هذه القصة شيئا، وإنما عرضت عليه نفسي ففحص وامتحن، ثم أنبأني بأن صحتي لم تكن في يوم من الأيام خيرا مما هي الآن. ولعلي لو أنبأته ببعض ما رأيت وما سمعت لغيرت رأيه في هذه الصحة التي يراها موفورة وأراها مضعضعة منقوصة. ولكني لم أرد أن يظن الطبيب بي اضطراب الأعصاب، والشيء الذي ليس فيه شك وليس عنه محيص، هو أني سأنتظر حتى إذا رأيت وسمعت من الغد مثل ما رأيت اليوم وسمعت، فسألقى رئيس الوزراء، لا لأنفق معه ساعة في الحديث، ولكن لأرفع إليه استقالة ليس فيها رجوع.
الفأل
كان ممعنا في القراءة حين سمع صوتا عذبا يدعوه، فلما رفع رأسه رأى زوجه قائمة أمامه، وقد أشرقت في وجهها كله ابتسامة حلوة فيها كثير من الخفر وفيها شيء من خوف ضئيل وشيء من العجب أيضا. قالت له في صوت يريد أن يضحك، ولكنه يقاوم الارتياع: إن في حجرة الاستقبال ضيفا ينتظرك. وهم أن يسألها عن هذا الضيف، ولكنها أخذت يده في رفق، وأنهضته فاستجاب لها مداعبا مخفيا لبعض الوجل، فلم يكن أحب إليه من أن يمضي في قراءته لتلك القصة الرائعة التي يعرض فيها مكسيم جوركي حياته أثناء الصبا.
صفحه نامشخص