الفاروق الشديد اللين
على أطلال طروادة
الخيال العاقل
لجنة المروءة
مدرسة الأزواج
أزمة الجامعة
تجربة
رحلة
المصري الغريب في مصر
أحاديث الأسبوع
صفحه نامشخص
من لغو الصيف إلى جد الشتاء
مصر في الصباح
من أحاديث العيد
القرين
الفأل
تمصير
حب
معجزة الفن
الفاروق الشديد اللين
على أطلال طروادة
صفحه نامشخص
الخيال العاقل
لجنة المروءة
مدرسة الأزواج
أزمة الجامعة
تجربة
رحلة
المصري الغريب في مصر
أحاديث الأسبوع
من لغو الصيف إلى جد الشتاء
مصر في الصباح
صفحه نامشخص
من أحاديث العيد
القرين
الفأل
تمصير
حب
معجزة الفن
من لغو الصيف
من لغو الصيف
تأليف
طه حسين
صفحه نامشخص
الفاروق الشديد اللين
من أيسر الأمور على المثال البارع أن يصنع لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - تمثالا يجمع بين الصدق والروعة، وبين الدقة التي ترضي الحق، والجمال الذي يرضي الخيال؛ فقد حفظ التاريخ لعمر صورة دقيقة صادقة لا تتعرض للشك ولا للخلاف، بحيث يراها الناس جميعا إذا قرءوا تاريخه فلا يختلفون فيها ولا يفترقون في الإعجاب بها والإعظام لها مهما تختلف أمزجتهم وطبائعهم، ومهما تختلف آراؤهم ومذاهبهم، ومهما تختلف طرائقهم في التفكير والحكم والشعور.
وهذه الصورة الدقيقة الصادقة الرائعة التي حفظها التاريخ لعمر لا تمثل شخصه المادي وحده، وإنما تمثل شخصه المادي والمعنوي أيضا، وتمثل شخصه المعنوي من جميع نواحيه: تمثل قلبه، وتمثل عقله، وتمثل إرادته، وتمثل حسه أيضا. وهي صادقة في هذا كله؛ لا يتطرق إليها الشك؛ لأنها أوضح وأظهر من أن يتطرق إليها الشك وأن تختلف فيها الآراء. وما أعرف أن تاريخ الخلفاء والملوك المسلمين قد صدق في تصوير شخصية من شخصيات الخلفاء والملوك كما صدق في تصوير شخصية عمر بن الخطاب.
والغريب أن هذه الشخصية لم تكن سهلة ولا يسيرة في نفسها، وإنما كانت عسيرة معقدة - كما سترى بعد قليل - ولكنها كانت قوية جدا، قوية إلى الحد الذي يعجز معه التاريخ عن مقاومتها فيضطر إلى أن يقبلها كما هي، لا يستطيع أن يزيد فيها أو ينقص منها، وإنما يتلقاها كاملة وينقلها إلى الأجيال كاملة، وتمضي القرون في أثر القرون وهي كما هي لا يستطيع الزمان أن يمسها بزيادة أو نقص. ولو أن مثالا بارعا قرأ ما حفظه التاريخ من صورة عمر، ثم أراد أن يظهر ذلك بوسائله الفنية وأن يصنع هذا التمثال لعمر، لجمع بين خصلتين غريبتين، فكان ناقلا لا مبتكرا، وكان في الوقت نفسه رائعا معجبا يبهر العقول ويخلب الألباب ويملأ الأبصار والقلوب.
ولكن عمر كان ثاني خلفاء المسلمين، فمكانته الدينية ومنزلته من النبي ومقامه من الإسلام نفسه، كل ذلك يرفعه عن أن يكون موضوعا لصناعة المصور أو المثال. فلنجتهد في أن نستعين بصناعة الكلام على تصويره للشباب المحدثين، فعمر - فيما نعتقد - أعظم شخصية يمكن أن تعرض على الشباب؛ لأنهم يجدون فيه خير ما نحب أن يجدوا من المثل التي نتمنى أن يطيلوا النظر إليها والتفكير فيها والتأثر لها؛ لعلهم يرقون إليها شيئا.
وأول ما يهمنا من أمر عمر أنه كان ملتقى لطائفة من الخصال المتناقضة التي ينكر بعضها بعضا أشد الإنكار، ويدفع بعضها بعضا أشد الدفع. ولكن الله قد لاءم بينها وألف بين مقاديرها تأليفا غريبا، حتى التقت فلم تتنافر ولم تتدابر ولم يفسد بعضها أثر بعض، وإنما ائتلفت أحسن ائتلاف وانسجمت أروع انسجام، كما تأتلف الأصوات المتنافرة، وكما تنسجم الأنغام المتباعدة في القطعة الموسيقية الرائعة، حتى أصبح شخص عمر آية خالدة من آيات الموسيقى يتغنى بها تاريخ المسلمين، وسيتغنى بها ما بقي الإسلام وما بقي للإسلام تاريخ.
وأغرب من هذا كله أن بعض هذه الخصال لم يستأنف في شخص عمر، وإنما وجدت في أسرته ورهطه الأدنين مفرقة قبل أن يوجد عمر. وقد نشأ هذا الفتى القرشي فأدرك شيئا من هذه الخصال؛ فقد كان أبوه الخطاب بن نفيل رجلا غليظا فظا، إن امتاز بشيء من قومه فإنما يمتاز بالشدة والعنف والمحافظة على القديم الموروث والنشاط الغريب في حماية هذا القديم الموروث والذود عنه. وكان ابن عمه زيد بن عمرو بن نفيل رجلا رقيقا لينا، مرهف الحس، ذكي القلب، نقي الطبع، مستعدا للإيمان الصادق، مبغضا للقديم ، شديد النشاط للتجديد. شك في وثنية قومه ثم جحدها، والتمس دينا صفوا وملة نقية، وجعل ينكر على قريش ما كانت فيه، فكانت قريش تسمع منه وتعرض عنه ولا تحفل بما كان يقول، ولكن الخطاب بن نفيل ثبت له ثم قاومه، ثم جد في فتنته حتى أشقاه، ثم حبسه في مكة، ثم أغرى به الشباب حتى اضطره إلى أن يستخفي وأن يحتال في الفرار من مكة ليلتمس ما كان يجد من دين عند اليهود والنصارى. وقد فر زيد بدينه الجديد أو باستعداده للدين الجديد، وجعل يلتمس ما يحب عند اليهود مرة وعند النصارى مرة، حتى استيأس من أولئك وهؤلاء فعاد إلى مكة، ولكنه قتل غيلة في بعض الطريق.
وقد ورث عمر هاتين الخصلتين عن أسرته، فكان شديدا ورقيقا في وقت واحد، وكان غاليا في الشدة، غاليا في الرقة أيضا، وكان إسلامه مظهرا لهاتين الخصلتين المتناقضتين. خرج ذات يوم - وكان فتى قد نيف على العشرين - ملتزما أن يشتد في غيظ المسلمين والكيد لهم والإيقاع بهم، يبحث عن أول فرصة تتيح له البطش بهؤلاء المجددين، فلقي رجلا من المسلمين، وأخذ معه في حديث حول الإسلام يريد أن ينتهي من هذا الحديث إلى الشدة والبطش، فينبئه هذا الرجل أن الإسلام قد غزا أسرته واستقر فيها، وأن أخته قد أسلمت كما أسلم زوجها. فينقض عمر على أخته وقد أزمع البطش بها وبزوجها، فإذا بلغ الدار سمع قراءة، فإذا طرق الباب فزع من في الدار واستخفى مقرئ الأسرة، ودخل عمر على أخته فسألها فلم تخف عليه شيئا، فيبطش بها وبزوجها، ويثبتان له ويظهرانه على الصحيفة التي كانا يقرآن فيها، فلا يكاد يتلو آيات من القرآن حتى تذهب شدته وبأسه ويستحيل إلى لين وعطف ورحمة وإشفاق، ويسأل عن مكان النبي، فإذا دل على هذا المكان ذهب إلى حيث كان النبي وأصحابه يجتمعون، فإذا أحس أصحاب النبي مقدمه أنكروه وأشفقوا منه إلا رجلا واحدا هو حمزة بن عبد المطلب، لم يكن أقل منه شدة وبأسا، فقد انتظره ثابتا له، وتلقاه بمثل ما كان قد أقبل به فيما ظن المسلمون من الشدة والبأس، ولكن النبي يلقاه لقاء شديدا رقيقا، فما هي إلا أن يسلم عمر ويكبر المسلمون ويعلموا أن الله قد أعز دينه بأحب الرجلين إليه عمر بن الخطاب وعمرو بن هشام أبي جهل، كما كان النبي يسأله في كل يوم.
ومنذ ذلك اليوم استطاع المسلمون أن يجهروا بصلاتهم وكانوا يخفونها، وأن يتخذوا ناديهم في المسجد وكانوا لا يظهرون فيه إلا فرادى.
هذه الشدة البالغة والرقة الرائعة تصوران عمر طول حياته؛ تصورانه صاحبا للنبي ومشيرا لأبي بكر وإماما للمسلمين، تصورانه حين أراد النبي أن يمضي صلح الحديبية فأنكر عمر هذا الصلح وقال للنبي: «كيف نرضى الدنية في ديننا؟!» وتصورانه حين رأى الجد من الله ورسوله في هذا الصلح فأذعن له راضيا مؤمنا أصدق الرضا وأخلص الإيمان. تصورانه حين أعلن أن رسول الله قد مات فأنكر ذلك أشد الإنكار وأنذر المعلنين له بالسيف، فلما سمع قول الله عز وجل:
صفحه نامشخص
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين
أذعن لقضاء الله راضيا به مؤمنا له أصدق الرضى وأخلص الإيمان. تصورانه حين جد في أمر المسلمين وأخذ البيعة لأبي بكر باسطا يده للبيعة قبل أن تتم الشورى، حتى إذا استقرت الأمور واطمأنت القلوب واجتمعت الكلمة عرف من نفسه هذه الشدة وقال في بيعة أبي بكر: «كانت فتنة وقى الله المسلمين شرها.» تصورانه في كل ما تقرأ من مواقفه حينما كان يجد الجد ويحتاج الأمر إلى الحزم والعزم، ثم بعد أن تستقر الأمور وتهدأ العاصفة. وقد اختصر التاريخ هذه الصورة الغريبة الرائعة فيما تحدث به من أن عمر كان أشد الناس غضبا إذا غضب، وكان إذا ثار لم يثبت له أحد ولم يثبت له شيء، فإذا ذكر الله أو تلي القرآن رق حتى أصبح الرقة نفسها.
واختصر التاريخ هذه الصورة الرائعة أيضا حين روي ما كان من أمره لما اجتمع الناس إليه في الموسم فسأل عن سيرة العمال في الأمصار، فقام إليه أحد المسلمين وزعم له أن عامله قد ضربه، فأبى عمر إلا أن يقتص هذا الرجل من الوالي بمحضر من المسلمين، وجعل الولاة يصورون له أثر ذلك في إضعاف السلطان وإطماع الرعية في الولاة، فلا يحفل بشيء من ذلك لأن رسول الله قد اقتص من نفسه، حتى اضطر العمال إلى أن يرضوا هذا الرجل ويشتروا منه حقه بالدنانير، ولولا ذلك لرأت جماعة المسلمين رجلا من الرعية يعمل سوطه في جسم وال من ولاة الأمصار.
كان عمر شديدا حتى خشي الله في الشدة، وكان لينا حتى خشي الله في اللين، وكان يصطنع في الناس شدته ولينه جميعا، فأما مع نفسه وأهله فلم يصطنع قط إلا الشدة، ولم يعرف اللين قط إلى قلبه سبيلا. وكان عمر حريصا على مال المسلمين أشد الحرص، يحاسب العمال والولاة حسابا أيسر ما يقال فيه إنه كان عسيرا؛ لا يختار واليا لعمل من الأعمال حتى يحصي ماله قبل الولاية، ثم يتتبعه بعد ذلك ليرى كيف زاد ماله، ومصدر هذه الزيادة، وما الصلة بينها وبين ما كان له من عطاء. ثم لا يتحرج أن يقاسم الوالي ماله بعد عزله، فيترك له النصف ويرد النصف إلى المسلمين. وكان كريما في مال المسلمين إلى أقصى حدود الكرم، لا تكاد تجتمع إليه الأموال التي كانت تأتيه من الأمصار والأقاليم حتى يشيعها في المسلمين على طريقة رائعة حقا، لا يترك رجلا ولا امرأة ولا صبيا ولا صبية في أسرة تليه أو تبعد عنه إلا قسم له من هذا المال حظه وأدى إليه حقه وأدى إليه الفضل بعد الحق. ثم كان لا يأمن على ذلك أحدا، وإنما يليه بنفسه، ويتتبع أمور الناس لا ليعرفها ولكن ليعرف أيشكو الناس منه شيئا، أينكر الناس منه شيئا؛ فقد كان لا يأمن نفسه على تحقيق العدل كما كان لا يأمن الناس على تحقيق هذا العدل.
وقد أجدب المسلمون في بلاد العرب سنة، فاقرأ أخبار عمر في هذه السنة، فستقرأ أروع ما حفظ الأدب والتاريخ في أي أمة من الأمم وفي أي جيل من الأجيال وفي أي عصر من العصور، من تصوير الرفق بالرعية والنصح لها والإشفاق عليها والشدة على الأقوياء والرحمة للضعفاء. أخذ عماله في الأقاليم بأن يرسلوا إليه الطعام والكسوة للناس، ووجه رسله في أطراف الجزيرة وأنحائها يقسمون الطعام وينحرون الجزر ويكسون الناس، وقام هو على ذلك في المدينة وما حولها، وأبى أن يطعم في بيته إذا اجتمع المسلمون للطعام العام. قل السمن وقل اللحم، فحرم على نفسه السمن واللحم، وفرض على نفسه الخبز والزيت حتى يخصب المسلمون. وكانت حرارة الزيت تؤذيه، فتقدم إلى مولاه أن يطبخه له ليكسر من حرارته، فلم يغن ذلك شيئا، وجعل بطنه يقرقر، فيقول له: «قرقر ما شئت، فلن تطعم إلا الزيت حتى يخصب المسلمون.»
وكان عمر أجرأ الناس على الناس، حتى خافه الأقوياء وأشفقوا من لقائه، ووسط إليه كبار الصحابة من يسأله الرقة للناس؛ لأنهم يهابونه ويشفقون أن يعرضوا عليه حاجاتهم. ثم كان في الوقت نفسه أشد الناس خوفا من الضعفاء والعاجزين والمحرومين، يستطيع أهون الناس شأنا وأيسرهم أمرا أن يجترئ عليه ويلقاه بما يكره من الحديث، فيسمع ثم يعتذر ثم يستعبر ثم يستغفر.
وأروع ما تلقاه في شخصية عمر من الخصال هذه الفكرة التي كونها لنفسه عن الخلافة منذ ولي الخلافة إلى أن مات. وقد صورها هو تصويرا رائعا بإيجازه ودقته وصراحته العنيفة حين خطب الناس لأول مرة بعد البيعة فقال: «أيها الناس، إنكم قد ابتليتم بي وابتليت بكم.»
فالخلافة عند عمر امتحان للخليفة وللرعية معا، كلاهما ممتحن بصاحبه، وكلاهما خليق أن يحتمل المحنة ثابتا لها صابرا عليها، وأن يخلص منها وينقذ من مشكلاتها صحيحا بريئا، لم يكلم في نفسه ولا في دينه ولا في شيء من هذه الملكات الكثيرة المعقدة التي تكون ضمير الرجل الكريم. وإذا كان الخليفة ممتحنا دائما مبتلى برعيته فمن الحق عليه لنفسه وللناس، ومن الحق عليه لله الذي يلي أمره وأمر الناس؛ أن يحاسب نفسه دائما عن عظيم الأمر وهينه، وألا يأتي أمرا صغيرا أو كبيرا إلا وهو عالم بما يأتي وبما يحمله على أن يأتي هذا الأمر أو ذاك، إلا وهو مقدر أنه سيسأل عما أتى ومهيئ الجواب على هذا السؤال حين يلقى إليه. سيسأل عما أتى في اليوم الآخر حين يسأله الله عن الجليل والضئيل من أعماله. وقد يسأل عما أتى في كل لحظة ومن كل إنسان. فإنه حين نهض بالأمر قد عرض نفسه لهذا السؤال؛ لأنه احتمل أمانة يشترك في حسابه عنها الناس جميعا، وينفرد بحسابه عنها آخر الأمر ربه الذي جعل إليه أمور الناس على أن يؤدي إليه حساب ما فعل وما ترك.
وما أعرف أن خليفة من خلفاء المسلمين أو ملكا من ملوكهم منح ما منحه عمر من هذا الضمير الحساس إلى أقصى ما يستطيع الضمير أن يحس. ظهر ذلك من أمره للناس جميعا ظهورا قويا مقنعا حتى شبهوه بالميزان الدقيق الذي لا يمكن أن ينحرف أو يجور. وما أعرف خليفة من خلفاء المسلمين أو ملكا من ملوكهم تمثل حساب الله له في جميع لحظاته يقظان ونائما عاملا ومستريحا، مقبلا على عظائم الأمور أو على الهين منها كما فعل عمر.
يدخل عمر على بنته حفصة أم المؤمنين فتقدم إليه خبزا ومرقا قد جعلت فيه الزيت، فينصرف عنه ويقول: «أدمان في إناء واحد؟ لا والله لا أذوقهما.» ويدخل على رجل من المسلمين فيستقيه، فيقدم إليه الرجل شرابا، فيسأل ما هو، فإذا عرف أنه عسل انصرف عنه وقال: «لا والله، ليحاسبني الله عليه.» ويدفع إلى أحد الفرس قميصا له ويتعجله في ذلك فيقدم إليه الفارسي قميصين قد صنعهما فيسأل: «أليس فيهما من مال الذمة شيء؟» فيجيب الفارسي: «لا، إلا الخيط.» فينهره عمر ويقول: «اغرب واردد إلي قميصي.» ويرد عليه الفارسي: «قميصك لم يجف بعد.» فهو يرى الله إذا أصبح ويراه إذا أمسى، ويتمثل نفسه قائما بين يديه يؤدي إليه الحساب عما فعل وما قال .
صفحه نامشخص
وله في ذلك أعاجيب كلها رائعة، وكثير منها يدفع إلى البكاء دفعا. جهز عبدا إلى الشام فقد كان يتجر ليعيش، واحتاج إلى ثلاثة آلاف درهم فأرسل إلى عبد الرحمن بن عوف ليقرضه هذا المقدار، فقال عبد الرحمن للرسول: «ليقترضها من بيت المال.» فلما لقي عمر عبد الرحمن بعد ذلك سأله: «أأنت قلت هذا؟» قال: «نعم.» قال عمر: «فإني إن اقترضت هذه الدراهم من بيت المال ثم أدركني الموت قال المسلمون ضعوها عن أمير المؤمنين واتركوها لأهل أمير المؤمنين، وسألني الله عنها يوم القيامة، ولكن إن اقترضتها من شحيح مثلك ثم أدركني الموت لم يضعها عني، ولم يتركها لأهلي حتى تؤدى إليه.» ولما طعن وأفاق من غشيته الأولى كان أول شيء عناه وأهمه أن يعرف أكان طاعنه رجلا من المسلمين، فلما عرف أن طاعنه كان غلام المغيرة بن شعبة رضي واطمأنت نفسه؛ لأنه علم أن قاتله لا يستطيع أن يحاسبه أمام الله عن سيئة قدمها إليه أو شر جناه عليه.
ومن هنا لم يكن عمر شديدا على الناس بما كان يلقاهم به من الحزم فحسب، وإنما كان شديدا عليهم بما كان يتشدد على نفسه. وكان كثير من المسلمين يرون من إمامهم هذا العيش الخشن الغليظ، فيستحون أن يلينوا لأنفسهم من العيش أن يظهروا ذلك، وربما وسطوا إليه ابنته حفصة أم المؤمنين لتسأله أن يرفق بنفسه، وأن يبيح لها شيئا ولو قليلا من طيبات الحياة، فأجابها: «لقد نصحت لقومك وغششت أباك.» وكذلك كان ضميره مرهف الحس شديد المراقبة، يسأله عن كل شيء قبل أن يسأله الناس، وقبل أن يسأله الله، وكذلك أدى امتحانه مدة خلافته. ولكن الشيء الذي ليس فيه شك هو أن رعيته لم تؤد الامتحان كما أداه، ولم تثبت للمحنة كما ثبت. ومراقبة الضمير لا تتاح للناس جميعا، وإنما تتاح لأخيارهم والممتازين منهم، وهي على النحو الذي عرفه عمر لا تكاد تتاح إلا للرجل الفذ بين حين وحين، أو قل بين القرون عليهم السنة ظهرت مراقبة الضمير في حياة عمر وفي أقواله وأفعاله جميعا، فكان يقول للناس: «إن الله قد ابتلاكم بي وابتلاني بكم، فما أدري أهي خطيئة مني أم خطيئة منكم، أم هي خطيئة عمتنا فعمنا من أجلها العذاب؟»
وقد صلى بالناس صلاة الاستسقاء فكانت صلاته استغفارا كلها حتى ظن الناس أنه لن يسأل الله شيئا إلا المغفرة، ولكنه في آخر الصلاة سأل الله أن يسقي الناس.
وعمر أول الخلفاء تشددا في تعرف أحوال الناس كما قدمت؛ ليتعرف ما يمكن أن يكون قد قدم إليهم من شر أو جنى عليهم من مكروه. كان إذا أقبل الليل صلى فأطال الصلاة ثم خرج مستخفيا يتحسس أخبار الناس ويستمع أحاديثهم، وقد نفعه ذلك فأصلح من أمور الناس شيئا كثيرا. كان قد فرض العطاء للرجال والنساء والفتيان والفتيات وللصبيان بعد أن يفطموا، فلما كان في بعض لياليه سمع صبيا يبكي بكاء شديدا، فسأل أمه عن مصدر هذا البكاء، فأجابته - وهي لا تعرفه - جوابا لم يقنعه، وعاد الصبي إلى البكاء فعاد عمر إلى السؤال، وتكرر ذلك من الصبي ومن عمر حتى ضاقت المرأة بهذا السائل الملح فقالت له: «لقد أثقلت علي منذ الليلة، ألم تعلم أن ابن الخطاب لا يعطي الصبية إلا بعد الفطام، فأنا أتعجل فطام هذا الصبي لننال عطاءه من بيت المال.» فانصرف عمر عن المرأة محزونا كئيبا وهو يقول: «ويل عمر! كم قتل من أبناء المسلمين!» ثم أمر المنادين فنادوا في الناس: «أتموا رضاع أبنائكم، فإن لهم عطاءهم منذ يولدون.»
ولم يعرف عمر نظم الحكم الديمقراطي كما ألفه اليونان والرومان في بعض عهودهم، ولكن ضميره الحساس وغريزته المستقيمة وقلبه الذكي وحرصه على العدل وخوفه من الجور ... كل ذلك دعاه إلى شيء ليس بعيدا عن النظام الديمقراطي. ولعل عمر لو عاش لأحدث للمسلمين نظاما ديمقراطيا عربيا. كان يستشير من حوله من أصحاب النبي وسادة الناس في كل ما يعرض له من المشكلات، ولكنه كان شديد الحرص على أن يحج بالناس في كل عام، ويشهد الموسم الذي يجتمع فيه أهل الأمصار، ويأمر العمال أن يوافوه على رأس من يليهم، فإذا كان الموسم وحضرت هذه الوفود سمع من العمال في الرعية، وسمع من الرعية في العمال، وأقر العدل والنصفة بين أولئك وهؤلاء. فكان - ومن يدري - لو أن الله مد له في الحياة إلام كان يصير أمر هذا الاجتماع السياسي المنظم.
وخصلة أخرى من خصال عمر هي بغضه للتكلف وازدراؤه للمتكلفين. يتأخر شيئا عن الصلاة، فإذا خرج جلس على المبنى واعتذر إلى الناس قائلا: «لقد أخرني قميصي.» غسل له قميصه فانتظر أن يجف ثم خرج للناس بعد أن تم له ما أراد. وقرئ أمامه قول الله عز وجل:
وفاكهة وأبا ، فقال قائل: «وما الأب؟» قال عمر: «هذا هو التكلف! وما يضرك ألا تعرف الأب؟»
ولو أني ذهبت أعد خصال عمر الرائعة وخلاله الممتازة لخشيت أن أستغرق هذا السفر دون أن أرضي من ذلك حاجتي وحاجة القراء، ولكنك توافقني فيما أظن على أن ما عرضت عليك من صورته كاف كل الكفاية لإثبات ما زعمته في أول هذا الفصل من أن أيسر الأشياء أن يصنع لعمر تمثال دقيق رائع دون أن يحتاج المثال إلى أن يستعين الخيال.
وقد حفظ التاريخ الصورة المادية لعمر كما حفظ الصورة المعنوية؛ فقد كان طويلا يفوق الناس كلهم طولا، وكان ضخما بدينا، وكان إذا مشى أسرع في مشيته، وكان أبيض اللون إلا في عام الجدب؛ فقد اقتصر على أكل الزيت حتى أفسد عليه معدته فاسود شيئا، وأكبر الظن أن الذين وصفوه بالسواد لم يروه إلا في ذلك العام.
وخصلة أخرى أختم بها هذا الفصل لأن عمر قد ختم بها حياته، وهي الرقة والأدب والحياء والإكبار لحرمات البيوت. كان عمر شديد الحرص على أن يدفن مع صاحبيه إذا مات، فلما طعن وأحس الموت دعا ابنه عبد الله وقال: «اذهب إلى عائشة أم المؤمنين وقل لها إن عمر بن الخطاب يقرأ عليك السلام - ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست للمؤمنين أميرا - ويستأذنك أن يدفن مع صاحبيه.» فذهب عبد الله فقال ذلك لعائشة وعاد إلى أبيه بإذنها، فقال لابنه: «إذا مت احملوني على سرير، فإذا وصلتم إلى بيت عائشة فلا تدخلوا حتى تستأذنوا.» وقد حمل سرير عمر حتى إذا بلغوا بيت عائشة قالوا: «إن عمر بن الخطاب يستأذن عائشة أم المؤمنين.» ولم يدخلوا السرير حتى أذنت عائشة. وهنالك دفن عمر بن الخطاب مع صاحبيه محمد رسول الله وأبي بكر أول خلفاء المسلمين.
صفحه نامشخص
على أطلال طروادة
هذا عنوان فصل قيم كتبه صديقنا الأستاذ الدكتور محمد عوض، وهنا أقف مترددا وقفة قصيرة في تسمية الصحيفة التي كتبها فيها الأستاذ الصديق، لا لشيء إلا لأن الصديق نفسه حين كتب الفصل الذي كتبه إنما كان يريد أن يرد علي فيما ذكرته به في مقالي «بين كأسين»، فسماني وسمى الفصل الذي أراد أن يناقشه، ولكنه لم يسم الصحيفة التي نشر فيها هذا الفصل.
ومن الناس من قرأ مقالة الأستاذ ولم يكن قرأ مقالتي، فأحب أن يعرف أين نشرت فسألني عن ذلك. وواضح جدا أن الأستاذ لم يقصد إلى هذا الإهمال، وإنما شغل عنه بالفكرة التي كان يريد أن يؤديها، وإن كان الأصل المقرر عند العلماء أن ذكر المصادر فرض على من يكتب في العلم.
على أني لا أستطيع أن أصلح خطأ بالتورط في مثله، فلا بد لي إذن من أن أسمي المصدر الذي نشر فيه مقال الأستاذ الصديق وهو مجلة الهلال الغراء. وأكبر ظني، بل أكبر يقيني - إن كان اليقين يكبر ويصغر - أن الصديق إذا رد على هذا الفصل أو على غيره مما أكتبه أنا أو يكتبه غيري سيتوخى الأصل العلمي اليسير فلا يكتفي بتسمية الكاتب الذي يرد عليه، بل يسمي معه المصدر الذي كتب فيه.
وبعد، فإن بين الصديق وبيني خصومتين: إحداهما لا تكاد تحتمل الجد، والأخرى لا تكاد تحتمل المزاح. فأما الأولى فمصدرها أن الصديق قد قرر حين قرأ الفصل الذي كتبته أني رويت ما رويت فيه من الحديث عن صاحب لي كان مريضا قد أدركه الزكام، أو ألم به البرد، فخيل إليه أن الأستاذ قد أسرف في الإساءة إلى هيلانة حين أضاف حرب طروادة إلى التجارة والتماس المنافع. وأنا أستطيع أن أؤكد للصديق تأكيدا قاطعا أن صاحبي لم يكن مريضا ولا مزكوما ولا متأثرا بالبرد القوي أو الضعيف حين ألقى إلي حديثه، ولا حين قرأ الفصل الذي نشرته الهلال، ولقد سألته وألححت عليه في السؤال فأقسم جهد أيمانه ما أدركه البرد ولا الزكام، ولا ألم به المرض أثناء قراءة هذا الفصل، وأثناء التحدث إلي بتأثير في نفسه، ولم أطمئن إلى حديث صاحبي غلوا في العناية وإلحاحا في التحقيق، فجئت وأطلت البحث، واستقصيت وأنعمت في الاستقصاء، وسألت عن صاحبي القريب منه والبعيد عنه، فانتهت إلي الأنباء كلها بأنه كان صحيحا موفورا أثناء هذه الأوقات، لم يدركه برد، ولم يلم به زكام، فكان مالكا لعقله وقلبه وقوته وحلمه جميعا، وأن الصديق بما كتب عن هيلانة قد أخرجه عن طوره شيئا ونفره من العلم قليلا، ودفعه إلى الأدب دفعا فتحدث إلي بهذا الحديث. ولعل الصديق ينصف صاحبي فيعترف بأنه لم ينكر العلم ولم يثر به ولم يخرج عليه، وأنا أضطر إلى الإذعان له والخضوع لما ينتهي إليه من النتائج حين يحصي ويستقصي، وحين يعلل ويحلل، وحين يقلب الأمور ظهرا لبطن أو بطنا لظهر، ويضربها أخماسا في أسداس أو أسداسا في أخماس، وينتهي إلى ما يغني حينا، وإلى ما لا يغني أحيانا.
لم ينكر صاحبي العلم، ولكنه ضاق به، ومن حق صاحبي أن يضيق بالعلم، ومن حق الأستاذ عوض أن يضيق بالأدب، وليس من الضروري أن ترضى النفوس عن العلم والأدب جميعا في جميع أوقاتها. ولكن أخشى أن أثقل على الأستاذ الصديق بهذا الإلحاح في طلب الإنصاف، فأنا أعلم أن الصديق كان مريضا حين كتب الفصل الذي أرد عليه أنا اليوم. وكان مرضه يسيرا مع السرور، لم يكن يتجاوز بردا خفيفا وزكاما هينا سهلا غير من صوته بعض الشيء، ولعله غير من خلقه فدفعه إلى الضجر بعض الدفع، وإلى الضيق بما لم يتعود أن يضيق به. ومن خصائص الزكام - فيما يقول الناس - أنه يدفع إلى السأم وضيق الصدر، ويشغل عن المزاح ويصرف عن الدعابة ويقبح الحسن ويسوئ المحمود. وأكبر الظن أن الصديق حين أراد أن يرد على ذلك الفصل ظنه جدا مع أنه لم يكن إلا مزاحا، فهاجمه مهاجمة الجاد، وخيل إليه أنه سيدافع عن العلم دفاع الأبطال؛ لأن العلم معرض للخطر، ولأن صرحه الشامخ الشاهق المتين يريد أن ينقض فلا بد من إقامته. والأمر أيسر من هذا وأهون خطرا لولا الزكام، فلم يرد صاحبي أن يهاجم العلم لأنه لم يرد أن يكون سخيفا، وإنما أراد أن يداعب العلم، وويل للحياة إذا حرمت فيها الدعابة على الناس. وأؤكد للأستاذ الصديق أن صاحبي لم يضق بفصله الثاني، ولم يتأذ بشيء من هذا المزاح الذي جاء فيه، ولكنه حريص على أن تقر الأمور في نصابها، وعلى أن يسجل أنه لم يكن مزكوما ولا ضحية للبرد في ذلك الوقت الذي اتهمه فيه الأستاذ بالبرد والزكام. وما أظن الصديق يستطيع أن يجحد أنه كان مزكوما متأثرا بالبرد، وأنه اعتكف اعتكافا ما، وأنه كتب هذا الفصل في ظل ذلك البرد وهذا الزكام وأثناء هذا الاعتكاف. وهذه نقطة خطيرة جدا لا بد من تحقيقها؛ لأن العلم يحرض على مثل هذا التحقيق، فرب زكام أحدث في تاريخ العلم حدثا ذا بال. وكثيرا ما يزعم مؤرخو العلم أن للعلل العارضة والأسقام الطارئة وما يلم بالعلماء والباحثين، وبالحكماء والفلاسفة من عسر الهضم آثارا بالغة فيما يفكرون ويكتبون. والأستاذ يوافقني على أن من الأشياء ذات الخطر أن نؤرخ بصحته الغالية من هذا الانحراف اليسير أحيانا، فيعرضه لما لم يتعود أن يتعرض له من السأم ويغشى ابتسامته الحلوة بما لم تتعود أن تتغشى به من العبوس، والأمر بعد هذا كله لا يعدو أن يكون دعابة ومزاحا.
فأما الخصومة الأخرى فهي أجل من ذلك خطرا وأعظم شأنا لأنها تدور حول طروادة وحرب طروادة، وحول هذا العنق من أعناق الدولة التي تسمى الدردانيل؛ فقد كنت وكان صاحبي على علم منذ زمن بعيد ببحث شليمان عن طروادة، وبهذه المدن التسع التي انتهى إليها هذا البحث من سنة 1871 إلى سنة 1894، وبالنتائج الأخرى الخطيرة التي انتهى إليها بحث شليمان وأصحابه في الجنوب الشرقي لبلاد اليونان. وكنت وكان صاحبي منذ زمن بعيد على علم بفروض شليمان وأصحابه، وبكثير مما قيل حول هذه الفروض مما يثير الشك حينا ويدعو إلى الترجيح حينا آخر. ومع ذلك فإن في الفصل الذي كتبه الصديق شيئا ما أظن أن العلم يطمئن إليه اطمئنانا تاما.
فلنلاحظ قبل كل شيء أن اليقين لم يستقر بعد في نفوس العلماء بأن المدن التي استكشفها شليمان على التل المعروف بحصار لق قد استكشفت في نفس المكان الذي كانت تقوم فيه طروادة هيلانة وباريس والإلياذة وهوميروس. وإنما العلماء مستيقنون أن هذه المدن قد استكشفت في المكان الذي كانت تقوم فيه مدينة طروادة التي أقيمت في العصر التاريخي وأكبر من شأنها اليونان والرومان. فأما المدينة القديمة فالعلماء يقفون منها موقف الترجيح لا موقف اليقين. والصديق يعلم حق العلم أن زملاءه الجغرافيين من اليونان القدماء لم يكونوا متفقين على أن طروادة التاريخية الجديدة كانت تقوم على أطلال طروادة الهوميرية القديمة. والصديق يعلم - من غير شك - أن المدن التي استكشفها شليمان لم تشتمل على نقش مكتوب أو على آية تدل دلالة قاطعة على أنها كانت تقوم حيث قامت طروادة هوميروس. وإذا كان شليمان وأصحابه قد زعموا ذلك فإنما تأثروا بحسن الظن وساروا سيرة المرجحين وأعانتهم على ذلك آثار الحريق. والصديق يعلم أن شليمان كان يعتقد أنه استكشف قبر أجامبون ومدينته في الجنوب الشرقي لبلاد اليونان كما استكشف كنز بريام ومدينته على الساحل الآسيوي للدردنيل. وأن هذا كله ظن لم يقم عليه الدليل التاريخي المقنع بعد، وإذن فقد يكون من الإسراف أن تتخذ هذا الظن أساسا لحقائق نسميها علما ونقيم عليها حقائق مثلها ونمضي في هذا إلى غير حد. من الجائز جدا - بل من الراجح - أن يكون شليمان قد استكشف طروادة، ولكن الدليل القاطع لم يظهر بعد. فلنؤثر الحيطة حين نتحدث عن هذه المدينة، ولنؤثر الحيطة حين ننتهي من هذا الحديث إلى النتائج الخطيرة التي نسجلها في الفصول العلمية تسجيلا.
وأنا أريد أن أقتنع بأن شليمان قد استكشف طروادة هوميروس، وبأن طروادة هذه كانت تقوم على بعد ثمانية كيلومترات من الدردنيل. وأريد أن أرفض آراء العلماء القدماء والمحدثين الذين يقيمون هذه المدينة في أماكن أخرى. فما رأي الأستاذ الصديق في أني بعد هذا كله لا أطمئن اطمئنانا علميا إلى أن تلك الحرب التي أثارها اليونان على طروادة كانت من أجل الدردنيل ومن أجل السيادة على البحر؟ لأن النص التاريخي الذي يثبت ذلك لم يوجد بعد، فإلى أن يوجد هذا النص يجب أن نتجنب القطع والجزم. ولأن العناية بالبحر الأسود وما ينبسط حوله من الأرض لم تكن قد ظهرت بعد كما يقول الأستاذ نفسه وكما يدل عليه خلو الإلياذة وما يعاصرها من الأساطير من الذكر الواضح لهذه الأرض. وإنما ظهرت العناية بالبحر الأسود وما حوله في عصور متأخرة من عصر الإلياذة، أو عن عصر هذه الحرب التي أثيرت على طروادة، ولأن اليونان في ذلك الوقت كانوا يستطيعون أن يمضوا في البحر محتاطين دون أن يخشوا منافسة بحرية خطيرة في هذه النواحي، فلم يحدثنا الأستاذ ولم تحدثنا الأساطير بأن طروادة كان لها أسطول يستطيع أن يرد اليونانيين عن الوصول إلى البحر الأسود إن حاولوا الوصول إليه.
وليس من شك في أن قصة هذه الحرب رمز لخطوب تتصل بالتنافس حول المنافع بين اليونان وتلك المدينة الآسيوية العظيمة، ولكني أشك الشك كله في أن هذا التنافس كان بحريا، وأرجح أن هذه المدينة كانت ملتقى خطيرا للتجارة التي كانت تأتي من أعماق الشرق الآسيوي، فأراد اليونان أن يستقروا في هذا المكان كما أرادوا أن يستقروا في الساحل الآسيوي كله.
صفحه نامشخص
وهذا كله لون من ألوان الفرض يستطيع الخيال أن يذهب فيه إلى غير هذا، ولكنه لا يسمى علما إلا يوم تقدم الأدلة الواضحة على أنه حق لا شك فيه.
وإذن فكل هذه القصة الطريفة التي صورها الأستاذ الصديق لحرب طروادة ووصلها بعنق الدولة التي تسمى الدردانيل إنما هي قصة أدبية قوامها الخيال الخصب القوي، لا علمية قوامها البحث الدقيق.
وإذا كان الأمر كذلك فإني أستأذن الصديق في أن أرى القصة اليونانية القديمة أقوى وأبلغ وأشد تأثيرا في النفس واستهواء للقلب من هذه القصة الحديثة. وأستأذن الأستاذ في أن أجد لذة وراحة حين أقرأ أن بوسيدون إله البحر هو الذي أقام هذه المدينة العظيمة، وأن ملكها بريام كان رجلا عظيما ضخم الملك واسع السلطان له خمسون من الولد، وأن أحد أبنائه باريس كان شرا عليه وعلى ملكه. كان جميلا رائع الجمال، وقد تنبأ المتنبئون يوم مولده بأنه سيجلب على المدينة شرا عظيما، فأمر أبوه بطرحه في مكان بعيد يدركه فيه الهلاك، ولكن الآلهة احتفظوا به لأمر دبروه فشب الفتى رائعا بارع الجمال، واحتكمت إليه ثلاث من الآلهة أيهن أجمل، فقضى لأفروديت على هيرا وأتينا، فكان هذا أول الشر. ثم اختطف هذا الشاب هيلانة من قصر زوجها إسبرتا، فكان هذا مصدر الحرب، ثم دمرت المدينة وردت هيلانة إلى قصرها فكان هذا ينبوع الشعر.
أستأذن الصديق في أن أوثر هذه القصة الخصبة التي نفعت الإنسانية وما زالت تنفعها بما أثارت من شعر قصصي وغنائي وتمثيلي، وبما أثارت من فن جميل خالد وبما لا تزال تثير الآن في الأدب والفن من آثار قوية ممتعة كثير منها سيتاح له الخلود فيما يظهر. ولست أدري هل علم الأستاذ الصديق أن قصة هيلانة تشغل الباريسيين منذ أشهر الآن؛ لأن كاتبا فرنسيا بارعا هو جيرودو قد وضع فيها قصة تمثيلية رائعة عنوانها «لن تكون حرب طروادة»، وهو قد اتخذ من أسطورة هيلانة صورة فنية من أروع الصور لما تضطرب فيه أوروبا الآن من أسباب الخلاف والخصومة التي تدعو إلى الشر والفساد.
أما بعد، فإني أريد أن أتفق مع الأستاذ الصديق على أن أقبل تفسيره العلمي لحرب طروادة يوم تنهض به أدلة العلم التي لا تقبل الشك، وعلى أن يقبل هو قصة هيلانة الأدبية كما تصورها الأدباء وأصحاب الفن، وقد يخيل إلي أن هذا الاتفاق لا يؤذي أحدا، وقد يخيل إلي أن الأدب أرحب صدرا من العلم؛ لأنه يحتمل كثيرا جدا من لعب الخيال، بل هو يقوم على لعب الخيال. فأما العلم فحاجته إلى الخيال محدودة بالمرحلة الأولى، فإذا تجاوزها ضيق على نفسه وعلى الناس والتزم حدودا وقيودا ومناهج لم يلتزمها الأستاذ الصديق حين وقف على أطلال طروادة. أما أنا فإني أستطيع أن أقف على هذه الأطلال، وأنا أقف عليها في كل يوم حرا طليقا فأستمتع بلذات لا تقدر، منها الحزين المكتئب، ومنها الجميل المبتهج، ومصدر ذلك أني لا أحفل بأعناق الدول ولا أبحث عنها، وإنما أوثر عليها جيد هيلانة الحسناء.
الخيال العاقل
تحية صديق مشارك في الحزن آمل في العزاء
إلى أخي الزيات
أعرفت قط خيالا عاقلا أيها الأخ العزيز؟ أما أنا فقد عرفته أمس، ولم أتكلف في معرفته مشقة ولا جهدا، ولم أنفق في البحث عنه قوة ولا وقتا، بل لم أبحث عنه وإنما سعى إلي، أو قل هممت أن أدعوه فاستجاب لي قبل الدعاء، ولكني لم أدعه لأعرفه، فإن عهدي به بعيد، بعيد جدا لا أكاد أذكر أوله، وإنما أعلم أنه رفيقي منذ بدأت أفكر، بل منذ استقبلت الحياة، ما أكثر ما زين لي الأشياء حتى كلفت بها ورغبت فيها! وما أكثر ما بغض إلي الأشياء حتى نفرت منها وضقت بها! وما أسرع ما اخترع لي أشياء لم أكن أعرفها ولا أقدرها! فإذا هي تملأ قلبي أملا ورجاء، وتدفعني إلى العمل والنشاط، وإذا هي تملأ قلبي يأسا وقنوطا، وتدفعني إلى الفتور والخمود والانزواء.
لقد خلق لي عالما كاملا بعيد الآماد، متنائي الأرجاء مختلف الألوان، قضيت فيه أيام الصبا، وما أكثر ما تمنيت أن أعود إليه! ثم خلق لي عالما آخر ليس أقل من ذلك العالم سعة وتنوعا واختلافا، ولكنه مزاج من الجمال والقبح، ومن اللذة والألم، ومن اليأس والأمل، قضيت فيه أيام الشباب، وما زلت أتمنى أن أعود إليه، ثم هو يرافقني الآن فيزين لي الحياة قليلا ويقبحها في نفسي كثيرا، ويحاول أن يخلق لي ما يسر، ويحاول أن يخلق لي ما يسوء، فأطيعه حينا وأعصيه أحيانا، ولكنه وفي لي دائما كلما أردت استعانته على الكتابة والإنشاء. وأعترف أيها الأخ العزيز بأني كنت مقتصدا أشد الاقتصاد في الالتجاء إليه والاستعانة به؛ لأني أعرفه جريئا مسرفا في الجراءة، نشيطا غاليا في النشاط، يخترع من الصور وفنون المعاني ما لا أطيق أن أعرضه على بيئاتنا الاجتماعية التي تقتصد في الاطمئنان إلى وحي الخيال.
صفحه نامشخص
عرفته وفيا نشيطا متأهبا دائما للمعونة كلما دعوته أو فزعت إليه، مقدما من هذه المعونة أكثر مما أسأله، وأعظم جدا مما أقترح عليه. وقد دعوته أمس فاستجاب لي مسرعا غير مبطئ ولا متثاقل، بل أشهد لقد كان يكاد يتمزح نشاطا ومرحا، ولقد كنت أتهيأ للكبح من جماحه والرد من نشاطه، وآخذه بكثير جدا من الأناة والقصد كما تعودت دائما، ولكني لم أكد أعرض عليه ما كنت أريد أن يعينني على الأخذ فيه حتى كفكف من نشاطه، واتأد في غلوائه، وابتسم ابتسامة الهادئ المطمئن، وقال في صوت الراضي الرزين في غير عجز مؤلم، ولا قصور موئس: «إليك عني، فلست مما تريد في شيء.» ذلك أني كنت أريده على أن يمدني بما أصور به فصلا من حياة النبي الكريم في هذه الأيام التي يذكر فيها المسلمون أكبر حدث من أحداثهم، وأعظم عبرة من عبرهم، والتي يعود فيها المسلمون قرونا طوالا من الزمان ليشهدوا ذلك اليوم العظيم الذي خرج فيه النبي وصديقه الصديق من مكة مهاجرين إلى الله بآمال سيفنى الزمان قبل أن تفنى، وإيمان سيزول هذا العالم قبل أن يدركه ضعف ويسعى إليه فتور، وثقة بنصر الله عاشت عليها الأجيال التي لا تحصى، وستعيش عليها الأجيال التي لا تحصى، وسيستمد المسلمون منها أبدا قوة على الجد والكد، واستقبال الحياة بما فيها من خير وشر، ومن حلو ومر، ومن محنة ونعمة.
نعم، دعوته أيها الأخ العزيز إلى أن يلهمني بعض ما تعود أن يوحي إلي من الصور فأعرض في غير غضب، وامتنع في غير بخل، وألح في الإعراض والامتناع، فلما ألححت عليه تبينت منه الاستحياء وإيثار العافية، والضن بنفسه على ما لا يحسن، وتجنيبها ما لا يطيق. وإذا هو يقول لي في لهجة الهادئ المطمئن: استعني فيما شئت، فقد عرفت قدرتي على الاختراع والابتكار، وحسن بلائي في لبس الحق بالباطل حتى يصبح زينة كله، ولكن من الحق ما هو أرفع من أن أسمو إليه مهما أكن قوي الجناح، وأوضح من أن أجليه مهما أكن قوي النور، وأسطع من أن أوضح مهما أكن نافذا بعيد الهم، وأنصع من أن أزينه مهما أكن ماهرا في اختراع الزينة وابتكار الجمال.
ولئن حدثتك عن هذا الرجل الكامل لأحدثنك حديث العقل. أستغفر الله، فما يستطيع العقل أن يحدثك عنه كما يجب؛ لأنه أكرم وأرفع وأرقى من أن يبلغه العقل، كما أنه أكرم وأرفع وأرقى من أن يبلغه الخيال. اجتهد في أن تتمثل ما أتيح للناس أن يعرفوا من حياته، ثم انظر فيه واستمد منه، فلست محتاجا مع ذلك إلى معونة عقل أو خيال.
انظر إلى الناحية الحزينة من حياته، واقصص على نفسك أطرافا منها، فإن لم تملأ قلبك عبرة وعظمة وجمالا وحبا وإكبارا دون استعانة بعقل أو خيال؛ فلست إنسانا ولست من الإنسانية في شيء.
انظر إلى هذا الذي ذاق اليتم جنينا، إن كانت للأجنة أن يذوقوا المعاني والآلام، ثم لم يكد يستقبل الحياة ويتقدم في الصبا حتى ذاق اليتم مرة أخرى، ففقد أمه بعد أن فقد أباه، ثم لم يكد يتقدم خطوات أخرى في الصبا حتى ذاق اليتم مرة ثالثة؛ ففقد جده بعد أن فقد أبويه، ثم ألحت عليه حياة فيها شدة وجهد، وفيها حرمان وفقر، وفيها ضيق وضنك، ثم تظاهرت هذه الآلام كلها على نفسه الكريمة الناشئة فلم تستطع أن تبلغها ولا أن تنال منها؛ لأن الله قد قطع الأسباب بين هذه النفس المصفاة وبين البؤس والشقاء. ثم امض معه خارجا من الصبا داخلا في الشباب متقدما فيه، فإذا الحياة كما هي شديدة شاقة ثقيلة ضيقة، ولكنه مبتسم الشباب كما كان مبتسم الصبا، وادع النفس رجلا كما كان وادع النفس طفلا. إنه يجد ويعمل، إنه يكد ويكدح، إن الحياة تبسم له أحيانا، إن الناس من حوله يحبونه ويقدرونه ويكبرونه ويثقون به، ويطمئنون إليه ويلتمسون به العافية والسلم، ويحكمونه فيما يشجر بينهم من خلاف، فلا يعرضه ذلك لبطر ولا لأشر؛ لأن الله قد قطع الأسباب بين نفسه المصفاة وبين ما يشوب حياة الناس من الأشر والبطر والغرور. ثم انظر إليه وقد اختاره الله لخير ما يؤثر به عبدا من عباده، وحمله أثقل أمانة حملها أحدا من خلقه، فإذا هو يلقى هذا العبء الثقيل جلدا له، صبورا عليه، ناهضا به، ماضيا فيه، لا يعرف كلالا ولا ملالا ولا فتورا؛ لأن الله قطع الأسباب بين نفسه المصفاة وبين ما يشوه حياة الناس من الكلال والملال والفتور.
ثم انظر إليه يذوق الثكل بعد أن ذاق اليتم، ويمتحن في نفسه وسمعته، ويمتحن في صحبه وأولي نصره، ويمتحن في بنيه، ثم يمتحن في زوجه التي جعلها الله رحمة يسكن إليها ويعتز بها، ثم يمتحن في دينه، ثم يمتحن في كل شيء، ثم يمتحن في كل إنسان، فإذا هو كما هو، باسم الكهولة كما كان باسم الشباب وكما كان باسم الصبا، لا يعرف الضعف ولا اليأس ولا هذا الاكتئاب العقيم إليه سبيلا؛ لأن الله قطع الأسباب بين نفسه المصفاة وبين الضعف واليأس والاكتئاب العقيم.
ثم انظر إليه وقد أنكر قومه وأنكره قومه، وقد ضاقت به مكة وضاق به ما حول مكة، وقد لقي المحن التي لا تحتمل، والمكروه الذي لا يطاق، فلم يدركه نكول ولا استسلام، وإنما فتحت له أبواب الأمل، وفرج عنه تأييد الله له ما تضايق من الأمر، فإذا هو يهاجر إلى يثرب. أفتراه اطمأن فيها إلى الدعة ونعم فيها بالخفض واللين؟ كلا، ما هذه الحروب التي لا تنقضي، والتي يمتحنه الله فيها بالنصر حينا وبغير النصر حينا آخر؟ ما هذا الجهد الذي لا ينقضي ؟ ما هذا الضيق الذي يضطره أحيانا إلى الجوع؟ ما هذه الخيانات تأتيه من المنافقين؟ ما هذه الخيانات تأتيه من حلفائه من يهود؟ ما هذا الموت يتخطف أعز أصحابه عليه وآثرهم عنده؟ أفتراه يئس لذلك أو ضعف عن احتماله، أو اضطره شيء من ذلك إلى أن يحيد عن طريقه المستقيمة قيد شعرة؟ كلا؛ لأن الله جعل نفسه الكريمة مضاء كلها، وإباء كلها، وصبرا كلها، وثقة بالله كلها.
ثم انظر إليه وقد تقدمت به السن، ولم يبق له من بنيه وبناته إلا فاطمة رحمها الله، وإذا الأيام تبسم له، وإذا الأمل يشرق أمامه، وإذا المبشرات ينبئنه بأن الله قد رزقه غلاما فيسميه باسم أبيه إبراهيم، وإذا قلبه مسرور محبور، وإذا هو يشرك المسلمين معه في سروره وحبوره فيبشرهم بما بشر به، ويجد المسلمون أن عينه قد قرت فتقر عيونهم، وأن نفسه قد طابت فتطيب نفوسهم، وأن قلبه الكريم يتفتح للأمل فتتفتح قلوبهم للآمال، ولكن الله يأبى إلا أن يمتحنه شيخا كما امتحنه صبيا وشابا وكهلا، وإذا إبراهيم ينزع منه ولما يتم الرضاع. أفتراه جزع لذلك أو أدركه ما يدرك الشيوخ من وهن وضعف؟ كلا، إن الله قد قطع الأسباب بين نفسه المصفاة وبين الوهن والضعف. لم يتم إبراهيم رضاعه في الدنيا فسيتمه في الجنة. وانظر إلى أبيه وإنه ليسعى في جنازته محزونا، ولكن حزن الكرام لا حزن اليائسين ولا حزن القانطين، وإنه ليقوم على قبره، وإنه ليعنى بتسوية القبر وترويته وصب الماء عليه، وإنه لينصح للمسلمين إذا عملوا عملا أن يتموه وإن لم يكن لذلك غناء ظاهر؛ لأن من كمال العقل أن يحسن الرجل ما يعمل. ثم انظر إليه يعلن إلى ربه أنه راض بقضائه، مذعن لأمره، مؤمن بحكمته، ويعلن إلى ابنه أنه محزون لفقده. ثم انظر إليه إن عينيه الكريمتين لتدمعان، وما يمنعه أن يبكي وإن البكاء ليتم مروءة الرجل أحيانا؟ ولكن انظر إليه، أترى شيئا من حياته قد تغير؟ أترى شيئا من رأيه في الحياة قد تغير؟ كلا، ما كان للأحداث في هذه الدنيا أن تغير نفسا هي أكبر من الدنيا!
قلت لهذا الخيال: ما رأيت كاليوم خيالا عاقلا رشيدا. إن في حديثك لعبرة لمن أراد أن يعتبر. قال: وأي غرابة في أن يعقل الخيال ويرشد إذا تحدث عن محمد، وإن كان من طبعه الطموح والجموح؟ قلت: لأنقلن حديثك هذا إلى صديق محزون جزع. قال: انقله راشدا إلى صديقك وإلى كل محزون جزع، فما أرى أن مسلما يتمثل حياة محمد من هذه الناحية من نواحيها ثم يعرف اليأس أو الجزع إلى قلبه سبيلا.
لجنة المروءة
صفحه نامشخص
ولم يكن بد من أن يؤلف صديقي العزيز أحمد أمين لجنة للمروءة، كما يؤلف في كل يوم لجانا ولجانا لما يعرض من المشكلات القريبة والبعيدة، فتأليف اللجان لازمة من لوازمه، واللجنة عنصر من العناصر الأساسية لتفكيره الاجتماعي، فلا يكاد يعرض له أمر يحتاج إلى الروية والتفكير حتى يفكر قليلا، ويستعرض ألوانا من الحلول، ثم يقترح تأليف لجنة للنظر في هذا الأمر وحله على أحسن وجه ممكن.
ذلك لون من ألوان التواضع، وفن من فنون الديمقراطية، وتقدير لأصل الشورى، يحمد للأستاذ ويسجل له فضله. وقد عرفنا منه الشغف باللجان، والإسراع إلى تأليفها، فداعبناه بذلك. والله يعلم أني حين طلبت إليه النظر في تنظيم مدرسة المروءة لم أكن أريد إلا توريطه، وقد تورط في تأليف لجنة، فله الشكر على هذه اللجنة قبل أن تؤلف وبعد أن تؤلف، وقبل أن تعمل وبعد أن تعمل، وله الشكر عليها إن وفقت، وله الشكر عليها إن أخفقت؛ فليس المهم من أمر هذه اللجنة أن تعمل أو تكسل، وليس المهم من أمرها أن تنجح أو تخفق، وإنما المهم أن تؤلف، وأن تؤلف ليس غير؛ ففي تأليفها ما يضحكنا ويسري عن نفوسنا، وليس ذلك بالشيء اليسير في هذه الأيام التي لا يتاح الضحك فيها للناس إلا بمقدار.
وفي تأليفها ما يخيل إلينا أننا عملنا شيئا، وهذا كثير جدا، يلائم ما فطر الله عليه أمزجتنا من الاستغناء بالخيال عن الحقيقة، والاكتفاء بالصور والأشكال في أكثر ما نعمل وما لا نعمل، وفي أكثر ما نقبل عليه أو ننصرف عنه.
وليس أيسر من أن نطلب إلى مصلحة الإحصاء، وهي عندنا قادرة ماهرة، أن تحصي لنا اللجان التي ألفناها والنتائج التي انتهت إليها هذه اللجان، فسنرى من هذا الإحصاء ما يسر ويرضي، وسنستقبل اللجنة الجديدة التي يقترح صديقنا تأليفها بشيء من الابتسام الحلو أو المر، وسنطمئن إلى أنها لن تعمل شيئا بإذن الله.
ولكن هذا لن يغض من قيمة هذه اللجنة الخطيرة؛ فإن في تأليفها وتكليفها العمل على نحو ما فعل الصديق العزيز شيئا من الشعر له خطره، وحظا من الجمال له قيمته؛ فهو حلم لذيذ، والأحلام خير ما في الحياة لأنها تخيل إلينا من المثل العليا، وتصور لنا من الآمال، ما لا تواتينا به الحياة الواقعة؛ فهي تريح نفوسنا الطامحة من اليأس، وتسليها عن العجز، وتخفف عليها أثقال الحياة. ولكني مع ذلك أريد أن أجادل الصديق العزيز في لجنتنا هذه العزيزة، فقد يخيل إلي أنها ليست أقل عسرا ولا إشكالا من المدرسة التي كنت أتحدث عنها، والتي كنت أريد لها المناهج والبرامج، والإجازات والدرجات، والحجرات والغرفات، والأساتذة والمدرسين.
ظن صديقنا أنه يخلص من هذه المشكلات حين يجعل المملكة المصرية كلها مدرسة للمروءة، وحين يكل أمر هذه المدرسة إلى لجنة واسعة السلطان عظيمة السيطرة، لا حد لما تملك من قوة وبأس. ولكن هل فكر الصديق في هذه اللجنة كيف تختار؟ وممن تؤلف؟ وعلى أي مبدأ من المبادئ يكون اختيارها وتأليفها؟ أيختارها هو وحده، فقد جعل نفسه إذن ديكتاتورا هائلا مخوفا، وهو فيما أعلم أبغض الناس للنظام الديكتاتوري؟ أم يكل اختيارها إلى جماعة بعينها من الناس؟ فكيف تختار هذه الجماعة؟ وعلى أي مبدأ تختار؟ أم يجعل اختيارها إلى الشعب كله تحقيقا للأصول الديمقراطية ورعاية لمبادئ الدستور؟ فإن الشعب قد انتخب وسينتخب، كما انتخبت وستنتخب الشعوب ألوانا من البرلمان، وفنونا من مجالس الحكم، فلم تحقق مما أراد الأستاذ ومما أريد أنا شيئا. وإذن فكيف اختيار هذه اللجنة؟ وممن يكون تأليفها؟ وعلى أي مبدأ من المبادئ يكون هذا الاختيار والتأليف؟ فهذه مشكلة أزعم أن الأستاذ لن يظفر لها بحل مهما يؤلف من لجان.
ومشكلة أخرى، وهي أني أفترض أننا قد ظفرنا بما لا سبيل إليه، فألفنا هذه اللجنة على خير وجه ومنحناها أو منحت هي نفسها أعرض السلطان وأضخمه، وأعمقه وأنفذه، وبدأت في العمل. فثق أيها الصديق العزيز بأنها ستجر البلاد إلى خطر لا يشبهه خطر، وستصب عليها كوارث وقانا الله شرها، وجنبنا نتائجها السود. ذلك أنها ستجري أمور التولية والعزل على المروءة، قبل أن تجريها على الكفاية، وعلى الأخلاق قبل أن تجريها على الذكاء، وعلى حسن السيرة والارتفاع عن الصغائر والحياة مما لا يليق بالرجل الكريم، قبل أن تجريها على العلم بما ينبغي لمرافق الناس من فنون تمكن من إدارة هذه المرافق على ما ينفع الناس ويصلح شئونهم؛ فليس المهم أن يظفر المهندس بإجازته الفنية من كلية الهندسة، وأن يكون بارعا في فنون الري أو البناء أو الكهرباء، وإنما المهم أن يكون ذا مروءة لا يفعل في السر ما يكره أن يفعله في العلانية. فحدثني ماذا يصنع الناس بهذا الرجل ذي المروءة إذا اضطربت عليهم أمور الري والبناء والكهرباء، ولم يكن هذا الرجل ذو المروءة يحس من هذه الأمور شيئا؟ وليس المهم أن يخرج المعلم من كليات الجامعة ومعهد التربية، وأن يحسن المادة التي يراد تعليمها والفن الذي يصطنع في هذا التعليم، وإنما المهم أن يكون ذا مروءة؛ أي أن يكون رجلا كامل الرجولة أو إنسانا كامل الإنسانية. فماذا يصنع الناس بهذا الرجل ذي المروءة إذا كان لا يحسن علما ولا فنا، وهم في حاجة إلى من يعلمهم ويؤدبهم؟ وقل مثل هذا في القضاة، وقل مثله فيمن شئت من الذين توكل إليهم أمور الحياة العامة. أرأيت إلى أن لجنة المروءة هذه إن ألفت وتركت إليها الأمور، واتخذت المروءة وحدها شرطا أساسيا للتولية والعزل، لن تكون مصدرا للخير ولا للإصلاح، ولكنها ستصبح مصدرا للشر والفساد، وستدفع الناس ومصالحهم إلى خطر عظيم؟
وليس هذا كل شيء؛ فإن لجنة المروءة هذه ستكون صغيرة كما قلت، أو كبيرة كما يمكن أن يقال، ولكنها ستكون قلة على كل حال، فإذا جعلت الأمر إليهم وتركت لها الحكم في أقدار الناس وحظوظهم من المروءة، فهي مندفعة إلى الجور راضية أو كارهة.
فليست المروءة شيئا يمكن تحديده، بحيث لا يكون في هذا التحديد تنافر أو اختلاف، وإنما هي شيء تقديري يختلف الناس في تصوره كما يختلفون في تعريفه وفي تقديره؛ ولذلك لم تستطع أن تعرض علينا تعريفا جامعا مانعا للمروءة. وإذن فسترى اللجنة رجلا ذا مروءة لأنها عرفت ذلك فيه، فحكمت بذلك له، وستكل إليه من أمور الناس ما يحسن وما لا يحسن، وسترى أنت - وسأرى أنا، وسيرى غيرك وغيري - أن اللجنة قد أخطأت فيما قدرت، وجارت فيما حكمت، وحابت هذا الرجل بما وكلت إليه من أمور الناس، وسننكر اللجنة وأعمالها كما ننكر كثيرا من الوزارات وكما ننكر أعمالها، وسيكون للجنة مؤيدون ومعارضون كما أن للوزارات مؤيدين ومعارضين، وسيكون التنافس بين أولئك وهؤلاء، ستدافع اللجنة عن نفسها، وستستمسك بسلطانها، وستسلك إلى ذلك كل سبيل، وسنعود إلى حيث كنا قبل أن تؤلف اللجنة، وسنشكو مما نشكو منه الآن، وسأطلب إليك أن تنظم لنا مدرسة للمروءة، تعلم الناس كيف يرتفعون عن الصغائر، وكيف يبرئون أنفسهم من النقائص، وكيف يتنزهون عن إيثار أنفسهم بالخير على حساب الناس، وكيف يربئون بأنفسهم عن الكيد والدس، ويطهرونها من الخيانة والغدر والمكر والخداع، وكيف يقدمون على العمل وهم مطمئنون إلى أنهم لن يستحوا منه أمام أنفسهم إذا خلوا إليها، كما أنهم لا يستحون منه أمام الناس حين يلقون الناس.
أترى أيها الصديق العزيز أن لجنتك ليست أيسر أمرا ولا أهون خطبا من مدرستي، وأن الأمور ليست من السهولة والأسماح بحيث تظن أنت وأظن أنا؟ وأن إصلاح الأخلاق لا يكون بالقانون ولا يكون بالمدارس ولا يكون باللجان؟ وإن كنت لا أدري بماذا يكون لك الشكر، فقد أتحت لي أن أحلم معك حلما لذيذا، ولك العذر ؛ فقد حاولت ما لا سبيل إلى تحقيقه، وطلبت ما لا أمل في الوصول إليه؛ فلقد مضى الناس على أمرهم منذ عرفوا حياتهم الاجتماعية ونظمهم السياسية. وما أعرف أن جماعة منهم تحضرت وعرفت نفسها إلا وقد اتخذت لها مثلا عليا في الآداب والأخلاق، وجدت في الوصول، وسلكت إلى ذلك سبلها المختلفة، فوصلت الإنسانية إلى ما ترى، وما زالت تطلب مثلها العليا، وترى أنها بعيدة عن هذه المثل، وتشكو من نقص المروءة، وضعف الأخلاق، وفساد الأمور المعنوية كلها، كما كانت تشكو منذ أزمان، وكما ستشكو بعد أزمان. ذلك أن المثل الأعلى ماكر ماهر، وخادع مداعب، يدني نفسه منا حتى يطمعنا في نفسه، وحتى يخيل إلينا أن ليس بيننا وبينه إلا أن نمد إليه أيدينا فنأخذه، ولكننا نمد أيدينا فلا نأخذ شيئا، ولا نقبض إلا على الهواء، وهو مع ذلك يتراءى لنا قريبا كل القرب، دانيا كل الدنو. كذلك خيل إلي حين فكرت في مدرسة المروءة، وكذلك خيل إليك حين فكرت في لجنة المروءة. أستغفر الله، فما لنا نخدع أنفسنا ونخدع الناس! إنه لم يخيل إلي شيئا، ولم يخيل إليك شيئا، وإنما أحسست أنت كما أحسست أنا آلاما لما نجد من نقص المروءة عند الناس، ومن ضعف الأخلاق وانحراف الطبائع عما ينبغي لها. وكرهت أنت كما كرهت أنا أن نشكو من هذا الشر؛ فعرضت أنت كما عرضت أنا الشكاة في صورة السعي إلى الإصلاح، من طريق المدرسة ذات المناهج والبرامج، وذات الحجرات والغرفات، والتي تتبع وزارة المعارف أو وزارة الشئون الاجتماعية، ومن طريق اللجنة الصغيرة ذات السيطرة الواسعة والسلطان العريض، ثم أفقت أنت كما أفقت أنا من هذا الحلم اللذيذ، فرأينا أن أيا كذا خلقت كما يقول النحاة، وأن تغيرها ليس في أيدينا، وإنما هو في أيدي الزمن الذي هو أقوى منا، والذي يصعب تحليله ورده إلى أصوله وعناصره، فما أريد زمن الفلاسفة، وإنما أريد هذا الزمن الذي يتغناه الشعراء، فيشكون منه حينا، ويشكون إليه حينا آخر.
صفحه نامشخص
فلنتواضع أيها الصديق، ولتعدل أنت عن لجنتك، ولأعدل أنا عن مدرستي، ولنكتف بما اكتفى به الناس من قبلنا، وبما سيكتفي به الناس من بعدنا، فنحب الخير وندعو إليه، ونبغض الشر ونصد عنه، ونحلم من حين إلى حين بأن بلوغ المثل الأعلى قريب يسير، فنستمتع بهذا الحلم ساعة من نهار أو ساعة من ليل حين نكتب ما نكتب للثقافة، ونمتع قراءنا بهذا الحلم ساعة من ليل أو ساعة من نهار حين يقرءون ما نكتب لهم، فستجيب لنا نفوسهم وتخلص لنا قلوبهم، ويسايروننا في هذه الطريق التي تحفها الرياض النضرة؛ حتى إذا أفقنا من حلمنا ورأينا ما في الحقيقة الواقعة من نقص المروءة وضعف الخلق، وتغلب المنافع العاجلة على محاسن الشمائل وخيار الفضائل، تمثلنا بقول جميل لبثينة، وهل كان جميل إلا طالبا للمثل الأعلى مثلك ومثلي؟ وهل كانت بثينة إلا رمزا لهذا المثل الذي تسعى الإنسانية في أثره فلا تبلغه؟ فلنتمثل إذن بقول جميل لمثله الأعلى:
ومنيتني حتى إذا ما ملكتني
بقول يحل العصم سهل الأباطح
تناءيت عني حين لا لي حيلة
وغادرت ما غادرت بين الجوانح
مدرسة الأزواج
أرادت وزارة الشئون الاجتماعية أن تصلح نظام الحياة في مصر، وكان بين النظم التي ذكرتها في أحاديثها وإعلاناتها نظام الأسرة؛ لأنها لاحظت كما لاحظ الناس منذ زمن بعيد، وكما سيلاحظون إلى زمن بعيد، أن نظام الأسرة المصرية في حاجة إلى الإصلاح. وقد بحثت، وأستطيع أن أبحث دائما عن بيئة متحضرة ترضى عن نظمها الاجتماعية، وتطمئن إليها، ولا تبتغي لها إصلاحا؛ فلم أجد، ويظهر أني لن أجد مهما أمعن في البحث والاستقصاء.
فالسخط على الحياة الحاضرة أصل من أصول الطبيعة الإنسانية، وهو سبيل هذه الطبيعة الإنسانية إلى التطور والرقي، كما أن الرضى المطلق سبيلها إلى الجمود والخمود، ثم إلى التدهور والانحطاط؛ فستظل دائما في حاجة إلى الإصلاح مهما تكن أمورنا صالحة، وسنسخط دائما على نظام الأسرة مهما يكن هذا النظام مصدر لذة لنفوسنا وغبطة لقلوبنا، وسعادة تعيننا على احتمال أعباء الحياة. والشر كل الشر أن نسرف في تقدير هذا السخط الطبيعي الذي يدفع إلى العمل، ويسمو بالناس إلى الكمال، ويطمح بهم إلى المثل العليا. الشر كل الشر أن نغلو في تقدير هذا السخط فنحوله إلى يأس مثبط للهمم، مفسد للآراء، صارف عن العمل، باعث على القعود.
فليس نظام الأسرة في مصر بالقياس إلى الحياة المصرية، من الفساد والقبح بحيث يظن المتشائمون، ولكنه نظام يلائم حياتنا، وقد أنتج لنا نتائج رضينا عنها ورغبنا فيها، وهو كغيره من النظم قابل للتطور، مصدر لشيء من القلق، معرض لكثير من الاضطراب؛ فالخير في أن نلاحظه ملاحظة دقيقة، ونلائم بينه وبين ما يلم بحياتنا من ألوان التطور، حتى لا يختل التوازن بين أعضاء الأسرة من جهة، وبين الأسرة والبيئة الاجتماعية من جهة.
وكنت أظن حين أنشئت وزارة الشئون الاجتماعية أنها ستكون وزارة ملاحظة ومراقبة وإحصاء وتسجيل؛ تلاحظ حياتنا من جميع أنحائها، وتراقب ما يعرض لها من العوارض، وما يلم بها من التطور، وما يكون لذلك من أثر في الدقيق والجليل من أمرها، ثم تسجل هذا كله وتحصيه وتستخلص نتائجه وتعلنها إلى الناس، ليتعلم منهم من يريد العلم، وليصلح منهم من يريد الإصلاح. وتعلنها بنوع خاص إلى الذين إليهم تدبير الأمر في هذه البلاد ليروا فيها آراءهم، وليطلبوا لها بما تقتضيه من أعمال التشريع والتنفيذ.
صفحه نامشخص
كنت أظن ذلك، وكنت أظن أن وزارة الشئون الاجتماعية ستستقبل حياتها على طريقة ديكارت، قد جردت نفسها من كل علم سابق، ومن كل رأي سابق، وأخذت تدرس شئون مصر في أناة ومهل، كأنها لا تعلم من هذه الشئون شيئا، وهيأت لهذا الدرس وسائله قبل البدء فيه، فأنشأت إدارة الإحصاء وإدارات مختلفة لمراقبة شئوننا الاجتماعية وملاحظتها. وكنت أظن أنها ستنفق عاما أو نحو العام في إعداد هذه المصالح والإدارات، وإمدادها بوسائل البحث العلمي الدقيق، وأدوات الملاحظة الصحيحة المنتجة، ثم تأخذ بعد ذلك في الدرس على مهل وفي روية وتثبت. وكنت أظن أنها ستحتاج إلى عامين، أو إلى أعوام، قبل أن تظهر لإنشائها نتائجه اليسيرة الأولى، ولكنا في مصر نحب العجلة ونكره الأناة ، وليس لنا صبر على الروية والبحث، ولا طاقة لنا بالحياة يوما أو أياما دون أن يقول الناس عنا شيئا، ودون أن ترى أسماءنا في الصحف والمجلات مقرونة إلى أعمال تضاف إلينا خطأ أو صوابا، وتحمل علينا صدقا أو كذبا، وليس المهم أن نعمل، وإنما المهم أن يظن بنا العمل، وليس المهم أن ننتج أو نصلح، وإنما المهم أن نتهم بالإنتاج والإصلاح. وأنا أستعمل كلمة الاتهام عن عمد.
ومهما يكن من شيء فقد أنشئت وزارة الشئون الاجتماعية، فكنت أسعد الناس بإنشائها، ثم أخذت وزارة الشئون الاجتماعية في النشاط، فلا أقول إلا أنها رسمت في نفسي وعلى وجهي ابتسامة فيها مرارة شديدة. ومهما ننكر على وزارة الشئون الاجتماعية فنحن مضطرون إلى الاعتراف بأنها قد أعطتنا مادة للكلام، وقد أعطتنا مادة للدعاية أيضا. ونحن في مصر نحب الكلام، ونحن في مصر نكلف بالدعاية كلفا شديدا. فلنشكر وزارة الشئون الاجتماعية فضلها علينا، ولعلها أن تتقاضانا غدا أو بعد غد شكرا آخر أقوم وأجدى من هذا الشكر.
وكان من أول ما أنشأت وزارة الشئون الاجتماعية إدارة الدعاية، وكانت الدعاية نفسها أول ما أقبلت عليه، وكان صديقنا توفيق الحكيم هو قائد هذه الحملة الهائلة التي وجهت في عنف شديد إلى نظمنا الاجتماعية الفاسدة لتدكها دكا، ولتقيم لنا مكانها نظما اجتماعية صالحة لسنا نعرف ما هي. ولم يرد القائد أن يكون أقل بلاء من جنده، ولا أن يكتفي بتدبير الخطط، وتوزيع الجيوش على مناطق الخطر. وإنما كان قائدا باسلا مغامرا، كقادة القصص القديم؛ يسبق جنده إلى الميدان، ويعرض نفسه للخطر ليكون أسوة حسنة، وقدوة صالحة لأتباعه المستبسلين.
وقد افتتح الحرب بحملة عنيفة على خصمه القديم وصديقه القديم أيضا؛ ذلك الخصم الذي ينغص يومه، ويؤرق ليله، ذلك الصديق الذي تنقطع نفسه حسرات في سبيله، والذي ألهمه ما أنتج من أدبه الجميل، ذلك الخصم وذلك الصديق الذي يسمى المرأة. وكانت غارة القائد المستبسل عنيفة ظريفة، وكانت مضحكة، وكانت مخيبة للآمال؛ فلم يقل فيها صديقنا الأديب شيئا لم يكن قد قيل من قبل، ولكنه أعاد حديثا زهد فيه الناس، وأعاده في لهجة محنقة من جهة، ومؤذية للذوق من جهة أخرى؛ محنقة لأنها لا تلائم الحق، ومؤذية للذوق - وأريد الذوق الأدبي - لأنها نزلت بالأستاذ إلى أن يتحدث عن أشياء لم نألف الحديث عنها في أدبه الرفيع عن البطاطس والفرن وما يتصل بالبطاطس والفرن. وقد قرأت وضحكت وغضبت، ثم انتهى بي الغضب والضحك إلى هذه الابتسامة المرة التي ترسمها على وجهي وزارة الشئون الاجتماعية دائما كلما ذكرت. وقلت في نفسي: هذا فن جديد من فنون الإعلان، فلن يمضي حديث مدير الدعاية دون أن يثير السخط، ويدعو السيدات والآنسات إلى الرد والجدال، فيكثر القول، وتذكر وزارة الشئون الاجتماعية فيه، وتتحقق الدعاية العنيفة يسيرة سهلة، لم تكلف عناء، ولم تحتج إلى نفقة. ولم أخطئ في التقدير؛ فقد هاج السيدات والآنسات، وما أسرع ما يهجن! وكان من حقهن أن يهجن في هذه المرة، وقد أخذن على غرة، ولم يقدرن كما قدرت أن الأمر لا يراد به إيذاؤهن، ولا الغض من قدرهن الرفيع في نفوسنا جميعا، وفي نفس الأستاذ توفيق الحكيم خاصة، وإنما هو لون من ألوان الدعاية وفن من فنون الإعلان.
هاج السيدات والآنسات، فاتصلت ردودهن في الصحف العربية والفرنسية، وثارت بينهن المناقشات، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، ولكن الشكوى لم تلبث أن ارتفعت إلى الوزير، والسؤال لم يلبث أن وجه إلى الوزير في مجلس الشيوخ؛ وإذا الوزير ينفي، وإذا الكاتب يبرأ، وإذا الأمور تستقر والحمد لله، بعد عاصفة لم تكن هوجاء ولم تكن فاترة، ولكنها كانت شيئا بين ذلك، وكانت تثير في نفوس أصحاب الجد والحزم غضبا وضحكا في وقت واحد، ولا مصدر لهذا كله إلا الإعلان. فمتى يريحنا الله من الإعلان؟ ومتى تقتصد وزارة الشئون الاجتماعية في الإعلان؟ ومتى يكلف الأستاذ توفيق الحكيم شيئا غير إدارة الإعلان؟
وكذلك كنت أجيل في نفسي هذه الأحاديث وأعبث بها مع بعض الأصدقاء، وإذا «الثقافة» تحمل إلي ذات يوم فصلا لصديقنا أحمد أمين، يصور هذه الآراء التي ذكرتها آنفا تصويرا دقيقا. فصديقنا أحمد أمين جاد في هذا الفصل، عابث فيه أيضا؛ جاد لأنه يريد الإصلاح ويبتغي إليه الوسائل، وعابث لأنه يساير وزارة الشئون الاجتماعية في هذه الطريق الغريبة التي سلكتها، طريق التفكير السريع، والاقتراح السريع، والإعلان السريع، والإقدام السهل والعسير، في غير تحفظ ولا احتياط.
يريد صديقنا أحمد أمين مجاراة لوزارة الشئون الاجتماعية أن تنشأ في مصر مدرسة للزوجات، ولم لا ولكل شيء في مصر مدرسة؟ والزوجات شيء، فيجب أن تكون لهن مدرسة. ولم لا والدولة تنشئ المدارس في فروع العلم والعمل لتخريج من تحتاج إليهم في مرافق الحياة وحياة الأسرة أهم مرافق الحياة، فما بالنا لا ننشئ مدرسة تخرج اللاتي يقمن على هذه المرافق الخطيرة التي هي أساس الخير والشر في كل ما يمس حياتنا الخاصة والعامة؟ وقد احتاط الأستاذ أحمد أمين في لباقة وظرف وعبث أيضا، لي ولأمثالي من المناكفين الذين يثيرون الاعتراضات ويخلقون المشكلات؛ فرد على الاعتراضات قبل أن تثار، وحل المشكلات قبل أن تخلق، وظن أن فصله هذا سيمضي دون أن أتعقبه، كما تعقبت فصله البديع في فن السرور.
ولكن صديقنا لم يقدر أني مصمم على تعقبه دائما في هذا اللون من ألوان الحديث الذي يمس شئوننا الاجتماعية ويلتمس لها العلاج السهل اليسير القريب، الذي يكفي أن نفكر فيه ساعة، ونكتب فيه فصلا، لنظن أننا قد وصلنا به إلى الغاية، وانتهينا به إلى أبعد آماد الإصلاح.
فمدرسة الزوجات هذه فكرة ظريفة، ذكرتني لمجرد قراءتها بآثار أدبية رائعة لموليير وجيد وموروا، وغيرهم من الكتاب والشعراء. ولعلها شوقتني إلى أن أعود إلى قراءة هذه الآثار الأدبية التماسا للمتعة الفنية، والتماسا لبعض ما أتحدث به إليكم أيها القراء الأعزاء. ثم هي ذكرتني في الوقت نفسه بكتاب آخر خطير، ألفه المسيو ليون بلوم رئيس الوزراء السابق في فرنسا، وزعيم الاشتراكية الفرنسية منذ حين، ألفه في أول هذا القرن وأعاد نشره حين كان رئيسا للوزارة الفرنسية منذ عامين. وهو كتاب الزواج، وهو كتاب ضخم طويل ممتع، ولكن الحديث عنه لا يلائم هذا الطور من أطوار حياتنا الاجتماعية، ولا يوافق عرفنا وأخلاقنا. وحسبك أنه أثار وما زال يثير في فرنسا سخطا عنيفا. وهذا الكتاب يمكن تقسيمه إلى قسمين: أحدهما تعريف الزواج وتصويره وتصوير الأغراض التي ينبغي أن تلتمس منه وتطلب إليه، والثاني تصوير الوسائل التي تمكن من تحقيق الزواج على النحو الذي يلائم ما أراد المسيو ليون بلوم من الأغراض.
والقسم الأول يمكن أن يختصر في أسطر، وهو يطابق كل المطابقة رأي صديقنا أحمد أمين؛ فليس الزواج عند مسيو ليون بلوم متعة عنيفة ولذة متهالكة، وليس الزواج وسيلة إلى إرضاء طائفة من الشهوات الجامحة التي تضبط ولا تنظم، وإنما الزواج نظام هادئ، ينظم حياة هادئة، ويؤدي إلى سعادة هادئة، ويعين على احتمال أعباء الحياة في طور من أطوار السن، يصعب فيه احتمال أعباء الحياة. وإذن فلا بد من أن يعد الزوجان إعدادا صحيحا دقيقا لهذا الطور الهادئ المريح الخصب من حياتهما، وإلى هنا يتفق مسيو ليون بلوم والأستاذ أحمد أمين.
صفحه نامشخص
ولكنهما يختلفان بعد ذلك في مسائل إعداد الزوجين؛ فأما المسيو ليون بلوم فيفرض مدرسة لا تقيمها وزارة المعارف ولا وزارة الشئون الاجتماعية ولا أي وزارة من الوزارات، مدرسة لا بناء لها ولا برنامج لها ولا ناظر لها، وإنما الدنيا كلها هي بناؤها، والحياة كلها هي برنامجها، والطبيعة كلها هي ناظرها، يدخل الناس فيها أحرارا ويخرجون منها أحرارا - إن كان الناس أحرارا في هذه الحياة - ولكنهم قد يدفعون إلى الشر الذي لا حد له وإلى الفوضى التي لا ضابط لها. وأما مدرسة الأستاذ أحمد أمين فهي - كما رأيت - مدرسة ستقام في شارع المنيرة أو في شارع العباسية أو في شارع من شوارع القاهرة، سيكون لها برنامج محدود مكتوب، يأبى الأستاذ أحمد أمين أن يرسمه، لأنه لا يستطيع أن يرسمه، ولأن رسمه لا سبيل إليه، وستكون له ناظرة درست بالطبع في فرنسا أو في إنجلترا ونالت الليسانس أو الدكتوراه أو البكالوريوس أو الماجستير، في أي مادة؟ لا أدري ولا يدري الأستاذ أحمد أمين. وستكون هذه المدرسة تابعة لمراقبة تعليم البنات في وزارة المعارف أو لفرع من فروع الشئون الاجتماعية، لا أدري ما هو ولا يدري الأستاذ أحمد أمين ما هو، وسيكون في هذه المدرسة أساتذة لا أدري أيكن من السيدات والآنسات؟ أيتخرجن في مصر أم في أوروبا أم يتخرجن هنا وهناك؟ ولا أدري في أي مادة يتخرجن ولا يدري الأستاذ أحمد أمين أيضا. وليس يكفي أن تزعم أن ذكر البرنامج تفصيل وأنك لا تريد الدخول في التفصيل، فحاجتنا إلى التفصيل أشد من حاجتنا إلى الإجمال. فحدثني ماذا تريد أن يدرس في هذه المدرسة؟ صنع البطاطس في الفرن كما يريد توفيق الحكيم؟ فإن بناتنا يتعلمن هذا وكن يتعلمنه قبل أن تنشأ المدارس. العزف على البيانو والعود والقانون؟ فإن هذه أشياء تدرس الآن في المدارس والبيوت. تفصيل الثياب وألوان اللباس؟ فإن هذا يدرس عند المعلمات قبل أن تنشأ المدارس. ويدرس في هذه المدرسة بعد إنشائها ثقافة العقل والقلب والحس والشعور بالأدب والعلم وبالفن والفلسفة؟ فإن هذا يدرس في المدارس والجامعات. الأخلاق وآداب الأسرة والاجتماع؟ فإن هذا يدرس ولا يجدي درسه والخير أن يكتسب من الحياة العملية اكتسابا. ماذا تريد إذن أن يدرس في هذه المدرسة؟ وأين تريد إذن أن يتخرج الأساتذة الذين يعلمون في هذه المدرسة برنامجا لم ترسمه، وما أرى إلا أنك ستجد إلى رسمه سبيلا؟ وهل من الحق أن الزوجات وحدهن يحتجن إلى العناية وإلى أن تنشأ لهن مدرسة خاصة؟ أعليهن وحدهن وزر الفساد الاجتماعي الذي تشقى به الأسرة والأمة؟ أليس من الحق، بل من الواجب، أن نصارح أنفسنا في شجاعة وحزم وبراءة من الأثرة والكبرياء بأن وزر الفساد - إن كان هناك فسادا - إنما يقع على الرجال قبل أن يقع على النساء، وأن النساء إن شاركن فيه فإنما يشاركن فيه بمقدار يسير. إن المرأة لا تشكو من آثام الزوج أو لا تشكو منها إلا قليلا جدا، وأؤكد لك أن آثام الزوج وسيئاته أعظم وأضخم وأشد هولا مما يمكن أن تؤخذ به المرأة.
إنك لتعلم كما أعلم أن أكثر الرجال يلغون المرأة إلغاء من حسابهم في حياتهم اليومية، فهم يهملونها إذا أقبلوا على أعمالهم لينهضوا بتكاليف الحياة، وليس عليهم بذلك بأس، ولكنهم قد يسرفون في تكاليف الحياة هذه فيغرقون فيها إلى آذانهم، ويضحون في سبيلها بتكاليف الحياة المنزلية، وإذا المرأة وحيدة مهملة قد أصبحت أجيرة لتقوم لسيدها ومولاها على إعداد طعامه وتنظيم حياته المادية اليسيرة، وتقوم على تربية أبنائها كما تستطيع؛ تعمل في النهار وتعمل في الليل، تعمل عن علم إن علمتها، وتعمل عن جهل إذا لم تعلمها، وتحظى بالرضى قليلا وتشقى بالغضب.
ثم لا ينصرف الرجال عن أزواجهم إلى تكاليف الحياة وحدها، ولكنهم ينصرفون إلى متاع الحياة وفضولها وسخافاتها، يتخذون بيوتهم فنادق يؤون إليها ليناموا ويؤون إليها ليطعموا، ولعلهم يطعمون في بيوتهم مرة في اليوم ويأخذون حاجتهم إلى الطعام في الأندية والمطاعم والقهوات. وإنك لتعلم كما أعلم جناية القهوات والأندية على البيوت، وجناية حياة الشارع على حياة الأسرة. وإنك لتعلم أن الرجل يؤثر نفسه بما استطاع من ألوان اللذة والمتاع، ويترك امرأته حيث هي في بيئتها البائسة المظلمة كأنها لم تخلق للذة ولا لمتاع، فإذا سئل عن ذلك تعلل بأن امرأته لا تلائمه، وبأن الزوج الصالحة لم توجد في مصر بعد. وإنما هي معاذير لا تغني عن الحق شيئا، والحق أن الرجل ليس خيرا من امرأته، ولعل امرأته أن تكون خيرا منه وأصفى نفسا وأطهر قلبا وأقوى إرادة وأشد احتمالا وأنقى ضميرا.
شيئا من الرفق أيها السادة! لا تظلموا أنفسكم بظلم النساء، ولا تزعموا أنهن في حاجة إلى الإصلاح من دونكم؛ فهن في حاجة إلى أن يتعلمن كما أنكم في حاجة إلى أن تتعلموا، وهن في حاجة إلى أن نلائم بين حياتهن وبين التطور الذي انتهينا إليه أو الذي نقبل عليه، وأنتم في حاجة إلى مثل ذلك، ولكنكم في حاجة إلى أشياء لم تظهر حاجتهن إليها بعد، أنتم في حاجة إلى ضبط أنفسكم، والقصد في لذاتكم وإرضاء شهواتكم، والاعتدال في إيثاركم أنفسكم بالخير واعتقادكم بأن الدنيا قد خلقت لكم ولكم وحدكم؛ فأصلحوا أنفسكم تصلح المرأة.
والله يعلم ما أزعم أن المرأة ليست في حاجة إلى الإصلاح، ولكني أزعم أن حاجة الرجال إلى هذا الإصلاح أشد من حاجة النساء، ثم أزعم بعد ذلك أن هذا الإصلاح لا يكون بإنشاء مدرسة تخرج الزوجات الصالحات أو الأزواج الصالحين، وإنما يكون بالملاءمة بين حياتنا الاجتماعية وبين ما يقتضيه العصر الحديث من التطور في النظم السياسية والاقتصادية قبل كل شيء، وفي النظم الاجتماعية المختلفة بعد ذلك. حققوا العدل بين الناس في الغنى والفقر، وفي الاستمتاع بلذات الحياة والاحتمال لآلامها ومشقاتها، وفي الاستمتاع بالحقوق والنهوض بالواجبات، وأنشئوا للحكم وتحقيق العدل ونشر التعليم والعناية بالصحة العامة أدوات صالحة مستقيمة، وثقوا بأن هذا كله سيصلح شئون الرجال والنساء جميعا، وسيكفل تخريج الزوجات الصالحات والأزواج الصالحين.
وأخيرا، أين تكون الشكوى من الزوجات غير الصالحات؟ إنا لا نسمعها في القرى والريف؛ لأن الرجال والنساء يشقون جميعا شقاء مشتركا بحياة قوامها البؤس والضنك والعلل والأمراض، ولا نسمعها في طبقات العمال التي تعيش في المدن؛ لأن هذه الطبقات يشقى رجالها ونساؤها شقاء مشتركا بعذاب مشترك، يشبه ما يشقى به أهل الريف. وإنما نسمع هذه الشكوى في بيئات ضيقة بين الشباب المتعلمين الذي ارتفعوا شيئا ما عن طبقتهم فارتسمت لهم مثل عليا في الحياة، لا يجدون من النساء أعوانا عليها، وهذه أزمة طارئة ستزول يوم يتحقق العدل بين المصريين جميعا، وبين الرجال والنساء خاصة في جميع مرافق الحياة.
فالعدل العدل أيها السادة، العدل الاجتماعي وحده هو قوام الإصلاح، وهو سبيله، وهو غايته، وهو كل شيء. وقد كنت أظن أن وزارة الشئون الاجتماعية قد أنشئت لتحقيق هذا العدل الاجتماعي، وما زلت أظن بها ذلك وأنتظره منها.
أزمة الجامعة
لست أحسن التنبؤ بما سيكون في غد، ولا حظ لي من القدرة على التحدث بالغيب، ولم أتعلم قط ضرب الرمل ولا استشارة الودع، ولا قراءة خطوط الكف، ولا استنباء الورق سيكون. ومع ذلك فقد كنت متنبئا أو كالمتنبئ حين كتبت متحدثا عن الجامعة؛ فقد كنت أقدر في ذلك الفصل أن الجامعة بعد أن رد إليها استقلالها، وبعد أن تم لها تكوينها بضم المدارس العليا إليها، قد أصبحت أعظم قوة عقلية ومعنوية في مصر. ولم أكن في حاجة إلى شيء من هذه المؤهلات التي أشرت إليها آنفا، بل لم أكن في حاجة إلى ذكاء ممتاز لأتنبأ بهذه الحقيقة التي أثبتتها الأيام بعد أن أذعتها في الناس بشهر ونصف شهر، ذلك أن طبيعة الأشياء تفرض هذه الحقيقة على مصر فرضا؛ فالعقليون في كل أمة متحضرة هم مصدر القوة الصحيحة لأنهم هم الذين يفكرون ويقدرون، وهم الذين يعدون ويدبرون، منهم تصدر الآراء والخواطر التي ينبعث عنها العمل في كل بيئة من بيئات العمل، وإليهم تعود هذه الآراء والخواطر بعد أن تتصل بالعاملين في بيئاتهم التطبيقية فيدركها التمحيص الذي يصلح ما قد يكون فيها من خطأ ويقوم ما قد يكون فيها من عوج، ويكمل ما قد يكون فيها من نقص، ويحذف ما قد يكون فيها من زيادة، ويهدئ ما قد يكون فيها من غلو وإسراف. وخذ أي مظهر من مظاهر الحياة العاملة في أي بيئة من بيئات النشاط القومي، ثم حلله وعلله فسترى أنه صدر عن العقليين فبعث نشاط العاملين، وأنه عاد إلى العقليين فمكنهم من إصلاح آرائهم وتقويم نظرياتهم، ثم عاد بعد ذلك إلى العاملين فمنحهم قوة إلى قوة، ونشاطا إلى نشاط، وإنتاجا إلى إنتاج.
ذلك حق واقع في كل بلد من بلاد الأرض يستمتع بحظ ولو قليل من الحرية. على أن ظواهر الأشياء قد تخدع الناس أحيانا عن هذا الحق الواقع، فتصور لهم تكوين الجماعة على أنه مؤلف من عناصر مختلفة؛ فرجال العقل يعملون من ناحية، ورجال الاقتصاد والمال يعملون من ناحية أخرى، ورجال السياسة والحرب يعملون من ناحية ثالثة، والطبقات العاملة في الحياة المادية اليومية - طبقات الزراع والصناع والتجار - تعمل من ناحية رابعة.
صفحه نامشخص
ولكن هذه كلها ظواهر تنتهي عند أيسر التروية والبحث إلى أن هؤلاء جميعا مهما يكن بينهم من الاختلاف وتباين النشاط إنما يصدرون فيما يعملون عن الفكرة التي تنشأ في مكتب الأستاذ من أساتذة الجامعة أو من أساتذة المدارس الفنية الخاصة أو في معمل من معامل التجربة والاستقصاء. عن العقل إذن تصدر القوة فتبعث على العمل، وإلى العقل إذن تعود القوة فيدركها التمحيص والإصلاح والتهذيب؛ فالذين يلغون من حسابهم في سياسة الأمم وتدبير الشعوب رجال العقل والتفكير، يخطئون خطأ فاحشا ويأثمون إثما شنيعا. وحياة العقليين مغرية لغير العقليين بإهمالهم والإعراض عنهم، فالعقليون مبهورون بروعة البحث وجمال العلم، منصرفون إليهما عن أي شيء آخر، لا يكادون يفكرون في النتائج العملية والآثار المادية لحياتهم العقلية العليا. هم يحسنون إلى الناس ويلقون منهم العقوق والإعراض، ولا يحسون هذا العقوق والإعراض لأنهم في شغل بحقائق العلم عن صغائر الأمور، وكل ما ليس علما فهو عندهم من صغائر الأمور، ولكن حياة الأمم ليست أمنا كلها، وكثيرا ما يعرض فيها الخوف، وكثيرا ما يعرض فيها الفزع. والخوف والفزع أبغض الأشياء إلى العقليين؛ لأنهما يحولان بينهم وبين الاستمتاع بروعة البحث وجمال العلم. فالعقليون معرضون عن كل شيء إذا أمنوا على نشاطهم العقلي، فإذا لم يأمنوا فهم كغيرهم من الناس، بل هم أكثر من غيرهم من الناس قلقا واضطرابا، ثم سخطا وإنكارا، ثم ثورة واندفاعا في الثورة. وتستطيع أن تبحث في تاريخ الأمم المتحضرة كلها فستجد حياة العقليين فيها ملائمة كل الملاءمة لهذه الصورة التي أعرضها عليك. فإذا قال قائل إن الجامعة في مصر بعد أن تم لها استقلالها، وتم لها تكوينها القوي، قد أصبحت أعظم قوة معنوية في هذا البلد؛ فهو لم يقل شيئا غريبا، ولم يستكشف شيئا يحتاج استكشافه إلى الذكاء. ولقد استأنفت الجامعة المصرية حياتها هادئة، ولكنها لم تكد تمضي في هذه الحياة أسابيع حتى أحست قلقا من حولها أخذ يعظم ويشتد، ثم أخذ يسعى إليها هي سعيا، ثم أخذ يستقر فيها استقرارا إن أمكن أن يستقر القلق.
فهذه القصة التي ثارت حول قبول الطلاب في بعض الكليات، ثم العدول بهم عن هذه الكليات، ثم الرجوع بهم إليها، لم تترك الجامعيين وما كانوا يحبون من دعة وهدوء. بل لم يقف أمر هذا القلق الجامعي عند هذه القصة، وإنما كانت هذه القصة مظهرا من مظاهره، وليس سرا من الأسرار أن الجامعيين قضوا الشهر الأول من ذلك العام قلقين أشد القلق، ضيقين أشد الضيق، يكاد التشاؤم يكون أظهر ما يساور نفوسهم من عاطفة أو شعور. وكانت الجامعة في هذا القلق والتشاؤم مرآة للشعب كله؛ فهؤلاء الآلاف من الأساتذة والطلاب صورة لأسرهم الكثيرة المنبثة في أقطار مصر، وكل منهم يحس ما تحسه أسرته من أمن وخوف ومن قلق واستقرار، فلما كانت الأزمة السياسية صادفت جامعيين قلقين لا يجدون من حولهم ما يمكنهم من الفراغ الآمن بما يحبون من بحث ودرس، فاضطربوا ثم اتصل اضطرابهم، ثم اشتد ثم استمر، ثم لم يحفل بالنذر ولم يكترث للوعيد، ثم مضى في طريقه وقد أبى إلا أن يقول الجامعيون رأيهم واضحا صريحا حازما مهما يكلفهم ذلك من هول. وقد قال الجامعيون رأيهم حازمين مخلصين، وقد اضطربت من حولهم الأمور وجاءتهم النذر يسعى بعضها في أثر بعض، فلم يغيروا من موقفهم شيئا، وإنما مضوا أمامهم حتى انتهوا إلى ما انتهوا إليه. وقد يكون من الحق أن يسجل للجامعيين أنهم كانوا قوام هذه الحركة الأخيرة، بدأت في جامعتهم ثم مضت معهم في جميع الأنحاء والأرجاء، قوية حازمة ماضية لا تلوي على شيء. وقد يكون من الحق أيضا أن يسجل للجامعيين أنهم رأوا في اجتماع الكلمة وسيلة إلى الاحتفاظ بكرامة مصر والذود عن حقها، فاعتزموا أن يصلوا إلى جمع هذه الكلمة، ووفقوا من ذلك إلى ما أرادوا. ولو لم يكن للجامعيين إلا أنهم قد وحدوا الكلمة بعد اختلافها وجمعوا الرأي بعد افتراقه، وأنبئوا العالم كله بأن مصر لم تنس حقها ولم تطمئن إلى الضيم ولم ترض العنف والخنوع، لكان هذا وحده خليقا أن يسجل على أنه فصل من أروع فصول التاريخ لهذه الجامعة الناشئة.
وقد يلاحظ على الجامعيين أنهم أقحموا أنفسهم وجامعتهم في السياسة، وما ينبغي للجامعيين ولا للجامعة أن يكون بينهم وبين السياسة سبب من قريب أو بعيد. وقد سجل مجلس الوزراء هذا اللوم تسجيلا في القرار الذي أصدره فأغلق به الجامعة إلى أجل غير مسمى، وأظنني أصف رأي الجامعيين أصدق الوصف إن قلت إنهم يكرهون السياسة أشد الكره، ويكرهون أن يدفعوا إليها، ويتمنون دائما لو استقامت الأمور ومضت على وجهها ففزعوا لدرسهم وبحثهم وانصرفوا إليهما عن غيرهما من أعراض الحياة. ولكن الجامعيين كغيرهم من المصريين مكلفون بالذود عن وطنهم حين يتعرض للخطر، والدفاع عن كرامة وطنهم حين تهان. أفلو اعتدى معتد على مصر واضطر حكومتها إلى أن تعلن الحرب يعفى الجامعيون من حمل السلاح والسعي إلى الميدان؟ كلا إن الذود عن الوطن لا يعرف جامعيا ولا غير جامعي، وإذا تعرض الوطن للخطر فالمصريون جميعا سواء يجب عليهم أن يشتركوا في التضحية حتى يأمن الوطن بعد خوف.
وإنما يلام الجامعيون إن دخلوا في السياسة الحزبية، أو أعانوا فريقا من المصريين على فريق. فأما أن يدخل الأجنبي في شئونهم فينكروا عليه ذلك ويردوه عنه أشد الرد فواجب وطني لا يسعهم التقصير فيه إلا أن ينكروا مروءتهم ورجولتهم. وويل للجامعة إن كان من برنامجها قبول أبنائها للضيم وإذعانهم للسلطان الأجنبي!
تجربة
أما أنها نجحت نجاحا باهرا قاهرا فذلك شيء لا شك فيه، وأما أن نجاحها كان خيرا للناس وللحضارة فهذا هو الشيء الذي أشك فيه كل الشك، ولعلي أقطع بما يناقضه من جميع الوجوه، ولنعرف أولا ما هذه التجربة الناجحة المخفقة، الرابحة الخاسرة، التي أحيت ناسا كثيرين وعرضت خير ما في الإنسانية للشر والتلف، والتي خيلت إلى الناس أن حضارتهم قد بلغت من الرقي أقصاه، وانتهت من الكمال إلى غايته، على حين أنها زلزلت أركان هذه الحضارة، حتى انتهت بها إلى ما تتعرض له الآن من الانهيار؛ وأريد بها تجربة الإعلان أو تجربة الدعاية.
وقد قلت إن نجاحها ليس فيه شك، وما أظن أحدا ينازع في أن الإعلان قد أصبح من أصول الحياة الحديثة وركنا من أركانها، بل لعله أصبح أهم أصولها وأعظم أركانها خطرا. عظم شأنه في التجارة والصناعة فكان مروجا للبيع والشراء والأخذ والعطاء، ثم عظم أمره في السياسة وأمور الحكم فكان مروجا للأحزاب السياسية، وكان حكما بين هذه الأحزاب يقضي لبعضها على بعض، ويديل لبعضها من بعض. وكان مروجا للحكومات حين تنهض بأمور الحكم، وللمعارضة حين تقاوم هذه الحكومات، وكان إليه الأمر في كل ما يكون؛ من قيام الوزارات وسقوطها، ومن ظفر الأحزاب في الانتخاب وانهزامها. أعانه على ذلك انتشار القراءة والكتابة، وانتشار الصحف التي تحمل إلى قارئ ما يستطيع أن يقرأ، والتي تدس على كل قارئ فيما يقرأ هذا الإعلان أو ذاك، تروج به لما تراد على أن تروج له من أمور التجارة والصناعة والسياسة، ومن أمور الثقافة أيضا.
ثم أتاح العلم والاختراع للصحافة شريكا له خطره وأثره في الإعلان، وهو الراديو. هذه تروج بالقراءة في الصباح والمساء، وحين يتوسط النهار وحين يتقدم الليل، وهذا يروج بالإلقاء في كل ساعة من ساعات النهار والليل، بل في كل لحظة من لحظات النهار والليل.
هذه تسلك إلى النفس طريق العين، وهذا يسلك إلى النفس طريق الأذن، وكذلك يحاط بالفرد وبالجماعة من جميع وجوههما، ويؤخذ الفرد والجماعة من جميع أقطارهما، يخضعون للإعلان في كل لحظة من لحظات الحياة، والإنسان - كما قال أرسطاطاليس - مدني بالطبع، وليس معنى ذلك أنه بطبعه يحب الحياة المنظمة تنظيما سياسيا دقيقا فحسب، بل معناه أيضا أنه يتأثر أشد التأثر بهذه الظواهر التي تنشأ ويدعى إليها ويقبل عليها بعض الناس حتى يتهالك الناس جميعا عليها، وما أسرع ما تصبح لهم نظاما ولحياتهم قواما! كأنها أصل من أصول الحضارة وضرورة من ضرورات العيش.
لقد عرفت القطارات فأعرضت عنها كثرة الناس إعراضا، وأقبلت عليها منهم قلة، ولكن وقتا قصيرا لم يمض حتى أصبحت القطارات أساسا من أسس الحضارة الحديثة، ثم تقدم الاختراع وأنشئت وسائل أخرى للمواصلات أسرع وأيسر من القطارات، فقاومها الناس وأقبلت عليها قلة، ثم لم تلبث أن أصبحت أصلا من أصول الحياة.
صفحه نامشخص
وكذلك كان الإعلان نفسه، لم يقبل عليه في أول أمره إلا المجربون ثم المطمئنون إلى التجربة، ثم لم يلبث هؤلاء المجربون أن كثروا، ولم يلبث هؤلاء المطمئنون أن تزايدوا وأصبح عددهم ضخما، ثم لم يلبث الإعلان أن أصبح أصلا من أصول حياتنا الحديثة، لا نكاد نتصور عملا من الأعمال الخطيرة أو الضئيلة التي نريد أن نقدم عليها، حتى نقدر حظ الإعلان منه أو حظه من الإعلان. فإذا أهملنا هذا التقدير فعملنا معرض للخطر، بل مقضي عليه بالإخفاق الذي لا مخرج منه ولا منصرف عنه.
والظريف أن هذا التقدير لأمر الإعلان قد أصبح جزءا طبيعيا، وهو مضحك بنوع خاص حين يتصل بأمور الثقافة، وحين يتصل بالإنتاج الأدبي الممتاز، ولا سيما في أوروبا، فلا يكاد الأديب أو الفيلسوف يفرغ من كتابه أو يفكر في إنشاء كتابه ويتحدث فيه إلى الناشر - وأنت تعلم أن من المؤلفين من يتفق على نشر كتابه قبل البدء فيه، ومنهم من يتفق على ذلك بعد الفراغ منه - حتى يكون الإعلان أول شيء يعرض له الحديث؛ فالناشر يحسب ما سيكلفه الإعلان من نفقة، والكاتب يحسب ما سيكلفه الإعلان من نسخ. وقد نشرت ترجمة الأيام بالفرنسية وتحدث إلي في أمرها الكاتب الفرنسي العظيم دي هامل، فكان مما قاله لي: «يجب أن توطن نفسك على توزيع 370 نسخة مجانا على الصحف ليعرف الكتاب، فبغير هذا لا سبيل إلى معرفته.» وقد حدثتك في الأسبوع الماضي عن كتاب دي هامل «الدفاع عن الأدب»، وهو من أشد الكتب بغضا للإعلان وسخطا عليه، وما أشك مع ذلك في أنه قد قدر أمر الإعلان مع الناشر حين هيأ كتابه هذا للنشر، قدر ما سيكلفه الإعلان من نسخ وما سيكلفه الناشر من مال، يحسب عليه هو في آخر الأمر.
فالإعلان إذن أصل من أصول الحياة الحديثة قد تغلغل في فروعها كلها، فلم يبق للناس سبيل للتخلص منه أو الفرار من سلطانه، وهو من هذه الناحية قد نجح نجاحا باهرا قاهرا، بل هو قد نجح من ناحية أخرى؛ فهو يفيد الذين يلجئون إليه ويحسنون الانتفاع به فائدة قريبة محققة، وهو يضر الذين لا يلجئون أو لا يحسنون الانتفاع به ضررا قريبا محتوما. فالتاجر الذي يحسن الإعلان، وينفق عليه الأموال الضخمة ناجح رابح، والتاجر الذي يقصر في ذات الإعلان أو تقصر يده عما ينبغي له من الضحايا والقربان خاسر مقضي على تجارته بالكساد من غير شك. والكتاب الذي تعلن الصحف ظهوره ومحاسنه سريع النفاد، والكتاب الذي تجهله الصحف أو لا تذكره إلا قليلا بائر على مؤلفه وناشره جميعا بإذن الله.
والحزب السياسي الذي يظفر بالصحف المنتشرة الرائجة كثير الأتباع موفق إلى الظفر في حياته السياسية مهما تختلف ألوانها، والحزب الذي يقصر به الفقر أو ترتفع به الكرامة عن الإعلان مخذول مدحور في حياته السياسية مهما تكن مبادئه ومذاهبه، ومهما كانت استقامة أعضائه، ومهما يكن حظهم من رجاحة الحلم ونزاهة المقصد وحب الوطن وإيثار المنفعة العامة على كل شيء.
وقل مثل ذلك في كل ما يمس الجماعة وحياة الفرد، لا سبيل إلى الإقدام على عمل تنشئه إلا إذا قدرت حظ الإعلان في الترويج له، ولا سبيل إلى الإقدام على شيء تحتازه احتيازا ماديا أو معنويا إلا إذا عرفت رضى الإعلان عنه، وما أنتج من حسن رأي الناس أو سوء رأي الناس فيه.
كل هذا حق واضح قد أطال الناس فيه حتى أصبح ذكره حديثا معادا، ولكن هل أفادت الحضارة من هذه الظاهرة ما يصلحها ويرقيها ويدنيها من المثل الأعلى، ويقربها من الكمال الذي يقال إننا نسعى لندركه ولندنو منه؟ أم هل أفادت الحضارة من الإعلان ما يسوءها ويغض من قدرها ويضع من مكانتها، ويردها إلى هذه الغلطة التي لا تلائم ارتفاع النفوس عن الصغائر وتنزهها عما لا يليق بالقلوب الكريمة، هذه التي ينبغي أن تصوغها حضارتنا ذات الحظ العظيم من الامتياز فيما نزعم؟
هذه هي المسألة التي أشك فيها كل الشك، بل أكاد أقطع بأن الجواب عليها لا يرضي ولا يسر، بل لا يشرف، بل لا يسمح لنا بأن نفاخر بحياتنا الحديثة، وبما أنتجت من حضارة، وبما انتهت إليه من مثل عليا في الأخلاق؛ ذلك أن الإعلان يفقد قيمته كلها إذا اعتمد على العقل، وقام على ما يراه العقل أساسا للحياة الكريمة النقية من الفضائل وخصال الخير. فالإعلان الذي لا يقول إلا حقا، والذي لا يتحدث إلى الناس إلا بالصدق، والذي لا يتجه من الناس إلا إلى عقولهم وملكاتهم المفكرة المقدرة المتدبرة فيما تكون من رأي وما تصدر من حكم، هذا الإعلان لا وجود له، ولا يمكن أن يوجد، ولا ينبغي أن يوجد؛ لأنه لو وجد لما حفل به أحد، ولا أقبل عليه أحد، ولا أذعن لسلطانه أحد، ولكان أمره كفلسفة الفلاسفة وعلم العلماء، مقصورا على طبقة من الخاصة، بل من خاصة الخاصة، وكانت نتيجته إخفاقا تاما، وإفلاسا محتوما، وليس من العسير أن توازن بين الكتب القيمة ذات الخطر العظيم التي لا يعلن أصحابها أو ناشروها أمرها إلا بمقدار وفي صحف معينة قد خصصت لها ولأمثالها، وبين الكتب الأخرى المتوسطة أو ذات الخطر الضئيل أو التي لا خطر لها، ولكنها تظفر بالإعلان الهائل الذي لا يصدر عن عقل ولا عن صدق ولا عن نصيحة للقارئ، وإنما يصدر عن رغبة في البيع وحرص على الرواج؛ فسترى نتيجة هذه الموازنة مصدقة لهذه الحقيقة الواضحة، وهي أن الإعلان لا نفع له إلا إذا اعتمد على شيء غير الصدق، وصدر عن مصدر غير العقل، وقصد إلى شيء غير النصح والإرشاد.
وتعليل ذلك يسير عند علماء النفس وعلماء الاجتماع، فصاحب الإعلان مروج، ومروج في بيئة اجتماعية تختلف طبقاتها وتتفاوت أقدار أفرادها وحظوظهم من العلم والجهل، ومن الذكاء والغباء، ومن قوة الحس وبلادة الطبع، ومن سرعة التصديق والإبطاء فيه، ومن سهولة الانقياد وصعوبة المراس، ولا بد من أن يتجه الإعلان إلى هؤلاء جميعا، ولا بد من أن يبلغ هؤلاء جميعا ويصل إلى نفوسهم، ويحدث فيهم الأثر الذي يريده صاحب الإعلان. فالإعلان لون من الخطابة التي تتجه إلى الجماهير، ولكنه لا يتجه إلى جمهور بعينه قد اشتمل عليه مكان محدود وأحاط به إطار معنوي محدود، وإنما هو خطابة مكتوبة، فيه خصائص الخطابة التي تتجه إلى عواطف الجماهير، وتهاجم منها مواطن الضعف لتقهرها وتبهرها وتبلغ منها كل ما تريده، وفيه خصائص الكتابة التي تتجه إلى الغائبين منفردين ومجتمعين، فتقرأ جهرا وتقرأ سرا، ويقرؤها الفرد وحده ويقرؤها الفرد مجتمعا إلى غيره، وهو من هاتين الناحيتين بعيد كل البعد عن أن يكون شيئا عقليا ممتازا أو متوسطا قوامه الصواب والصدق والنصح والإخلاص، إلا أن يكون الإخلاص متصلا بما يريد المعلن أن يروج له ويدعو إليه.
فالإعلان إذن شيء يقوم على غير الصدق وعلى غير الصواب في أكثر الأحيان، وتلاحظ أني متحفظ محتاط لا أصطنع كلمة الكذب ولا كلمة الخطأ؛ لأني لا أريد هاتين الكلمتين، وإنما أريد شيئا وسطا بين الصدق والكذب، وشيئا وسطا بين الخطأ والصواب، وشيئا وسطا كذلك بين النصح والغش، وبين الإخلاص والنفاق، وأريد شيئا أقل مما يتصف به أنه غامض من جميع نواحيه إلا من ناحية الترويج لما يريد المعلن أن يروج له، والدعوة لما يريد المعلن أن يدعو إليه؛ أي من ناحية تحقيق المنفعة القريبة العاجلة مهما يحط بها من الظروف الحسنة والسيئة، النقية والكدرة، البريئة.
ومعنى هذا كله أن الإعلان حين اندس في الحضارة الحديثة وتغلغل في أعماقها حتى أصبح لها قواما، قد دس فيها عنصرا غامضا مبهما خطرا، قوامه الشبهات، وقد أضعف بهذا العنصر حظ العقل من التأثير في الحضارة، وحظ الاختيار القائم على التفكير الصحيح وعلى تحري الصواب والإخلاص في هذا التحري. وهو بهذا قد ألغى حظا عظيما جدا من حرية الفرد ومن حرية الجماعة، واستبعد الناس لفريق قليل ضئيل من هؤلاء الذين ينظمون الإعلان ويصوغونه ويذيعونه ويشرفون عليه.
صفحه نامشخص
ومعنى هذا أن الإعلان في حقيقة الأمر خصم من خصوم الحرية الفردية والاجتماعية، وخصم من خصوم العقل، وخصم من خصوم التفكير وتحري الصدق والصواب؛ ونتائج هذا كله ظاهرة في حياتنا وحضارتنا؛ فالإعلان هو الذي أفسد قلوب الألمان وخدعهم بزخرف القول حتى أضاع عليهم عقلهم، وحتى سلبهم حريتهم، وحتى أخضع ملايينهم الضخمة لفرد أو لأفراد يصرفونهم كما يحبون، ويتصرفون في أنفسهم وأموالهم وعقائدهم وآرائهم كما يشتهون. والإعلان هو الذي دفع الألمان - بعد أن صاغهم هذه الصيغة - إلى هذه الطاعة المطلقة التي انتهت بهم وبجزء عظيم من العالم إلى هذه الكارثة التي نشهدها، والتي نرجو ألا تشمل العالم كله بآثارها المنكرة.
فالإعلان إذن شر قد لا يكون منه بد، ولكنه شر لا بد من الاحتياط حينما نضطر إليه، وحينما تكرهنا الظروف على اصطناعه، وما أكثر الشرور التي لا بد منها! ولكن ما أشد ما يجب على الناس أن يصطنعوا من الحذر والاحتياط حين يضطرون إلى بعض هذه الشرور! فهل نحن نصطنع شيئا من الحذر والاحتياط فيما يكون بيننا وبين الإعلان من صلة تضطرنا إلى أن نصطنعه في بعض شئوننا ومصالحنا؟ أم هل نحن قد فتنا به كما فتن غيرنا، وأذعنا له كما أذعن له غيرنا، وأهدينا إليه عقولنا وقلوبنا في غير تحفظ ولا احتياط كما أهداها إليه غيرنا؟
وأنا لا أريد بالطبع أن أقوم مقام الواعظ المرشد؛ فليس بي أن أقوم هذا المقام، ومصر والحمد لله غنية بالوعاظ والمرشدين، قد امتلأت الصحف والراديو والأندية بوعظهم وإرشادهم، وإنما أنا باحث يحاول أن يفهم، ويحاول أن يدعو غيره إلى الفهم والاستقصاء. ولست أخفي عليك أن الذي حملني على التفكير في أمر الإعلان هو هذه الظاهرة الغريبة، ظاهر التهالك على الإعلان، في بيئات قد كانت خليقة ألا تفكر في الإعلان الآن، فضلا عن أن تتهالك عليه. وقد قرأت في بعض الصحف ما دعاني إلى هذا التفكير، وهو أن الذين يعلنون يجب أن يكون عندهم ما يعلنونه إلى الناس، فأما أن يعلنوا قبل أن يظفروا بما يريدون إعلانه فهذا هو الشيء الغريب حقا، وواضح جدا أن هذا الكلام إنما يمس وزارة الشئون الاجتماعية، التي لم تكد تنشأ، ولم يكد الناس يبتهجون بإنشائها حتى كان أول ما أقدمت عليه وآخر ما أقدمت عليه وأهم ما أقدمت عليه إلى الآن الإعلان. أنشأت له إدارة، وعينت له موظفين. أستغفر الله، بل أساءت إلى الأدب الخالص، فأخذت أديبا كان الناس يحبون أن يقرءوا له، وكلفته أن يفرغ لأبعد الأشياء عن الأدب، وأبغضها إلى الأدب، وأسوئها أثرا في الأدب؛ وهو الإعلان. وأخذنا لا نعرف توفيق الحكيم ولا نسمع عنه، ولا نلقاه إلا وهو غارق في الإعلان إلى أذنيه، قد اتخذ لنفسه من الإعلان معطفا وعصا مكان معطفه وعصاه اللذين طالما تحدث عنهما الناس، وسيتخذ لنفسه من الإعلان صنما يشغله عن أصنامه تلك التي كان مفتونا بها كل الفتنة، والتي كانت تسمى الموسيقى والتمثيل والغناء والقصص؛ فكان من أول الشر الذي جناه تهالكنا على الإعلان في وزارتنا الجديدة تعقيم توفيق الحكيم. وأنا أستأذنك في الضحك من هذه الكلمة، فقد أراها تصلح عنوانا لرسالة ظريفة تصور صديقنا حين كان أديبا خالصا للفن، وتصوره بعد أن أصبح معلنا خالصا للإعلان.
ولكن أمر الإعلان في وزارة الشئون الاجتماعية - وقد كدت أملي في وزارة الدعاية - لا يقف عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى ما هو شر منه من إضاعة الوقت والجهد والمال في غير نفع ولا غناء؛ فإدارة الدعاية في هذه الوزارة تريد أن تعظ الناس وترشدهم إلى الخير والإصلاح، والأزهر قائم بهذا الإرشاد والوعظ منذ زمن بعيد، ووزارة الداخلية قائمة بهذا الإرشاد والوعظ منذ زمن بعيد أيضا. وما أظن أن وزارتنا الجديدة ستبلغ من التوفيق في الوعظ والإرشاد إلى ما لم يبلغه الأزهر ووزارة الداخلية.
وأكثر من هذا أن كل وزارات الحكومة لم تنشأ عبثا، وإنما أنشئت لمصلحة الناس قبل كل شيء، وهي من هذه الجهة محتاجة إلى الإعلان كما يحتاج الإصلاح الاجتماعي نفسه إلى الإعلان. فما رأيك لو أنشأت وزارة العدل إدارة للإعلان تذيع في الناس فضائل العدل وتدعوهم إليه؟ وما رأيك لو أنشأت وزارة التعليم ووزارة الأمن ووزارة الري والصرف إدارات للإعلان، تذيع في الناس فضائل التعليم والأمن والري والصرف، وتدعوهم إلى ما يصلح من ذلك وتردهم عما لا يصلح؟ وما رأيك لو أنشأت وزارة المال والاقتصاد ووزارة الدفاع عن الوطن ووزارة البر والإحسان إدارات تدعو الناس من طريق الإعلان إلى الخير وتردهم عن الشر في كل ما تعالج من مرافق البلاد؟
وأظرف من هذا كله أن وزارة التجارة - وهي وزارة الإعلان بأصح ما لهذه الكلمة من معنى - لم تنشئ إدارة للإعلان، أو أنشأتها ولكن لا تتحدث عن نفسها ولا تشغل الناس بنفسها!
أليس يكون من أغرب الأمور أن تنشئ كل وزارة إدارة للإعلان وأن تختار لها الموظفين وتنفق عليها المال وتغذي منها الصحف والراديو، وتصبح أمور الحكومة كلها إعلانا في إعلان، ولا شيء غير الإعلان؟ ألست توافقني على أن هذا كثير، وعلى أن الخير أن نرجع في هذا كله إلى القصد والاعتدال؟ ألست توافقني على أني لا أسرف على وزارتنا الجديدة إذا طلبت إليها ناصحا لها أن تلغي هذه الإدارة الجديدة، وأن ترد موظفيها إلى أعمال أنفع وأجدى وأحسن ملاءمة للمصلحة من أعمال الإعلان هذه، وأن ترد توفيق الحكيم إلى أدبه وكتبه وأحاديثه في الصحف، فذلك أحسن موقعا عند الناس من هذا الجهد الضائع الذي يضر كثيرا ولا ينفع شيئا، والذي أقل ما يوصف به أنه تهالك على الكلام الذي لا يدل على معنى، وعلى الدعاء الذي لا يحصل منه شيء، وأظنك تستطيع أن تؤكد معي لوزارة الشئون الاجتماعية أن المصلحين إن كانوا قد سئموا شيئا من مصر والمصريين فقد سئموا الكلام والإعلان، وطال شوقهم إلى أن يفكر المصريون تفكيرا صحيحا منتجا في كلمة قاسم أمين رحمه الله: إن الوطنية الصحيحة تعمل ولا تعلن عن نفسها.
رحلة
تركت للقاهرة جد الحرب والسلم، ودعابة الحرب والسلم أيضا، وفررت منها إلى حيث تعودت أن ألجأ بين حين وحين من أعماق الصحراء في أواسط الصعيد. فشغلت بضروب أخرى من الجد والهزل ليس بينها وبين ما يشغل به الناس في القاهرة سبب قريب أو بعيد. وقد علمنا أساتذتنا القدماء والمحدثون أن في التغيير ترفيها على النفس وتسلية عن الهم وتجديدا للنشاط.
وأعترف بأني حين أزمعت هذه الرحلة كنت ألتمس الترفيه على النفس والتسلي عن الهم والتجديد للنشاط، ومع أني قد ظفرت من هذا التغيير بشيء كثير فقد عدت إلى القاهرة كما خرجت منها متعبا مكدودا عظيم الحظ من السأم والضيق. إما لأن الحوادث التي تشغلنا في هذه الأيام أثقل وأكثف من أن يجليها التغيير ويريحنا التنقل من بيئة إلى بيئة، وإما لأن الرحلة كانت قصيرة لا تكفي لنسيان ما خرجنا منه قبل أن نعود إليه، وإثم هذا على مجلس الجامعة وعلى السادة العمداء خاصة؛ فهم قد أرادوا في هذا العام أن يسرفوا على أنفسهم وعلى زملائهم وطلابهم في الجد، كأن الأيام لا تسرف على الناس في هذا الجد. ولأول مرة في تاريخ الجامعة قصرت إجازة العيد حتى لا تتجاوز خمسة أيام، منها يوم الجمعة الذي هو يوم أجازة بطبعه. ولأول مرة في تاريخ الجامعة كان الجامعيون أشد على أنفسهم وتلاميذهم وأعنف بها وبهم من وزارة المعارف؛ فقد أذنت وزارة المعارف للأساتذة والتلاميذ في أن يستريحوا أسبوعا كاملا من عناء الدرس، وأبت الجامعة إلا أن ترد الأساتذة والطلاب إلى القاهرة مساء الإثنين ليستأنفوا الدرس صباح الثلاثاء، كأن الدرس شيء لذيذ لا يمكن الصبر عنه ولا تصح الاستراحة منه سبعة أيام. ومهما يكن من شيء فكانت الرحلة قصيرة ذهب منها يومان في السفر ذهابا وإيابا كما يقال، وأنفق باقيها في راحة تشبه التعب أو تعب يشبه الراحة. فلم نسمع للراديو ولم نقرأ فيها الصحف ولم ينفض علينا التليفون فيها ضوء النهار ولا ظلمة الليل، ولم نشعر فيها بهذا التطواف السخيف في مدينة القاهرة وضواحيها، نلقي البطاقات إلى الخدم والبوابين حتى إذا عدنا وجدنا بطاقات قد ألقيت عندنا إلى الخدم والبوابين، ولم نناقش أحدا ولم يناقشنا أحد فيما كان وما يمكن أن يكون من شئون الحرب، ولم نجادل أحدا ولم يجادلنا أحد فيما كان وما يمكن أن يكون من سياسة أحزابنا المصرية الموفقة في كل ما تأتي وما تدع. وإنما فرغنا في هذه الأيام لأنفسنا، ولهذه الناحية من أنفسنا التي نزدريها ما أقمنا في القاهرة؛ لأنها فيما يظهر تقرب من الحيوان، وتنزل بنا عن هذه المرتبة الممتازة مرتبة الإنسان المتحضر الذي يقرأ الكتب ويلقي الدروس ويجادل في العلم والسياسية ويكتب في الأدب والسياسة، وقد يختلف إلى ملاعب السينما والتمثيل. هذه الناحية التي نتنافس في البعد عنها ونستبق إلى ازدرائها ونصطنع ألوان النفاق في كتمانها والتستر في أكثر ما نضطر إليه من مظاهرها، أريد بها ناحية الحياة الجسمية الخالصة التي تختصر في الطعام والشراب والنوم وبعض الحركات الآلية السخيفة. إلى هذه الناحية الحقيرة من نواحي حياتنا فزعنا في هذه الأيام الثلاثة، فأنسينا العلم والأدب نسيانا تاما، وكدنا نشغل عن الحرب لولا هؤلاء الذين كانوا يلمون بنا من حين إلى حين، فيحملون إلينا غرائب الأنباء وطرائف الأخبار عن بلاء الإنجليز في مقاومة الألمان وبلاء اليونانيين في مقاومة الإيطاليين.
صفحه نامشخص
وكانت طريقنا في الذهاب والإياب سهلة ميسرة هذه المرة قد اطردت فيها الأقنية اطرادا حسنا، وجرت المياه في مساربها تستقيم حينا وتلتوي حينا آخر، ولكنها جرت معتدلة هادئة، لا تنسد الأقنية ولا تضطر عمال وزارة الأشغال إلى قطع الطرق على السيارات وتحويلها إلى تلك الطرق التي شكوت منها في رحلة سابقة.
وكان أهل الريف مشغولين بالعيد، وللعيد في نفوس الريفيين أثره، مهما تكن أحوالهم، ومهما تكن الظروف التي تحيط بهم؛ فهم يبتهجون وإن كانت أمورهم كلها بؤس، وهم يظهرون السعادة والرضى وإن كانت حياتهم كلها تدعو إلى الشقاء والسخط، ومصدر ذلك فيما أظن أنهم مقتنعون بأن العيد يجب أن يدل على معناه، وأن يؤخذ أمره بالجد لا بالهزل، وأن يفرح الناس فيه، ويبتهجوا به مهما تكن الظروف؛ لأنهم قد خلقوا للفرح والابتهاج. وأهل الريف لم يتحضروا كما تحضرنا، ولم يتعمقوا الحياة كما تعمقناها، وهم يحبون فيما أعتقد أن يسموا الأشياء بأسمائها، وفيهم من السذاجة وطهارة القلوب ما يحملهم على أن يصدقوا الحياة حين تنبئهم بأن من أيام الدنيا ما ينبغي أن يفرح الناس فيه ويبتهجوا به، فهم يفرحون ويبتهجون لأن الفرح والابتهاج من الأشياء المفروضة في هذه الأيام المعينة. وعلى كل حال فقد قطعنا الطريق إلى صحرائنا، وقطعنا الطريق من صحرائنا إلى القاهرة دون أن نرى مظاهر البؤس والحزن؛ لأن العيد قد أخفى مظاهر البؤس والحزن، ولأن أهل الريف قد أرادوا كما يريدون دائما أن يحسنوا لقاء العيد ويكرموا مثواه، ويتلقوه بما يجب أن يتلقى به من السرور والابتهاج، ويؤجلوا حزنهم وبؤسهم وشقاءهم إلى الأيام التي تحتمل أن يظهر فيها البؤس والحزن والشقاء.
في هذه الأيام - أيام العيد - خدع الغني وصاحب الثراء عن غناه وثرائه، وعن رأي الناس فيهما واحتمال الناس لهما، فلم يحس سخطا ولا حسدا. وفي هذه الأيام - أيام العيد - خدع الفقير البائس عن فقره وبؤسه، فخيل إلى نفسه أنه غني وأنه سعيد، ولم ينظر إلى غنى الغني وثراء صاحب الثروة هذه النظرات التي يملؤها الحقد أحيانا، ويملؤها الحزن والتمني دائما. وفي هذه الأيام أيام العيد أحس الأغنياء والفقراء جميعا كأن الله قد مسهم بجناح من رحمته التي وسعت كل شيء، فسعد الأغنياء بثرائهم وسعد الفقراء بفقرهم وبأسائهم، وجرت أمور الناس على خير ما ينبغي أن تجري عليه في أيام العيد التي هي أيام هدنة بين السراء والضراء، وبين النعماء والبأساء، وفرغنا نحن لما أردنا أن نفرغ له من هذه الحياة الحيوانية التي نزدريها في القاهرة كما قلت منذ حين.
ولعلي قد أسرفت على نفسي بعض الشيء حين زعمت أني برئت من الحياة العقلية في هذه الأيام الثلاثة براءة تامة أو مقاربة؛ فليس من شك في أني لم أقرأ أدبا ولا علما ولا سياسة، ولكني لم أفرغ لحياة الجسم وحده، وإنما رجعت نفسي إلى عهدين من عهود الحياة المصرية، لم أكد أتصل بهما حتى فكرت فأطلت التفكير، وحتى أحسست وشعرت، فكنت قوي الإحساس دقيق الشعور. فأما أحد هذين العهدين فعهد مصر القديمة، رجعت إليه حين زرت صديقتي تلك التي اتصلت بها نفسي أشد الاتصال، وهام بها قلبي أشد الهيام، وتعلق بها عقلي أشد التعلق، تلك الصبية التي فارقت الحياة ولم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها، والتي خطفها من أهلها بنات النيل إلى قصرهن المسحور في أعماق النيل. فلما انتهين بها إلى هذا القصر أخذن نفسها البريئة الطاهرة ورددن جسمها إلى أهلها، فتلقاه هؤلاء محزونين فرحين، وأقاموا له ذلك البيت الذي أحب أن ألم به كلما زرت تلك الصحراء. وسجل أبوها في ذلك البيت تسجيلا مؤثرا في لغة يونانية عذبة، وسجل ما يجب أن يقدم إليها في المواسم من ألوان التحيات، فأحببت أن ألم ببيت أسيدورا كلما زرت تلك الصحراء، وأن ألم بذلك البيت على نحو ما كان يلم به أبوها، ذلك المصري القديم. وما يمنع أن يقدم إلى نفس تلك الصبية البريئة شيء من الزهر؟ وما يمنع أن يحرق في بيت تلك الصبية البريئة شيء من البخور، ولا سيما حين يكون هذا البخور قديما قد وجد في مقابر المصريين القدماء؟ وما يمنع أن يقف مثلي أمام ذلك السرير الذي اضطجع فيه جسم تلك الصبية البريئة ألفي عام، حتى إذا كشف عنه بحث الجامعيين وجد فيه رمادا لا يثبت للمس اللامس، وخاتما صغيرا من الذهب نقل إلى مصلحة الآثار؟ أما أنا فلا أكره أن ألم بهذا البيت وقد قدمت بين يدي زيارتي له بعض الزهر، وسبقني من حرق فيه بعض الطيب، وأشعل فيه ذبالة ضئيلة تكاد تشبه تلك النفس الطاهرة الصافية البريئة التي احتفظ بها بنات النيل في قصرهن المسحور في أعماق النيل. نعم، وما أكره أن أقف أمام ذلك السرير، فأذكر وأعتبر؛ لأن الذكرى تنفع المؤمنين. وما أبيح لنفسي أن أزور تلك الصحراء دون أن ألم بذلك البيت إلمامة قصيرة، وأذكر قول الشاعر العربي القديم:
ألما بمي قبل أن تطرح النوى
بنا مطرحا أو قبل بين يزيلها
فإلا يكن إلا تمتع ساعة
قليل فإني نافع لي قليلها
فهذا أحد العهدين. أما العهد الثاني فما زال قائما حاضرا تصرفنا عنه حياتنا المثقفة الممتازة، ولعلنا نرتفع بأنفسنا عنه لأننا نراه سخفا وإيغالا في حب القديم، ولكني أحب أن ألم به بين حين وحين ؛ لأني أتمثل فيه عهد الصبا، وأتمثل فيه حياة الكثرة المطلقة من المصريين، وأمتزج فيه بهذه الكثرة المطلقة، وألغي فيه ما بيني وبين هذه الكثرة من الفروق، وأشعر فيه شعورا قويا جدا بأني واحد من هذه الملايين التي لا تحصى من المصريين منذ عرف المصريون أرض مصر وعاشوا. وهذا العهد الذي أحبه كل الحب وأبيح للمثقفين أن يسخروا مني لأني أحبه كل الحب، هو هذا الذي يتمثل حين يجتمع فريق من أهل القرى حول شيخ من مشايخ الطرق ليعقدوا مجلسا من مجالس الذكر. وأنا أعرف ما يقول الذين ينكرون البدع، وأعرف أيضا ما يقوله الأوروبيون عن مجالس الذكر. ولكن ماذا تريد؟ إني أحب هذه المجالس وأجد فيها نفسي الضائعة، وأتمثل فيها مصريتي القديمة والجديدة والمستقبلة، وأشعر فيها بهذا التضامن الذي أحب أن أجده دائما بين المصريين، ولا أكاد أصل إلى تلك الصحراء حتى أطلب إلى صاحبي أن يدعو لي مجلس الذكر، فيجتمع هؤلاء الفلاحون على ذكر الله كما تعودوا أن يذكروا، وعلى غناء المنشد مدح النبي
صلى الله عليه وسلم
صفحه نامشخص
كما تعودوا أن يستمعوا له. وإذا أنا شديد الشوق إلى أن أنضم إلى حلقتهم فآتي ما يأتون من الحركات وأنطق بما ينطقون به من الألفاظ، وأطرب لما يطربون له من الغناء. قل ما شئت وتصورني كما أحببت، واحكم علي بما تريد أن تحكم به، ولكني أحب حلقات الذكر وأطرب لإنشاد المنشدين، وأجد في هذا الجو المصري الخالص لذة ومتاعا وشعورا بالمصرية الخالصة.
وكذلك زرت صديقتي أسيدورا في الصباح وشهدت مجلس الذكر في المساء، وأحسست في هذين الطورين من أطوار حياتي في ذلك اليوم أني مصري حقا، وأن في مصر ما يحب، وأن فيها ما ينبغي أن يفتدى بكل ما يستطيع الإنسان بذله من نفس وجهد ومال.
أترى إلى هذا الذي فر من الحياة العقلية في القاهرة إلى حياة الحيوان في الصحراء فلم يستطع أن يخلص من عقله ولا من تفكيره؟ ولكني انصرفت عن مجلس الذكر، أستغفر الله، بل انصرف عني مجلس الذكر وترك في نفسي أصداء لم تفارقني أثناء الليل، فلما أصبحت قال قائل في الجماعة: لنذهب إلى أسيوط. فأجابت الجماعة كلها: لنذهب إلى أسيوط. ولم أستطع إلا أن أذهب إلى أسيوط. وهناك في أسيوط كان العجب العجاب؛ كان ثلاثة من أساتذة الجامعة قد بلغوا الساعة الرابعة من المساء. وقد انتهى بهم الجوع وبأسرهم إلى أقصاه، وبلغ بهم غايته، فانتهوا إلى ما يحبون من الحياة الحيوانية الخالصة؛ فهم لا يريدون إلا الطعام، ولا يفكرون إلا في الطعام، ولا يتحدثون إلا بالطعام. وقد دعاهم إلى الشاي كريم من أهل المدينة؛ فأقبلوا إلى الشاي جياعا قد أهلكهم الجوع، ظماء قد أضناهم الظمأ. وهنالك بلغت الحيوانية بهم أقصى ما تستطيع أن تنتهي إليه. وكان صاحب الدعوة قد أعد لهم مقدارا صالحا من هذا اللون الذي يسميه المجمع اللغوي شاطرا ومشطورا بينهما طازج فيما يقول أصحاب العبث، والذي يسميه الفرنسيون ساندويش. فلا تسل عن اندفاعهم على هذا الساندوتش البائس، ولا تسل عن التهامهم له وازدرادهم إياه، حتى أفنوه في دقائق لا تكاد تبلغ العشر. ثم عطفوا على ما أعد لهم من ألوان الطعام الأخرى، فمسحوها مسحا وألغوها إلغاء، ونظفوا المائدة منها تنظيفا. فأما الشاي فما أكثر ما شربوا منه، وما أقل ما أطفأ من ظمئهم. ولكن الظريف الطريف من الأمر أنهم لم يشعروا بإسرافهم في الشره وغلوهم في النهم وتجاوزهم للحد في ذلك كله إلا بعد أن فعلوا الأفاعيل بالساندويش والجاتو والشاي.
هنالك، هنالك ليس غير، أحسوا أنهم قد تجاوزوا حدود الحضارة، وتعدوا ما ينبغي للمترفين ألا يتعدوه، وساروا سيرة الحيوان لا سيرة الإنسان. وهنالك أحس أساتذة الجامعة الثلاثة أنهم أسرفوا على أنفسهم وعلى أسرهم وعلى مضيفهم، وأنهم كانوا يستطيعون أن يملكوا أنفسهم أكثر مما ملكوها، وأن يضبطوا غرائزهم أكثر مما ضبطوها، وأن كلمة ساندويش قد أصبحت معادلة لكلمة الخزي والخجل والعار. وهنالك، وهنالك ليس غير، أحس الأساتذة الثلاثة من أساتذة الجامعة أن في حياة الناس شيئا يسمى الخجل، وأنهم قد بلغوا من هذا الخجل أقصاه وانتهوا به إلى غايته. وهنالك، وهنالك ليس غير، أحس هؤلاء الأساتذة الثلاثة من أساتذة الجامعة أنهم يستطيعون أن يجعلوا لفظ الساندويش مرادفا للفظ الخجل، وأن يصرفوه تصريفا فرنسيا كما يصرف لفظ الخجل في اللغة العربية. وأن يقول قائلهم لمن يأتي الأمر العظيم: ألا تشعر بالساندويش؟ كما يقول القائل العربي لمن يأتي الأمر العظيم: ألا تشعر بالخجل؟
وهنالك، وهنالك ليس غير، أحس هؤلاء الأساتذة الثلاثة من أساتذة الجامعة، بأن من الممكن أن تصبح كلمة الساندويش الأجنبية مرادفة لكلمة الخجل في اللغة العربية.
ولكن ماذا عسى أن ينفع هذا الإحساس بعد أن التهم الساندويش التهاما وازدردت الفطائر ازدرادا ومسحت مائدة الداعي مسحا، ولم يبق عليها إلا أطباق فارغة وفناجين نقية وأباريق قد خلت من كل شيء إلا من بقايا الشاي؟!
وقد تقول حين تصل إلى هذا الموضع من هذا الفصل: ما قيمة هذا الحديث، وما نفع هذا القصص، وما فائدة هذه الدعابة؟ معذرة يا سيدي القارئ العزيز، أتستطيع أن تنبئني عن قيمة اختلاف نوابنا المحترمين في رياسة مجلس النواب وفي عضوية مكتب مجلس النواب في هذه الأيام حين تحاول ألمانيا هدم الإمبراطورية البريطانية فلا تستطيع، وحين تحاول إيطاليا سحق الدولة اليونانية فلا تستطيع؟ معذرة يا سيدي القارئ، لماذا تقبل أن تحدثك الأهرام والمصري في الصباح وأن يحدثك البلاغ والوفد والمقطم في مساء، باختلاف نوابنا المحترمين في رياسة مجلس النواب ومكتب مجلس النواب، ولا تقبل أن أحدثك أنا عن زيارتي لبيت أسيدورا وشهودي لمجلس الذكر وإسراف ثلاثة من أساتذة الجامعة وأسرهم على ساندويش كريم من كرماء أسيوط؟ أتشعر بأن هنالك فرقا بين دعابة الأفراد ودعابة الأمم؟ إن العالم يمثل في هذه الأيام مأساة تمزق القلوب وتفطر الأكباد، وقد يكون لها أعمق الآثار في حياته المقبلة، والأمة المصرية تعبث فيتنافس نوابها فيمن يكون الرئيس، وفيمن يتألف منهم مكتب المجلس؛ فلم تقبل منهم هذا العبث ولا تقبل مني أن أقص عليك زيارتي لصديقتي العزيزة أسيدورا وشهودي لمجلس الذكر في تونة الجبل، وتهالك أصحابي وأسرهم وأسرتي معهم على ذلك الساندويش الذي أؤكد لك أنه كان لذيذا متقنا حقا؟
إنما الحياة الدنيا لعب ولهو؛ فلنلعب ولنله يا صديقي القارئ العزيز، ولنترك الجد لأصحاب الجد من الأوروبيين، ومن يدري؟ لعلهم أن يكونوا مخطئين فيما يصطنعون من جد، ولعلنا أن نكون مصيبين فيما نصطنع من دعابة وهزل.
المصري الغريب في مصر
هو مختار رحمه الله؛ فقد كان في حياته مرآة صادقة كل الصدق لنفس مصر الخالدة التي لا تحد ولا تحصر. كنت تجد في هذه المرآة صورا صادقة لنفس مصر القديمة، ولنفس مصر الإسلامية، ولنفس مصر هذه التي يكونها هذا الجيل، ولآمال مصر ومثلها العليا بعد أن يتقدم الزمان ويتقدم، وترث أجيال أخرى أرض الوطن عن هذه الأجيال التي تضطرب فيها الآن.
صفحه نامشخص
كان مختار هذه المرآة الصافية المجلوة التي تنعكس فيها حياة مصر على اختلاف أزمنتها وما يحيط بها من الظروف، فكان من هذه الناحية أشد أبناء مصر اتصالا بها وقربا منها وتمثيلا لها. ولكنه على ذلك كان غريبا في مصر أثناء هذه الأسابيع التي ختمت مساء الثلاثاء حين ختمت حياة مختار. أقبل من أوروبا فلم تكد الصحف تتحدث عن إقباله، ولم يكد يخف للقائه من أصدقائه إلا نفر قليلون. وأقام في مصر مريضا مكدودا يلح عليه الألم والسقم فلا يكاد يذكره من المصريين الذين كانوا يعجبون به ويحشدون له ويهتفون باسمه ويعتزون بمجده ويرفعون رءوسهم بآثاره إلا نفر يحصون، ولعلك إن أحصيتهم لم تبلغ بهم العشرين، وأخشى ألا تبلغ بهم أقل من هذا العدد اليسير. ثم اشتد عليه المرض وألجأه إلى المستشفى، فلم تكد الصحف تتحدث عن ذلك إلا حديثا يسيرا جدا. وخف أصدقاء مختار إلى المستشفى يسألون عن صديقهم ويريدون لقاءه فحال المرض بينهم وبين اللقاء، وأعلن إليهم أن الحجاب قد ألقي بينهم وبين هذا الصديق، وإن كانت الحياة ما تزال تتردد في جسمه النحيل. ثم أصبح الناس يوم الأربعاء وإذا نعي مختار يملأ القاهرة ويقع من نفوس أهلها موقع الألم اللاذع والحزن الممض. ثم أمسى الناس يوم الأربعاء، وإذا جماعة من خاصة المصريين وقليل من الأجانب عند محطة القاهرة يستقبلون جثمان مختار، ثم يسعون معه إلى المسجد، ثم يتفرقون ويمضي مختار إلى مستقره الأخير، ومن حوله جماعة قل في إحصائهم ما شئت فلن تستطيع أن تبلغ بهم نصف المائة. ثم يصل مختار إلى قبره، ثم يهبط مختار هذا القبر، وهؤلاء الأصدقاء قائمون قد ملكهم وجوم عميق لا يقطعه إلا هذا الصوت الرفيق المزعج، صوت المساحي والمعاول وهي تسوي القبر عليه، وتقطع ما بقي بينه وبين الحياة من أسباب، وإلا هذا النداء الذي يتردد بين حين وحين عنيفا يتكلف الرفق، طالبا الماء الذي يحتاج إليه في تسوية هذا القبر، وإقامة هذا السد بين صاحبه وبين الحياة، وإلا هذا اللغط الذي يؤذي الأسماع، وكان من حقه أن يكون موسيقى عذبة رقيقة تأسو القلوب الجريحة وتهدئ النفوس الثائرة، وترد الجازعين اليائسين إلى ما ينبغي لهم من الإذعان لقضاء الله والرضى بحكم الله. وهو لغط هؤلاء القراء الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب وقد كره الله أن يلوي الناس ألسنتهم بالكتاب؛ لأنه كتاب مبين مستقيم لا عوج فيه ولا التواء، وإنما فيه هداية للعقول وشفاء لما في الصدور. ثم ينقطع كل صوت، ويتفرق هؤلاء الأصدقاء يحملون في قلوبهم ما يحملون من حب ووجد، ومن أسى ولوعة، يحملون هذا كله لينغمسوا به في هذه الحياة التي تنتظرهم على خطوات قليلة قصيرة من مستقر الموتى.
وكذلك انتهت قصة مختار مع انتهاء النهار يوم الأربعاء، وكذلك أسدل ستار الموت على حياة مختار في الوقت الذي أسدل فيه ظلام الليل على حياة الأحياء. وما أكثر ما تنتهي قصص الناس في كل يوم! بل في كل ساعة، بل في كل لحظة! وما أكثر ما يسدل ستار الموت حين تشرق الشمس أو حين تغيب، فلا نحس ذلك ولا نلتفت إليه! لأن الذين تختطفهم المنية أو تحصدهم في جميع الأوقات قوم مجهولون لم تميزهم الظروف أو لم تميزهم أنفسهم، فهم يمضون دون أن يحسهم أحد كما يقبلون دون أن يحسهم أحد، ولكن مختارا كان غريبا حقا في آخر حياته، وكان غريبا حقا في أول موته، وأي عجب في هذا؟ لقد آثر حياة الغربة منذ أعوام، فكان لا يزور وطنه إلا لماما، ولقد تعود الجفوة من مواطنيه. وأكبر الظن أن ذلك كان يؤذيه، ولكنه كان أكرم على نفسه من أن يشكو أو يظهر الألم. ولقد سمعنا أنه احتمل المرض شجاعا، واستقبل الموت شجاعا، لم يدركه جزع ولا فرق.
ولو أنه رأى بعد أن مات كيف ودعه مواطنوه لما أثر فيه ذلك أكثر مما أثرت فيه جفوة مواطنيه قبل أن يموت. ولعله كان يألم لذلك في قرارة قلبه الممتاز، ثم لا يظهر من ألمه شيئا كما كان يفعل أثناء الحياة، إنما نحن الذين ينبغي لهم أن يألموا أشد الألم، وأن يحزنوا أشد الحزن، وأن يستشعروا شيئا غير قليل من اللوعة والحسرة وخيبة الأمل حين نرى هذا العقوق، وحين نقدر أثره في نفس صديقنا الراحل العزيز؛ فقد كنا وما زلنا نتحدث بأن مختارا هو الذي رد إلى مصر بعض حظها من المجد الفني، وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختارا قد مكن مصر من أن تعرب عن نفسها وعما تجد من الألم والأمل بلسان جديد لم تكن تستطيع أن تصطنعه من قبل، وهو لسان الفن. وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختارا قد أنطق مصر بهذه اللغة التي يفهمها الناس جميعا وهي لغة الجمال، لغة الفن، بعد أن كانت لا تنطق إلا بهذه اللغة التي لا يفهمها إلا جيل بعينه من الناس، وهي لغة الكلام.
وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختارا قد جدد في مصر سنة كانت قد درست ومضت عليها قرون وقرون، وهي سنة الفن. وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختارا قد لفت الأوروبيين إلى مصر، وأقام لهم الدليل على أن مطالبتها بالاستقلال لم تكن عبثا ولا لغوا، وإنما كانت نتيجة لحياة جديدة ونشاط جديد، وقد لفت مختار الأوروبيين إلى ذلك في أشد الأوقات ملاءمة، في وقت الثورة السياسية. وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختارا على حداثة عهده بالفن كان أسبق المصريين إلى إعجاب أوروبا، ألم يعرض آثاره في باريس؟ ألم تتحدث صحف الفن عن مختار قبل أن تتحدث صحف الأدب عن كتابنا وشعرائنا؟ ألم تستقر آثار مختار في متاحف باريس قبل أن تستقر آثار كتابنا وشعرائنا في مكاتبها؟ كنا نتحدث بهذا كله، وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختارا قد رد إلى المصريين شيئا غير قليل من الثقة بأنفسهم، والأمل في مستقبلهم، والاطمئنان إلى قدرتهم على الحياة الممتازة الراقية.
كنا وما زلنا نتحدث بهذا وبأكثر من هذا، ومع ذلك فقد قضى مختار آخر حياته شريدا أو كالشريد، وقد قضى مختار آخر أيامه في مصر منسيا أو كالمنسي، وقد عبرت جنازة مختار مدينة القاهرة يطيف بها جماعة من الخاصة ليس غير! نستغفر الله، بل مرت جنازة مختار أمام التمثال الذي صنعه بيديه كما تمر أمام أي شيء، لم يظهر على التمثال ما يدل على الحزن أو ما يدل على الاكتئاب، أو ما يدل على الشكر وعرفان الجميل. وعبرت جنازة مختار مدينة القاهرة تجهلها الحكومة المصرية أو تكاد تجهلها، لم يمش في جنازة مختار ولم يقم على قبر مختار وزير العلوم والفنون، ولم يلق أحد على قبر مختار كلمة الوداع، وإنما كان الصمت يشيعه، وكان الصمت يواريه التراب، وكان الصمت يودعه حينما تفرق من حوله الأصدقاء. ولو قد مات مختار في بلد غير مصر لكان لموته شأن آخر، ولو قد كان مختار فرنسيا أو إنجليزيا أو إيطاليا وأدى لبلده مثل ما أدى لمصر لقامت الدولة له بشيء آخر غير الإهمال والإعراض. إذن لكانت جنازته رسمية تنفق عليها الدولة، ويمشي فيها رجال الدولة، ويخطب فيها كبار رجال الدولة، ولكن مختارا نشأ في مصر، وعمل لمصر، ومات في مصر، فحسبه ما أتيح له يوم الأربعاء من توديع الذين كانوا من أصدقائه وأحبائه ليس غير.
ولا ننس أن رئيس الوزراء قد تفضل فندب من مثله في جنازة مختار. وهذا - ويا لسخرية الأقدار - كثير جدا ينبغي أن يشكر لرئيس الوزراء؛ فقد ينبغي ألا ننسى أن مختارا لم يكن من أنصار السياسة الرسمية، ولا من الذين يستمتعون بعطفها وحبها ورضاها، فكثير أن يتفضل رئيس الوزراء فيندب من يمثله في جنازة هذا المعارض وإن كان صاحب فن، وإن كان قد أنفق حياته كلها لمصر لا لحزب من الأحزاب ولا لجماعة من الجماعات. لا أكذب المصريين أن لنا في مثل هذه الأحداث والخطوب مواقف لا تشرفنا ولا تلائم ما نحب لأنفسنا من الكرامة، ولا تشجع العاملين على أن يعملوا. ومن الذي نسي موت الشاعرين العظيمين حافظ وشوقي وموقف السياسة منهما؟ ذهب المعارضون بحافظ، واستأثر المؤيدون بشوقي، ثم ذهب المعارضون بمختار منذ أيام، وضحي بالأدب والفن في سبيل الأهواء والشهوات، وظهر المصريون في مظهر العقوق الذي لا يليق بالشعب الكريم. لا أكذب المصريين أنهم في حاجة إلى أن يرفعوا أنفسهم أمام أنفسهم وأمام غيرهم عن هذه المنزلة المهينة، إنهم في حاجة إلى أن يرفعوا الأدب والعلم والفن عن أغراض الحياة، وأغراض الخصومة السياسية؛ لأن في الحياة أشياء أرقى وأطهر وأكرم من السياسة وخصوماتها، والأدب والعلم والفن أول هذه الأشياء. لقد هم أصحاب حافظ أن يخلدوا ذكر حافظ فلم يوفقوا، وهذا حافظ يخلد ذكر نفسه. ولقد هم المستأثرون بشوقي من رجال السياسة الرسمية أن يخلدوا ذكر شوقي فلم يفلحوا، وهذا شوقي يخلد ذكر نفسه. فهل بين المصريين من يهمون بحماية آثار مختار من الضياع وبتخليد ذكر مختار؟ وهل هم إن فعلوا موفقون إلى ما يريدون؟ أم هل تدخل السياسة في أمر مختار فتفسده كما أفسدت أمر حافظ وشوقي؟ سؤال مؤلم ما كان ينبغي أن يلقى، ولكن انتظار جوابه لن يكون طويلا، ولعله لا يضيف ألما إلى ألم، وحزنا إلى حزن.
أحاديث الأسبوع
كان جو القاهرة قلقا مضطربا أثناء الأسبوع، يذكر الشتاء المدبر فيستحضر بعض أرواح البرد، ويلمح الصيف المقبل فيسرع إلى بعض بشائر القيظ. وكان النهار ضعيف الذاكرة جدا، محي الشتاء من نفسه محوا على قرب عهد الشتاء، وكان الليل وفيا بعض الشيء ، قوي الذاكرة إلى حد ما، رفيقا بالناس بعض الرفق، كأنما كان يشفق عليهم من قسوة النهار ونسيانه للعهد، وزهده في الأمس وتهالكه على غد، فكان يثير لهم بعض هذه النسمات الهادئة الحلوة التي تغرق أحيانا في الهدوء والخفة حتى توشك أن تكون لاذعة، وحتى تلفت الناس إلى أن من الخطر أن يخونوا عهد الشتاء كما خانه النهار، وأن يتهالكوا على عهد الصيف كما تهالك عليه النهار، وأن يتخففوا من ثيابهم، ويتهاونوا في الاحتياط والحذر من هذه الأرواح القليلة الخفية المغرقة التي تتعلق بشعاع من أشعة القمر، أو بنفس من أنفاس النسيم، والتي لا تكره أحيانا أن تمس المهملين مسا خفيفا، فتعرضهم للأذى، وتحملهم من الآلام جهدا ثقيلا.
وكان الناس، أو بعبارة أدق، كان الأدباء يسايرون الزمان كدأبهم في كل حين وفي كل بيئة، كانوا يفترون للنهار وينشطون لليل، كانوا يثقلون للظهر ويخفون لمغرب الشمس، كانوا يؤدون أعمالهم خامدين هامدين في الضحى، أو يتخذون شكل الذين يؤدون أعمالهم وهم لا يؤدون منها شيئا، فإذا ألقت الشمس يدا في كافر كما كان يقول لبيد؛ خفت الأجسام، ونشطت النفوس، واتسعت الرئات للهواء، وتفتحت العقول والأذهان للخواطر، وانطلقت الألسنة بالحديث، ولم تكن أحاديث الأدباء في هذا الأسبوع قليلة الخطر، ولا ضئيلة الشأن، ولا هينة الأمر على المتحدثين بها من الأدباء، والمتناقلين لها من غير الأدباء، فهم قد بدءوا أحاديث الأسبوع بهذا الاجتماع الذي كان عند جماعة «الإسيست»، وقصد به لا أقول إلى إحياء ذكر مختار، بل أقول إلى ذكر مختار ليس غير. وكان حديث الأدباء عن هذا الاجتماع طريفا؛ لأنه لم يزد على أن ذكره وألم به دون أن يفسره أو يعلق عليه. وهل أحاديث غير الأدباء في مصر الآن خير من أحاديث الأدباء؟ فأنت تستطيع أن تلتمس النشاط عند رجال السياسة، أو عند أصحاب المال، أو عند غير أولئك وهؤلاء من طبقات الناس، فإن استطعت أن تجد صورة من صوره فأنت منصف حين تلوم الأدباء على القصور، وتعيبهم بالفتور. على أن شيئين لم يهملهما الأدباء حين تحدثوا عن هذا الاجتماع، إن كانوا قد تحدثوا عنه بالفعل أو خاضوا فيه حقا، ولم يكن هذا الحديث الذي أنقله عنهم خيالا فاترا فتور حياة الأدباء كلها في هذه الأيام. فأما أول هذين الشيئين: فهو أن هذا الاجتماع إنما كان أثرا من آثار الشباب وحدهم، هم الذي فكروا فيه، وهم الذين دعوا إليه، وهم الذين ألحوا في الدعوة، فوفقوا إلى إكراه جماعة من الكهول والشيوخ على الاستجابة لدعوتهم، وظفروا من جماعة أخرى بالوعود والأماني التي لم يقدر لها الوفاء ولا التحقيق، ولم يظفروا من جماعة آخرين بوعد ولا أمنية، فضلا عن الوفاء أو التحقيق.
وأما الشيء الثاني فهو أن هذا الاجتماع لم يحدث في الأدب حدثا، ولم ينتج له جديدا، إلا كلمة طريفة قيمة مؤثرة قالها صديقنا مصطفى عبد الرازق. فأما ما دون هذه الكلمة فلم يكن شيئا، حتى إن صديقنا مطران لم يستطع إلا أن يعيد على السامعين قصيدة رائعة بارعة من غير شك، ولكنها قديمة، أنشئت وأنشدت لاستقبال مختار حين عاد ظافرا يستقبل المجد، ثم استخرجت وأنشدت لوداع مختار حين استأثر به الموت، فولى يودع المجد ويودع الحياة. والغريب أن هذا الاجتماع كان لتكريم الفن، ولتأبين المثال الأول في تاريخ مصر الحديثة، المثال الذي ابتكر من الآثار ما يقال إنه جميل رائع ينطق البكم ويثير حس الذين لا يثور لهم حس، ويفيض شعور الذين لا يفيض لهم شعور، ومع ذلك فهو لم ينطق أدباءنا وما أكثر ما كانوا ينطقون! ولم يثر حسهم وما أكثر ما كان يثور! ولم يفض شعورهم وما أكثر ما كان يفيض! تساءل الأدباء عن مصدر هذا في السر أو في الجهر، في النوم أو في اليقظة، في الحقيقة أو في الخيال؛ فكان الجواب أن مصر الآن نائمة تستريح.
صفحه نامشخص