وكانا يتكلمان وأيديهما ترتجف فرحا برؤية أشياء بهذا المقدار من الجدة، وخوفا من فقدانها، وفيما الزحلي ينتقل من الإسراف في الشك إلى الإسراف في سرعة الإيمان، صور له أنها تتكاثر، عملا بسنة نشر الجنس فقال: «آه! لقد فاجأت الطبيعة في أثناء ارتكابها.» ولكنه انخدع بالمظاهر، والانخداع بالمظاهر كثير الوقوع في حالتي استعمال الميكروسكوب وعدم استعماله. (6) ماذا جرى لهما مع الناس؟
تبين لميكروميغاس، وهو أحسن ملاحظة من قزمته، أن الذرات تتخاطب، وأعلم رفيقه بذلك، سوى أن هذا الأخير - وقد خجل من خطأه في موضوع التناسل - أبى الاقتناع بأن أنواعا كهذه يتفق لها أن تفكر. ومع أنه لم يكن دون الشعروي معرفة باللغات، فلم يتوصل إلى التقاط أصوات الذرات، وبقي مصرا على اعتقاده الأول، وكانت حجته أنه يستحيل على خلايق دقيقة كهذه أن تتكلم، وماذا يمكنها أن تقول؟ فمن شروط الكلام أن يكون ناجما عن الفكر، ومن شروط الفكر أن يكون صادرا عما يوازي النفس، فعزو ما يوازي النفس إلى هذا النوع من الحشرات ضرب من الغباوة.
فقال الشعروي: ولكنك اعتقدت منذ هنيهة أنها تتعاشق، أفتظن أن التعاشق ممكن بدون تفكير، وبدون التلفظ بكلمة، أو بدون تفاهم على الأقل؟! أو تظن أن الإتيان بحجة أصعب من الإتيان بولد؟ ...
فقال القزمة: كلاهما، في مذهبي، من الأسرار العظيمة؛ فقد صرت لا أجرؤ على الإيمان، ولا على النكران، وما دمت لم يبق لي رأي فلنتفحص هذه الحشرات، ثم نعود إلى الأدلة والبراهين.
فقال ميكروميغاس: حسن جدا ما تقوله.
وفي الحال تناول مقصا قلم به أظافره، ومن قلامة إبهامه صنع بوقا كبيرا يشبه القمع، ووضع قصيبته في أذنه، وبدائرة القمع طوق الباخرة وركابها.
كان أضعف الأصوات يتغلغل في عروق الظفر المستديرة، بحيث إن فيلسوف العالم الأعلى سمع بجلاء طنين الحشرات في هذا العالم، وما هي إلا ساعات قلائل حتى تمكن من تمييز الكلمات، وسماع اللغة الفرنسية، وحذا القزمة حذوه ولكن بأشد جهدا منه.
وكانت دهشة الرحالتين تزداد ثانية بعد ثانية لدى سماعهما الحشرات تلزم منطق الحكم السليم، فشرعا يبذلان كل ما بوسعهما لمخاطبة هذه الحشرات، وإذ خشيا أن يصم صوتهما الجهوري مسامعها الدقيقة، وضعا في فمهما مساويك لإضعاف الصوت، ثم أجلس الشعروي القزمة على ركبتيه ووضع المركب وركابه على أحد أظافره، وبدأ يخاطب الحشرات بصوت منخفض جدا، قال: «أيتها الحشرات الخفية، التي حلا ليد الخالق أن تلدها في هوة الصغر المتناهي، إني لأحمده على أنه تنازل، فكشف لي أسرارا كنت إخالها لن تكشف، قد لا يكلف المرء في عالمي نفسه مشقة النظر إليك، ولكني لا أحتقر أحدا وأمد لك يد الحماية.»
لم يسبق للدهشة أن استحوذت على مخلوق مقدار ما استحوذت على أولئك الذين سمعوا هذه الكلمات ولم يحزروا مصدرها؛ فتلا مرشد المركب صلاة التقاسيم، وجدف البحارة، وضرب الفلاسفة قياسا لم يجدهم نفعا، وكان قزمة زحل أرق صوتا من ميكروميغاس، فأطلعهم ببضع كلمات على نوع الخلايق التي تخاطبهم، وقص عليهم رحلة زحل، وأوقفهم على حقيقة السيد ميكروميغاس، وبعد أن أعرب لهم عن أسفه لأجرامهم الصغيرة، سألهم أيلزمون دائما هذه الحالة البائسة القريبة من العدم، وماذا يصنعون في كرة كأنها ملك الحيتان، وهل يتمتعون بالسعادة ويتكاثرون، وهل لهم روح، ومائة من أمثال هذه الأسئلة.
فأثارت هذه الأسئلة، ولا سيما الشك في وجود الروح، مكمن الغضب من صدر رياضي كان قد أبصر مخاطبه عن طريق أحد المراصد، فقال: ألأنك تبلغ ستة آلاف قدم من رأسك إلى قدميك، يخيل إليك يا حضرة السيد أنك ...
صفحه نامشخص