فقال ميكروميغاس: قد لا يكون سكانها من القوم العقلاء، ولكن من مظاهرها ما يدل على أنها لم تخلق عبثا، قلت إن كل شيء يبدو لك مشوشا هنا؛ لأن كل شيء محكم البنيان في زحل والمشتري، وربما لهذا السبب نفسه نرى بعض التشويش في هذه الكرة، ألم أقل لك إني لاحظت في أسفاري أن كل شيء يختلف باختلاف الأماكن؟
ولكان الجدل مضى بهما إلى ما لا نهاية له، لو لم تبلغ حدة النقاش بميكروميغاس مبلغا انقطع معه عقده الماسي، فانفرطت الجواهر، وكانت كبراها تزن أربعمائة ليبرة، وصغراها خمسين، فالتقط القزمة بعضا منها، وإذ تبين له وهو يدنيها من عينيه أن كلا منها ميكروسكوب ممتاز، تناول ماسة يبلغ قطرها مائة وستين قدما، وركبها على حدقته، واختار ميكروميغاس واحدة قطرها ألفان وخمسمائة قدم، ولكنهما لم يبصرا شيئا بادئ ذي بدء، ولما أحكم الزحلي ميكروسكوبه رأى شيئا دقيقا يتحرك بين موجتين في البحر البلطيقي، كان هذا الشيء حوتا، فتناوله ببنصره بلباقة وخفة ووضعه على ظفر إبهامه، وعرضه على رفيقه؛ فلم يتمالك للمرة الثانية من الضحك حين وقع نظره على صغارة المخلوقات في كرتنا هذه.
ولما قنع الزحلي بأن عالمنا مأهول صور له في الحال أنه ليس مأهولا بسوى الحيتان، وبما أنه كان من كبار الراغبين في الإثبات والتحليل، أراد أن يعرف مصدر هذه الذرة، ومن أين تستمد حركتها، وهل لها أفكار وإرادة.
وكان أن الحيوان حير ميكروميغاس، فأخذ يتفحصه بصبر وجلد، وخلص إلى أنه ليس ثمة سبيل إلى الاعتقاد بأن فيه روحا.
وفيما الرحالتان يجنحان إلى تثبيت رأيهما فيما يتعلق بانعدام وجود النفس في قاطني هذه الكرة، أبصرا في الميكروسكوب شيئا أضخم من الحوت؛ يطفو على مياه البلطيقي.
يعلم الجميع أن سربا من الفلاسفة كان عائدا في تلك السنة نفسها من القطب الشمالي، بعد أن أجرى فيه أبحاثا لم تخطر في بال أحد من قبل، فذكرت الصحف أن الباخرة التي كانت تقل هؤلاء الفلاسفة جنحت على شواطئ خليج بوتني، وأن ركابها كابدوا مشقة كبيرة في سبيل النجاة.
وسأقص بنية سليمة كيف جرى ذلك، من غير أن أزيد حرفا من عندي، ولا يخفى ما في ذلك من الصعوبة على المؤرخ. (5) ما أتاه الرحالتان من التجارب والبينات
بسط ميكروميغاس يده بتؤدة نحو الجهة التي ظهر فيها هذا المشهد، وقدم أصبعين من أصابعه، التقط بهما المركب الذي كان يقل أولئك السادة، ثم وضعه على ظفر إبهامه بخفة وعناية؛ مخافة أن يسحقه، فقال القزمة: «هذا حيوان يختلف كل الاختلاف عن الأول.»
وما كاد ميكروميغاس يضع الحيوان المزعوم في باطن كفه، حتى تحرك جميع من في المركب من الركاب والبحارة؛ إذ خيل إليهم أن عاصفة هوجاء رفعت المركب وألقته على جسم يشبه الصخر، وراح البحارة يطرحون دنان النبيذ على يد ميكروميغاس ويترامون وراءها، والرياضيون يأخذون آلاتهم، وينزلون بها على أصابعه، حتى أحس بجسم يدغدغ إحداها، كان هذا الجسم إسفينا أغرز في سبابته؛ فاستنتج من هذا الوخز أن شيئا خرج من الحيوان الصغير، ولم يذهب إلى أبعد من ذلك في بادئ الأمر.
لا تسل عما أتاه فيلسوفنا الشعروي من ضروب الحنكة والحذق ليتمكن من رؤية الذرات التي ذكرتها، فحين رأى لوفنهوك وهارتسويكر، أو حين خيل إليهما أنهما أول من رأى البذرة التي تتكون منها لم يقوما بأدهش من هذا الاكتشاف، ولا تسل عن عظم اللذة التي شعر بها ميكروميغاس وهو ينظر إلى تلك الآلات الصغيرة تتحرك، ويتتبعها في جميع أعمالها، وإذ وضع واحدا من ميكروسكوباته في يدي رفيقه هتف هذا الأخير قائلا: «لقد رأيتها!» وقالا بصوت واحد: «ألا تراها تقل أحمالا، تنحني وتنهض؟»
صفحه نامشخص