إن اللغز الرئيسي هنا - هذا إن كان يصح إطلاق كلمة لغز على المسألة - الذي يلف هذه القضية هو سبب دخول الكابتن ديني إلى الغابة حين كان بإمكانه أن يظل في العربة في الأمان والراحة؛ فمن غير المعقول أن يقع هجوم عليه في وجود السيدة ويكهام. وقد قدم المتهم تفسيره عن سبب طلب الكابتن ديني أن تتوقف العربة، ومن واجبكم أن تعرفوا ما إن كان هذا التفسير مرضيا لكم أو غير ذلك. والكابتن ديني ليس على قيد الحياة ليفسر سبب فعله، وليست هناك شهادة أخرى من شأنها أن توضح هذه المسألة غير التي قدمها السيد ويكهام. وعلى غرار الكثير في هذه القضية، كان تفسير ذلك افتراضيا، وكانت الشهادة تحت القسم، وهي ليست مبنية على آراء لا أساس لها، ومن ثم يمكن أن تقدموا حكمكم بشكل آمن؛ الظروف التي وجدت مجموعة البحث في سياقها جثة الكابتن ديني وسمعوا الكلمات المنسوبة إلى المتهم. وقد سمعتم تفسيره عن مغزاه منها، والأمر إليكم لتقرروا ما إن كنتم تصدقونه أو لا . وإن كنتم على يقين بما لا يدع مجالا للشك أن جورج ويكهام مدان بقتل الكابتن ديني، فسيكون حكمكم بأنه مدان؛ وإن لم يكن هذا اليقين مستقرا عندكم فالمتهم بريء. والآن أترككم لمداولاتكم. وإن كنتم ترغبون في أن تتجهوا إلى مكان تتشاورون فيه بشأن حكمكم، فقد تم تخصيص غرفة لذلك وهي متاحة.»
الفصل العاشر
بحلول نهاية المحاكمة شعر دارسي بأنه مستنزف، وكأنه كان هو من يقف في قفص الاتهام. وكان يتوق لأن يطلب من ألفيستون أن يطمئنه، لكن غطرسته ومعرفته بأن مضايقته له ستكون مزعجة ولا طائل منها جعلتاه يلتزم الصمت. ولم يكن هناك شيء يستطيع أحد فعله الآن سوى الانتظار والأمل. وقد اختارت هيئة المحلفين التوجه إلى الغرفة الخاصة من أجل التشاور في حكمهم، وفي غيابهم أصبحت قاعة المحكمة تعج بالضوضاء مرة أخرى وكأنها قفص يحتوي على الكثير من الببغاوات؛ حيث كان الحضور يناقشون فيما بينهم الشهادات التي قدمت ويراهنون على حكم هيئة المحلفين. ولم يكن انتظارهم طويلا. فبعد أقل من 10 دقائق، عادت هيئة المحلفين. وسمع دارسي صوت موظف المحكمة الآمر الحازم والعالي وهو يسأل هيئة المحلفين: «من هو رئيس المحلفين؟» «أنا يا سيدي.» ثم وقف ذلك الرجل الطويل الداكن البشرة الذي كان يحدق إلى دارسي كثيرا أثناء المحاكمة، وكان هو رئيسهم. «هل وصلتم إلى حكم؟» «فعلنا.» «أتجدون المتهم مدانا أم غير مدان؟»
وجاءت الإجابة من دون تردد. «مدان.» «وهل هذا حكمكم جميعا؟» «أجل.»
وهنا علم دارسي أنه لا بد أن يكون قد تنهد. فقد شعر بيد ألفيستون على ذراعه، يحاول تهدئته. والآن أصبحت المحكمة تعج بالأصوات - خليط من التأوهات والصيحات والاحتجاجات التي صارت تتزايد حتى خفتت فجأة وكأنه كان إكراها جماعيا من نوع ما، وتحولت كل الأعين على ويكهام. أما دارسي الذي كان لا يزال غارقا في غضبه، فقد أغلق عينيه ثم أجبر نفسه على أن يفتحهما وثبت نظره على قفص الاتهام. كان لويكهام حينها وجه جامد وشاحب وكأنه يرتدي قناعا من أقنعة الموت. وفتح فاه وكأنه يريد الحديث ، لكن لم تجد الكلمات مخرجا لها. كان يقبض على حافة القفص وبدا للحظة وكأنه يترنح، وشعر دارسي بعضلات جسده تنقبض، بينما كان يرقب ويكهام وهو يستعيد ثباته، واستطاع بجهد بالغ ملحوظ أن يجد القوة لكي يقف منتصبا. وحدق ويكهام إلى القاضي وهنا جاء صوته، وكان في البداية مبحوحا، ثم بعد ذلك أصبح عاليا وواضحا. «أنا بريء من هذه التهمة، يا سيدي. أقسم أمام الرب إنني لست بمذنب.» وبعينين مذهولتين جاحظتين، راح يدور بعينيه في أرجاء غرفة المحكمة وقد انقطع عنه الأمل وكأنه يريد أن يرى وجها مألوفا له، أو يجد صوتا يؤكد على براءته. ثم قال مرة أخرى بصوت قوي أكثر: «لست مذنبا، يا إلهي، لست مذنبا.»
والتفت دارسي إلى حيث كانت السيدة يونج جالسة، التي كانت ترتدي ملابس محتشمة، وتلتزم الصمت وسط الأخريات اللائي يرتدين الملابس الحريرية والقطنية ويمسكن بمراوحهن. كانت حينها قد غادرت. لا بد أنها غادرت بمجرد أن نطقت هيئة المحلفين بقرارها. كان دارسي يعرف أن عليه أن يجدها، وكان يعرف أنه في حاجة إلى أن يعرف الدور الذي لعبته هي في مأساة موت ديني، وأنه في حاجة إلى أن يكتشف سبب وجودها هنا، وسبب تعلق أنظارها بويكهام وكأن هناك قوة أو عزما يتناقل فيما بينهما.
تحرر دارسي من ألفيستون وشق طريقه نحو الباب. كان الباب مغلقا بحزم في وجه حشد من الخارج كانوا قد أصروا على الحضور بفعل الصخب المتزايد من الداخل. والآن كان الصخب في قاعة المحكمة يرتفع مرة أخرى، معبرا عن إثارة أقل للشفقة وعن غضب أكبر. وظن دارسي أنه سمع القاضي يهدد الحشد باستدعاء الشرطة أو أفراد الجيش لطرد المشاغبين، وكان شخص قريب منه يقول: «أين القلنسوة السوداء؟ لماذا لا يضع القلنسوة اللعينة على رأسه وينطق بالحكم؟» وكانت هناك صيحة وكأنها تنم عن الانتصار، وحين نظر حوله، رأى قبعة سوداء تلوح فوق الحشد في يد شاب مرفوع على كتفي رفيق له وعرف وهو يرتجف أن تلك كانت هي القلنسوة السوداء.
وكافح دارسي من أجل أن يحتفظ بمكانه عند الباب، حيث كان الحشد بالخارج قد فتحه، وتمكن من المرور بصعوبة عبر الحشد؛ إذ راح يشق طريقه بينهم بمرفقيه ليخرج إلى الطريق. وعلى الطريق كانت هناك حالة فوضى وهياج أخرى من نفس التأوهات والصيحات وجوقة من الأصوات الصارخة، وفكر دارسي أن كل هذا ينم عن الشفقة أكثر مما ينم عن الغضب. ورأى عربة كبيرة توقفت، وكان الحشد يحاول أن يجذب سائقها عن مقعده. وكان السائق يصيح: «لم يكن ذلك خطئي. أنتم رأيتم المرأة. لقد ألقت بنفسها تحت العجلات!»
كانت المرأة راقدة في مكانها وقد سحقتها العجلات الثقيلة فكانت وكأنها حيوان ضال، وكانت دماؤها تسيل في دفق أحمر فتجمعت على شكل بركة تحت أقدام الجياد. وحين اشتمت الجياد رائحة الدماء، اهتاجت وشبت ووجد السائق صعوبة في السيطرة عليها. ونظر دارسي إلى ذلك المنظر نظرة واحدة، ثم التفت مبتعدا وراح يتقيأ بشدة في بالوعة الصرف. وبدا أن تلك الرائحة الكريهة تنشر سما في الهواء. ثم سمع دارسي صوتا يصيح قائلا: «أين عربة الموتى؟ لماذا لا يحملونها بعيدا؟ ليس من اللائق أن يتركوها على الطريق.»
حاول الراكب في العربة أن يخرج منها، لكنه حين رأى مظهر الحشد تقهقر إلى داخل العربة وأنزل ستائرها، وكان من الواضح أنه ينتظر وصول ضباط الشرطة ليستعيدوا النظام. وأخذ الحشد يزداد، ومن بينهم كان هناك أطفال يحدقون إلى المرأة بلا فهم منهم وسيدات يحملن رضعا لهن على أذرعهن وخاف الرضع من الضجيج فبدءوا في البكاء. ولم يكن هناك شيء بإمكان دارسي فعله. كان الآن في حاجة إلى أن يعود إلى قاعة المحكمة، ويبحث عن الكولونيل وألفيستون على أمل أن يوفرا له شيئا من الطمأنينة؛ وكان يعلم في نفسه أن ذلك غير ممكن.
صفحه نامشخص