ملحوظة من المؤلفة
تمهيد
الجزء الأول: اليوم السابق للحفل الراقص
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الجزء الثاني: الجثة التي عثر عليها في الغابة
الفصل الأول
صفحه نامشخص
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الجزء الثالث: الشرطة في بيمبرلي
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
صفحه نامشخص
الفصل السادس
الجزء الرابع: التحقيق
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الجزء الخامس: المحاكمة
صفحه نامشخص
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
صفحه نامشخص
الفصل الحادي عشر
الجزء السادس: شارع جريستشرش
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
خاتمة
ملحوظة من المؤلفة
صفحه نامشخص
تمهيد
الجزء الأول: اليوم السابق للحفل الراقص
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الجزء الثاني: الجثة التي عثر عليها في الغابة
الفصل الأول
الفصل الثاني
صفحه نامشخص
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الجزء الثالث: الشرطة في بيمبرلي
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
صفحه نامشخص
الجزء الرابع: التحقيق
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الجزء الخامس: المحاكمة
الفصل الأول
صفحه نامشخص
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
صفحه نامشخص
الجزء السادس: شارع جريستشرش
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
خاتمة
الموت يزور بيمبرلي
الموت يزور بيمبرلي
صفحه نامشخص
تأليف
بي دي جيمس
ترجمة
عبد الفتاح عبد الله
مراجعة
هاني فتحي سليمان
إلى جويس مكلينان
صديقتي ومساعدتي الشخصية التي ظلت تكتب رواياتي طيلة 35 عاما.
مع كل الحب والامتنان.
ملحوظة من المؤلفة
صفحه نامشخص
أدين باعتذار إلى جين أوستن؛ لإقحام عزيزتها إليزابيث في مأساة تحقيق في جريمة قتل، خاصة أن السيدة أوستن أوضحت وجهة نظرها في الفصل الأخير من «مانسفيلد بارك» حين قالت: «سأدع الأقلام الأخرى تطيل الكتابة عن الشعور بالذنب والأسى. سأتوقف عن الحديث عن تلك الأمور البغيضة بمجرد ما يمكنني ذلك، وأتوق إلى إعادة كل شخص ليس مخطئا إلى العيش في هناء، وأن أفعل ذلك مع الباقين جميعهم.» ولا شك أنها كانت سترد على اعتذاري بأن تقول إنها كانت ستكتب هذه القصة بنفسها وكانت ستكتبها بشكل أفضل، لو أنها تمنت أن تتحدث عن تلك الأمور البغيضة.
بي دي جيمس، 2011
تمهيد
عائلة بينيت من لونجبورن
اتفقت النساء المقيمات في ميريتون فيما بينهن عموما على أن السيد بينيت وزوجته كانا محظوظين كثيرا في التخلص من أربع بنات لهما من أصل خمس بتزويجهن. وميريتون - وهي بلدة صغيرة للتسوق في هيرتفوردشاير - لا تعد وجهة لجولات الترفيه؛ ذلك أنها لا تمتاز بجمال المكان ولا تتمتع بتاريخ مميز، في حين أن المنزل الوحيد الرائع بها - وهو نيذرفيلد بارك - غير مذكور في الكتاب الذي يتحدث عن أبرز أشكال العمارة فيها رغم أنه مثير للإعجاب. وتتمتع البلدة بمكان لتجمع المواطنين بها، وتقام فيه حفلات الرقص بانتظام، لكن ليس بها مسرح، وتقام الأحداث الرئيسية للترفيه في المنازل الخاصة، حيث تقلل الثرثرة والنميمة من حدة الملل الذي يصاحب حفلات العشاء وألعاب الويست حيث لا تتغير الصحبة في كل مرة.
ومن المؤكد أن عائلة لديها خمس من البنات غير المتزوجات ستجذب اهتمام جيرانها وشفقتهم، خاصة حين تقل وسائل التسلية الأخرى، وكان موقف عائلة بينيت بائسا للغاية. ففي ظل غياب وريث ذكر، كانت أملاك السيد بينيت ستئول بالوراثة إلى ابن أخيه الموقر ويليام كولينز، الذي كانت السيدة بينيت تتذمر منه بصوت عال، وتقول بأنه سيخرجها وبناتها من المنزل قبل أن تبرد جثة زوجها في قبره. وفي واقع الأمر، حاول السيد كولينز بقدر ما أوتي من قوة أن يجبر شيئا كهذا. فقد اتخذ قرارا غير ملائم له، لكن وبموافقة راعيته الجليلة الليدي كاثرين دي بيرج، غادر السيد كولينز أبرشيته في مدينة هانسفورد بمقاطعة كنت؛ ليزور عائلة بينيت بهدف خير، وهو اختيار عروس له من البنات الخمس. وقد قابلت السيدة بينيت نيته تلك بترحاب وحماسة من جانبها، لكنها نبهته إلى أن الآنسة بينيت - وهي الابنة الكبرى - كانت على وشك عقد خطبتها في غضون وقت قصير. وكان اختياره لإليزابيث - وهي الابنة الثانية من حيث العمر ومستوى الجمال - قد قوبل برفض قاطع، فكان مضطرا إلى البحث عن استجابة ودية أكثر إزاء طلبه؛ وذلك من جانب الآنسة تشارلوت لوكاس صديقة إليزابيث. وقد قبلت الآنسة لوكاس عرضه بابتهاج أثلج صدره، وسوي الأمر بشأن المستقبل الذي يمكن للسيدة بينيت وبناتها أن يتطلعن إليه، ولكن ليس بالشكل التام مما أشعر جيرانهم بالأسف عموما. فعند وفاة السيد بينيت، سيودعهم السيد كولينز في أحد الأكواخ الكبرى التي تقع ضمن ملكية السيد بينيت حيث يتسنى لهم أن يحصلوا على الرعاية الكنسية من إدارته كما يمكنهم الحصول على قوتهم من بقايا مطبخ السيدة كولينز، ويزيد على ذلك هدايا من الطرائد أو من لحم الخنزير المقدد تقدم إليهم من آن لآخر.
لكن عائلة بينيت تمكنت لحسن حظها من الخروج من هذا المأزق. فبحلول نهاية عام 1799، كانت السيدة بينيت تهنئ نفسها لكونها أما لأربع بنات متزوجات. في حقيقة الأمر فإن زفاف ليديا - وهي الابنة الصغرى وعمرها 16 عاما فقط - لم يكن مبشرا بخير. فقد هربت ليديا مع الملازم جورج ويكهام، وهو ضابط بالقوة العسكرية المتمركزة في ميريتون، وكان من المتوقع لهروبها هذا أن ينتهي - كما تنتهي كل المغامرات من هذا النوع - بهجران ويكهام لها، وطردها من منزلها، ورفض المجتمع لها، وفي النهاية وصمها بأشياء يمنع الاحتشام السيدات من الحديث عنها. لكن الزواج تم على الرغم من ذلك، وأول من أتى بالخبر كان جارا لهم يدعى ويليام جولدنج، وذلك حين كان يمتطي حصانه ومر أمام عربة لونجبورن، فوضعت السيدة ويكهام المتزوجة حديثا يدها على النافذة حتى يتسنى له رؤية الخاتم فيها. وكانت أخت السيد بينيت - وتدعى السيدة فيليبس - حريصة على تمرير روايتها عن هذا الهروب، التي تقول بأن الزوجين كانا في طريقهما إلى جريتنا جرين، لكنهما توقفا وقتا قصيرا في لندن من أجل أن يتمكن ويكهام من إخبار أم له بالمعمودية بزفافه المنتظر، وحين وصل السيد بينيت أثناء بحثه عن ابنته، قبل الزوجان باقتراح الأسرة بأن الزواج يمكن أن يتم في لندن. ولم يصدق أحد هذا التلفيق من جانبها، لكن أقر الجميع بأن براعة السيدة فيليبس في حياكة خيوط تلك القصة كانت تستدعي التظاهر بتصديقها على الأقل. ولم يكن استقبال جورج ويكهام في ميريتون ممكنا إطلاقا بعد هذا بالطبع؛ حتى لا يتسنى له أن يسرق عذرية الخادمات، أو أرباح أصحاب المتاجر، لكن اتفق على أن ليديا إن حلت بينهم زوجة للسيد ويكهام، ينبغي استقبالها بسماحة ورحابة صدر كما كان يفعل معها حين كانت تدعى الآنسة ليديا بينيت.
وكان هناك الكثير من التكهنات حول الكيفية التي تم بها الزواج المتأخر. كانت قيمة تركة السيد بينيت بالكاد تساوي 2000 جنيه في العام، ويرى عموما أن السيد ويكهام كان يمتلك ما يساوي 500 جنيه مع دفع كل فواتيره، وذلك قبل إتمام الزواج. ولا بد أن أخا السيدة بينيت - وهو السيد جاردنر - هو من دبر المال. فقد كان من المعروف عنه أنه رجل طيب القلب، لكنه كانت لديه أسرة يعولها، ولا شك أنه كان يتوقع أن السيد بينيت سيرد إليه المال. وكانت عائلة لوكاس لودج تشعر بالكثير من القلق من أن ميراث صهرهم سيتقلص بسبب هذا العوز، لكن حين لم يتم قطع أي أشجار ولا بيع أي أرض ولا تسريح أي من الخدم، وحين لم يبد الجزار أي نفور من إرسال الطلب الأسبوعي للسيدة بينيت، كان من المفترض أنه لم يكن هناك ما يخشاه السيد كولينز وتشارلوت، وأنه حين يدفن السيد بينيت كما يليق، يمكن للسيد كولينز أن يستحوذ على ملكية لونجبورن وهو واثق تمام الثقة أنها لا تزال على حالها.
لكن الخطبة التي تبعت زواج ليديا بمدة قصيرة - وهي خطبة الآنسة بينيت والسيد بينجلي من نيذرفيلد بارك - لاقت إعجابا كبيرا. فقد كانت غير متوقعة إطلاقا؛ وكان إعجاب السيد بينجلي بجين واضحا منذ أول لقاء بينهما في إحدى الحفلات. وكان حسن الآنسة بينيت ورقتها وتفاؤلها الساذج حيال الطبيعة البشرية، الذي منعها من التحدث بسوء عن أي أحد، قد جعلت منها شابة محبوبة بوجه عام. لكن وفي غضون أيام من إعلان خطبة كبرى بناتها إلى السيد بينجلي، شاعت أخبار انتصار أكبر تحصلت عليه السيدة بينيت وقوبلت تلك الأخبار في البداية بجو من التشكك. ذلك أن الآنسة إليزابيث بينيت كانت ستتزوج من السيد دارسي وهو مالك بيمبرلي، وهو أحد أكبر المنازل في ديربيشاير، وترددت الشائعات أن دخله يساوي 10 آلاف جنيه في العام.
وكان من المعروف بصورة عامة في ميريتون أن الآنسة ليزي كانت تكره السيد دارسي، وكان ذلك الشعور يكنه بوجه عام كل الرجال والنساء الذين حضروا الحفل الأول الذي حضره السيد دارسي بصحبة السيد بينجلي وأختيه، وقد أظهر في ذلك الحفل لكل الحضور من الأدلة ما يكفي على تكبره وازدرائه المتغطرس؛ فقد أوضح تماما أنه لا توجد امرأة ممن يحضرن الحفل تستحق أن تكون شريكة له؛ وذلك رغم تشجيع صديقه السيد بينجلي له على البحث عن إحداهن. وبالفعل حين قدم السير ويليام لوكاس إليزابيث إلى السيد دارسي رفض أن يرقص معها، وقد أخبر السيد بينجلي أنها لم تكن جميلة بما يكفي لتجذبه للرقص معها. ولذا كان من المسلم به أن أي امرأة لن تكون سعيدة حين تتزوج بالسيد دارسي، وذلك كما أشارت ماريا لوكاس قائلة: «من سيرغب في أن يجلس أمام ذلك الوجه البغيض على الإفطار كل يوم لبقية حياته؟»
صفحه نامشخص
لكن لم يكن هناك داع لإلقاء اللوم على الآنسة إليزابيث بينيت لتبني وجهة نظر أكثر حكمة وتفاؤلا. فالمرء لن يحصل على كل ما يبتغيه في الحياة، وأي فتاة شابة في ميريتون على استعداد لأن تتحمل ما هو أكثر من مجرد وجه بغيض على طاولة الإفطار لتتزوج شخصا يتقاضى 10 آلاف جنيه في العام ولتصبح سيدة بيمبرلي. وكانت سيدات مدينة ميريتون - كما يقتضي الواجب - سعيدات لأن يتعاطفن مع المبتلى ويهنئن سعيد الحظ، لكن ينبغي أن يسود الاعتدال في كل شيء، وكان ما ظفرت به الآنسة إليزابيث كبيرا جدا. ورغم أنهن جميعا كن يجمعن على أن الآنسة إليزابيث جميلة بما يكفي، وتتحلى بعينين جميلتين، فإنها لم تكن تمتلك أي شيء آخر يزكيها لرجل يحصل على 10 آلاف جنيه في العام، ولم يمر وقت طويل حتى انتشرت مجموعة من الشائعات المؤثرة في محاولة لتفسير الأمر؛ كانت الآنسة ليزي حريصة على أن تجذب السيد دارسي منذ اللحظة الأولى لأول لقاء بينهما. وحين اتضحت معالم استراتيجيتها، اتفق الجميع على أنها لعبت أوراقها بمهارة كبيرة منذ البداية. وعلى الرغم من أن السيد دارسي رفض أن يراقصها في الحفل؛ فإن عينه كانت تتبعها باستمرار هي وصديقتها تشارلوت التي أصبحت بارعة في تحديد الإشارات التي تدل على الانجذاب المحتمل - وذلك بعد أن قضت سنوات طوالا في محاولة الحصول على زوج لها - وقد حذرت تشارلوت صديقتها إليزابيث من أن تسمح لانجذابها الواضح نحو الملازم جورج ويكهام الوسيم والمحبوب أن يسيء إلى رجل يفوقه منزلة ب 10 أضعاف.
ثم كانت هناك حادثة عشاء خطبة الآنسة بينيت في نيذرفيلد حين أصرت أمها على أن تذهب على صهوة الجواد بدلا من الذهاب في عربة الأسرة، وحينها أصيبت جين بالأنفلونزا، وكما خططت السيدة بينيت، كانت جين مجبرة على البقاء عدة ليال في نيذرفيلد. وقد ذهبت إليزابيث إليها سيرا على الأقدام لتزورها، وقد فرض على الآنسة بينجلي بسبب أخلاقها الحسنة أن تعرض على الزائرة الثقيلة ضيافتها حتى تستعيد الآنسة بينيت عافيتها. ولا بد أن قضاء ما يقرب من أسبوع في صحبة السيد دارسي قد عزز من آمال إليزابيث في تحقيق النجاح، كما أنها لا بد أن تكون قد استغلت مثل هذه الألفة المفروضة أفضل استغلال.
ومن ثم وبإلحاح من صغرى فتيات عائلة بينيت، أقام السيد بينجلي حفلا في نيذرفيلد، وفي تلك المرة رقص السيد دارسي مع إليزابيث. وقد رفعت الوصيفات، الجالسات في كراسيهن المستندة إلى الحائط مناظيرهن ورحن، مثل بقية الحاضرين، يحملقن فيهما بإمعان وهما يشقان طريقهما عبر الصف. ولا شك أن هناك محادثة صغيرة دارت بينهما، لكن حقيقة أن السيد دارسي قد طلب من الآنسة إليزابيث أن ترقص معه، وأنها لم ترفض ذلك كان أمرا مثيرا للاهتمام والتكهنات.
وكانت المرحلة التالية في خطة إليزابيث هي زيارتها إلى السيد والسيدة كولينز في بيت القس في مدينة هانسفورد بصحبة السير ويليام لوكاس وابنته ماريا. كانت تلك دعوة من الطبيعي أن ترفضها الآنسة ليزي. فما هي أوجه المتعة التي يمكن أن تحصل عليها امرأة عاقلة من قضاء ستة أسابيع بصحبة السيد كولينز؟ وكان من المعروف بوجه عام أن الآنسة ليزي كانت اختياره الأول كعروس له قبل أن تقبل به الآنسة لوكاس. ومن ثم كان ينبغي أن تكون الكياسة - وبعيدا عن أي اعتبار آخر - هي السبب في عدم ذهابها إلى هانسفورد. لكنها كانت على علم بأن الليدي كاثرين دي بيرج كانت جارة السيد كولينز وراعيته، وأن ابن أخيها السيد دارسي سيكون في روزينجز بينما يوجد الزوار في بيت القس. أما تشارلوت - التي كانت تطلع أمها على كل تفصيلة من حياتها الزوجية، ويشمل ذلك صحة أبقارها ودواجنها وزوجها - فقد كتبت إلى والدتها تقول إن السيد دارسي وابن عمه الكولونيل فيتزويليام - الذي كان في زيارة إلى روزينجز أيضا - كانا يزوران بيت القس باستمرار أثناء وجود إليزابيث، وأن السيد دارسي ذات مرة جاء إلى بيت القس من دون ابن عمه حين كانت إليزابيث وحدها. وكانت السيدة كولينز واثقة تماما من أن هذا التمييز يؤكد أن السيد دارسي وقع في غرام إليزابيث، وكتبت قائلة إنها تعتقد أن صديقتها سرعان ما ستقبل بأي من الرجلين إذا ما عرضا عليها؛ لكن الآنسة ليزي عادت إلى منزلها من دون الاستقرار على شيء.
لكن في النهاية آلت الأمور إلى مآلها الصحيح حين دعت السيدة جاردنر وزوجها - وهو أخو السيدة بينيت - إليزابيث لتصحبهما في جولة استمتاع صيفية. كان من المفترض أن تكون الرحلة إلى البحيرات، لكن من الواضح أن مسئوليات أعمال السيد جاردنر كانت تملي أن تكون الرحلة أكثر محدودية، وأنهم لن يذهبوا شمالا إلى ما هو أبعد من ديربيشاير. وكانت كيتي - وهي الابنة الرابعة من بنات عائلة بينيت - هي من نقلت تلك الأخبار، لكن لم يصدق أحد في ميريتون تلك الأعذار. فأسرة ثرية كتلك يمكنها أن تسافر من لندن إلى ديربيشاير في إمكانها أيضا أن تطيل رحلتها لتصل إلى البحيرات إذا ما أرادوا ذلك. كان من الواضح أن السيدة جاردنر - باعتبارها شريكا في مخطط ابنة أختها للزواج - قد اختارت ديربيشاير لأن السيد دارسي سيكون في بيمبرلي، وبالفعل كانت عائلة جاردنر وإليزابيث يزوران المنزل حين عاد السيد دارسي، ولا شك أنهم في أثناء ذلك سألوا في الفندق عن موعد وصول سيد منزل بيمبرلي. وكان من الطبيعي - على سبيل المجاملة - أن يتم تقديم عائلة جاردنر ودعوتهم إلى العشاء في بيمبرلي، وإن كان هناك أي شكوك تساور الآنسة إليزابيث حيال حصافة مخططها للإيقاع بالسيد دارسي، فإن أول نظرة منها على بيمبرلي كانت كافية للتأكيد على إصرارها على الوقوع في حبه في أول لحظة مناسبة. ومن ثم فقد عاد السيد دارسي وصديقه السيد بينجلي إلى نيذرفيلد بارك ولم يضيعا وقتا في الذهاب إلى لونجبورن حيث ظفرت الآنسة بينيت والآنسة إليزابيث بالسعادة أخيرا. وكانت الخطبة أقل إمتاعا من خطبة جين، على الرغم من فخامتها. فإليزابيث لم تكن شهيرة من قبل، وكانت سيدات ميريتون الأكثر إدراكا يساورهن الشك أحيانا أن الآنسة ليزي كانت تضحك عليهن سرا. كما اتهمنها أيضا بأنها تهكمية وساخرة، ورغم أنهن لم يكن واثقات تماما من معنى الكلمة، فإنهن كن يعلمن أن تلك الصفة مذمومة في النساء، ذلك أنها صفة لا يحبها الرجال في نسائهن. أما الجيران الذين فاقت غيرتهم مما ظفرت به إليزابيث حدود أي اقتناع بنجاح تلك الزيجة، فكانوا يواسون أنفسهم بأن غرور السيد دارسي وتكبره ولذاعة سخرية زوجته هي أشياء تكفي ليعيشا معا في شقاء وبؤس شديدين لا يمكن أن يعوض عنهما الحصول على بيمبرلي وعلى 10 آلاف جنيه كل عام.
وبالسماح لتلك الرسميات التي لا تكون الأعراس الكبرى وجيهة إلا بها - مثل رسم الصور، وانشغال المحامين، وشراء عربات وأزياء الزفاف الجديدة - زفت الآنسة بينيت على السيد بينجلي والآنسة إليزابيث على السيد دارسي في اليوم نفسه في كنيسة لونجبورن مع القليل من التأخير المفاجئ. كان اليوم سيغدو أفضل أيام حياة السيدة بينيت لو أنها لم تصبها نوبات زيادة سرعة نبضات القلب أثناء القداس، والسبب في ذلك كان خوفها من أن عمة السيد دارسي الشديدة البأس - وهي الليدي كاثرين دي بيرج - قد تظهر على باب الكنيسة لتمنع إتمام الزيجة، ولم تتمكن من أن تهنأ بما ظفرت به حتى تليت المباركة النهائية.
ومن غير المؤكد ما إذا كانت السيدة بينيت تفتقد صحبة ابنتها الثانية، لكن لا شك أن زوجها فعل. فلطالما كانت إليزابيث هي ابنته المفضلة. فقد ورثت ذكاءه وشيئا من خفة ظله واستمتاعه بنقائص جيرانهم وتناقضاتهم، وكان منزل لونجبورن يبدو موحشا أكثر وأقل عقلانية من دونها. وكان السيد بينيت رجلا ذكيا يحب القراءة وتشكل مكتبته ملاذا له ومصدرا لأسعد أوقاته. وسرعان ما وصل هو ودارسي إلى استنتاج أنهما أحبا أحدهما الآخر، وبعدئذ - وكما هو شائع بين الأصدقاء - تقبل كل منهما السمات الشخصية المختلفة للآخر كدليل على تفوقه الفكري. وكانت زيارات السيد بينيت إلى بيمبرلي - التي كان يقوم بها حين لا يكون من المتوقع منه ذلك - غالبا ما تقتصر على وجوده في غرفة المكتبة، التي كانت إحدى أفضل المكتبات الخاصة، وكان إخراجه منها صعبا حتى ولو كان من أجل تناول الطعام. وكانت زيارته لعائلة بينجلي في هايمارتن أقل وتيرة؛ حيث لم يكن هناك الكثير من الكتب والدوريات الجديدة لإغرائه؛ وذلك بعيدا عن انشغال جين المفرط براحة زوجها ورفاهيته، حيث كان السيد بينيت أحيانا ما يجد ذلك مضجرا. كان المصدر الأصلي لأموال السيد بينجلي هو التجارة. فهو لم يرث مكتبة عن الأسرة ولم يفكر في إنشاء واحدة إلا بعد أن اشترى منزل هايمارتن. وفي ذلك المشروع كان يسعد دارسي والسيد بينيت أن يقدما يد العون. فهناك القليل من الأنشطة التي تكون مقبولة جدا مثل إنفاق أموال صديقك فيما فيه رضاك ومنفعته ، وإن كان المشترون يشعرون بالإغراء بصفة دورية نحو التبذير في الإنفاق، فقد كانوا يجدون لأنفسهم عزاء في فكرة أن بينجلي يستطيع تحمل تلك التكاليف. وبالرغم من أن أرفف المكتبة - التي كانت مصممة وفقا لمواصفات وضعها دارسي ووافق عليها السيد بينيت - لم تكن قد امتلأت بأي شكل من الأشكال بعد، إلا أن بينجلي كان يفتخر بالترتيب الأنيق للكتب وبالجلد اللامع للكتب، بل وأحيانا كان يفتح كتابا منها، وشوهد وهو يقرأ حين لا يكون الموسم أو الطقس ملائما لصيد الطرائد أو صيد السمك أو الرماية.
ولم يصحب السيد بينيت زوجته إلى بيمبرلي إلا في مناسبتين اثنتين فقط. وقد استقبلها السيد دارسي بالترحاب والكرم، لكنها كانت تخشى زوج ابنتها كثيرا، فلم ترغب في تكرار التجربة. وبالفعل شكت إليزابيث أن أمها كانت تستمتع أكثر بإبهاج جيرانها بعجائب بيمبرلي وبحجم الحدائق وجمالها، وبعظمة المنزل وفخامته، وعدد الخدم وروعة طاولة الطعام أكثر مما تستمتع هي نفسها بهم. ولم يكن السيد بينيت ولا زوجته يترددان كثيرا على زيارة أحفادهما. فمسألة أن يولد لهما خمس بنات في تتابع سريع لم تخلف لديهما إلا ذكرى حية عن النوم المتقطع في الليل وصراخ الأطفال وكبيرة ممرضات كثيرة الشكوى، وعن تمرد خادمات الحضانة. وكان الفحص الأولي الذي يجرى بعد ولادة كل حفيد لهما بوقت قصير يؤكد زعم الوالدين أن الطفل جميل للغاية، ويظهر بالفعل قدرا كبيرا من الذكاء، وبعد ذلك كانا يقنعان بتسلم تقارير مرحلية منتظمة.
وفي حفلة نيذرفيلد أعلنت السيدة بينيت - مما أزعج ابنتيها الكبيرتين كثيرا - أنها كانت تتوقع أن زفاف ابنتها جين على السيد بينجلي سيفتح الباب أمام بناتها الأصغر للزواج برجال أثرياء، ومما أدهش الجميع أن ماري كانت هي من حققت تلك النبوءة الأمومية الطبيعية. فلم يكن هناك أحد يتوقع أن تتزوج ماري. كانت ماري مدمنة على القراءة لكن من دون تمييز أو فهم، وكانت مواظبة على عزف البيانو، لكنها كانت لا تتمتع بالموهبة، وتتحدث دوما بكلام مبتذل يفتقر إلى الحكمة والفطنة. ومما لا شك فيه أنها لم تكن تبدي أي اهتمام بالرجال. وكانت الحفلات بالنسبة إليها كفارة تتحملها فقط؛ لأنها تمثل فرصة لها لتحتل مركز الصدارة في عزف البيانو وتذهل الجمهور حد الخضوع عن طريق الدوس بحكمة على إحدى دواسات البيانو. لكن وفي غضون عامين من زواج جين، كانت ماري زوجة للقس ثيودور هوبكنز وهو رئيس الأبرشية المتاخمة لهايمارتن.
كان قس هايمارتن متوعكا، وتولى السيد هوبكنز أمر القداس لثلاثة أسابيع. كان رجلا نحيلا وسوداويا يبلغ من العمر 35 عاما، وذلك بالنظر إلى عظاته التي تتميز بإسهاب مفرط ونظريات لاهوتية معقدة، ومن ثم فقد اكتسب بطبيعة الحال سمعة كونه رجلا ماهرا، ورغم أنه يكاد يوصف بالثراء، فإنه كان يتمتع بدخل خاص أكثر من كاف، وذلك بالإضافة إلى راتبه. وفي أحد الأيام التي كان يقدم فيها عظاته، كانت ماري قد حلت ضيفة على هايمارتن وقد قدمتها أختها له عند باب الكنيسة بعد القداس، وسرعان ما أعجب بها بسبب إطرائها على كلامه، وإقرارها بتفسيره الذي استخرجه من النص وإشاراتها المتكررة إلى أهمية عظات فوردايس؛ مما جعل جين تدعوه إلى العشاء في اليوم التالي، وذلك بسبب تلهفها على تناول غداء يوم الأحد مع زوجها، الذي يتكون من اللحوم الباردة والسلطة. وتبعت تلك الدعوة دعوات أخرى، وفي غضون ثلاثة أشهر أصبحت ماري السيدة ثيودور هوبكنز، وكان اهتمام العامة بأمر زواجها محدودا، وقد دل على ذلك عدد الأشخاص الذين حضروا مراسم زفافها.
صفحه نامشخص
وكانت إحدى المميزات التي حظيت بها الأبرشية أن الطعام في مقر القس قد تحسن بصورة كبيرة. كانت السيدة بينيت قد ربت بناتها على تقدير أهمية طاولة طعام جيدة في تعزيز التناغم الأسري، وجذب الذكور من الزوار. وكان الجمع في عظاته يأمل أن تتسبب رغبة القس في العودة سريعا إلى حياته الزوجية السعيدة في تقصير مدة موعظته، لكن على الرغم من أنه أصبح بدينا أكثر، فإن عظاته الطويلة ظلت على حالها. وكان الزوجان قد استقرا معا في اتفاق مثالي، عدا في البداية حين طالبت ماري بأن يكون لها غرفة كتب خاصة بها يمكن لها أن تقرأ فيها بسلام. وقد حصلت على ذلك بتحويل غرفة النوم الإضافية الوحيدة؛ لتفي بغرضها، وفي ذلك ميزة تعزيز الوئام الأسري بينما كان من المستحيل عليهما دعوة أقاربهما للمكوث لديهما.
وبحلول خريف عام 1803، كانت السيدة بينجلي والسيدة دارسي تحتفلان بمرور ست سنوات على الزواج السعيد لكل منهما، لم تنجب السيدة بينيت سوى ابنة اسمها كيتي ولم تجد لها أي زوج. ولم تكن السيدة بينيت أو كيتي قلقتين كثيرا بشأن الفشل في الزواج. فقد كانت كيتي تستمتع بحظوة وتدليل لكونها الابنة الوحيدة في المنزل، وبزياراتها الكثيرة لجين - حيث كانت مفضلة كثيرا لدى الأطفال - كانت تستمتع بحياة لم تكن مريحة بهذا الشكل من قبل. وكانت زيارات ويكهام وليديا هي بالكاد دعاية للزواج. فكانا يصلان في صخب من روح الدعابة فتستقبلهما السيدة بينيت بسخاء؛ ذلك أنها كانت تفرح دوما برؤية ابنتها المفضلة. لكن تلك الرغبة الحسنة المبدئية سرعان ما تحولت إلى مشاجرات واتهامات وشكاوى حادة من الزوار عن فقرهما وشح إليزابيث وجين في دعمهما المادي، حتى إن السيدة بينيت أصبحت تفرح بمغادرتهما كما تفرح بقدومهما في زيارتهما التالية. لكنها كانت بحاجة إلى ابنة لها في المنزل، وكانت كيتي تبلي بلاء حسنا؛ فقد تحسنت كثيرا فيما يتعلق بأنسها والمنفعة منها منذ رحيل ليديا. ومن ثم بحلول عام 1803، كان من الممكن اعتبار السيدة بينيت امرأة سعيدة بقدر ما سمحت به طبيعتها، بل وعرف عنها أنها تجلس على العشاء إلى طاولة طعام تتكون من أربعة أطباق في حضور السير ويليام والليدي لوكاس من دون أن تشير مرة إلى جور تقسيم التركة.
الجزء الأول
اليوم السابق للحفل الراقص
الفصل الأول
في الساعة الحادية عشرة من يوم الجمعة الموافق الرابع عشر من شهر أكتوبر لعام 1803، جلست إليزابيث دارسي إلى الطاولة في غرفة الجلوس في الطابق الأول من منزل بيمبرلي. لم تكن الغرفة كبيرة لكنها كانت جيدة بما يكفي، وكانت نافذتاها تطلان على النهر. كانت تلك هي الغرفة التي اختارتها إليزابيث لاستخدامها الخاص، وكانت مجهزة بكل ما أرادت من أثاث وستائر وسجاد وصور اختارتها من ثروات بيمبرلي ونظمتها على النحو الذي رغبت فيه. وكان دارسي نفسه يشرف على العمل، وقد أدركت من خلال نظرة السرور على وجه زوجها واهتمام الجميع بإطاعة رغباتها، المميزات التي تتمتع بها السيدة دارسي سيدة منزل بيمبرلي، وكان ذلك مدعاة للفخر أكثر حتى من تألق المنزل الذي يدعو إلى التفاخر كثيرا.
وكانت الغرفة التي تبهجها بقدر ما تبهجها غرفة الجلوس هي غرفة المكتبة بمنزل بيمبرلي. كانت تلك المكتبة نتاج عمل أجيال، والآن أصبح زوجها يستمتع ببهجة الإضافة إلى كنوزها. وكانت المكتبة في لونجبورن هي ملكية للسيد بينيت فقط، ولم تكن إليزابيث - وهي ابنته المفضلة - تدخلها إلا بدعوة منه. وكانت المكتبة في بيمبرلي مفتوحة لها كما كانت مفتوحة لدارسي، وبهذا التشجيع اللبق الرقيق تعمقت هي في القراءة كثيرا واستمتعت وفهمت في آخر ست سنوات أكثر مما فعلت في السنوات الخمس عشرة السابقة، فازدادت علما، فهمت الآن بأنه لم يكن سوى بدائي. ولم تكن حفلات العشاء في بيمبرلي أكثر اختلافا من الحفلات التي حضرتها في ميريتون حين تنشر المجموعة نفسها من الناس الشائعات نفسها، ويتبادلون وجهات النظر نفسها، ولم تكن تلك الحفلات لتصبح مفعمة بالحيوية إلا حين يتحدث السير ويليام لوكاس بإسهاب عن تفاصيل رائعة من منصبه في محكمة سانت جيمس. والآن كانت إليزابيث دائما ما تندم على لفت عيون السيدات وتترك الرجال وشئونهم الذكورية. لقد تكشف لإليزابيث أن هناك رجالا يقدرون صفة الذكاء في النساء.
كان اليوم هو السابق لحفل الليدي آن. وعلى مدار الساعة الأخيرة المنصرمة، كانت إليزابيث ومدبرة المنزل السيدة رينولدز تتأكدان من أن الترتيبات والتجهيزات تتم بشكل مناسب حتى تلك اللحظة وأن كل شيء يسير بسلاسة، والآن كانت وحدها إليزابيث. كانت الحفلة الأولى قد أقيمت حين كان دارسي يبلغ من العمر عاما واحدا. وكانت الحفلة تقام للاحتفال بيوم ميلاد أمه - وهي حفلة تقام في كل عام - عدا في فترة الحداد على زوجها حين توفي، وذلك حتى وفاة الليدي آن نفسها. وحيث إنها كانت تقام في يوم السبت الأول بعد اكتمال قمر شهر أكتوبر، فإنها كانت تقام في غضون أيام من ذكرى زواج دارسي وإليزابيث السنوية، لكنهما كانا يخططان دوما لتمضية ذكرى زواجهما في هدوء مع بينجلي - الذي تزوج في اليوم نفسه - وكانا يشعران بأن تلك المناسبة أكثر حميمية وقيمة من أن يحتفلا بها مع العامة، وكانت حفلة الخريف - نزولا على رغبة إليزابيث - لا تزال تسمى على اسم الليدي آن. وكانت المقاطعة ترى أن تلك الحفلة هي الحدث الاجتماعي الأهم خلال العام. وقد أعلن السيد دارسي عن قلقه بأن هذا العام قد لا يكون مناسبا لتقام فيه الحفلة؛ حيث أعلنت بالفعل الحرب المتوقعة مع فرنسا إضافة إلى الخوف المتنامي في جنوب البلاد حيث كانوا يتوقعون أن يغير عليهم بونابرت في أي يوم. كما أن الحصاد كان ضعيفا دون المستوى، مع كل ما يعنيه هذا بالنسبة إلى حياة الريف. وكانت هناك مجموعة من الرجال الذين يميلون للاتفاق على أنه لا ينبغي أن يقام حفل هذا العام وذلك لشعورهم بالقلق بعد النظر في دفاتر حساباتهم، لكن رأيهم هذا قوبل بالغضب من زوجاتهم وبيقين أنهم سيواجهون مزاجا نكدا منهن لمدة شهرين على الأقل، فاتفقوا في النهاية على أنه لا شيء ملائم لرفع الروح المعنوية أكثر من حدث ترفيهي صغير وغير ضار، وأن باريس ستفرح كثيرا وسيذوب قلبها إذا ما عرفت تلك المدينة المظلمة بظلام الجهل أن حفل بيمبرلي الراقص قد ألغي.
أحداث الترفيه واللهو الموسمية في حياة الريف لا تكون كثيرة ولا مغرية بالقدر الذي يجعل من أحد الالتزامات الاجتماعية لدى إحدى العائلات الكبيرة مسألة عدم اكتراث بالنسبة إلى الجيران الذين يحققون الاستفادة من تلك الفعاليات، كما أن زواج السيد دارسي - بمجرد أن تزول روعة اختياره لزوجته - كان يبشر على الأقل بأنه سيوجد في منزله بشكل أكبر من ذي قبل؛ وكان ذلك يعزز آمال أن تعرف زوجته الجديدة مسئولياتها. وحين عادت إليزابيث ودارسي من رحلة زواجهما - التي كانت إلى إيطاليا - كان عليهما أن تتحملا تلك الزيارات الرسمية المعتادة والتهاني المألوفة والأحاديث الصغيرة بكياسة، بقدر ما يمكنهما. وبعلم دارسي منذ صغره أن بيمبرلي تمنح مكاسب أكثر مما تتلقى، فقد تحمل تلك اللقاءات برباطة جأش جديرة بالإجلال، ووجدت فيهم إليزابيث مصدرا سريا للتسلية حيث كان جيرانها يجاهدون ليرضوا فضولهم فيما يحافظون في الوقت نفسه على سمعتهم بأنهم يتمتعون بالأدب. وكان الزوار يحصلون على متعة مضاعفة، وهي استمتاعهم بقضاء نصف الساعة في فخامة وأبهة غرفة صالون السيدة دارسي قبل أن ينخرطوا مع جيرانهم فيما بعد في محاولة الوصول إلى حكم بشأن فستان العروس وجدارتها وملاءمتها، وفرصة الزوجين في العيش في سعادة. وفي غضون شهر تم التوصل إلى اتفاق جامع، وهو أن الرجال كانوا معجبين بجمال إليزابيث وفطنتها، وكانت نساؤهم معجبات بأناقتها وظرفها وبجودة المرطبات التي تقدم لهم. وتم الاتفاق على أن منزل بيمبرلي الآن استبشر خيرا بأنها ستحتل مكانتها المستحقة في الحياة الاجتماعية للمقاطعة كما حدث في أيام الليدي آن دارسي؛ وذلك بالرغم من الهوية السابقة غير الملائمة للسيدة الجديدة.
وكانت إليزابيث واقعية جدا بحيث كانت تعلم أن تلك السوابق لم تذهب طي النسيان، وأن أي أسرة جديدة لا يمكن أن تنتقل إلى الحي من دون أن تبتهج إعجابا باختيار السيد دارسي لعروسه. كان المعروف عن الرجل أنه ذو كبرياء، وتحتل لديه تقاليد العائلة وسمعتها المكانة العليا، كما أن أباه رفع من شأن العائلة اجتماعيا من خلال الزواج بابنة إيرل من طبقة النبلاء. وقد بدا أن أي امرأة لا تعد جديرة بأن تصبح زوجة السيد فيتزويليام دارسي، إلا أنه اختار الابنة الثانية لرجل كانت أملاكه - التي كانت مقيدة بوصية تحرم أبناءه الكثير منها - كانت أكبر بقليل من حدائق بيمبرلي الترفيهية، وهي امرأة شابة يشاع أن ثروتها لم تكن سوى 500 جنيه فقط، ولها أختان غير متزوجتين وأم سوقية ثرثارة بحيث لا تصلح للعيش في المجتمعات الراقية. والأسوأ من ذلك أن إحدى الفتيات اللائي يصغرنها تزوجت من جورج ويكهام - وهو الابن الذميم لرجل كان يعمل مدير أعمال لدى السيد دارسي - في ظل ظروف يملي الأدب عدم الخوض فيها والتحدث بشأنها إلا همسا، وبهذا أثقلت السيد دارسي وعائلته برجل مكروه بشدة بينهم حتى إن اسم ويكهام لم يكن يذكر قط في منزل بيمبرلي، وتم إبعاد الزوجين تماما عن المنزل. وعلى نحو لا يمكن إنكاره، كانت إليزابيث نفسها تتمتع بالرقي وقد اتفق حتى المشككون بشأنها أنها كانت جميلة بما يكفي، وتتحلى بعينين رائعتين، لكن الزيجة كانت لا تزال مصدر تعجب واستياء من قبل عدد من الشابات اليافعات اللائي رفضن - عملا بنصيحة أمهاتهن - أن يوافقن على عدة عروض زواج لا بأس بها ليكن متاحات أمام الجائزة المتألقة، وأصبحن الآن يقتربن من عمر الثلاثين الخطر من دون أن تكون هناك فرصة لائحة في الأفق. وسط كل ذلك كانت إليزابيث قادرة على أن تعزي نفسها بتذكر ردها على الليدي كاثرين دي بيرج حين أشارت تلك الأخت الغاضبة لليدي آن إلى السلبيات التي ستلحق بإليزابيث إن كانت متعجرفة بما يكفي لتحمل لقب السيدة دارسي. «تلك بلايا ثقيلة، لكن لا بد لزوجة السيد دارسي أن تتحلى بمصادر غير عادية للسعادة التي تكون مرتبطة بالضرورة بموقفها بأنها ليس لديها، على العموم، أسباب للتبرم.»
صفحه نامشخص
وكان الحفل الأول لإليزابيث كمضيفة، الذي وقفت فيه مع زوجها على قمة الدرج لتحية الضيوف القادمين يمثل اختبارا من نوع ما، لكنها تخطت تلك المناسبة منتصرة. كانت تحب الرقص كثيرا، ويمكنها الآن أن تقول بأنها استمتعت بالحفل بقدر ما استمتع به الضيوف. وكانت الليدي آن قد وضعت بخط يدها الأنيق خطة الحفل بدقة وعناية، وكان دفترها لا يزال مستخدما - بغلافه الجلدي الراقي المختوم بشعار دارسي - وفي ذلك الصباح كان مفتوحا أمام إليزابيث والسيدة رينولدز. وكانت قائمة الضيوف لا تزال كما هي في الأساس لكن تمت إضافة أسماء أصدقاء دارسي وإليزابيث، بما في ذلك عمتها وعمها - من عائلة جاردنر - فيما كان حضور بينجلي وجين أمرا مفروغا منه، وفي ذلك العام، مثل العام الماضي، كان حضور ضيفهم هنري ألفيستون - وهو محام يافع ووسيم ومفعم بالحيوية - مرحبا به في منزل بيمبرلي كما كان مرحبا به في منزل هايمارتن.
ولم تكن إليزابيث قلقة بشأن نجاح الحفل. حيث كانت تعلم أن كل التحضيرات قد جرت. فقد تم تقطيع الحطب بكميات كافية لضمان إبقاء النار مشتعلة، خاصة في قاعة الرقص. وسينتظر طاهي المعجنات حتى الصباح ليعد الفطائر الرقيقة والمتبلة التي تستمتع بها النساء كثيرا، في حين تم ذبح الطيور والحيوانات وعلقت لتقديم الوجبة الأكثر أهمية التي ينتظرها الرجال. كما تم إحضار النبيذ بالفعل من الأقبية وطحن اللوز لصنع الحساء الأبيض بكميات كافية. وسيتم إضافة مشروب النيجوس في آخر لحظة، الذي سيحسن من مذاق الحساء كثيرا وسيزيد مفعوله وسيسهم بصورة كبيرة في إضفاء البهجة على الحفل. وتم اختيار الأزهار والورود من الصوبات وهي جاهزة ليتم وضعها في دلاء في المستنبت الزجاجي لأجل أن تشرف كل من إليزابيث وجورجيانا - وهي أخت دارسي - على تنسيقها في ظهيرة اليوم التالي؛ وكان توماس بيدويل - الذي يسكن في كوخ في الغابة - يجلس الآن في غرفة المؤن يلمع العشرات من الشمعدانات التي ستكون مطلوبة في غرفة الرقص والمستنبت الزجاجي وغرفة الجلوس الصغيرة المحجوزة للنسوة من الضيوف. كان بيدويل هو كبير سائقي عربات السيد دارسي الراحل، كما كان والده يعمل بالوظيفة نفسها لدى السيد دارسي الأسبق. والآن وبسبب داء التهاب المفاصل في كلتا ركبتيه وظهره أصبح من المستحيل عليه أن يعمل مع الجياد، لكن يديه كانتا لا تزالان قويتين وكان يمضي كل مساء من الأسبوع السابق للحفل في تلميع الفضة والمساعدة في نفض الغبار عن الكراسي الإضافية المطلوبة لأجل جلوس المرافقين فكان وجوده لا غنى عنه. فغدا ستتجمع عربات الإقطاعيين والعربات المستأجرة للضيوف الأقل شأنا في الممر لينزل منها ركابها الثرثارون بملابسهم المصنوعة من الأنسجة القطنية وأغطية رءوسهم المتألقة ومعاطفهم التي تقيهم برد الخريف، وهم متحمسون مرة أخرى لملذات حفل الليدي آن.
وفي كل التحضيرات كانت السيدة رينولدز مساعدة موثوقة لإليزابيث. وقد التقتها إليزابيث أول مرة حين زارت بيمبرلي - بصحبة عمها وعمتها - واستقبلتها مدبرة المنزل واصطحبتها في جولة، وكانت مدبرة المنزل تعرف السيد دارسي منذ كان صبيا وقد أسرفت في مدحه، كسيد لها وكرجل بصورة عامة، حتى إن إليزابيث كانت تتساءل للمرة الأولى ما إن كان في تحيزها ضده ظلم له. ولم تتحدث إليزابيث قط عن الماضي إلى السيدة رينولدز، لكنها ومدبرة المنزل أصبحتا صديقتين وأصبحت السيدة رينولدز - من خلال تقديم المساعدة ببراعة - مصدر عون لا غنى عنه بالنسبة إلى إليزابيث التي أدركت حتى من قبل وصولها الأول إلى منزل بيمبرلي كعروس أن كونها سيدة منزل كهذا - أي أن تكون مسئولة عن هذا العدد الكبير من الموظفين - سيكون أمرا مختلفا تماما عن مهمة والدتها في إدارة شئون منزل لونجبورن. لكن طيبتها واهتمامها بحياة خدمها رسخت يقينا في نفوسهم بأن سيدتهم الجديدة تهتم لخيرهم وصالحهم، وكان كل شيء يسير بشكل أسهل مما توقعت هي، بل وفي الواقع كانت الأمور تسير بمجهود أقل من المجهود المبذول لإدارة منزل لونجبورن؛ ذلك أن الخدم في منزل بيمبرلي - الذين كان غالبيتهم يخدمون منذ مدة طويلة - كانوا قد تدربوا على يد السيدة رينولدز وستاوتون كبير الخدم على العرف الذي يتعين الالتزام به وهو عدم إزعاج العائلة وضمان حصولها على خدمة جيدة للغاية.
شعرت إليزابيث بأنها تفتقد حياتها السابقة، لكن أفكارها في معظم الأحيان كانت تتجه نحو الخدم في لونجبورن؛ هيل مدبرة المنزل التي كانت كاتمة جميع أسرارهم - بما في ذلك فرار ليديا الشائن - ورايت الطباخ الذي لم يكن يشتكي من طلبات السيدة بينيت غير المنطقية إلى حد ما، والخادمتين اللتين كانتا - إلى جانب عملهما - وصيفتين لها ولجين، فكانتا تصففان لهما شعريهما قبل الحفلات. لقد أصبح أولئك الخدم جزءا من العائلة على نحو يتعذر على الخدم في منزل بيمبرلي أن يكونوا عليه، لكن إليزابيث كانت تعلم أن منزل بيمبرلي نفسه - متمثلا في المنزل نفسه وفي عائلة دارسي - هو الذي كان يجمع العائلة بالخدم والمستأجرين في علاقة ولاء متبادل. وكان الكثيرون من الخدم هم أبناء وأحفاد السابقين من الخدم، وكان المنزل وتاريخه يجريان في دمائهم. وكانت إليزابيث تعلم أيضا أن مولد الصبيين الجميلين اللذين يتمتعان بالصحة في غرفة نوم الأطفال بالطابق العلوي - وهما فيتزويليام الذي تقارب سنه الخامسة، وتشارلز وعمره عامان فقط - هما آخر ما تظفر به، فهما يمثلان ضمانا بأن العائلة وإرثها سيستمران في توفير العمل للخدم وأطفالهم وأحفادهم وأن وجود عائلة دارسي في منزل بيمبرلي مستمر.
وقبل نحو ستة أعوام قالت السيدة رينولدز لإليزابيث وهي تتداول قائمتي الضيوف والطعام والأزهار من أجل حفل عشاء إليزابيث الأول: «كان يوما سعيدا لنا جميعا يا سيدتي، حين أحضر السيد دارسي عروسه إلى المنزل. كان ذلك هو أكثر ما تتمنى سيدتي، وهو أن تعيش لترى ابنها متزوجا. لكن للأسف، لم يكن مقدرا لها ذلك. كنت أعلم كم كانت تتوق لأن يكون سيدي هانئا مستقرا، وذلك من أجل صالحه هو وصالح منزل بيمبرلي.»
وقد تغلب فضول إليزابيث على حذرها. فقالت بطريقة طائشة ومن دون أن ترفع نظرها وهي مشغولة في نقل الأوراق على مكتبها: «لكن ربما ليس بهذه الزوجة. ألم تستقر السيدة آن دارسي وأختها على أن يتم تزويج السيد دارسي بالآنسة دي بيرج؟» «لا أقول يا سيدتي إن الليدي كاثرين لم تكن تفكر في مثل هذه الخطة. فقد كانت تحضر الآنسة دي بيرج إلى منزل بيمبرلي كثيرا حين يكون السيد دارسي موجودا هنا. لكن ذلك الزواج لم يكن ليحدث قط. فقد كانت الآنسة دي بيرج المسكينة مريضة باستمرار، وكانت الليدي آن تولي اهتماما كبيرا إلى ضرورة أن تتمتع العروس بالصحة. وقد سمعنا أن الليدي كاثرين كانت تأمل أن يتقدم الكولونيل فيتزويليام - وهو ابن العم الثاني للآنسة دي بيرج - للزواج منها، لكن ذلك لم يحدث.»
وبعد أن عادت بوعيها إلى الوضع الراهن، دست إليزابيث دفتر الليدي آن في الدرج، وكانت مكرهة على أن تترك أجواء الهدوء والعزلة التي انقطع أملها في أن تستمتع بها من ذاك الوقت حتى نهاية الحفل، ثم سارت نحو إحدى النافذتين اللتين كانتا تطلان على الطريق أمام المنزل والنهر، وكان ذلك الطريق مزدانا بأشجار منزل بيمبرلي الشهيرة . وقد زرعت تلك الأشجار تحت إشراف بستاني بارز في مجال تنسيق الحدائق قبل عدة أجيال. وكانت كل شجرة على حافة الطريق مثالية في شكلها ومعلقا عليها رايات الخريف ذات اللون الذهبي وتقف على مسافة من الأخرى، وكأنها تؤكد على تفرد جمالها، وكانت كثافة الأشجار تزداد كلما اتجهت الأعين صوب جوف الطريق الذي تفوح منه رائحة الطين. وكانت هناك مجموعة أخرى من الأشجار لكنها أكبر حجما، باتجاه الشمال الغربي، وقد نمت تلك الأشجار بشكل طبيعي وكانت مكانا يلعب فيه دارسي أثناء صغره وملاذا سريا له من الحضانة. وقد بنى جده الأكبر بعد أن ورث التركة - وأصبح ناسكا منعزلا - كوخا هناك وسط تلك الأشجار وأطلق فيها النار على نفسه، وأصبحت تلك الأشجار - التي أطلق عليها الغابة من أجل التفريق بينها وبين الحديقة الشجرية الأولى - تبث في نفوس الخدم والمستأجرين في منزل بيمبرلي شعورا خرافيا بالخوف، وكان من النادر أن يزورها أحد. وفي تلك الغابة كان هناك طريق ضيق يمر عبرها ويؤدي إلى مدخل آخر إلى منزل بيمبرلي، لكن ذلك الطريق كان يستخدمه في الأساس التجار، ويسلك ضيوف الحفل الطريق الرئيسي، وتمكث جيادهم وعرباتهم في الإسطبل بينما يستضاف سائقوهم في المطبخ حين يكون الحفل جاريا.
وقفت إليزابيث طويلا أمام النافذة ونحت جانبا كل الشواغل التي تساورها، وأرخت عينيها على ذلك الجمال المألوف الهادئ الذي كان يتسم أيضا بدوام التغير. كانت الشمس تسطع في السماء بلون أزرق بهي تتناثر فيها عدة سحب خفيفة، وكأنها خيوط من دخان. وكانت إليزابيث تعرف من خلال النزهة القصيرة التي كانت تقوم بها وزوجها في بداية كل يوم أن سطوع شمس الشتاء خادع، وكان النسيم البارد يعيدهما سريعا إلى المنزل حيث لا تكون مستعدة له. والآن رأت إليزابيث أن الرياح كانت تشتد. وكان سطح ماء النهر مجعدا بأمواج صغيرة راحت تتخلل العشب والشجيرات التي تحد مجرى النهر، وكانت الظلال المتقطعة للعشب والشجيرات تهتز على سطح الماء المضطرب.
ورأت إليزابيث أن هناك اثنين من الأشخاص يتنسمان هواء الصباح البارد؛ كانت جورجيانا والكولونيل فيتزويليام يسيران بجوار النهر، وكانا الآن يلتفتان نحو الأشجار والدرجات الحجرية التي تؤدي إلى المنزل. كان الكولونيل فيتزويليام يرتدي زيه الرسمي، فكانت سترته الحمراء تشكل دفقة من لون زاه في مقابل معطف جورجيانا ذي اللون الأزرق الخافت. وكانا يسيران وبينهما مسافة صغيرة، لكن إليزابيث رأت أنهما يسيران أحدهما برفقة الآخر، وكانا يتوقفان بين الحين والآخر بينما تمسك جورجيانا بقبعتها المهددة بأن يجرفها الهواء بعيدا. وبينما كانا يقتربان، انسحبت إليزابيث من أمام النافذة وعادت إلى مكتبها، وكانت متوترة بسبب أنها ترى أنه ينبغي ألا يساورهما الشعور بأن ثمة شخصا يتجسس عليهما. كانت هناك خطابات ينبغي كتابتها، ودعوات يتعين الرد عليها، وقرارات يجب أن تتخذها بشأن ساكني الأكواخ الواقعين تحت وطأة الفقر والأسى الذين سيرحبون بزيارة منها تعبر فيها عن تعاطفها معهم أو ربما تقدم لهم فيها مساعدة عملية.
وما كادت تمسك بقلمها حتى سمعت طرقا خفيفا على الباب حيث عادت السيدة رينولدز. «عذرا سيدتي على إزعاجك، لكن الكولونيل فيتزويليام عاد لتوه من نزهة وسأل إن كان بإمكانك أن تقابليه لبضع دقائق، إن لم يكن في هذا إزعاج كبير لك.»
صفحه نامشخص
قالت إليزابيث: «لست مشغولة الآن، إن كان يريد أن يأتي.»
ظنت إليزابيث أنها تعرف ما يريد أن يتحدث بشأنه، وأن هذا سيكون مزعجا لها وأنها كانت لتسعد كثيرا لو استطاعت تجنبه. كان لدارسي عدد قليل فقط من العلاقات الوثيقة، ومنذ الصبا وقريبه الكولونيل فيتزويليام يزوره باستمرار في بيمبرلي. وخلال بداية حياته المهنية في الجيش لم يكن يأتي للزيارة كثيرا، لكن خلال الثمانية عشر شهرا المنصرمة أصبحت زياراته أقصر في المدة، لكن أكثر تواترا، ولاحظت إليزابيث أن هناك فرقا - ضعيفا لكن لا لبس فيه - في تصرفاته نحو جورجيانا، فكان يبتسم أكثر حين تكون حاضرة ويظهر استعدادا أكبر من ذي قبل ليجلس إلى جانبها حين يمكنه ذلك، ويدخل معها في محادثة. ومنذ زيارته العام الماضي لحضور حفل الليدي آن أصبح هناك تغيير حقيقي في حياته. كان أخوه الأكبر - وهو وريث الإيرلية - قد توفي خارج البلاد، وورث هو الآن لقب الفيكونت هارتلب وأصبح هو الوريث الشرعي. وكان يفضل ألا يستخدم لقبه الحالي خاصة حين يكون بين أصدقائه، وقرر أن ينتظر حتى ينجح قبل أن يضطلع بلقبه الجديد وبالمسئوليات العديدة التي تأتي معه، وكان لا يزال معروفا بوجه عام باسم الكولونيل فيتزويليام.
بالطبع سيريد الكولونيل فيتزويليام أن يتزوج، خاصة الآن حيث إن إنجلترا في حالة حرب مع فرنسا، وربما يلقى هو حتفه من دون أن يترك وريثا. ورغم أن إليزابيث لم تشغل بالها قط بشجرة العائلة، فإنها كانت تعلم أنه لا يوجد له قريب ذكر، وأن الكولونيل إذا مات من دون أن يترك طفلا ذكرا فإن الإيرلية ستزول عنه. وكانت تتساءل - ولم يكن ذلك للمرة الأولى - ما إن كان يبحث عن زوجة له في بيمبرلي، وإن كان يفعل، فكيف سيتصرف دارسي تجاه ذلك. لا بد أن يكون مقبولا له أن أخته ستكون كونتيسة، وأن زوجها سيكون عضوا في مجلس اللوردات ومشرعا للبلاد. كان كل هذا سببا ومدعاة للفخر في العائلة، لكن هل ستشارك جورجيانا ذلك؟ هي الآن امرأة راشدة ولم تعد تخضع للوصاية، لكن إليزابيث كانت تعلم أن جورجيانا ستحزن كثيرا إن اعتزمت الزواج من رجل لا يوافق عليه أخوها؛ ثم كان هناك مسألة هنري ألفيستون المعقدة. وقد رأت إليزابيث ما يكفي لكي تتأكد من أنه واقع في الغرام، أو أنه على وشك الوقوع فيه، لكن ماذا عن جورجيانا؟ كانت إليزابيث واثقة من شيء واحد فقط، لن تتزوج جورجيانا دارسي من دون أن تحب، أو من دون انجذاب قوي وعاطفة واحترام يمكن للمرأة أن تطمئن نفسها بأن تلك العواطف ستتعمق لتصبح حبا. ألم يكن هذا ليصبح كافيا بالنسبة إلى إليزابيث لو أن الكولونيل فيتزويليام تقدم للزواج منها بينما كان يزور عمته الليدي كاثرين دي بيرج في روزينجز؟ ففكرة أنها كانت لتخسر دارسي من غير قصد منها وسعادتها الحالية لتتمسك بعرض من قريبه كانت مهينة أكثر من ذكرى تحيزها لجورج ويكهام الشائن، فنحت تلك الفكرة جانبا عنها بكل حزم.
كان الكولونيل قد وصل إلى بيمبرلي في المساء السابق وقت العشاء، لكن بخلاف تحيته لها فلم يمكثا معا وقتا طويلا. والآن وبينما كان يطرق الباب في هدوء ويدخل إلى الغرفة ويجلس في الكرسي المقابل لها بجوار المدفأة، الذي عرضته هي عليه، بدا لإليزابيث أنها كأنها تراه للمرة الأولى. كان يكبر دارسي بخمس سنوات، لكنهما حين التقيا للمرة الأولى في غرفة الصالون في روزينجز كان حس دعابته المبهج وحيويته الجذابة يؤكدان اتصافه بالصمت وقد بدا الأصغر سنا. لكن كل هذا قد اختفى. فقد أصبح الآن يمتلك نضجا وجدية جعلاه يبدو أكبر من سنه الحقيقية. وفكرت إليزابيث أن جانبا من هذا ينبغي أن يكون مرده إلى خدمته في الجيش والمسئوليات الكبيرة على عاتقه كقائد للرجال، فيما صحب تغير حالته ليس فقط جاذبية أكبر، وإنما فخر عائلي واضح أكبر، وكذا بالطبع لمحة من الغطرسة، التي كانت أقل جاذبية من الصفات الأخرى.
لم يتحدث هو من فوره وساد الصمت برهة قررت خلالها أن عليه هو أن يتحدث أولا؛ لأنه هو من طلب اللقاء. وبدا الكولونيل وكأنه لا يعرف أفضل طريقة لبداية الحديث، لكن لم يبد عليه ارتباك أو اضطراب. وفي النهاية، مال إلى الأمام نحوها وقال: «أنا واثق يا قريبتي العزيزة، أنك تمتلكين عينين ذكيتين، وتهتمين بحياة الآخرين وشواغلهم؛ ولذا فإنك لا تجهلين تماما ما أريد أن أتحدث بشأنه. إنني كما تعلمين منذ وفاة عمتي الليدي آن دارسي وأنا أتمتع بامتياز مشاركة دارسي في الوصاية على أخته، وأعتقد أنني أستطيع أن أقول بأنني أديت واجبي بإحساس عميق بالمسئولية، وعاطفة أخوية تجاهها لم تتغير قط. وقد تحولت تلك العاطفة إلى حب من النوع الذي يكنه الرجل للمرأة التي يرغب في أن يتزوج بها، وإن أكثر ما أتمنى الآن هو أن تقبل جورجيانا بأن تكون زوجتي. أنا لم أتقدم رسميا إلى دارسي لكنه يتمتع بالبصيرة، ويحدوني الأمل أن يحظى عرض زواجي بموافقته وقبوله.»
رأت إليزابيث في نفسها أنه من الحكمة أكثر ألا تخوض في هذه الجزئية؛ وذلك لأن جورجيانا بلغت سن الرشد. فقالت: «وماذا عن جورجيانا؟» «لا يمكنني أن أجد مبررا لحديثي إليها إلا بعد موافقة دارسي. في الوقت الراهن أدرك أن جورجيانا لم تقل شيئا يعزز الأمل بداخلي. وسلوكها تجاهي كالعادة هو سلوك ينم عن الصداقة والثقة، وأعتقد أنها تكن لي العاطفة. وآمل أن تتحول تلك الثقة والعاطفة إلى حب إذا ما كنت صبورا تجاه ذلك. وأنا أومن أن الحب بالنسبة إلى المرأة يأتي بعد الزواج أكثر مما يكون قبله، ويبدو لي أنه من الصواب والطبيعي أن يحدث ذلك. ففي النهاية أنا أعرفها منذ ولادتها. وأنا أدرك أن فارق العمر بيني وبينها قد يمثل مشكلة، لكنني أكبر دارسي بخمس سنوات فقط، ولا أرى أن فارق العمر هذا يشكل مانعا.»
شعرت إليزابيث بخطورة الحديث. فقالت: «قد لا يشكل فارق العمر مانعا، لكن انحيازا من جانبها قد يكون عائقا.» «أتقصدين هنري ألفيستون؟ أنا أعرف أن جورجيانا تميل إليه، لكنني لا أرى شيئا يوحي بأن هناك ارتباطا على مستوى أعمق. إنه شاب مقبول وماهر ومميز. ولا أسمع عنه سوى كل خير. وربما كان لديه آماله أيضا. ومن الطبيعي أن يبحث عن الزواج بالمال.»
أشاحت إليزابيث بعيدا. فأضاف هو مسرعا: «لا أقصد بذلك الجشع أو النفاق، لكن بالنسبة إلى مسئولياته واعتزامه على إعادة إحياء ثروة العائلة وجهوده الكبيرة التي يبذلها من أجل استعادة ممتلكاته، وأحد أجمل المنازل في إنجلترا، فإنه لا يستطيع أن يتزوج من امرأة فقيرة. حيث إن ذلك سيؤدي بهما إلى الشقاء والفقر.»
كانت إليزابيث صامتة. وكانت تفكر مرة أخرى في ذلك اللقاء الأول في روزينجز، وفي حديثهما معا بعد العشاء، وفي الموسيقى والضحك وفي زياراته الكثيرة لبيت القس، وفي اهتمامه بها الذي كان واضحا وضوح الشمس، فلا يمكن إغفاله. وفي مساء يوم حفل العشاء كانت الليدي كاثرين قد رأت ما يكفي ليثير قلقها. لم يكن هناك شيء تغفل عنه عيناها الثاقبتان الفضوليتان. وتذكرت إليزابيث ما قالته: «فيم تتحدثان؟ أشركوني معكما في حديثكما .» كانت إليزابيث تعرف أنها بدأت تتساءل إن كانت ستعيش حياة سعيدة مع ذلك الرجل، لكن الأمل - لو كان قويا بما يكفي لنطلق عليه أملا - كان قد خبا وانطفأ حين التقيا بعد ذلك بمدة ليست بطويلة - ربما من قبيل الصدفة وربما كان اللقاء من ترتيبه هو - حين كانت تسير وحيدة في روزينجز، فرافقها في طريق عودتها إلى مقر القس. كان يأسى على فقره وكانت تمازحه بأن تسأله عن السلبيات التي جلبها الفقر على الابن الأصغر لأحد حاملي لقب إيرل. وكان رده بأن الأبناء الصغار «لا يمكن لهم أن يتزوجوا حيث شاءوا.» في ذلك الوقت كانت تتساءل ما إن كان ذلك الرد يمثل رسالة تحذير، وتسبب شكها في أن تشعر بشيء من الارتباك الذي قررت أن تخفيه بتحويل المحادثة إلى شيء من الهزل أو المزاح. لكن ذكرى تلك الواقعة كانت أبعد ما تكون عن الهزل والمزاح. لم تكن إليزابيث في حاجة إلى تحذير الكولونيل فيتزويليام ليذكرها بما يمكن أن تتوقعه فتاة لديها أربع من الأخوات غير المتزوجات ولا تمتلك ثروة من الزواج. فهل كان يقصد أنه كان من الآمن لشاب محظوظ أن يتمتع برفقة امرأة مثلها، أو يغازلها في سرية، لكن الحكمة تقتضي بألا تأمل هي في أكثر من ذلك؟ ربما كان التحذير ضروريا، لكنه لم يرسل بالشكل الملائم تماما. لو أنه لم يفكر فيها قط ولو أنه كان أقل إظهارا لاهتمامه تجاهها لكان وقع الأمر أقل وطأة.
كان الكولونيل فيتزويليام مدركا لصمتها. فقال: «هل لي أن آمل في الحصول على موافقتك؟»
صفحه نامشخص
التفتت إليزابيث له وقالت بنبرة صارمة: «أيها الكولونيل، لا يمكنني أن أضطلع بأي دور في هذا الأمر. لا بد أن تقرر جورجيانا بنفسها أين ستكون سعادتها. جل ما يمكنني قوله أنها إذا وافقت على الزواج منك فإنني سأشارك زوجي سروره برباط كهذا. لكن هذا ليس أمرا يمكنني التأثير فيه. الأمر كله في يد جورجيانا.» «كنت أعتقد أنها ربما حدثتك؟» «لم تبح لي بأي شيء، ولن يكون من اللائق بالنسبة إلي أن أطرح هذا الأمر للنقاش معها حتى تختار - أو إذا ما اختارت - هي ذلك.»
بدا للحظة أن حديثها يبث فيه شعورا بالارتياح، لكنه عاد للحديث عن الرجل الذي يعتقد بأنه منافسه، وكأنه كان مكرها على ذلك. «إن ألفيستون شاب وسيم ومقبول، ويتحدث بطريقة لبقة. لا شك أن الوقت والمزيد من النضج سيهدئان من ثقته المفرطة ونزعته لإظهار احترام أقل لمن يكبرونه سنا وذاك أمر مؤسف بالنسبة إلى شخص مثله. ولا شك عندي أنه ضيف مرحب به في هايمارتن، لكنني مندهش كثيرا من أنه يستطيع تكرار زيارة السيد والسيدة بينجلي بهذه الكثرة. فالمحامون الناجحون لا يبددون أوقاتهم بهذا الشكل.»
لم ترد عليه إليزابيث واعتقد هو أن توجيه النقد - بشكليه الصريح والضمني - ربما كان تصرفا طائشا. فأضاف: «لكنه عادة ما يكون في ديربيشاير في أيام السبت أو الأحد أو حين لا تكون المحاكم منعقدة. وأعتقد أنه يستغل الوقت في الدراسة متى ما أتيح له ذلك.»
قالت إليزابيث: «تقول أختي إنها لم يأتها زائر قط يقضي مثل ما يقضي هو من وقت في المكتبة.»
ساد الصمت لحظة أخرى ثم قال هو: «هل أستنتج من ذلك أن جورج ويكهام لا يزال غير مرحب به في بيمبرلي؟» وقد أثار ذلك دهشتها وانزعاجها. «لا، إطلاقا. لم أره أنا ولا السيد دارسي ولم نتواصل معه منذ كان في لونجبورن بعد زواجه من ليديا.»
ساد الصمت بينهما مرة أخرى وقتا أطول ثم بعد ذلك قال الكولونيل فيتزويليام: «من المؤسف ما حدث مع ويكهام حين كان صغيرا. لقد تربى مع دارسي كأخ وأخت. وربما كان هذا مفيدا لهما كليهما حين كانا طفلين؛ وبالنظر إلى عاطفة السيد دارسي الراحل تجاه خادمه، كان من الإحسان الطبيعي بعد وفاة الأخير أن يتحمل بعض مسئوليات الطفل. لكن بالنسبة إلى صبي بطباع ويكهام - بجشعه وطموحه ونزعته إلى الحسد - كان من الخطر عليه أن يتمتع بثروة لم يكن بمقدوره أن يتشارك فيها بمجرد انتهاء مرحلة الصبا. وفي فترة الجامعة ارتاد كل منهما كلية مختلفة، وبالطبع لم يشارك في رحلة دارسي إلى أوروبا. ربما حدثت التغيرات في أوضاعه وتوقعاته بصورة جذرية ومفاجئة للغاية. ولدي أسبابي التي تدفعني لأن أعتقد أن الليدي آن دارسي كانت ترى ذلك الخطر قادما.»
قالت إليزابيث: «لا يمكن أن يكون ويكهام قد توقع أن يشارك في الجولة الكبرى.» «ليس لدي علم بما توقع ويكهام، عدا أنه كان دوما يفرط في توقعاته.»
قالت إليزابيث: «ربما كانت المنن الأولى التي حصل عليها في البداية غير حكيمة بدرجة ما، ومن السهل دوما أن يشكك المرء في حكم الآخرين في أمور ينقصنا فيها الكثير من المعرفة.»
تململ الكولونيل في كرسيه. وقال: «لكن لا يمكن أن يكون هناك عذر لخيانة ويكهام للثقة التي يحظى بها من خلال محاولة إغواء الآنسة دارسي. كان ذلك عملا شائنا لا يمكن لأي اختلاف في ظروف الميلاد أو التربية أن يشكل مبررا له. وبصفتي وصيا مشاركا على الآنسة دارسي، فإنني علمت بالطبع بتلك العلاقة الشائنة، لكنها أصبحت أمرا أبعدته عن تفكيري. وأنا لم أتحدث عن الأمر مع دارسي قط، وأعتذر عن الحديث بشأنه الآن. لقد أظهر ويكهام أنه ينتمي إلى الجانب الأيرلندي، وهو الآن بطل قومي من نوع ما، لكن لا يمكن لذلك أن يمحو ما حدث بالماضي، رغم أن ذلك قد يمده بالفرص ليعيش حياة أكثر احتراما ونجاحا في المستقبل. وقد ترك الخدمة في الجيش - بصورة غير حصيفة في رأيي - لكنه لا يزال صديقا لرفاقه العسكريين كالسيد ديني، الذي ستذكرين أنني عرفتك به للمرة الأولى في ميريتون. لكن لم يكن ينبغي لي أن أذكر اسمه في حضورك.»
لم يصدر عن إليزابيث أي رد، وبعد برهة قصيرة من الصمت، نهض الكولونيل على قدميه وانحنى ثم غادر. كانت إليزابيث على علم أن أيا منهما لم يجد ارتياحا في هذه المحادثة. فالكولونيل فيتزويليام لم يجد ما كان يأمل من موافقتها الصادقة والتأكيد على دعمها وخشيت إليزابيث من أن تدمر الإهانة والإحراج صداقة دامت منذ الصبا، وتعز على زوجها، وهذا إذا ما فشل الكولونيل فيتزويليام في أن يظفر بجورجيانا. ولم يكن لدى إليزابيث أي شك في أن دارسي سيقبل بالكولونيل فيتزويليام زوجا لجورجيانا. فما كان يطمح إليه قبل كل شيء هو الأمان لها، ومعه ستكون جورجيانا في مأمن؛ وحتى فرق السن سيرى على أنه ميزة على الأرجح. وبمرور الوقت ستحصل جورجيانا على لقب كونتيسة، ولن يكون المال أمرا يقلق الرجل المحظوظ الذي سيتزوجها. وتمنت إليزابيث أن تسوى هذه المسألة بطريقة أو بأخرى. ربما ستصل الأحداث إلى ذروتها غدا أثناء الحفل الراقص الذي ستزداد فيه احتمالية أن يجلسا معا، وستتاح فيه فرصة أن يهمس الراقصون بعضهم إلى بعض أثناء الرقص، فمن المعروف أن الحفلات تتسبب في أن تصل الأحداث السعيدة منها وغير السعيدة إلى خاتمة لها. كل ما أملت به إليزابيث هو أن يرضى كل المعنيين، ثم ابتسمت بسبب فرضية أن هذا يمكن أن يحدث.
صفحه نامشخص
وكانت إليزابيث تشعر بالامتنان والسرور بفعل التغيير الذي حدث لجورجيانا منذ أن تزوجت هي بدارسي. ففي البداية كانت جورجيانا مندهشة - إلى حد يقترب من الصدمة - من ممازحة زوجته له، ومن رده على ذلك بممازحتها. ففي بيمبرلي لم يكن هناك الكثير من الضحك قبل وصول إليزابيث، وبفعل تشجيع إليزابيث اللبق والدمث فقدت جورجيانا خجلها من دارسي. فقد أصبحت جورجيانا الآن واثقة في أخذها لمكانها حين يستضيفون الزوار، كما أصبحت أكثر استعدادا لإبداء رأيها حين يجلسون على طاولة العشاء. وحيث كان فهم إليزابيث لأخت زوجها يتنامى، ظنت أن جورجيانا تمتلك تحت ذلك الخجل والتحفظ صفة أخرى من صفات دارسي؛ الإرادة القوية. لكن ما مدى إدراك دارسي لهذا؟ أليست جورجيانا لا تزال جزئيا بالنسبة إليه تلك الفتاة الضعيفة ابنة الخمسة عشر ربيعا، تلك الطفلة التي تحتاج إلى حبه الآمن إذا ما كان يريد لها أن تبتعد عن المخاطر؟ لم يكن الأمر أنه لا يثق في شرف أخته أو عفتها - فمثل هذه الفكرة تكاد تقارب طعنه في دينها - لكن إلى أي مدى كان يثق في حكمها؟ وبالنسبة إلى جورجيانا، كان دارسي - منذ وفاة والدهما - هو كبير العائلة والأخ الأكبر الحكيم الذي يتمتع بشيء من سلطة الأب، كان هو الأخ الذي تحبه كثيرا ولا تخاف منه - حيث إن الحب والخوف لا يجتمعان في قلب واحد - وإنما كانت تهابه. ولم تكن جورجيانا لتتزوج من دون حب، لكنها أيضا لم تكن لتتزوج من دون موافقة أخيها. ولكن ماذا لو انتهى الأمر إلى الاختيار بين الكولونيل فيتزويليام، قريبه وصديق طفولته ووريث الإيرلية، ذلك الجندي الشجاع الذي عرف جورجيانا طوال عمرها، وبين المحامي الشاب الوسيم الجذاب الذي لا شك كان يصنع لنفسه مستقبلا، لكنهم لا يعرفون عنه سوى القليل؟ سيرث ذلك المحامي منزلا قديما، وحينها ستمتلك جورجيانا منزلا - حين يجمع ألفيستون المال ويرممه - سيكون أحد أجمل المنازل في إنجلترا. لكن دارسي كان يتمتع بقدر كبير من الفخر بعائلته، ولا يوجد شك أن أيا من المرشحين سيوفر أكبر قدر من الأمان ويمتلك مستقبلا أكثر إشراقا.
كانت زيارة الكولونيل لها قد دمرت سلامها النفسي، فتركها قلقة وبائسة بعض الشيء. وكان محقا في قوله إنه لم يكن ينبغي له أن يذكر اسم ويكهام. فدارسي نفسه لم يتواصل معه منذ أن تقابلا في الكنيسة وقت زواج ليديا، وتلك الزيجة لم تكن لتتم لولا إسرافه في إنفاق المال. كانت إليزابيث واثقة من أن هذا السر لم يكن قد انكشف للكولونيل فيتزويليام، لكنه بالطبع علم بأمر الزواج ولا بد أنه تشكك في الأمر. فتساءلت في نفسها، أكان يحاول أن يطمئن نفسه بأن ويكهام لم يكن له أي تأثير على حياتهما في بيمبرلي وأن دارسي اشترى صمت ويكهام ليضمن أن العالم لن يقول أبدا إن الآنسة دارسي من بيمبرلي لديها سمعة مدنسة؟ لقد جعلتها زيارة الكولونيل مضطربة وبدأت تذرع الأرض جيئة وذهابا، في محاولة لتهدئة مخاوف كانت تأمل أن تكون غير منطقية ومن أجل استعادة شيء من رباطة جأشها السابقة.
جلس الأربعة فقط على طاولة الغداء الذي كان وجيزا. فكان لدى دارسي موعد مع مدير أعماله، وقد عاد إلى غرفة مكتبه لينتظره. ورتبت إليزابيث لتقابل جورجيانا في المستنبت الزجاجي حيث سيفحصان الزهور والأغصان الخضراء التي أحضرها كبير البستانيين من الصوبات. كانت الليدي آن تحب الكثير من الألوان والترتيبات المعقدة، لكن إليزابيث فضلت أن تستخدم لونين فقط إضافة إلى اللون الأخضر وأن تنسق تلك الألوان في مجموعة متنوعة من المزهريات - الكبيرة منها والصغيرة - بحيث تحتوي كل غرفة على أزهار زكية الرائحة. ويوم غد ستكون الألوان المستخدمة هي الأبيض والزهري، وقد عملت إليزابيث وجورجيانا وتبادلتا الرأي حول الروائح النفاذة للأزهار الطويلة السيقان وأزهار الجرنوقي. وكان جو المستنبت الزجاجي الحار والرطب طاغيا فشعرت إليزابيث برغبة مفاجئة في تنفس الهواء الطلق والشعور بالنسيم ينساب على وجنتيها. هل كان هذا بسبب القلق الذي تسبب به وجود جورجيانا وسر الكولونيل، اللذين شكلا عبئا عليها في يومها؟
وفجأة انضمت السيدة رينولدز إليهم. فقالت: «سيدتي، إن عربة السيد والسيدة بينجلي تقترب من مدخل المنزل. وإذا ما أسرعت فستصلين إلى الباب في الوقت المناسب لاستقبالهما.»
أطلقت إليزابيث صيحة تنم عن السرور، وهرعت إلى الباب الأمامي وتبعتها جورجيانا. وكان ستاوتن هناك بالفعل ليفتح الباب فيما كانت العربة تتحرك ببطء حتى توقفت. هرعت إليزابيث إلى الخارج في الهواء البارد الآخذ حدته في الارتفاع. لقد وصلت عزيزتها جين وللحظة تلاشى كل شعورها بالقلق وراء شعورها بالسعادة تجاه لقائهما.
الفصل الثاني
لم يمكث بينجلي وزوجته في نيذرفيلد طويلا بعد زواجهما. كان بينجلي رجلا متسامحا حسن النية إلى حد بعيد، لكن جين أدركت أن القرب بهذا الشكل من والدتها لن يسهم في راحة زوجها أو راحة بالها. كانت جين تتسم بالحنان بطبيعتها كما كان حبها وولاؤها لعائلتها قويين، لكن سعادة بينجلي تأتي أولا. وكان كلاهما يتوق للاستقرار بالقرب من بيمبرلي، وحين انتهى عقد إيجارهما في نيذرفيلد، مكثا مدة قصيرة في لندن مع السيدة هيرست - وهي أخت بينجلي - ثم انتقلا في شيء من الارتياح إلى بيمبرلي، وكانت بيمبرلي بالنسبة إليهما تعد محورا ملائما للبحث عن منزل دائم لهما. وفي هذا كان دارسي قد شارك بفاعلية. كان دارسي وبينجلي يذهبان إلى المدرسة نفسها ، لكن الفارق في العمر بينهما - رغم أنه لا يتخطى العامين - كان يعني أنهما لم يريا من أحدهما الآخر الكثير في مرحلة الصبا. إنما أصبحا أصدقاء في أوكسفورد. كان دارسي متفاخرا ومتحفظا ولا يشعر بالراحة أثناء وجوده بين ناس كثيرين، ووجد الراحة في طبيعة بينجلي الكريمة السخية وروحه الاجتماعية السلسة، وافتراضه المبهج بأن الحياة ستحسن معاملته دوما، وكان بينجلي يؤمن كثيرا بحكمة دارسي الفائقة وذكائه بحيث كان مترددا في اتخاذ أي إجراء في أي مسألة مهمة من دون موافقة صديقه واستحسانه.
كان دارسي قد نصح بينجلي بأن يشتري منزلا بدلا من أن يبني واحدا، وحيث إن جين كانت حبلى بالفعل في طفلهما الأول، فقد بدا من المحبب أكثر أن يجد منزلا بشكل عاجل، وأن يكون المنزل قابلا لانتقالهما فيه ولا يوجد به سوى أقل قدر من العوائق. وكان دارسي هو من وجد منزل هايمارتن - إذ سعى في ذلك نيابة عن صديقه - وكانت جين وزوجها كلاهما مسرورين به منذ أن وقع بصرهما عليه للمرة الأولى. كان المنزل جميلا وعصريا ومبنيا على أرض مرتفعة، ويطل على مناظر جذابة من كل نوافذه، وكان المنزل مريحا كثيرا للحياة الأسرية، وبه حدائق جيدة التصميم، وعزبة كبيرة بما يكفي لكي يتمكن بينجلي من عقد حفلات صيد من دون أن يستدعي ذلك مقارنات غير مواتية مع بيمبرلي. وكان الدكتور ماكفي - الذي كان يرعى عائلة دارسي وسكان بيمبرلي سنوات طوالا - قد زار المنزل وصرح بأنه صحي وأن الماء به نقي، فسويت الأمور الرسمية سريعا. وكانت المتطلبات قليلة عدا شراء الأثاث وعملية تجديده، وكانت جين - بمساعدة إليزابيث - مسرورة كثيرا أثناء الانتقال من غرفة إلى أخرى وتحديد ألوان ورق الحائط والدهان والستائر. وفي غضون شهرين من إيجاد المنزل، سكنته أسرة بينجلي، واكتملت سعادة الأختين في زيجاتهما.
كانت الأسرتان يزور بعضهما بعضا باستمرار، وقليلة هي تلك الأسابيع التي لا تنتقل فيها العربة بين هايمارتن وبيمبرلي. وكان من النادر أن تغيب جين عن أطفالها الثلاثة لأكثر من ليلة - وهم توءمان تبلغان من العمر أربعة أعوام وتدعيان إليزابيث وماريا، وصبي يدعى تشارلز إدوارد الذي يقترب عمره الآن من السنتين - لكنها كانت تعلم أن بإمكانها أن تتركهم آمنين في يد السيدة ميتكاف التي تتمتع بالخبرة والكفاءة، وهي المربية التي كانت ترعى زوجها حين كان رضيعا؛ ولذا فكانت جين سعيدة أن تقضي ليلتين في بيمبرلي من دون مواجهة المشكلات الحتمية الناتجة عن نقل ثلاثة أطفال ومربيتهم من أجل زيارة قصيرة كهذه. وكالعادة، أتت جين من دون وصيفتها، لكن وصيفة إليزابيث البارعة اليافعة - واسمها بيلتون - كانت سعيدة لأن تهتم بأمر الأختين. وأرسلت عربة أسرة بينجلي وسائقها إلى ويلكنسون وهو سائق دارسي، وبعد صخب التحية، صعدت إليزابيث وجين على الدرج كل منهما متأبطة ذراع الأخرى، وتوجهتا نحو الحجرة التي خصصت لجين أثناء زيارتها، وكانت حجرة ملابس بينجلي مجاورة لها. وكانت بيلتون قد تولت بالفعل أمر صندوق ملابس جين، وكانت تعلق ثيابها التي ترتديها مساء والرداء الذي سترتديه في الحفل، وفي غضون ساعة كانت ستحضر إليهما من أجل أن تساعدهما في ارتداء الملابس وتمشيط شعرهما وتزيينه. وكانت الأختان اللتان تشاركتا غرفة في لونجبورن رفيقتين مقربتين بعضهما من بعض منذ طفولتهما، فلم يكن هناك أمر لا تستطيع إليزابيث أن تحادث جين بشأنه، عالمة أن جين مؤتمنة على أسرارها، وأن أي نصيحة ستسديها إليها ستكون نابعة من قلبها الطيب وحبها لها.
وبمجرد أن انتهتا من الحديث مع بيلتون ذهبتا كالمعتاد إلى الحضانة لتمنحا تشارلز الحلوى والعناق اللذين ينتظرهما، ولكي تلعبا مع فيتزويليام وتستمعا إلى قراءته - حيث كان من المقرر أن يغادر الحضانة عن قريب لينتقل إلى حجرة الدرس والتعليم والحصول على معلم - وتجلسا للتحدث مع السيدة دونوفان حديثا موجزا لكن ممتعا. كانت السيدة دونوفان والسيدة ميتكاف تمتلكان من سنوات الخبرة مجتمعتين ما يقارب 50 سنة، وتلكما المسئولتان الخيرتان كانتا قد أسستا لتحالف وثيق مبكر - في حالتي الهجوم والدفاع - وكانتا هما الأعلى مقاما في حضانتيهما، فكانتا تحوزان على حب المسئولين منهما وعلى ثقة الآباء، على الرغم من أن إليزابيث كانت تظن أن السيدة دونوفان ترى أن الوظيفة الوحيدة للأم هي إمداد الحضانة بطفل جديد بمجرد أن يكبر الطفل على ملابسه الأولى. وروت جين الأنباء عن التقدم الذي يحرزه تشارلز إدوارد والتوءمان، وناقشت السيدة دونوفان النظام الذي يتبعونه في هايمارتن وأثنت عليه، ولا عجب في ذلك حيث كان هو النظام نفسه الذي تتبعه هي. حينها لم يكن يتبقى سوى ساعة واحدة قبل أن يحين وقت ارتداء الملابس استعدادا للغداء؛ لذا ذهبتا إلى غرفة إليزابيث لتتحدثا على راحتهما وتتبادلا تفاصيل صغيرة من الأحداث التي تعتمد عليها السعادة المنزلية بشكل كبير.
صفحه نامشخص
وربما كان من المريح لإليزابيث أن تسر إلى جين بشأن موضوع أكثر أهمية، وهو نية الكولونيل ليتقدم للزواج من جورجيانا. لكن وعلى الرغم من أنه لم يوعز إليها برغبته في السرية، فإنه لا بد أن يكون قد توقع أنها ستتحدث أولا إلى زوجها، وشعرت إليزابيث أن شعور جين المرهف بالاحترام والشرف سيتضرر، كما سيتضرر إحساسها هي بالاحترام والشرف أيضا، إن وصلت تلك الأخبار إلى أختها قبل أن تحظى إليزابيث بفرصة الحديث مع دارسي. لكنها كانت تتوق للتحدث عن هنري ألفيستون وكانت مسرورة حين طرحت جين اسمه بقولها: «من اللطيف منك أن تضمني السيد ألفيستون مرة أخرى في دعوتك. فأنا أعرف كم يعني له الحضور إلى بيمبرلي.»
قالت إليزابيث: «إنه ضيف محبوب، ويسعدنا كلينا أن نحظى بزيارته. إنه مهذب وذكي ومفعم بالحيوية وبهي المحيا، ومن ثم فإنه نموذج للشباب. ذكريني كيف أصبحت علاقتكما وثيقة. ألم يلتق به السيد بينجلي في مكتب المحامي الخاص بكما في لندن؟» «بلى، لقد التقاه قبل 18 شهرا، حين كان تشارلز يزور السيد بيك ليتحدثا في بعض الاستثمارات. كان السيد ألفيستون قد استدعي إلى المكتب بغية أن يمثل أحد موكلي السيد بيك في المحكمة، وحيث وصل الزائران كلاهما مبكرا، تقابلا في غرفة الاستقبال وقدمهما السيد بيك فيما بعد بعضهما إلى بعض. وكان تشارلز معجبا كثيرا بالشاب وتناولا العشاء فيما بعد معا حيث أسر إليه ألفيستون بخططه لإعادة إحياء ثروة الأسرة والتركة الخاصة بها في مقاطعة سري، التي كانت أسرته تمتلكها منذ عام 1600، وبصفته السليل الوحيد فإنه يشعر تجاهها بالتزام وتعلق قويين. ثم التقيا مرة أخرى في نادي تشارلز، وحينها دعاه تشارلز باسمينا ليقضي بضعة أيام في هايمارتن؛ وذلك حين راعه مظهر الإعياء على الشاب؛ ومنذ ذلك الحين أصبح السيد ألفيستون زائرا منتظما ومرحبا به متى ما استطاع أن يبتعد عن المحاكم. نحن نعلم أن والد السيد ألفيستون - وهو اللورد ألفيستون - يبلغ من العمر 80 عاما، ولا يتمتع بصحة جيدة وكان غير قادر على مدار عدة سنوات على بذل الجهد أو القيادة اللذين تحتاج إليهما تلك التركة، لكن تلك البارونية هي واحدة من أقدم البارونيات في البلاد، وتحظى عائلته باحترام كبير. وقد علم تشارلز من السيد بيك - ومن آخرين أيضا - أن السيد ألفيستون يحظى بالاحترام في جمعية «ميدل تمبل»، وهكذا أحببناه كلانا. إنه بمثابة بطل في نظر تشارلز إدوارد اليافع كما أن التوءمين تحبانه جدا ودائما ما تستقبلانه لدى زيارته بالرقص والابتهاج.»
كان السبيل الأقصر إلى قلب جين هو معاملة أطفالها معاملة طيبة، فاستطاعت إليزابيث أن تفهم سبب انجذاب قاطني منزل هايمارتن إلى ألفيستون. كما أن حياة الأعزب المنهك من العمل في لندن تقدم القليل من الراحة، ومن الواضح أن ألفيستون وجد في جمال السيدة بينجلي وفي عطفها وصوتها الحنون وفي الحياة الأسرية في منزلها تباينا مرحبا به في مقابل التنافس الصاخب والمتطلبات الاجتماعية التي تتميز بها العاصمة. وكان ألفيستون - مثله مثل دارسي - قد اضطلع مبكرا بأعباء الوفاء بالتوقعات والمسئوليات. وكان قراره باستعادة ثروة الأسرة جديرا بالإعجاب، وعلى الأرجح فإن أولد بيلي - بتحدياتها ونجاحاتها - تعد نموذجا بدائيا لنضال شخصي أكثر.
ساد الصمت برهة ثم قالت جين: «آمل يا أختي العزيزة أنك والسيد دارسي لا تجدان غضاضة في وجوده هنا. لا بد لي أن أعترف؛ لقد رأيت شعوره الواضح بالسرور هو وجورجيانا وهما معا، وفكرت في أن السيد ألفيستون ربما يكون واقعا في الحب، وإن كان من شأن هذا أن يتسبب في الكدر للسيد دارسي أو جورجيانا؛ فإننا سنحرص بالطبع على أن تتوقف زياراته. لكنه شاب جدير بالاحترام وإن كنت محقة في ظنوني، وكانت جورجيانا تكن له المشاعر نفسها، فإنني واثقة تماما من أنهما سيكونان سعيدين معا، لكن ربما تكون لدى السيد دارسي خطط أخرى لأخته، وإن كان هذا هو الأمر، فقد يكون من الحكمة واللطف ألا يأتي السيد ألفيستون مرة أخرى إلى بيمبرلي. لقد لاحظت أثناء زياراتي الأخيرة أن هناك تغيرا في سلوك الكولونيل فيتزويليام تجاه قريبته، فهناك رغبة أكثر في الحديث معها والوجود بالقرب منها. سيكونان ثنائيا رائعا وستكون هي زينة له، لكنني أتساءل كم سيكون مقدار سعادتها في تلك القلعة الشمالية الشاسعة. لقد رأيت صورة لها الأسبوع الماضي في كتاب في مكتبتنا. إنها تبدو كحصن جرانيتي حيث تتلاطم أمواج بحر الشمال على جدرانه. كما أنها تبعد كثيرا عن بيمبرلي. من المؤكد أن جورجيانا ستكون تعيسة بسبب بعدها عن أخيها وعن المنزل الذي تحبه كثيرا.»
قالت إليزابيث: «أعتقد أن بيمبرلي تأتي في المقام الأول بالنسبة إلى كل من السيد دارسي وجورجيانا. إنني حين كنت أزورهما مع عمي وعمتي وسألني السيد دارسي عن رأيي في المنزل، أتذكر أن سروري الواضح به أسعده كثيرا. وإن كان قد بدا مني ما هو أقل من حماسة صادقة تجاهه فإنني أعتقد بأنه لم يكن ليتزوج بي.»
ضحكت جين قائلة: «أوه، أعتقد أنه كان سيفعل يا عزيزتي. لكن ربما ينبغي لنا ألا نطيل في هذا الحديث أكثر من هذا. فالانهماك في الحديث عن مشاعر الآخرين ونحن لا نستطيع أن نفهمها بصورة كاملة - وربما لا يفهمونها هم أنفسهم بصورة كاملة - قد يكون سببا في الشعور بالكدر. ربما كنت مخطئة في ذكر اسم الكولونيل. إنني أعرف يا عزيزتي إليزابيث مقدار حبك لجورجيانا، وحيث إنها تعيش معك بصفتك زوجة أخيها، فإنني أقول إنها صارت امرأة يافعة وأكثر جمالا وثقة في نفسها. وإن كان هناك اثنان من الخاطبين لها فلا بد وأن يعود القرار إليها بالطبع، لكنني لا أستطيع أن أتخيل أنها ستقبل بالزواج على عكس رغبة أخيها.»
قالت إليزابيث: «ربما يصل الأمر إلى ذروته بعد الحفل، لكنني أعترف بأن هذا الأمر يشكل مصدر قلق لي. لقد أحببت جورجيانا كثيرا. لكن لننأى عن الحديث في هذا الأمر الآن. فلدينا الغداء العائلي لنتطلع إليه. وينبغي لي ألا أفسد هذا الغداء على أي منا أو من ضيوفنا بفعل هموم قد لا يكون هناك أساس لها.»
ولم تتحدث أي منهما بأكثر من ذلك، لكن إليزابيث كانت تعلم أنه لا توجد ثمة مشكلة بالنسبة إلى جين. كانت تؤمن تماما بأنه من الطبيعي لشاب وفتاة يافعين متصاحبين أن يقعا في الحب،
وعند هذا الحد لن تكون هناك أي مشكلة بشأن المال؛ فقد كانت جورجيانا ثرية، وكان السيد ألفيستون يرتقي في مهنته. لكن المال لم يكن المشكلة بالنسبة إلى جين؛ شريطة أن يكون هناك ما يكفي منه لكي تعيش الأسرة في هناء ورغد، لكن الأمر المهم يكمن في من يكون الشريك الذي يقدم المال في تلك الزيجة؟ وحقيقة أن الكولونيل الآن كان يحمل لقب فيكونت، وأن زوجته بمرور الوقت ستحصل على لقب كونتيسة، في حين أن السيد ألفيستون سيحصل على لقب بارون فقط لن تكون ذات وزن لدى جين - رغم أنها حقيقة قد تكون ذات أهمية قصوى للآخرين. وقررت إليزابيث أنها ستحاول ألا تفكر في الصعوبات المحتملة لكنها - وبعد الحفلة - ستسرع في إيجاد فرصة مبكرة للحديث مع زوجها. لقد كان كلاهما مشغولا بدرجة كبيرة بحيث إنها لم تره منذ الصباح. ولن يكون هناك ما يسوغ لها أن تخمن بشأن مشاعر السيد ألفيستون إلا إذا طرح السيد ألفيستون أو جورجيانا الأمر، لكن ينبغي أن يتم إخباره في أقرب فرصة ممكنة عن نية الكولونيل في الحديث عن أمله أن تقبل جورجيانا به زوجا لها. وكانت إليزابيث تتساءل عن السبب الذي يجعل التفكير في هذه الزيجة يتسبب لها في شعور بعدم الارتياح - رغم أنها زيجة رائعة على ما يبدو - وفي سبب عدم استطاعتها أن تجد مبررا لذلك، وقد حاولت أن تتخلص من هذا الشعور. وهنا أتت بيلتون وكان الوقت قد حان لكي تتجهز هي وجين لتناول الغداء.
الفصل الثالث
صفحه نامشخص
في الليلة السابقة ليوم الحفل، قدم الغداء في موعده المحدد في الساعة السادسة والنصف، لكن حين يكون العدد قليلا فإن الغداء كان يقدم في غرفة صغيرة متاخمة لغرفة الطعام الرسمية، حيث يتسع المكان لثمانية أشخاص يجلسون بأريحية حول الطاولة المستديرة. وفي السنوات السابقة كانت الحجرة الكبرى ضرورية لأن عائلة جاردنرز - وكذلك أخوات بينجلي أحيانا - كانوا ضيوفا في بيمبرلي لحضور الحفل، لكن السيد جاردنر لم يكن يجد سهولة قط في ترك أعماله، ولم تجد زوجته كذلك سهولة في أن تبتعد عن أطفالها. كان ما يحبه كلاهما أكثر هو زيارة صيفية حيث يمكن للسيد جاردنر أن يستمتع بصيد السمك وتستمتع زوجته بالتنزه مع إليزابيث في عربة فيتون يجرها حصان واحد. كانت الصداقة بين السيدتين تعود لسنوات طويلة كما كانت وثيقة، وكانت إليزابيث تكن تقديرا كبيرا لنصائح عمتها. والآن، هناك أمور ستسر كثيرا بأن تسمع نصيحتها بشأنها.
وعلى الرغم من أن الغداء كان ذا طابع غير رسمي، فقد تحركت المجموعة معا بصورة طبيعية ليدخلوا إلى غرفة الطعام في ثنائيات. وفي الحال قدم الكولونيل يده إلى إليزابيث، وتحرك دارسي نحو جين، وقدم بينجلي ذراعه إلى جورجيانا في شيء من التودد. وحين رأت إليزابيث أن ألفيستون كان يسير وحيدا خلف آخر ثنائي منهم، تمنت لو أنها رتبت الأمور بشكل أفضل، لكن كان من الصعب دوما إيجاد سيدة مناسبة دون مرافق لها في وقت قصير، كما أن الاجتماع على العشاء قبل الحفل لم يكن ذا أهمية من قبل. وبالقرب من جورجيانا كان هناك كرسي فارغ، وحين جلس فيه ألفيستون، استطاعت إليزابيث أن تلحظ ابتسامة الغبطة والسرور العابرة على وجهه.
وحيث أخذ كل منهم مجلسه، قال الكولونيل: «السيدة هوبكنز ليست معنا مرة أخرى هذا العام. أليست هذه هي المرة الثانية التي تفوت فيها الحفل؟ ألا تستمتع أختك بالرقص، أم أن للقس ثيودور اعتراضات دينية فيما يخص الحفلات؟»
قالت إليزابيث: «لم تكن ماري محبة للرقص قط، وقد طلبت أن نتغاضى عن حضورها، لكن بكل تأكيد ليس هناك أي اعتراضات من جانب زوجها على مشاركتها في الحفل. لقد أخبرني في آخر مرة كانا يتناولان الطعام فيها هنا أن أي حفل يقام في بيمبرلي ويحضره الأصدقاء والمعارف لا يمكن أن يكون له تأثير ضار لا على الأخلاق أو الآداب.»
همس بينجلي إلى جورجيانا قائلا: «مما يوضح أنه لم يشرب قط الحساء الأبيض الخاص ببيمبرلي.»
سمع الآخرون تلك الملاحظة، فأثارت شيئا من الابتسام والضحك فيما بينهم. لكن هذا المزاح لم يستمر طويلا. فقد كان الحديث الحماسي المعتاد على الطاولة غائبا، وكان هناك وهن وكسل لم يستطع بينجلي حتى بما يتمتع به من طلاقة وحس دعابة أن يخرجهم منه. وحاولت إليزابيث ألا ترمق الكولونيل بنظرها كثيرا، لكنها أدركت حين كانت ترمقه كيف أن نظراته كانت مثبتة على الثنائي الجالس أمامه. وقد بدا لإليزابيث أن جورجيانا - بفستانها الأبيض البسيط والمصنوع من نسيج الموسلين وبإكليل الدرر الذي يستقر على شعرها الداكن - كانت جميلة أكثر من أي وقت مضى، لكن نظرة الكولونيل كانت تحمل في طياتها شيئا ينم عن التفكير والتأمل أكثر مما يعبر عن الإعجاب. بالطبع كان الثنائي الشاب يتصرفان بطريقة مثالية، فلم يكن ألفيستون يظهر اهتماما لجورجيانا أكثر من الطبيعي، وكانت جورجيانا تلتفت لتوجه حديثها بالتساوي بين ألفيستون وبينجلي، وكأنها فتاة صغيرة تتبع الأعراف والتقاليد الاجتماعية بإخلاص في عشائها الأول. وكانت هناك لحظة واحدة كانت تأمل ألا يكون الكولونيل قد التفت إليها. كان ألفيستون يخلط النبيذ بالماء لجورجيانا، فتلامست أياديهما ثواني قليلة، ولاحظت إليزابيث توردا خفيفا يزداد على وجنتي جورجيانا ثم يختفي بعد ذلك.
وبرؤيتها لألفيستون في ثيابه المسائية الرسمية، ذهلت إليزابيث مرة أخرى بحسن مظهره غير العادي. لا شك أنه كان مدركا أنه لا يمكن له أن يدخل أي مكان من دون أن تلتفت إليه كل امرأة حاضرة وتحول عينها نحوه. كان شعره الكثيف بلون بني متوسط مربوط من الخلف عند مؤخر رقبته. وكانت عينه بلون بني داكن أكثر، وفوقهما حاجبان مستقيمان، وفي وجهه علامات انفتاح وقوة أنقذته من أن يكون وسيما بدرجة أكثر من اللازم، وكان يتحرك في ثقة وطلاوة هينة. وكما تعلم إليزابيث، كان ألفيستون في الغالب ضيفا محبوبا ومفعما بالحيوية، لكنه بدا الليلة متأثرا بالإحساس العام بعدم الارتياح. وفكرت في نفسها أن السبب في ذلك قد يعود إلى التعب الذي أصاب الجميع. فقد سافر كل من بينجلي وجين مسافة 18 ميلا فقط، لكنهما تأخرا بفعل الرياح الشديدة، وبالنسبة إليها وإلى دارسي فإن اليوم الذي يسبق الحفل دائما ما يكون مشغولا بصورة غير اعتيادية.
ولم تساعد العاصفة القائمة في الخارج في تهدئة الأجواء في الداخل. فقد كانت الرياح تعوي من وقت لآخر، وكانت النار تصدر صفيرا وخشخشة وكأنها كائن حي، ومن حين لآخر كانت إحدى القطع الخشبية فيها تتحرك، فتندفع منها ألسنة لهب مذهلة فتلقي بضوء أحمر لحظي على وجوه من يتناولون الطعام فكانوا يبدون وكأنهم محمومون. وكان الخدم يتحركون في صمت، لكن كان ما أراح إليزابيث هو انتهاء وجبة العشاء، فاستطاعت عيناها أن تلتقيا بعيني جين، وبذا تحركت إليزابيث وجين وجورجيانا معا عبر الغرفة دخولا إلى غرفة الموسيقى.
الفصل الرابع
بينما كان يقدم الغداء في غرفة الطعام الصغيرة، كان توماس بيدويل قابعا في حجرة كبير الخدم ينظف الفضة. تلك كانت وظيفته منذ أربع سنوات حين استحال مع الألم في ظهره وركبته قيادة العربات، وكانت تلك مهنة يفخر بها، خاصة في تلك الليلة التي تسبق حفل الليدي آن. ومن الشمعدانات السبعة الكبيرة التي ستوضع بطول طاولة الغداء، نظف خمسة منها، وكان سينتهي من الاثنين الباقيين في هذه الليلة. كانت تلك المهمة مضجرة وتستغرق وقتا طويلا ومتعبة بشدة، وسيؤلمه ظهره وذراعاه ويداه كثيرا بمجرد أن ينتهي من عمله. لكن تلك المهمة لم تكن مخصصة للخادمات أو للصبية من الخدم. فقد كان كبير الخدم ستاوتن هو المسئول الأخير، لكنه كان مشغولا في اختيار النبيذ والإشراف على تحضيرات غرفة الرقص، وعد أن مسئوليته تقتضي أن يفحص الفضة بمجرد أن يتم الانتهاء من تنظيفها، وليس تنظيف أكثر القطع قيمة حتى بنفسه. وكان من المتوقع من بيدويل خلال الأسبوع السابق للحفل أن يقضي معظم ساعات النهار - وشيئا من ساعات المساء في الغالب - وهو جالس إلى الطاولة في حجرة المؤن يرتدي مئزره ومرصوص أمامه الأشياء الفضية التي تمتلكها عائلة دارسي - من سكاكين وشوك وملاعق وشمعدانات وأطباق فضية يقدم الطعام فيها، وأطباق تقديم الفاكهة. وبينما كان بيدويل يلمع الفضة كان يتخيل الشمعدانات بشموعها الطويلة وهي تلقي بالضوء على الرءوس المزينة بالمجوهرات، والأوجه المتوهجة والأزهار وهي تهتز في مزهرياتها.
صفحه نامشخص