جلس السيد ميكلدور واستكمل سيمون كارترايت استجوابه. «سؤال أخير سيد دارسي. كانت مجموعة البحث تتألف من ثلاثة أشخاص، كان أحدهم مسلحا. كما كان لديك مسدس الكابتن ديني الذي ربما كان استخدامه ممكنا. ولم يكن لديك سبب يدفعك للشك بأن الكابتن ديني قتل قبل مدة من إيجادك لجثته. فلماذا لم تبدأ بالبحث؟» «بدا لي أن أول فعل من الضروري القيام به هو العودة بأسرع ما يمكن إلى منزل بيمبرلي بجثة الكابتن ديني. كان من المستحيل تقريبا استبيان ما إن كان هناك من يختبئ في الغابة الكثيفة، وافترضت أن القاتل هرب بالفعل.» «قد يعتقد البعض أن تبريرك هذا غير مقنع بعض الشيء. فلا شك أن الاستجابة الأولى لإيجاد رجل مقتول هي محاولة القبض على قاتله.» «لم يخطر ببالي ذلك يا سيدي، في ظل تلك الملابسات.» «لا، بالطبع يا سيد دارسي. يمكنني أن أفهم أن هذا لم يخطر ببالك. فقد كنت بالفعل في حضرة رجل كنت تعتقد أنه هو القاتل، رغم اعتراضك على ذلك. فلم إذن ستذهب للبحث عن أي شخص آخر؟»
وقبل أن يتمكن دارسي من الإجابة، ختم سيمون كارترايت انتصاره بكلمات أخيرة. «لا بد أن أهنئك سيد دارسي، على حدة ذهنك، الذي يبدو أنه يتمتع بمهارة بارزة في التفكير في أفكار متسقة حتى في أثناء لحظات يكون معظمنا فيها مصدوما فنستجيب بصورة أقل عقلانية. ففي النهاية كان الأمر مسببا لذعر غير مسبوق. وقد سألت عن ردة فعلك تجاه الكلمات التي نطق بها المدعى عليه حين وجدته أنت ورفاقك جاثيا على الجثة ويده ملطخة بدماء صديقه القتيل. لقد كنت قادرا ومن دون تردد ولو لحظة واحدة على أن تستنتج حتمية نشوب خلاف تسبب في خروج الكابتن ديني من العربة والهروب إلى الغابة، وعلى أن تتذكر الفارق في الطول والوزن بين الرجلين، وعلى أن تلاحظ كذلك عدم وجود أي سلاح في مسرح الجريمة يمكن استخدامه في إصابة القتيل بأي من الجرحين. فلا شك أن القاتل تخلص من الأسلحة ولم يتركها في الأرجاء. شكرا لك. يمكنك مغادرة منصة الشهود الآن.»
ومما أدهش دارسي بعض الشيء أن السيد ميكلدور لم ينهض مجددا ليستجوبه وتساءل ما إذا كان هذا بسبب أن محامي جهة الدفاع لم يجد شيئا يستطيع فعله للتخفيف من حدة الضرر الذي تسبب به. ولم يتذكر دارسي عودته إلى كرسيه. وبمجرد أن جلس دارسي في مكانه، شعر بغضب عارم تجاه نفسه جعله يائسا. فراح ينعت نفسه بالغبي فاقد الأهلية. ألم يرشده ألفيستون بعناية إلى كيفية الإجابة عن الاستجواب؟ «توقف لتفكر قبل أن تجيب، لكن لا تتوقف طويلا بحيث تبدو وكأنك تمكر، وأجب عن الأسئلة ببساطة ودقة، ولا تقل شيئا أكثر مما تسأل بشأنه، ولا تبالغ أبدا؛ فلو أن كارترايت رغب في المزيد فبمقدوره أن يسألك. وغالبا ما تكون الكوارث التي تحدث على منصة الشهود نتيجة البوح بالكثير، وليس بالقليل.» لقد باح بأكثر مما يجب، وكان ذلك كارثيا. لا شك أن الكولونيل سيكون أكثر حصافة، لكن الضرر قد وقع.
شعر دارسي بيد ألفيستون على كتفه. فقال بنبرة بائسة: «لقد ألحقت ضررا بالدفاع، أليس كذلك؟» «إطلاقا. بل قدمت حديثا مؤثرا لجهة الدفاع كشاهد لجهة الادعاء ، وهذا أمر لا يستطيع ميكلدور فعله. وقد سمعت هيئة المحلفين حديثك وهذه نقطة مهمة، ولا يستطيع كارترايت أن يمحو ما أودعته في أذهانهم.»
وراح الشهود يدلون بشهادتهم لجهة الادعاء واحدا تلو الآخر. وشهد الدكتور بيلشر على سبب الوفاة، وسرد الضباط بشيء من التفصيل محاولاتهم العقيمة لتحديد الأسلحة الفعلية للجريمة، رغم أن هناك بلاطات حجرية اكتشفت تحت أوراق الأشجار في الغابة؛ ورغم محاولات البحث الحثيثة والتحقيقات، لم يكتشف أي دليل على وجود هاربين أو أي شخص آخر في الغابة حينذاك.
والآن، حان النداء على الكولونيل الفيكونت هارتليب ليعتلي منصة الشهود، صمت مطبق، وتساءل دارسي لماذا قرر سيمون كارترايت الاحتفاظ بهذا الشاهد المهم لجهة الادعاء للنهاية. أكان يرغب في أن يجعل الانطباع الذي سيخلفه يدوم أكثر إن كان هو آخر ما ستسمعه هيئة المحلفين؟ كان الكولونيل يرتدي زيه الرسمي وتذكر دارسي أنه كان لديه موعد في وقت لاحق من اليوم في وزارة الحرب. تقدم الكولونيل نحو منصة الشهود وكأنه يسير في نزهته الصباحية، وانحنى انحناءة خفيفة لتحية القاضي، وحلف اليمين ووقف ينتظر كارترايت ليبدأ استجوابه، وفكر دارسي أنه في ذلك كان يبدو قليل الصبر بعض الشيء كجندي لديه حرب يريد الفوز بها، وكان الكولونيل مستعدا لأن يظهر من الاحترام ما يكفي للمحكمة، بينما ينأى بنفسه عن قرائنها. وقف الكولونيل في وقار فرضه عليه زيه الرسمي، وكان الكولونيل ضابطا يوصف بأنه من بين أشجع الجنود وأكثرهم وسامة في الجيش البريطاني. ساد الهمس في قاعة المحكمة وسرعان ما أسكت، ورأى دارسي أن صفوف النساء المتأنقات كن يتكئن للأمام في مجالسهن - وفكر دارسي أنهن كن يشبهن كلاب الراعي الصغيرة التي ترتعش فرحا أمام وجبة لذيذة.
واستجوب الكولونيل عن كل تفصيلة من تفاصيل الأحداث، منذ أن عاد من نزهته المسائية على ظهر حصانه ليلتحق بمجموعة البحث حتى وصول السير سيلوين هادركاسل ليتولى زمام التحقيق. وكان قد انطلق بجواده في وقت مبكر إلى حانة كينجز آرمز في لامتون حيث انخرط في محادثة خاصة مع زائرة في أثناء الوقت الذي كان الكابتن ديني يتعرض فيه للقتل. ثم سأله كارترايت عن الجنيهات الثلاثين التي وجدت في حوزة ويكهام، وقال الكولونيل في هدوء إن المال كان قد أعطي إلى المدعى عليه ليساعده في تسوية دين كان عليه، وإن ضرورة البوح بشيء كهذا في المحكمة هو ما أقنعه بالرجوع عن وعد كان قد قطع بينهما بأن تظل هذه الأموال طي الخصوصية. وأنه لا ينوي الكشف عن اسم فاعل الخير المقصود، لكنه لم يكن الكابتن ديني، وكذلك لم يكن لهذا المال أي علاقة بمقتله.
هنا نهض السيد ميكلدور من مكانه. وقال: «أيها الكولونيل، أيمكنك أن تقدم للمحكمة ما يؤكد أن الكابتن ديني لم يكن هو المقصود بهذا القرض، وأنه لا يمت لجريمة قتله بأي صلة؟» «يمكنني ذلك.»
ثم عاد كارترايت مرة أخرى إلى معنى الكلمات التي نطق بها ويكهام على جثة صديقه. وما هو الانطباع الذي كان لدى الشاهد عما تحمله من معنى؟
هنا توقف الكولونيل برهة قبل أن يتحدث. ثم قال: «لست قديرا يا سيدي على النظر فيما بداخل أذهان الناس، لكنني أتفق مع الرأي الذي قدمه السيد دارسي. بالنسبة إلي كانت المسألة تتعلق بالغريزة أكثر مما تتعلق بالاعتبار الفوري والمفصل للشهادة. وأنا لا أستخف بالغريزة ولا أستهين بها؛ فقد أنقذت حياتي في مناسبات عدة، والغريزة تستند بالفعل إلى إدراك كل الوقائع البارزة، وهذا أمر لا يعد خاطئا بالضرورة؛ لأن المرء ليس على وعي بها.» «لم أفكر في هذا الأمر، سيدي. فأنا لا أقدم على منطقة عدائية مجهولة بقوة غير ملائمة، تاركا ظهري مكشوفا.» «وماذا عن قرار ترك جثة الكابتن ديني والبدء في الحال بالبحث عن قاتله، ألم يجل ذلك بخاطرك قط؟ أظن أنك لو كنت قررت فعل ذلك لكنت أمسكت بزمام الأمور؛ حيث إنك قائد بارز ومميز.»
صفحه نامشخص