ثم آويت إلى مضجعي، وما إن غفوت حتى حلمت كأني أرى «المكاري» يأتيه موزع البريد في مكتبه الحقير في بيروت فيدفع إليه برسالتي، فيأخذها «المكاري» فرحا ويفضها نشوان، ثم يرى الحوالة بعشرة دولارات فيبهت وجهه، ويتطلع بي - كأننا ما برحنا غلامين في زمن الدراسة - ويبتسم عاتبا: «لا تكفي يا معاز، لا تكفي يا معاز.» وعز النوم فأرقت الليل كله. وفي مطلع الفجر هيأت قهوتي ولبست ثيابي، وفيما أنا أهم بالانصراف استفاقت زوجتي فسألتني: «شممت رائحة القهوة في الليل، ما هي؟ قصة، رواية، أم مشروع تجاري؟» قلت: «إن أمامنا أفراحا كثيرة، وأياما سعيدة، فحين أرجع هذا المساء سنعود فقراء.» فشع وجهها وتنهدت قائلة: «أممكن هذا، أممكن؟» قلت: «سترين!»
ونزلت إلى المكتب أنتظر مجيء المستخدمين. وما إن ظهر أمين الصندوق حتى سألته: «هوسا، كم رصيدنا في البنك؟» ففتح هوسا الدفتر وأجاب: «194312 دولارا و11 سنتيما.» قلت: «اعمل بها تشاك بالمبلغ كله، وأرسله تبرعا للمعهد العربي الأميركي في نيويورك.» - «تبرع؟» - «تبرع!»
وفيما هو يحضر التشاك، شعرت بأن ما يضطرب في أحشائي قد استحال إلى موجة من نار، غمرتني ثم تراجعت عني، ثم عادت إلي، فوقفت عليها، وراحت تندفع بي صعدا، صعدا، إلى مكان بعيد بعيد لاح كأنه جنة ربيع دائم. وتطلعت إلى يميني فأبصرت ملايين - أقول ملايين - البشر وقفت تصفق لي، عرفت بينها وجوها كثيرة، منها وجه المكاري وقد سمعته ينادي: «برافو يا معاز! برافو يا معاز!» ورأيتك يا بحار تحت إبطك غواصتك «نوتيلوس» في حجم هذه الصرة التي هي الآن بين يديك، تلوح لي بقبعتك هذه البيضاء. ونشقت الهواء شذيا كنسيم صيدا في إبان ازدهار بساتين ليمونها، وسمعت الصنوج والطبول تقرعها قبائل البدو، وألوفا من المؤذنين ينشدون «الله أكبر»، وعمالقة تقرع أجراس الكنائس. ورأيت أبي نهض من ضريحه وتلفلف بعباءته الشتوية، وصاح بالناس: «هذا ابني! هذا ابني!» وكذلك انتفض عمي الشاعر من قبره، وكان يتكلم العربية بلهجة مصرية، فتغنى: «دا كويس خالص! دا كويس خالص!» ولاح قصر تبينته، فإذا هو قلعة بعلبك وقد غطت حيطانها الأزاهير الملونة من ورود وقرنفل وياسمين وزنابق، وقد وقف في مدخلها على أعالي الدرج - تحت قوس النصر - رجل قصير، كبير الأنف، عبقري المظهر، تفرست به، فإذا هو خليل مطران في كهولته ينشد قصيدة ترحيبية، وقد اصطف خلفه أبو علي ملحم قاسم وأولاد دندش بأثوابهم العربية وأسلحتهم الألمانية يتوسطهم صلاح اللبابيدي ، تعلو رأسه برنيطة عالية سوداء. وإذا بهوسا أمين الصندوق يوقظني من تلك الرؤيا ويدفع إلي التشاك لأمضيه ويصيح: «سيدي! التشاك حاضر.»
ووقف جميل هائجا صائحا: «انظر. الآن تفهم لماذا لم أصافحك حين دخلت. جسها! جسها!»»
فتطلعت إلى يده التي مدها نحو وجهي، فإذا أصابعها الخمسة قد تكورت، وجسستها فإذا هي صلبة جافة عديمة الحياة، كقضبان حديد النافذة. وسرت بسلسلتي الفقرية رعشة أوجمتني.
أخيرا، سألت متلجلجا: «والطبيب ... ألم ...»
فضحك جميل ضحكة دامية وأجاب: «زرت كل أطباء المدينة ومشاهير الجيش والبحرية، وطرت إلى أميركا، فتعهدني كبار الأخصائيين، وقد جربوا الكهرباء والتمسيد والمراهم والسوائل، ولم أعف عن المشعوذين؛ فكتبوا لي الطلاسم، وألبسوني الحجاب، وتوسط لي عميلنا في نيويورك لدى الحكومة الأميركية، فسهلوا لي الطيران إلى همبورغ؛ حيث كان بين الأسرى الألمانيين شيخ أطباء الأعصاب «هر دكتر شمت»، وجيء بالدكتور الألماني في ثيابه المقلمة الزرقاء يحرسه جندي أميركي. وقدمني الضابط إليه بقوله: إني السيد سغبيني، ومددت يدي نحوه فنظر إليها نظرة سريعة، وضحك وتكلم هازئا: «هل خلق الله أناسا أشد بلها من الأميركان؟ من غير أن تخبرني أن اسم هذا المخلوق سغبيني، أفهم أنه من صبيان موسوليني.» ثم تطلع بي من فوق قامته الجبارة، وخاطبني كأني غلام دون العاشرة: «كانت المعركة حامية يا بني، وكانت المدافع تقصف كالرعد، وكان بين يديك بارودة تلك التي حملك إياها الدوتشي، وقال لك: إنك صرت جنديا. ولكنك لم تطلق البارودة يا بني!» وشد ذقني شأن من يدلل طفلا وقال: «يا حبيب أمك!» وتطلع إلى الضابط: «قلت لكم أن لا تأتوني بمثل هؤلاء المرضى. نحن الألمان اخترعنا كل شيء، ولكننا لم نخترع دواء يشفي من الجبن، لو كنا اخترعناه لاحتل حلفاؤنا قنال السويس، ونشروا بيارقهم على ذروة «ألمبوس»، ولكنت أنت تلبس ردائي الأزرق المقلم، ولكانت تحيتك لي: «هيل هتلر!» ...
ورمقني الطبيب بنظرة ازدراء، لو أن النظرات تقتل لكانت طحنتني هباء، وأدار ظهره وانصرف. •••
وزفر جميل زفرة خلت أنه زفر معها روحه، وتابع: «إني تعيس يا بحار! أشعر أني ساكن - كما ذكر قبطانكم في كتابه - في جوار الشيطان، في قعر بحر موحش بارد، ولكني في الغواصة وحيد، ليس لي رفاق. إن نفسي جفت وتصلبت وانطوت على نفسها مثل هذه الأصابع الميتة!»
وحملق في الزجاج السميك الذي يغطي طاولته، وجحظت عيناه، فتبعته بنظري، فإذا هو محدق بالتشاك الذي تمدد تحت الزجاج، ذلك التشاك الذي جبن جميل أن يوقعه.
صفحه نامشخص