موجة نار
آلام الذكرى
لعنة كتاب
الدواة
الخطاب المبتور
البرهان القاطع
قهوة سوراط
موجة نار
آلام الذكرى
لعنة كتاب
الدواة
الخطاب المبتور
البرهان القاطع
قهوة سوراط
موجة نار
موجة نار
مجموعة قصص
تأليف
سعيد تقي الدين
موجة نار
حينما شدت «نوتيلوس» الغواصة الأميركية حبالها إلى مرفأ «مانيلا»، كنت أول من قفز منها إلى الشاطئ.
ولم يكن حافزي جوعي إلى النساء، أو شوقي إلى أكل الخضار والفواكه، ولا حدا بي إلى الإسراع تلك الأحلام التي تراود البحار في أسفاره من قناني وسكي، ويابسة صلبة تحت قدميه، وقامة مياسة بين ذراعيه، بل إن عواطفي كانت متوترة تواقة إلى لقاء جميل السغبيني.
فجميل هذا هو مواطن لي، سكن «مانيلا»، ويعرف كل شيء عن لبنان حيث شببت، حتى ليسرد من أمور بلدتي «بعلبك» أكثر مما أعرف، فهو يذكر شوارعها، وراس عينها، وقلعتها، وساستها وبساتينها، وخيولها، ويعرف كذلك «أبو علي» ملحم قاسم، وأولاد دندش، وقائمقام بعلبك صلاح اللبابيدي.
وكان سبيل تعرفي إلى المواطن جميل السغبيني، النجمة السينمائية «غريتاغربو»؛ إذ ظهرت على الشاشة البيضاء ذات مساء، فأفلتت من شفتي لفظة إعجاب عربية، فلم أشعر إلا ويدان قويتان تهزان كتفي، وفتى يصيح من المقعد الخلفي في دار تلك السينما: «ابن عرب؟» أجبت: «... وبعلبكي!»
ومنذ تلك الليلة نشأت بيني وبين جميل مودة أنمتها الأيام، وشدت قلبي إلى قلبه حبال أمتن من حبال غواصتنا «نوتيلوس»، فكنت كلما رجعنا من سفرة تمارين حربية، أو من زيارة إلى مرفأ مجاور، هرعت إلى جميل وفي يدي هدية له أو لزوجته وطفلته؛ تلك الصغيرة التي كانت تدعوني «عمو». وكانت زوجته تغتفر لجميل تأخره عن الرجعة إلى البيت في المساء، ما دام «أسطول بعلبك» في الميناء.
ولعل ما جذبني إلى جميل السغبيني تنوع شخصيته؛ فما أعاد علي سرد قصة، ولا ردد نكتة. وقد أترك «مانيلا» وجميل مستخدم في مصرف، فأرجع إليها وهو مدير شركة أوتوموبيلات، ولعله بين الوظيفتين كان قد غامر بصفقة بورصة، وفتح ثم أقفل معمل بوظة. وكان يعجبني منه ثقته بنفسه إلى درجة عجيبة؛ فهو يروي لك كيف سيبني الخزانات لنهري دجلة والفرات، وينشئ معامل الفخار والقرميد والخزف في شرقي الأردن، ويجعل من إحدى قرى «عكار» مزرعة عصرية مثالا أعلى للزراعة العلمية، ويؤسس المدارس العربية في «جاوى». وحين ينتهي من خطابه يسألني اقتراض خمسة دولارات.
وإن مثل هذا السلوك، من غير جميل، يوحي الهزء. ولكن الأثر الذي يتركه في النفس حديث جميل أن هذا الفتى سائر إلى مبتغى سيدركه ولا ريب، وأن هذه الحاجة الوقتية، وتنوع أعماله، هما محطتان لا بد من الوقوف بهما في الطريق إلى النجاح.
هكذا كانت «مانيلا» قاعدة «نوتيلوس» البحرية، تعبئ منها زيوتها ومؤنها وذخائرها، وكان جميل السغبيني قاعدتي الروحية أستمد منه الوحي والقوة والإيمان، وأدخر من ظرفه ونكاته وحكاياته ما يؤنس نفسي في أسفاري الموحشة.
لذلك كان قلقي عليه شديدا، حينما احتل اليابانيون مانيلا، وحينما دمرت تلك المدينة أساطيلنا الهوائية ومدافعنا البرية. وكنت كلما قرأت أنباء القتل والدمار التي نزلت بمانيلا، أسائل نفسي خائفا: ترى ما حل بجميل وعائلته؟ وفي صيف 1943م، أغرقنا باخرة يابانية شمالي الفيلبين، وأسرنا منها ثلاثة فيلبينيين من موظفي الحكومة، أخبرني أحدهم أنه يعرف جميلا، وأن جميلا في سجن ياباني كثر من يدخله، وندر من يخرج منه.
وها أنا ذا في خريف 1945م وقد استعادت قواتنا الأميركية «الفيلبين»، منذ شهور أجول «مانيلا» أسأل عن جميل، فلا ألقى من يعرفه، وأقصد إلى البيت الذي كان يسكنه، فلا أجد هناك إلا السور وقد اسود من دخان الحرائق، فسألت نفسي هلعا: ترى أين كان جميل وعائلته، إذ استحال منزله إلى دخان ورماد؟ واقتربت إلى رتاج البوابة ... لا، ليس في الأمر من شك؛ فالنمرة التي اختبأت تحت حجاب من دخان - وغبار وأقذار - هي هي نمرة 722.
ولقد أتعبني التجوال وأغم قلبي ألم الخيبة، فجررت قدمين ثقيلتين، ودخلت إلى أقرب خمارة، وطلبت مشروبا، فجاءوني بزجاجة سكبت منها كأسا لها طعم دم الأبالسة، ولون الزنا، ورائحة الانتخابات النيابية في لبنان ... ورحت أفكر في جميل، وأتذكر. بلى تذكرت ليلة اشتد المرض على زوجته ، وكان بها شغوفا، وكنت إلى جانبه في المستشفى؛ إذ خرج الأطباء الثلاثة من غرفتها فتقدم منه عريفهم، وهز رأسه معزيا قائلا: «إن الزوجة ستموت بعد ساعات.» وتذكرت كيف انتفض جميل وصاح: «إن علمكم كاذب. إن زوجتي ستشفى، فلو أنها في طريقها إلى الموت، لكان ارتعب قلبي، وقلبي ساكن غير خائف.» وذكرت كيف سلمت الزوجة، بسبب أن قلب جميل لم يرتعب. قلت لنفسي: «وأنا كذلك شغوف بجميل وقلبي غير مروع، ترى هل تفوز الصوفية مرة ثانية؟»
وضربت بقبضتي على الطاولة صائحا: «إن جميلا حي.» وكأنما أجفل من صيحتي رجل كان واقفا حذاء الباب، يقلب صفحات دفتر التليفون، فوقع الدفتر من يده، وانحنى يلتقطه، فومضت إذ ذاك في ذاكرتي عبارة سمعتها من جميل: «إن أعسر الأمور على الإنسان أن يراها، هي الأمور الواضحة.» بلى، إن من الأمور الواضحة التي لم أرها، أن أفتش على اسم جميل في دفتر التليفون. فوثبت إلى الرجل الذي أجفلته صيحتي، واختطفت الدفتر منه، ورحت أقلب صفحاته: سين ... سين ... سابنكا ... سادولي ... سغبيني، جميل نمرة 502، بناية دافيس؛ فأقفلت الدفتر وأرجعته للرجل الذي كان يقلبه، منحنيا أمامه معتذرا، ورجعت إلى طاولتي راقصا على اللحن السماوي الذي تصدح به تلك الموسيقى العلوية، وأفرغت بين شفتي الرحيق الكوثري الذي ملأ كأسي، ونقدت عشرة دولارات إلى الحورية الفتانة التي كانت تجالسني، كذلك قبلتها في شفتيها وعنقها، ووضعت تحت إبطي تلك الصرة من سواكير، وصابون، وشفرات حلاقة، التي أتيت بها هدية لجميل، وأحسست أن بين ساقي ألفا من الخيول البعلبكية أهمزها لترمح بي إلى بناية دافيس.
ووقف بنا المصعد الكهربائي في الطابق الخامس، فانطلقت منه، فإذا الطابق كله مكتب واحد انتشرت فيه عشرات الطاولات، جلس خلفها رجال وفتيان وفتيات في كل الأعمار والألوان. وفيما أنا أدير عيني، أفتش عن جميل فلا أراه، اقتربت مني إحدى كاتبات المحل، وسألتني مغازلة: «هل لك من أمر؟» قلت: «إني أفتش عن جميل سغبيني، أخبرت أنه يشتغل هنا.» قالت مداعبة: «إنه لا يشتغل هنا، ولكنه صاحب المحل ، أعط اسمك هناك إلى سكرتيرته، وهي تسهل لك سبيل مقابلته.» ودارت تسير إلى طاولتها، فلم ألاحظ أنها فتانة في إقبالها وإدبارها، بل سرت إلى حيث السكرتيرة التي سألتني عن حاجتي في مقابلة «الرئيس». قلت: «أبغي أن أقدم تقريرا عن أسطول بعلبك.»
وانفتح الباب وبان جميل.
وجمدت مكاني واقفا تهتز الكلمات على شفتي ولا تنطلق، ويغشى الضباب عيني ولا تندى دموعا، بل رحت أتطلع إليه وأضحك. أما هو فبقي كذلك في كرسيه مبهوتا، لم ينهض ولم يقبلني، ولم يهز يدي، بل مكث ينظر إلي باسما، إلى أن نطق أخيرا؛ فقال: «إن كنت بحار بعلبك، لا طيفه، فارم بنفسك على ذلك الكرسي.»
فقعدت، وطفقنا نتحدث. بلى، لقد عانى أهوال السجن والتعذيب، والجوع، والخوف، وخرج من جهنم حكم اليابانيين نحيلا فقيرا. أخبار الوطن؟ كثيرة! القلعة لم تبرح بعلبك، و«رأس العين» لا تزال مياهها تجري.
وسألني بدوره أخباري، فقلت: إنها مختصرة؛ سماء، وماء، وبضعة بوابير يابانية ومدرعتان. فضحك وسرد لي أخبار غمار غواصتنا؛ إذ إنه كان قرأ الكتاب الذي ألفه قبطان الغواصة «نوتيلوس»، وعنوانه «سوريفاو» إلى مياه ظنناها أمينة، ففوجئنا بعشرات من قطع الأسطول الياباني، فغطسنا إلى قعر البحر، ولبثنا هناك ثماني ساعات، واليابانيون يرموننا بالقنابل من طياراتهم ومن بواخرهم المقاتلة.
وهدأ فوران نفسي، بعد انقضاء الوهلة الأولى، وانكشف الضباب عن عيني، فأخذت أنظر إلى جميل من جديد، فلم أجده الفتى الذي عهدت؛ فقد ضخم وجهه وترهل، وعرض جبينه في صلعة، ولقد اغتفرت له أنه لم ينهض للقائي ولم يمد يده لمصافحتي، ولكنني لم أغتفر له ذلك الطنين الخفي في صوته الذي يقصيني عنه. كان فيما مضى في صوته نبرة ثورة، وحدة إيمان استحالت الآن إلى هدوء مائع ساخر، وكنت قبل اليوم تشعر إذ تحادثه أنك في حضرة مقاتل يجاهد في تحقيق أمر نبيل، وها هو يصدر الأوامر ويقضي الحاجات، كأنه عامل في مصنع ينزع المسمار من هنا ليضعه هنا، يفعل هذا في حذق ودقة، ولكن بغير حماس. وكنت من قبل أرى حول رأسه هالة ، كأنما هو قديس أو ولي، فإذا بتلك الهالة أمست ضبابا من كآبة؛ إذ تسرق إلى صوته حزن عميق، ورنة يأس لم أفقه معناها.
وصمت وصمت.
ورحت ألاعب الصرة التي أردتها هدية له، وأضحك من نفسي إذ إن محادثتنا قاطعها ظهور بعض مستخدمي المكتب، واحدا إثر واحد، ولم يسعني الآن أن أفهم من شظايا كلماتهم أنهم يمارسون التجارة بأرقام ضخمة: «أرسل ستين ألف دولار إلى نيويورك ... اطلب عشرة صناديق ذهب من المكسيك ... ادفع حوالة ال 68 ألف دولار ... ثمانية آلاف صندق سواكير ... أربعة آلاف صندوق صابون ... لا نقبل طلبية بأقل من خمسة آلاف دولار ... مليون شفرة ...»
وحالا ذكرت أن قنينة الوسكي التي دفعت ثمنها لم أشربها كلها، وأن في شفتي تلك الفتاة شهوة مسكرة. وكنت حينما جلست قبالة جميل، أجد مقعدي ناعما كأنه مليء بأشعار فوزي المعلوف؛ فشعرت بعد أن تطلعت إلى جميل ثانية، أن الكرسي صار وخازا كأن حشوه خطابات المطران مبارك ... فتهيأت للنهوض والانصراف، ولكن عيني إذ ذاك التقتا بعيني جميل.
سبحان الله! اليد تصافح العدو مخادعة، واللسان ينطق بالكذب، والشفتان تنفرجان عن ابتسامة ختل. أما روح الإنسان الصادقة، فقد صبها الله في العينين فلا تكذبان. وقد التقت روحانا خلال عينينا، فاغتصب جميل ضحكة، وقال: «إن في نفسك معركة يا بحار، وكدت أن تنهزم منها.» ودخل إذ ذاك أحد مستخدمي المحل فأمره جميل بأن يقفل الباب وينصرف، وألا يسمح لأحد أن يدخل علينا، ثم تابع جميل حديثه: «تريد أن تسألني سؤالا ولا تجسر. وجدتني ممسوخا. تريد أن تعرف لماذا؟ إني مخبرك. لقد عرفت أسراري كلها في زمن فقري، فلم أخفيها عنك اليوم؟ ولكني أقول لك: إنه ليس في وسعك إسعافي! إن بي مرضا لا يشفى. أنت تذكر آلامي في أيام القلة. لقد رويت لك أي مهانة ملكت نفسي يوم ذهبت وزوجتي إلى كلية الراهبات لنسجل اسم ابنتنا في ذلك المعهد، وكيف أعرضت عنا الراهبات، ورفضن قبول ابنتي لولا توسل زوجتي. وما كان ذنبنا إلا أن حقارة أثوابنا أعلنت قلة دراهمنا . تذكر كيف كنت، حين انصرفنا بعد ظهر يوم ماطر، أقبع في مدخل البناية منتظرا انقطاع المطر، وكيف كان يمر أمامي الأوتوموبيل خلف الأوتوموبيل، ترش علي الوحول، وتحمل الكثيرين من أجلاف الناس. أنت تذكر حين جاءت الجوقة الأميركية ولم نقدر أن نشهد أيا من رواياتها؛ إذ كان ثمن التذكرة خمسة دولارات. تذكر أني كنت أقترض منك الدولار والاثنين والخمسة. أنت تذكر مرارتي وثورتي وآلامي. هذا ليس عليك بجديد.
وجاءت الحرب فطوحت بنا الفاقة، وكاد سجن اليابانيين يطحن روحي وجسمي. إلى أن حررتنا جيوش الأميركان.
وكنت آمل أن تمطر الدنيا دولارات، ولكني لم أحلم بمثل هذا الطوفان. لقد كانت لي علاقات وثيقة ببعض فبارك أميركا - كما تعرف - وكان اسمي في «السوق» محترما، والبلاد خالية من البضائع. اجمع هذا إلى ذاك واضربه بشيء من الحظ، تفهم كيف أسبح الآن هذا الأوقيانوس من الأموال.
وحين هبط علي الغنى لم أصبح مقترا، بل إني ابتنيت شبه قصر في ضاحية المدينة، فرشته بأفخم الرياش. وصارت ابنتي تذهب إلى كلية الراهبات - تلك التي أرادت رفضها بسبب فقرنا - بأكبر سيارة في المدينة.
ولكن شيئا من عناصر نفسي خشن وتصلب وآلم.
فحين مرضت زوجتي قبل الحرب كنت أسهر الليل أحدثها وأواسيها، وإذ تغفو أكب على قراءة كتاب، وربما ألفت قصة أو قطعة من رواية. أما بعد الغنى، فإني أكتري لها ممرضتين؛ واحدة لليل، وأخرى للنهار، ثم أنام ملء عيني. كنت في زمن الفقر، إذ يقبل العيد، آتي بدمية رخيصة الثمن وأعطيها لابنتي وألاعبها وأضاحكها. أما اليوم، فأوصي من نيويورك على أثمن الدمى، ولكني لا أضاحك ابنتي ولا ألاعبها. في زمن العدم، كنت أدخل وعائلتي إلى دار السينما، فنضحك أو نبكي مهما كانت الصورة سخيفة. أما منذ حين، فقد أقاموا حفلة خيرية وعرضوا فيها صورة «سلم إلى السماء» وباعوني ثلاث تذاكر، الواحدة بخمسين دولارا، فبقيت زهاء ساعتين أتطلع إلى الشاشة البيضاء، فلا أرى إلا الشاك الذي أمضيته لهم: 150 دولارا، 150 دولارا، 150 دولارا. أتذكر يا بحار يوم جاءتني من لبنان علبة الزيتون ، وجئت أنت ونسيب ويوسف وسليم وداود معي إلى البيت، وفي طريقنا اشترينا بستين سنتيما خبزا و40 سنتيما خيارا، وأكلنا وأكلنا وأكلنا، وضحكنا وضحكنا وضحكنا ... أما اليوم فإن وجوه المدينة يأتون إلى العشاء في بيتي، ولا نتبادل إلا المداجاة، وإني أعد عليهم حبوب العنب إذ يأكلون؛ كيلو العنب ثمنه ثلاثة دولارات يا بحار ...
وذات يوم جاءني بريد بيروت، فإذا فيه رسالة من رفيق الصبا، وعشير الدراسة، كنت أدعوه «المكاري»؛ إذ إن معظم رجال ضيعته أكارون، وكان يدعوني «المعاز»؛ لكثرة رعاة الماعز في ضيعتي. كانت رسالة المكاري إلي كلها عواطف، وقد أرفقها بنسخة من مجلة يصدرها؛ فذاب قلبي حنوا وتذكارا، وقطعت له حوالة ب 100 دولار اشتراكا بمجلته المتواضعة. وحين رجع الأجير من البنك بالحوالة، تصفحت المجلة فوجدت أن اشتراكها عشرة دولارات. لماذا أرسل له مائة؟ من وهبني خلال أيامي كلها تسعين دولارا، حتى أرمي بهذه التسعين؟ فأرجعت الأجير إلى البنك، واستبدل الحوالة بثانية قيمتها عشرة دولارات.
وبعد ظهر ذلك اليوم انصرفنا، وكان المطر شديدا؛ فركبت أوتوموبيلي الفخم، أمر بالناس تقي رءوسها من الأمطار بالجرائد، كما كنت أفعل في أيام الحاجة. أما أنا فكان كل تفكيري أن هذا الوحل الذي يخوضه أوتوموبيلي سيضطرني إلى غسله وتشحيمه في اليوم الثاني؛ أربعة دولارات ... أربعة دولارات ... أربعة دولارات ... وأرى الناس في مداخل البنايات تنتظر انقطاع المطر، فأذكر يوم كنت أقف بينهم موجعا، فأغسل روحي بصلاة خاشعة طالبة السعة، أو شتيمة وأسبيروتية تعلن الفقر. أما الآن، أربعة دولارات ... أربعة دولارات ...
وبلغت البيت، وجلست إلى العشاء، واتفق أن زلت القدم بالخادمة؛ فوقعت وكسر الصحن الذي كانت تحمله؛ فنظرت إلى القطع تنتشر على الأرض، وتألمت كأنها كسرات من أضلعي.
ثم آويت إلى مضجعي، وما إن غفوت حتى حلمت كأني أرى «المكاري» يأتيه موزع البريد في مكتبه الحقير في بيروت فيدفع إليه برسالتي، فيأخذها «المكاري» فرحا ويفضها نشوان، ثم يرى الحوالة بعشرة دولارات فيبهت وجهه، ويتطلع بي - كأننا ما برحنا غلامين في زمن الدراسة - ويبتسم عاتبا: «لا تكفي يا معاز، لا تكفي يا معاز.» وعز النوم فأرقت الليل كله. وفي مطلع الفجر هيأت قهوتي ولبست ثيابي، وفيما أنا أهم بالانصراف استفاقت زوجتي فسألتني: «شممت رائحة القهوة في الليل، ما هي؟ قصة، رواية، أم مشروع تجاري؟» قلت: «إن أمامنا أفراحا كثيرة، وأياما سعيدة، فحين أرجع هذا المساء سنعود فقراء.» فشع وجهها وتنهدت قائلة: «أممكن هذا، أممكن؟» قلت: «سترين!»
ونزلت إلى المكتب أنتظر مجيء المستخدمين. وما إن ظهر أمين الصندوق حتى سألته: «هوسا، كم رصيدنا في البنك؟» ففتح هوسا الدفتر وأجاب: «194312 دولارا و11 سنتيما.» قلت: «اعمل بها تشاك بالمبلغ كله، وأرسله تبرعا للمعهد العربي الأميركي في نيويورك.» - «تبرع؟» - «تبرع!»
وفيما هو يحضر التشاك، شعرت بأن ما يضطرب في أحشائي قد استحال إلى موجة من نار، غمرتني ثم تراجعت عني، ثم عادت إلي، فوقفت عليها، وراحت تندفع بي صعدا، صعدا، إلى مكان بعيد بعيد لاح كأنه جنة ربيع دائم. وتطلعت إلى يميني فأبصرت ملايين - أقول ملايين - البشر وقفت تصفق لي، عرفت بينها وجوها كثيرة، منها وجه المكاري وقد سمعته ينادي: «برافو يا معاز! برافو يا معاز!» ورأيتك يا بحار تحت إبطك غواصتك «نوتيلوس» في حجم هذه الصرة التي هي الآن بين يديك، تلوح لي بقبعتك هذه البيضاء. ونشقت الهواء شذيا كنسيم صيدا في إبان ازدهار بساتين ليمونها، وسمعت الصنوج والطبول تقرعها قبائل البدو، وألوفا من المؤذنين ينشدون «الله أكبر»، وعمالقة تقرع أجراس الكنائس. ورأيت أبي نهض من ضريحه وتلفلف بعباءته الشتوية، وصاح بالناس: «هذا ابني! هذا ابني!» وكذلك انتفض عمي الشاعر من قبره، وكان يتكلم العربية بلهجة مصرية، فتغنى: «دا كويس خالص! دا كويس خالص!» ولاح قصر تبينته، فإذا هو قلعة بعلبك وقد غطت حيطانها الأزاهير الملونة من ورود وقرنفل وياسمين وزنابق، وقد وقف في مدخلها على أعالي الدرج - تحت قوس النصر - رجل قصير، كبير الأنف، عبقري المظهر، تفرست به، فإذا هو خليل مطران في كهولته ينشد قصيدة ترحيبية، وقد اصطف خلفه أبو علي ملحم قاسم وأولاد دندش بأثوابهم العربية وأسلحتهم الألمانية يتوسطهم صلاح اللبابيدي ، تعلو رأسه برنيطة عالية سوداء. وإذا بهوسا أمين الصندوق يوقظني من تلك الرؤيا ويدفع إلي التشاك لأمضيه ويصيح: «سيدي! التشاك حاضر.»
ووقف جميل هائجا صائحا: «انظر. الآن تفهم لماذا لم أصافحك حين دخلت. جسها! جسها!»»
فتطلعت إلى يده التي مدها نحو وجهي، فإذا أصابعها الخمسة قد تكورت، وجسستها فإذا هي صلبة جافة عديمة الحياة، كقضبان حديد النافذة. وسرت بسلسلتي الفقرية رعشة أوجمتني.
أخيرا، سألت متلجلجا: «والطبيب ... ألم ...»
فضحك جميل ضحكة دامية وأجاب: «زرت كل أطباء المدينة ومشاهير الجيش والبحرية، وطرت إلى أميركا، فتعهدني كبار الأخصائيين، وقد جربوا الكهرباء والتمسيد والمراهم والسوائل، ولم أعف عن المشعوذين؛ فكتبوا لي الطلاسم، وألبسوني الحجاب، وتوسط لي عميلنا في نيويورك لدى الحكومة الأميركية، فسهلوا لي الطيران إلى همبورغ؛ حيث كان بين الأسرى الألمانيين شيخ أطباء الأعصاب «هر دكتر شمت»، وجيء بالدكتور الألماني في ثيابه المقلمة الزرقاء يحرسه جندي أميركي. وقدمني الضابط إليه بقوله: إني السيد سغبيني، ومددت يدي نحوه فنظر إليها نظرة سريعة، وضحك وتكلم هازئا: «هل خلق الله أناسا أشد بلها من الأميركان؟ من غير أن تخبرني أن اسم هذا المخلوق سغبيني، أفهم أنه من صبيان موسوليني.» ثم تطلع بي من فوق قامته الجبارة، وخاطبني كأني غلام دون العاشرة: «كانت المعركة حامية يا بني، وكانت المدافع تقصف كالرعد، وكان بين يديك بارودة تلك التي حملك إياها الدوتشي، وقال لك: إنك صرت جنديا. ولكنك لم تطلق البارودة يا بني!» وشد ذقني شأن من يدلل طفلا وقال: «يا حبيب أمك!» وتطلع إلى الضابط: «قلت لكم أن لا تأتوني بمثل هؤلاء المرضى. نحن الألمان اخترعنا كل شيء، ولكننا لم نخترع دواء يشفي من الجبن، لو كنا اخترعناه لاحتل حلفاؤنا قنال السويس، ونشروا بيارقهم على ذروة «ألمبوس»، ولكنت أنت تلبس ردائي الأزرق المقلم، ولكانت تحيتك لي: «هيل هتلر!» ...
ورمقني الطبيب بنظرة ازدراء، لو أن النظرات تقتل لكانت طحنتني هباء، وأدار ظهره وانصرف. •••
وزفر جميل زفرة خلت أنه زفر معها روحه، وتابع: «إني تعيس يا بحار! أشعر أني ساكن - كما ذكر قبطانكم في كتابه - في جوار الشيطان، في قعر بحر موحش بارد، ولكني في الغواصة وحيد، ليس لي رفاق. إن نفسي جفت وتصلبت وانطوت على نفسها مثل هذه الأصابع الميتة!»
وحملق في الزجاج السميك الذي يغطي طاولته، وجحظت عيناه، فتبعته بنظري، فإذا هو محدق بالتشاك الذي تمدد تحت الزجاج، ذلك التشاك الذي جبن جميل أن يوقعه.
آلام الذكرى
لم يبق من ذلك الصرح إلا درجاته الرخامية السبع، أما القصر فقد أحرقته قنابل الطيارات، وذرت رماده الرياح.
هناك وقفت وصديقي «مخيبر كيروز» الفتى البشراوي الصلب، ندير النظر فيما حولنا حيث تبعثرت الذكريات.
في سفح تلك الهضبة، حفرنا بأيدينا النفق الذي كنا نهرع إليه كلما ظهرت الطائرات القاتلة. انظر! فالفوهة لا تزال بادية. كم من يوم لبثنا ونساؤنا وأطفالنا قابعين في تلك الظلمة، وشظايا القنابل تصفر من حوالينا، والرعب يرجف قلوبنا. كم ضرعنا إلى الله أن يبقي ولو واحدا منا حيا، يخبرهم في لبنان كيف قضوا نحبهم، أولئك الذين لن يعودوا. لقد ملأنا ذلك النفق صلوات، ونحيبا وشتائم، تلك هي الشجرة التي تفيأناها، كلما غابت الطائرات وانقطع هديرها. ألا ترى الشجرة يابسة مقصوفة؟ أتذكر يوم هصرتها الشظية؟ إلى يميننا في الجهة المقابلة، حطام مخفر اليابانيين حيث اعتقلنا متهمين بالجاسوسية للأميركان. من كان يحسب حين وضع الجاويش السنكة في صدر مخيبر، وشد رفيقه بالمسدس على صدغي؛ أننا سنخرج من ذلك المخفر سالمين؟ أدر عينك إلى القمة المحاذية، ألا ترى خراب الدير، حيث احتمينا أسبوعا؛ ظنا بأن الطيارات لن تهتك حرمة المعبد؟ من ينسى تلك الظهيرة، إذ حومت الطيارات المزدوجة الجسد، وانهالت على الدير بصوب من الرصاص، فقتلت الفتى الإسبنيولي في ساحة الدير؟ ... صدق العرب! ليس أشجع من امرأة! كنا رجالا يربو على المائتين عددنا، فمن جسر على أن يخرج من مخبئه في البناية الحجرية إلى الساحة، حيث صرع الفتى الإسبنيولي؟ من قفز إلى الخارج، إذ كانت الطيارات تحوم وتصب الرصاص على الساحة إلا أم الفتى المقتول! ها هي راكعة إلى جانب ولدها ، ناحبة جافة العينين. لقد جست نبضه وتحققت من موته. تطلع إليها وقد شخصت إلى السماء وهزت قبضتها في وجه الطيار، ترى ما نطقت به تلك الثكلى في تلك الساعة؟ من سمع؟ من يدري؟ من يأبه؟
لبثنا في أسفل البناية، شجاعنا يهدئ روع النساء، وسائرنا في بله، أو هستيريا، أو غارق في الصلاة ...
أجل طرفك في البناية التي تلاصق الدير ... بلى، تلك الدار المتهدمة، المشوهة السوداء، ألا ترى أربع راهبات قتيلات في الممر؟ هنا رأس، وهناك رئتان ومصارين، وعين التصقت بحائط الغرفة الخارجي، حيث خبأنا مئونتنا. كيف تراكضنا قافزين فوق جثث الراهبات نختطف أكياس مئونتنا وحقائب ثيابنا. وعلام نبتعد بأنظارنا؟ هنا حيث تقف عتبة قصر «أركوس»، الكهل الإسبنيولي المرح، كم أتينا إليه في العشيات، فما إن ندنو من بوابة الحديقة حتى يتراكض أولاده الثلاثة، طفلته «كرمن» في السابعة من العمر، ترحب بنا ووراءها كلبها «برنس» يبصبص بذيله وينبح متأهلا، وابناه التوأمان؛ «رمون» يصيح بالخادمة أن هيئي القهوة للمواطنين، و«هوان» ينادي أباه أننا أتينا. ويوم عيد ميلاد «أركوس»، كم أفرغنا من زجاجة! وحلمنا بسعادة. كم غنى لنا «أركوس» بصوته الفخم الهدار وزوجته ترافقه موقعة على البيانو:
أواه ما أبعدك يا أرض إسبانيا!
آه ما أقسى الغربة عن ربوعك!
إني لأعجب أن أبقى حيا، وأنا مغترب عنك
غير أن قلبي ومشاعري
لا تزال هناك
هناك حيث ولدت في أرض إسبانيا.
وليلة أقمنا جمعية «بوكر» صخابة، و«أركوس» في يده أربع «بنات»، وفي يدي أربعة «ملوك»، وطفقنا نتزايد، فلما دفع بكل ما أمامه إلى الصحن، انتزع بنطلونه ووضعه على الطاولة، وحين رأى الأربعة «الملوك» في يدي، دار بوجهه إلى الغابة خاطبا: «ألا اشهدي يا باسقات الأشجار، ودوني يا طيورها، إن «أركوس» ما عرى جسده عن بنطلونه لو عرف أنه في حضرة ملوك أربعة!»
ويوم انتثرنا وهجرنا البلدة إلى الأحراج، كيف جاء «أركوس» يودعنا باكيا، وكيف فر إلى «مانيلا» واختبأ في أحد بيوتها، وكيف جاءه اليابانيون فأقفلوا الأبواب عليه وعلى عائلته وكلبه، وكيف رشوا الزيت وأشعلوا النار، فلم يظهر بعدئذ في رماد تلك العائلة إلا سن «أركوس» الذهبية.
وها أنا ومخيبر على الدرجات الرخامية السبع نتذكر! وأيام الجوع، حينما نغلي أوراق البطاطا البرية، ونحسوها شورباء! وحين طاردنا ذلك الديك أربعة كيلومترات حتى ظفرنا به! وكيف عشنا على الرز المسلوق طوال شهرين، لا قهوة، ولا سكر، ولا دخان، ولا شيء نأكله، إلا الخوف والجوع والرز المسلوق وبعض الأعشاب؟!
ومخيبر كيروز، هذا الواقف إلى جانبي، من ينسى إقدامه إذ سمع صياح جارة له عجوز تستغيث من منزل اشتعلت فيه النيران، كيف قحم السعير، واحتمل العجوز وقفز بها من النافذة، فلما هنئوه على شجاعته، أجاب متواضعا: ظننتها صبية!
وقفت على تلك الدرجات أستعرض الماضي المروع، فلا أشعر بغصة، وأصغي إلى قلبي فلا أسمع خفقانه، وألمس عيني فلا دموع. هل حجرت المآسي عواطفي، حتى لأقف على أطلال منزل الصديق الحبيب الذي مات وعائلته حريقا فلا أتأثر؟ لقد مضى عام على تلك الفواجع، فمتى تمتصها مشاعري وترسب في قلبي وتطفو على إحساسي؟ متى أحدث الناس بهذه الحكايات، إن لم أحدثهم بها اليوم؟ ولئن لم تملك الأحزان نفسي، فلم لا يهزها زهو الظفر؟ فهؤلاء اليابانيون القتلة الطغاة هم يعضون التراب، وها نحن ننعم بالحرية نفعل ما نشاء ونصيح بما نريد. ولقد أتخمنا أكل الدجاج حتى إذا رأيت دجاجة هربت منها. وها هي سيارتي ذات الثمانية سلندرات تلمع على جانب الطريق، مذيعة أن أيام فقري تولت؛ فما بالي لا يهزني الفرح؟ أحقا أن عذاب الأماني تبقى عذابا حتى تتحقق فتفسد؟ هل انقلبت عاطفتي إلى جماد، فلا ذكرى الأوجاع تهزها، ولا نشوة الفوز تسكرها؟ رب يسر لي دمعة أذرفها أو خفقة في قلبي، تثبت لي أني لا أزال حيا!
ولقد تاهت بي التأملات؛ فغفلت أن مخيبر لا يزال هناك قريبا مني، فأيقظني صوته مخاطبا: سعيد! «نعم» أجبت. وتطلعت إليه فإذا هو غير الفتى الذي عرفته الدقائق التي خلت.
يمر على الإنسان في حياته لحظات يبدو فيها أكبر من الدنيا، هكذا ظهر في تلك اللمحة مخيبر كيروز؛ فقد طغى على محياه نور سماوي، وتنهد فاشرأب صدره الفسيح، وتاهت نظراته كأنه نبي يسمع وحيا. - سعيد ... لو أن «أركوس» حي!
شكرا لك ربي! إن الكلمة الكبرى التي خرست عنها سينطق بها رفيقي. هذا مخيبر ابن «أرز الرب»، ابن «بشراي»، مواطن جبران خليل جبران. هذا فتى الفطرة الذي لم تفسده الثقافة. إنه ليفوه بكلمة أكبر من هذه الهضبة التي نحن عليها.
وومضت إذ ذاك في سريرتي فكرة تمر بخاطر كل من تطبع كلماته. سأظفر بعبارة أستحلها في مقالة أو رواية. «لو أن أركوس حي!» هذه شطرة شعر، بل مطلع أغنية. ففتحت عيني وأصغيت بأذني الاثنتين: أجل يا مخيبر، «لو أن أركوس حي!»
فشع ذلك النور السماوي على وجهه من جديد، وسطعت عيناه وقال: لو أن أركوس حي، لكنا ركبنا الليلة طاولة بوكر!
لعنة كتاب
قعدت إلى كأس الوسكي أتجرعها كريهة، كأني أبلع كذبة صهيونية.
وقد كنت يقظا متوتر الانتباه، كمن هو في بحران رؤيا، تزخر في عروقه قهوة عدنية، وتعمم رأسه ثلوج من قمة «جبل الشيخ» في أصقع ليالي زمهريره.
ففي تلك الحالة جلست، أسمع التاريخ وأراه - التاريخ - حيا، صخابا، فتاكا، مضحكا، مريعا، متهتكا، خليعا، كما لم تعلمني إياه الكتب وأساتذة الجامعات، وكما لم يصوره خيالي.
فهذه الحانة حيث الوسكي رديء، والخادمات بغيات، والزبائن غوغاء، من بحارة وجنود، هي في أطراف شمالي مدينة «مانيلا». وفيما نحن نحتسي الوسكي، والبغايا يقتعدن أحضان الزبائن، وآلات الموسيقى تزفر، وتلهث، وتطبل؛ كانت المعركة - معركة مانيلا - على أشد احتدامها. هذه سيارات الجيش وكميوناته ترمح من أمامنا مثقلة جنودا وعتادا. هذه هي الطيارات تحوم فوق مراكز اليابانيين وترميهم بالموت المتفجر، وهذه هي المدافع الأميركية تبصق ألف قذيفة كلما أزت من الجبهة اليابانية قذيفة واحدة. ولو أن أحدا مشى بضع مئات من الخطوات جنوبا، لرأى اليابانيين المحاصرين، ذوي العيون الكلبة، والوجوه الحيوانية، ولسمع حينا بعد حين هجمات شرذماتهم تحدوهم شجاعة بهيمية يصرخون صرخات الوحوش الجريحة الكاسرة.
وكان كلما انفتح باب الخمارة، ظهر لي مشهد جديد؛ فهذا بحري يقاتل بحريا، وهذا جندي سكران يفترش القناة، وهذه فتاة أميركية من الملتحقات بالجيش تريد أن تبادل معجون الأسنان وقنينة الكولونيا بمصنوعات «مانيلا» من زنانير قش، وأحذية خشبية. وذاك غليظ يترصدك؛ ليروي لك للمرة العاشرة أنباء غماره في هذه الحرب، وخسائره فيها. ومر بائع جرائد فابتعت منه صحيفة الجيش، فإذا فيها أن كل شمالي «مانيلا» أصبحت في أيدي الأميركان، وأن اليابانيين في تراجعهم نسفوا الجسور الثلاثة التي تصل شمالي المدينة بجنوبها فوق نهر «الباسغ»، وأن الجسر الرابع سليم؛ إذ إن اليابانيين أبقوه خشية أن تنقطع المياه عنهم، وهي تمر بقسطل فوق الجسر، وأن القيادة العامة الأميركية في حيرة؛ إذ لو قذفوا الجسر بالمتفجرات فقد ينقطع الماء عن الأهالي الذين لا يزالون في المنطقة اليابانية، وأن اليابانيين يستميتون في الدفاع عن الجسر، فكلما قتل منهم جندي، ظهر جندي يجعل من جثة رفيقه متراسا للدفاع.
أما أنا فلم تهزني هذه المشاهد، ولم يرعبني قصف المدافع، ولم أكن بالناظر إلى هذا التاريخ الذي يهدر حولي نظرة الفيلسوف، بل إن أفكاري ومشاعري وقلقي كانت متوثبة يقظة، أتساءل عن إبراهيم جوهر، ترى أسليم هو أم ... أم ...؟! كلمة كلما تخيلتها طلبت كأسا من الوسكي من جديد.
وكيف لا أقلق على إبراهيم جوهر، وهو عشيري، وشريبي، ومساكني خلال خمسة عشر عاما، وقد افترقنا لأسبوع خلا، في الجبال، إذ يمم هو سراديب معادن الذهب للاختباء فيها، وقصدت أنا إلى الأحراج. وهذه جيوش الأميركان قد حررتنا وأتت بنا إلى «مانيلا»، واليوم قيل لنا: إن الجيش احتل مناجم الذهب، وإن كميونات الإنقاذ ستأتي بالأجانب الأحياء إلى «مانيلا»، وقد دفنت القتلى منهم - وهم كثيرون - حيث وجدتهم.
حقا إننا لا نفهم كم هو شغفنا بشخص ما حتى نفقده، أو نخشى أن نفقده!
ونهضت من مقعدي، وعبرت الطريق إلى المخفر؛ حيث انتصب الخفير الأميركي، فسألته للمرة العشرين: متى تصل كميونات الإنقاذ؟ فابتسم وداعب بارودته قائلا: «لئن سألتني مرة ثانية لأطلقن عليك الرصاص! قلت لك: تصل الكميونات الساعة الثامنة عشرة.» وهذه الساعة العسكرية في لغة المدنيين تعني الساعة السادسة بعد الظهر؛ أي قبيل الغروب بساعة؛ أي بعد دقائق.
فوقفت أمام المخفر، وما طال انتظاري حتى أقبلت كميونات الإنقاذ، تحرس مقدمتها ومؤخرتها سيارتان مصفحتان، وهدأت أمام المخفر، وراح ركابها يثبون منها فرحين، وكان كلما قفز شخص من كميون، قفز قلبي من بين أضلاعي، وطفقت أتفرس بمن ترجل من الكميون؛ عله يكون إبراهيم.
وابتدأت الكميونات تسير وقد خلت من ركابها، منصرفة من أمام المخفر، وأحسست بالخوف واليأس يشلان ركبتي، وقد بردت يداي، وشعرت بظمأ إلى الوسكي شديد، وتماوجت الأبنية والشارع في نظري، وكادت السيارة التي تخفر مؤخرة القافلة تلطمني؛ إذ امتدت منها يد أمسكت بكتفي، وصاح منها صوت باسمي، ففركت عيني، وتثبت أن الجالس إلى يمين السائق في الثوب العسكري الأخضر هو إبراهيم.
وانحدر إبراهيم من السيارة متمهلا لم يثب، وسلم علي سلاما عاديا غير حار، وتمعنته فلم أبصر في عينيه تلك النار المشعة التي عهدتها، ولم أسمع في صوته تلك النبرة المتوثبة الحارة التي اشتقت إلى صداها، وحقا لقد تنكر علي، ونحن ما افترقنا إلا منذ أسبوع، حتى لوجدت فيه كل شيء تغير، إلا ذلك الكتاب الأحمر الذي تأبطه «مجاني الأدب»، وكان يسميه إنجيله وقرآنه وتلموده. وعرفني إلى رفيقه الفتى الأميركي الضابط؛ ماجور أندرسون، وراح يناديه باسمه «هري» عاريا عن اللقب، ومشى بنا إلى الخمارة في دعوة توهمت أنها شبه أمر.
وحقا لقد شعرت بالخيبة في لقاء إبراهيم، ولكني لست من الذين يطرحون جواهر الأمور لفشل في ظواهرها؛ فإبراهيم جوهر هو خليلي وصفيي لخمسة عشر عاما، وها هو قد نجا من الموت والمخاطر، وما عليه إن كان فاترا في سلامه، وهذه الحرب قد صيرت من العقلاء مجانين، ومن الأذكياء بلهاء أو قلقين. هي بادرة عارضة. فلنشرب هذه الوسكي، فسيصبح طعمها الآن مسكرا لذيذا.
وجلسنا إلى طاولة فغمز إبراهيم إحدى البنات، ودعاها إلى مجالسة الماجور بقوله: «عليك بهذا الأميركي، إنه فتى جندي عطشان جائع.» والتفت إلى الماجور وقال: «فيما أنت يا هري تتصابى ، اسمح لي أن أحدث مواطني هذا بلغتنا الغجرية.» فرجفت مشمئزا؛ متى كان إبراهيم وسيط البغايا؟ وكيف يدعوني ب «مواطن» وهو ما قدمني إلى الناس إلا مداعبا «أكبر أعدائي»، «وريثي»، «ابن عمي»، «أعظم مصائبي»؟ وكيف يقول إن لغتنا هي «الغجرية»، وهو ما تكلم عن العربية إلا بصوت مرتجف وصدر بارز فخور؟
وبلعت كأس الوسكي جرعة واحدة؛ إذ أخذ إبراهيم جوهر يخطب بي: أولا (قال إبراهيم واضعا سبابته بين عيني) سأحرق هذا الكتاب «مجاني الأدب». أتذكر راجي الراعي؟ - نعم، أذكره. - أتذكر ما كنا نقرأ من كتاباته؛ ما عنوانها؟ - قطرات ندى. - مضبوط. أتذكر قوله: «العقل جنون هادئ»؟ لقد كنت أنا خلال هذه الخمس عشرة سنة في جنون هادئ، ولقد أيقظتني من بحراني الجنوني كهربائية هزات هذه الحرب. ما كان أغباني! لقد نزلت إلى سوق التجارة متسلحا ب «مجاني الأدب». ما هي هذه العادات البدوية التي استعبدتنا: الوفاء، الشهامة، الكرم، العفو، الضيافة، العطاء؟! ما هذا الدستور الملائكي الذي حاولت تنفيذه في عالم الشياطين؟ وقبل أن أنسى، لئن رجعت إلى لبنان قبلي، فتش عن ضريح المعلم عباس. هل لك أن توليني منة وتبول عليه؟
وقهقه إبراهيم ونادى الغلام أن يملأ كئوس الوسكي من جديد، ثم عاد إلى الكلام: «أصغ إلى هذه المدافع التي تقصف حولنا، لعلك تحسب أنها حرب هذه التي نشهد ونسمع! ما هي بحرب. هي تجارة. الحرب، والسلم، والدين، والعلم، كلها تجارات.» هكذا قال لي رفيقي هذا هري الأميركي. تراك هل عرفت من هو؟ هو بطل «جواد الكنال» على صدره شارة أعظم نيشان. المجلة الأميركية التي نشرت خبر بطولته دفعت له خمسة وعشرين ألف دولار، وباعت أربعة ملايين نسخة من ذلك العدد الذي روى أنباء غماره. هوليوود دعته إلى صنع صورة. أتدري ما قال لي؟ قال لي: إنه يحارب ويتاجر معا! يبيع من بضاعة الجيش، لعلك تحسبها سرقة؟ ما أبلهك! بيع بضاعة الجيش هي سرقة في عرفك وعرف «مجاني الأدب» والمعلم عباس، أما هؤلاء الأذكياء مثل ميجور أندرسون فيحسبونها تجارة. أنا من الآن وصاعدا تاجر، أفهمت؟
وكانت الخمرة قد دارت في رأسه، فانتزع علبه الكبريت من جيبه، وأولع عودة فأدناها إلى كتاب «مجاني الأدب» يريد إحراقه، فاختطفته منه، وقلت: «أعطني إياه، مكتبتي احترقت، وأريد أن أحتفظ به فيكون عندي ولو كتاب عربي واحد.» فضحك إبراهيم وقال: «عجبا! هل فرغت من نهب اللغات الإفرنجية حتى تبدأ بسرقة الكتب العربية؟ لا بأس، فالكتابة تجارة. لئن كانت بضاعة الجيش حلالا، فحلال بضائع المؤلفين. هاك «مجاني الأدب».»
وقبل أن أتمكن من الرد عليه مشمئزا، أسرع إلى طاولتنا جندي، فأدى التحية العسكرية إلى الماجور أندرسون، وناوله كتابا مختوما بالشمع الأحمر، فابتسم أندرسون وصرف الرسول بهزة رأس بعد أن شكره. وصرف الأنثى التي كانت على ركبته بأن دس في يدها دولارين. وفتح الغلاف وقرأ الرسالة، ثم همس بأذن إبراهيم بحيث أسمع: «هل لي أن أأتمن صديقك هذا؟» أجاب إبراهيم: «يمكنك.» فقرأ الماجور في الرسالة أن قيادة الجبهة قد وافقت على الخطة التي اقترحتها: «تجد أمام مخفر المنكوبين أربعة كميونات، وخمسة قوارب، و84 جنديا، وعتادا من القذائف اليدوية. هاجم حال استلامك هذه الرسالة، وعليك أن تحتله بسرعة، فتكون مع رجالك في الجبهة المقابلة من الجسر قبل أن تظلم الدنيا، بحيث تتمكن قواتنا من عبور الجسر قبل العتمة. أفهم جنودك أن هذه العملية هي فدائية، فخير أيا أراد منهم بين الاشتراك بها أو العدول عنها.»
وابتسم الماجور فرحا، وراح يهزأ: «قلت لك يا إبراهيم إن الجنرال غبي؛ صار له أسبوعان يهاجم الجسر من الأمام. خطتي أن نركب هذه القوارب في أعلى النهر، وننساب مع التيار حتى نبتعد خمسين مترا شرقي الجسر ونهاجم اليابانيين من هناك؛ فبعد أن نمزق أجسامهم بالقذائف، نقرفص على جنوبي الجسر ونرسل دعوة لجنرالنا الأبله أن يشرفنا بزيارة.»
وفيما كان الماجور يتكلم، دفع إلي إبراهيم بأوراق صغيرة، طبع اسم الخمارة عليها مرفقا بأرقام، وقال: «ادفع أنت عن نفسك، وأنا أدفع عني وعن هري؛ لأنه ضيفي.»
وخرجنا نحن الثلاثة إلى حيث الكميونات وحولها الجنود، فوقف فيهم أندرسون خاطبا بلهجة عادية وصوت منخفض: «أيها الغلمان! في جيبي أمر بأن نعصف بالجسر الرابع فنحتله بعد أن نرسل إلى جهنم كل ابن قحبة ياباني يحرسه. حين تشع الأنوار هذه الليلة، قليلون منا من يمسي راقصا في هذه الحانة؛ إذ إن أكثرنا يكون إما طائفا على مياه «الباسغ» نحو أسماك البحر، أو مفترشا بقعة قرب الجسر في راحة أبدية. على أنكم غير مرغمين على المساهمة في هذه النزهة. أي سعدان منكم أراد أن يتخلف، فليفتح فمه ولينطق بكلمة، فأستبدل به قردا ثانيا من معسكرنا!» ولبث يردد العبارة الأخيرة بضع مرات فلم يجبه أحد، حتى تنطع فتى أمرد فخاطب رفاقه: «الظاهر أن ضابطنا الماجور أندرسون لا يحب وجوهنا ولا يستطيب مرافقتنا، ما قولكم لو سألنا الجنرال أن يرسل لنا ضابطا آخر؟» فقهقه الجميع وطفقوا يقفزون إلى الكميونات. أما الماجور فأعطى إبراهيم صورة زوجته وابنه وهمس بأذنه: «هذا عنوان بيتي في كاليفورنيا، لئن رجعت إليك، فلك حمل كميوني بضاعة بألفي دولار، ولئن بقيت هناك فزر زوجتي ورد لها هذه الصورة وأخبرها أنك اجتمعت بي.»
ووقفت أتطلع إلى الكميونات تسير كأنما ركابها جماعة عمال في طريقهم إلى مصنع، أو تلامذة قاصدون إلى نزهة، أو مسافرون ينتقلون من مدينة إلى مدينة. أين ذلك مما طبع في مخيلتي عن زيد الهلالي وعنترة العبسي وسلطان الأطرش وعودة أبو تايه، وما رسمته في خاطري تلغرافات الحرب عن الفروسية في الحروب؟
وحين غابت الكميونات مشيت وإبراهيم إلى «مخيم اللاجئين»؛ حيث كانت خيمتي نمرو 27، وقصدنا مكتب المخيم، فسجل إبراهيم اسمه وتناول بطاقة تخصيصاته، ثم دلفنا إلى العنبر، فتناول منه سريره وحرامه، وبعض ألبسة ومعدات، وذهبنا إلى خيمته نمرو 78، فمد سريره وقعدنا صامتين.
من المؤلم أن تجالس شخصا، كتفه إلى كتفك، وبينكما صحاري الدنيا وبحارها، وأن تكون بالقرب منه بحيث يستطيع أن يسمع همسك ولا تتكالمان. ولقد قعدت إزاء إبراهيم على حافة سريره صامتا يقتتل شعوري وتفكيري. أريد أن أكره نفسي على بغض صديقي فلا أقوى؛ إذ كلما ثرت على مجونه الوقح، وتهافته على المال، ولهجته الشرسة، ذكرته لأسبوع مضى، كيف كان خلا حبيبا مرحا يحتقر المال، ويستشهد بحكايات «مجاني الأدب»، ويعبد المكرمات. ثم أدور على نفسي فأجد في الحرب وأهوالها عذرا لتغير فيه أردت أن أحسبه عارضا. وإني فيما أهم بأن أبغضه كنت معجبا بحرارة الإيمان فيه، فنفس المرء تبقى ميتة حتى يملأها الإيمان فتتكهرب وتحيا وتثير الخضوع في الناس، وإن يكن إيمانها بمعبود مرذول.
وصرخت بعد حين صفارة المخيم تدعونا إلى العشاء، فهززت عني أفكاري، والتقطت صحوني المعدنية، ومشيت وإبراهيم إلى حيث الطعام، فوقفنا في صف طويل نسمع المدافع وأزيز الرصاص، وإلى القرب منا مجهر المخيم الصوتي ينطلق منه صوت نسائي بأغنية قديمة:
تراك تحبني في شتاء العمر
مثلما أحببتني في نواره؟
وحين جاء دورنا ملأنا الصحون وقفلنا راجعين نحو الخيمة، وما عادت نفسي تصبر على هذا الصمت الذي ضيق عليها، فقلت متعمدا فتح المحادثة: «هل لاحظت الرجل الذي كان أمامي في الصف؟ هو مدير بنك الناشيونال سيتي، وإن الصيني الذي كان يحاذيه كان خادما في مقهى «الكلوب» قبل الحرب. سبحان الله! الأميركان يهبوننا الطعام ويساوون بين مواطنهم الذي يرأس مصرفا، والغريب عنهم الذي يخدم في مطعم. فتقززت نفس صديقي وصرخ بي: «هل لاحظت أن فلسفاتك غليظة، وأن لعنة كتاب «مجاني الأدب» التي ركبتني قبل الحرب تثقل الآن رقبتك؟ ... اسمع.»
وجمدنا كلانا إذ انقطعت أغنية «تراك تحبني ...» وخرج من المجهر صوت عسكري: «إن القيادة العامة في جبهة «مانيلا» تذيع أن الجسر الأخير الذي يربط شمالي المدينة بجنوبها هو في أيدينا منذ ربع ساعة، ولقد خسرنا في القتال حوله 38 رجلا، بينهم الماجور هري أندرسون بطل «جواد الكنال» الذي قاد الهجوم. هذا كل شيء.»
ورجع الصوت النسائي يغني:
تراك تحبني في شتاء العمر
مثلما أحببتني في نواره؟
وجثمنا كلانا في خيمتي والصحون ملأى بالطعام، لا نمد إليها أيدينا، غارقين في التفكير، وفجأة انتفض إبراهيم جوهر وانتزع صورة الماجور وطفله من جيبه فمزقها وداسها وصاح شبه مجنون: «لعن الله أندرسون . بقي في الجيش ثلاث سنين يقاتل، أما انتقى ساعة يقتل فيها إلا قبل أن يسلمني حمل الكميونين بضاعة؟!»
ومشى من خيمتي، فرحت أتطلع إلى قامته المبتعدة أحمد الله أن ليس قربي مسدس أو بارودة، وأحدث نفسي: «حبذا لو لم يرجع إبراهيم جعفر مع قافلة اللاجئين. حبذا لو أنه دفن شريفا حبيبا في سراديب معادن الذهب!»
وحين غاب عن عيني تمنيت أن يبقى غائبا عني، ما حييت.
أخيرا، خضع الحيوان الياباني للعلم الأميركي، فسكنت المتفجرات وانقطع أزيز الرصاص، وقلت في شوارع «مانيلا» وجوه الأميركيين الباسمة، وابتدأت كوم الدمار من حجارة وحديد تختفي، وصارت البنايات تنهض هنا وهناك، وأنا خلال ذلك دائب في أعمالي المتواضعة، أشتري من هنا وأبيع هناك، وأرجع في المساء إلى غرفتي حيث أعيش وحيدا تؤنسني أحلامي وذكرياتي، وقد أقنعت نفسي أن إبراهيم جوهر مات على الرغم من أني كنت أرى صورته في الجرائد أحيانا، وأقرأ فيها أنباء حفلات أقامها أو دعي إليها، وأنظر إلى صورته في الصحف صاعدا إلى طائرة أو مترجلا منها؛ فلقد أمسى من الواضح أن الرجل قد صاب في الحياة نجاحا وأصبح ممن يسمونهم علية القوم.
أسابيع، شهور، سنة، سنتان.
إلى أن جاء صباح يوم فيما أنا أذرع الطريق قاصدا أسواق البلدة حيث أصطاد قوتي، وإذا بسيارة 12 سيلندر خضراء فخمة لماعة حاذتني متمهلة ووقفت ونزل منها من ناداني باسمي، ومد إبراهيم يده إلي وصاح: «ضعها هنا، وقل لي إنك غفرت لي.» فوضعت يدي في يده البضة المترهلة وصافحته كأني أصافح شبحا، ونظرت إليه فإذا هو قد بدن وتراخى وظهر لأول وهلة متخنثا أو كممثلي هوليوود، على رأسه برنيطة خضراء شك في شريطتها ريشة حمراء، يعلو شفته شارب قصير ثائر، ويلفلف بدين جسمه طقم خمري، ويتدلى من جيب سترته منديل أحمر، تجاوره زهرة من القرنفل، وشدت إلى رسغه ساعة شفافة، ودار حول وسطه الضخم زنار أبيض ينتهي ببكلة ذهبية حفر عليها اسمه، وتختبئ قدماه في حذاء مثلث الألوان. «أما غفرت لي؟» صاح إبراهيم: «ادخل الأوتوموبيل؛ فأنا في حاجة إليك. لم يكن اجتماعي بك صدفة فأنا جاد في طلبك منذ حين. إني في حاجة إلى مساعدتك.» فتبسمت وتطلعت إلى تلك السيارة، وأجبت مستغربا: «أنت في حاجة إلى مساعدتي أنا؟ دعني وشأني. إني أحب رياضة المشي.» قال متضرعا: «لا تكن حقودا.» وما زال بي حتى أدخلني سيارته وركضت بنا إلى بناية عرفت مما كتب على رتاجها أنها «مكتب مخلفات الجيش الأميركي». وسار إبراهيم متأبطا رزمة صغيرة، فتبعته، وشعرت حينما صرنا في داخل البناية أن رفيقي ذو شأن؛ إذ رأيت كل من مر به يحييه تحية تواضع، أو خشية، أو دعابة. كذلك سمعت بعضهم يدعوه «الجنرال»، فسألته: ما معنى ذلك اللقب؟ فضحك إبراهيم وأجاب: «إن أعلى موظف في هذا المكتب هو في رتبة كولونيل، ويسمونني جنرالا؛ اعتقادا منهم أني أعظم شأنا من عريفهم!»
وفيما هو يشرح لي هذا، أطلت امرأة أميركية شقراء، من الملتحقات بالجيش؛ فعانقها صاحبي، وبعد مطر من القبلات ناولها الرزمة وهنأها بعيد ميلادها، ونزع زهرة القرنفل من عروة سترته وشكها في صدر صاحبة العيد، وإخالني رأيته قد كبس بأصابعه أعلى ثديها.
وكأنما ظهور الجنرال في ذلك المكتب كهربه وقد كان ناعسا؛ فتحرك الضباط من وراء الطاولات، وراح الكتبة يقلبون الدفاتر. وكان في الرواق جمع من التجار الصينيين فأقبلوا على إبراهيم ودار الهمس والغمز، وتبادل الأوراق، والعروض، وإبراهيم المحور الذي يدور حوله كل شيء. وقد اشتد الجدل حول طاولة جلس خلفها ضابط برتبة كابتن، عديم شعر الرأس، ناداه إبراهيم: «يا أقرع!» فهرع هذا يتبعه تاجر صيني أعرف أنه من أكبر مستوردي المأكولات في المدينة. وبعد أن اشتد الجدل والتاجر الصيني يعترض بقوله: «هذا كثير. هذا كثير.» صرخ إبراهيم: «طيب، خمسون ألفا، اقبلها أو ارفضها.» ونادى بي، فخرجنا إلى السيارة. وفيما نحن نفتح بابها لحق بنا الصيني باسما فرمى بصرة إلى داخل الأوتوموبيل وقال: «طيب، هاك الخمسين ربحك، سلمني ورقة البيع.» فناوله إبراهيم بعض صكوك وصاح بالسائق: «إلى المكتب.»
وحينما صرنا في داخل المكتب عجبت لخلوه من المستخدمين ، ولحقارة شأنه وصغره، وكأنما قرأ إبراهيم أفكاري فأوضح: «إني لا أستخدم أحدا؛ إذ إني لا أريد ائتمان أحد.»
وفتل الزر الكهربائي فانتشر النور، وفتح إبراهيم الصندوق الحديدي الهائل الذي كاد يملأ المكتب، ثم أحكم المفتاح في أسفله ودار به؛ فانفرجت دفة عن رزم الأموال، فرمى بالصرة التي أعطاه إياها الصيني، وأقفل أسفل الصندوق الداخلي، وسلمني سائر مفاتيح الصندوق والمكتب قائلا: «اسمع، ليس في هذه البلدة من أثق به سواك، أنا مسافر في الغد إلى جبال «أيلوكوس»، أربع ساعات في الأوتوموبيل، وعشرون كيلومترا مشيا - هناك سأثبت حقي بمعدن ذهب أعطاني خارطته ذلك الأيرلندي «أوهارا»، هل تذكره؟ لقد أخبرتك أنه مات في سراديب معادن الذهب، قتلته الزنطاريا، وأعطاني هذه الخارطة فيما هو يحتضر، رحمه الله.»
وقهقه مرحا: «سأبكر في المسير بعد منتصف الليل، فنبلغ الجبل عند الشروق، ونزرع العواميد، واسمي محفور عليها، في حدود تلك الأرض، ثم ننحدر إلى «سانتاماريا» قاعدة تلك المنطقة، فنسجل الأرض بعد ظهر الغد أو صباح بعد غد. كل هذه السفرة لن تستغرق إلا ثلاثة أيام. أما أنت، فاجلس وراء هذه الطاولة، ستأتيك مني أوراق كثيرة فاقبض وادفع بحسب الطلبات التي تحمل توقيعي. كل تجارتي ومعاملاتي هي باسم «مكحش وشركاهم».»
قلت: «من أين لي أن أدفع وأراك قد احتفظت بالمفتاح حيث المال؟» فقهقه ثانية وقال: «ستفهم كل شيء في الغد. إن التجارة هي في أن تقبض أكثر مما تدفع.» قلت: «وما معنى «مكحش وشركاهم»؟» فعاد يضحك وأجاب: «ألا ترى الأميركان يخترعون الكلمات بأن يؤلفوا من أول حرف من عدة كلمات كلمة جديدة واحدة؟ «مكحش» هي اختصار «ما أكثر الحمير وشركاهم». مضحكة هاه؟» ورجع يضحك من جديد.
وحينما ودعني رجع يتضرع من جديد: «إني في حاجة إليك.» وقد أضاف هذه المرة: «إن حصتك من الربح هي خمسة آلاف دولار في هذه الأيام الثلاثة.»
في صباح اليوم التالي، فتحت باب مكتب إبراهيم جوهر، فشعرت كأني داخل قبرا، فأسرعت إلى النافذة ففتحتها على مصراعيها، وأنرت كل المصابيح الكهربائية، وجلست وراء المكتب حائرا فيما أفعل. وسرعان ما دخل علي زنجي أميركي متدلي الشفتين، أحمر العينين، ضخم الأجفان، فبادرني بالسلام قائلا: «نهارك سعيد يا دكتور.» قلت: «ما أنا بدكتور، من أنت وما تريد؟» أجاب: «أيحرم على الإنسان أن يتأدب بإلقاء التحية؟ أنا عمك جو، جئتك بالمخمل، هذه شورباء العظام المباركة، وهذه رغوة دم الملائكة.» ولقد سرت بي رعشة خوف وتطلعت إلى الباب أقصد الفرار، ولكني رأيت الزنجي بيني وبين المهرب.
وأرسل الزنجي زفرة وصاح: «يا للبقرة المقدسة! إن الأزرار النحاسية غلا ثمنها.» وكأن محدثي لحظ الرعب الذي حل بي، وعرف من بلاهة نظراتي أني لم أفهم ما يقول؛ فزاد: «إخالك تجهل اللغة الأميركية، المخمل هو صافي الربح، العظام المباركة هي «الزهر» المزيف.» وانتزع من جيبه مكعبين من عظم أبيض، واحدا يحمل علامة الصفر على وجوهه الستة، وآخر عليه ست نقاط في كل وجه. ثم تابع الزنجي شرحه القاموسي: «دم الملائكة» هو الخمور، الأزرار النحاسية هي البوليس؛ يعني أن هاتين الصرتين تحتويان على الأرباح الصافية، في الليلة البارحة، من طاولة الزهر، وبيع الخمور، بعد أن دفعنا للبوليس حصتهم التي ضخموها. وبعبارة ثانية، هذه غلة النادي الاجتماعي الذي أديره أنا ويملكه مواطنك إبراهيم. إلى هناك هو يسوق الضباط الذين يرشوهم في النهار، ونحن ننهبهم في الليل.» ورجع يضحك. ثم سلمني ورقة عليها بالعربية: «استلم من هذا اللص ذي الوجه العاجي ما يعطيكه من غلة النادي، إبراهيم.» وحين انصرف زائري وصار في الباب، التفت إلي متهكما: «بخاطرك يا دكتور.» وغمزني مشيرا إلى الفتاة الشقراء التي أقبلت علي في خطوات خفيفة ووجه صبوح وعاجلتني بتحية: «صباح الخير.» بصوت عال شأن الأميركيات؛ فقد كانت تلك الفتاة صاحبة العيد أمس، وناولتني حالا ورقة من إبراهيم: «ادفع لهذه الشقراء مائتي دولار، واقبض منها قبلتين أو أكثر.» فدفعت لها المائتي دولار حالا، فشكرتني مبتسمة سائلة: «أفي وسعي أن أقضي لك حاجة؟» فشكرتها وأجبتها سلبا، وخرجت كما أقبلت رشيقة، تمشي على قدمين قويتين، مرفوعة الرأس واسعة الخطا.
وكر ذلك الشريط السينمائي أمام عيني، وصار الباب كالشاشة البيضاء ، أتطلع إليه منتظرا ظهور كل غريبة، ولم يطل انتظاري حتى جاءني أميركي زري الثياب، مشعث الرأس، وناولني فاتورة بيع من «مكتب مخلفات الجيش، إلى مكحش وشركاهم» خمسة أطنان طحين فاسد لا تصلح للاستهلاك البشري. وهمس الأميركي في أذني: «إن كميونات السكر هنا.» قلت: «ما تعني بكميونات السكر؟ هذه فاتورة طحين فاسد.» قال مستغربا: «ألا تفهم؟ اشترينا الطحين الفاسد، ورشونا القائم على المستودع؛ فسلمنا سكرا، ودفع إلي بورقة: «تلفن إلى 72-24 وحينما يدفعون لك 82 ألف دولار سلمهم السكر، إبراهيم.»
وتلفنت وقبضت وسلمت، وقعدت في ذلك الكرسي ألهث تعبا كأني أركض وعلى ظهري كيس من حجارة. ودار الشريط، فإذا على الشاشة البيضاء صاحبنا الكابتن الأقرع يصافحني في مرح وظرف ويسألني عن القنبلة الذرية أين مكانها، فكان جوابي أن فتحت فمي ووسعت حدقات عيني، فمد يده إلى جرار في طاولتي قائلا: «كانت هنا.» وانتزع قنينة وسكي وكأسين فارغتين ملأهما وأعطاني إحداهما، ثم مضى يقص علي تاريخ حياته من يوم خلق إلى أن تخرج من جامعة هرفرد إلى أن تطوع في الجيش، وجرح في «أيوجيما»، ومنحوه رتبة كابتن والنيشان الفضي، وجاء «مانيلا» مسرحا من خدمة الجيش، غير أنه لمح في «مكتب مخلفات الجيش» ميدانا للتجارة، وها هو يتعاون مع صديقي جعفر في الاتجار وكلاهما ناجح؛ فالكابتن في يده فض غلافات المزايدة، وهو بدلا من أن يفضها في المكتب وعلى مشهد من التجار، يأخذها إلى غرفته ويطلع إبراهيم عليها، وأي صفقة أعجبت إبراهيم زاد هذا عليها عشرة سنتيمات فاشتراها وانتهى الأمر.
ولم يكن الكابتن في سرده أخبار المعارك التي خاضها متباهيا، بل كان كغيره من الأميركان يهزأ بنفسه ويبالغ بوصف رعبه في المعركة. كذلك لم يكن في تحداثه عن «تجارته» مع إبراهيم حييا؛ فقد كان يعتقد أن أشغاله تلك كانت أمورا مشروعة كأنها تجارة عادية. وحينما فرغت الزجاجة فرغ الكابتن من أحاديثه وناولني ورقة من إبراهيم تأمرني أن أدفع لحاملها ستة آلاف دولار، ففعلت.
واستمر عقربا الساعة في بطء دبيبهما نحو الساعة الثانية عشرة؛ إذ غمرت المكتب موجة من العطر فاسقة، ورن في أذني طقطقة كعبين عاليين، وأبصرت برقعة من البودرة، والحمرة، والأهداب المكحلة فوق فسطان من الحرير يتماوج ضيقا على قامة هيفاء شهية، وصوتا يقول: «هلو»، وأصابع حمراء الأظافر تدفع لي ورقة: «ادفع لحاملها ثلاثمائة دولار، إبراهيم.» وقد رسم إبراهيم تحت توقيعه رسم قرنين. وبعد أن عدت الدولارات، شكرتني، بغمزة زانية، ورددت عليها بنظرة بلهاء. وانصرفت، وأقفلت المكتب شاعرا كأنني خارج من كهف جناة أو قطاع طرق. •••
لن أروي لك حوادث الأربعة الأيام التي تلت الصباح؛ إذ إنها كانت مشابهة لما ققصت؛ حيلة إثر حيلة، ورشوة تتلو رشوة، وكذب وتزوير، ورجال ونساء يدفعون ويقبضون، والصندوق تتكدس فيه أوراق المال حتى كاد يضيق بها، وأنا متفكر متبرم بهذا الدور الذي أرغمني على لعبه، حانق عليه، متوعد له، أحاول أن أفهم لم أبطأ إبراهيم في عودته، وكيف زلقت أنا إلى قبول الاشتراك معه في اللعبة الذميمة.
وقرأت التلغراف:
صديقك إبراهيم في مستشفى سانتاماريا في خطر شديد، يصر عليك أن تحضر حالا.
الأب جورج هتكنسن
غريبة عواطف الإنسان، كيف تسرع في تقلباتها بين المد والجزر؛ فمنذ هنيهات كنت ناقما على إبراهيم مزدريا لأعماله، وها أنا حين مر نظري على ذلك التلغراف ذائب حنانا، لا أذكر من صديقي إلا كل ما كان فيه من نبيل وجميل، وكأنما الخطر الذي هو فيه أنا سببته، فرحت أوبخ نفسي على خيانتي لصديقي وأشجعها «لا لن يموت إبراهيم، سأهرع إليه وأدفع عنه الخطر، سأداعبه وأضحكه، سأريه كتاب «مجاني الأدب»، وأسأله أن يتبرك به، سأذكره بكل ما مضى بنا من حوادث فكهة، سأشجعه بقولي: إن من نجا من اليابانيين والمدافع وقذائف الطيارات لن يصرعه مرض في مستشفى.» وركبت قطار الليل إلى «سانتاماريا» متفائلا متحفزا إلى القتال كبدوي يهرع إلى مخيم قبيلته إذ قيل له إن عدوا هاجمها.
وقفزت من القطار قبل أن يقف، وطفقت أمشي وأركض إلى المستشفى في ضاحية «سانتاماريا». وفيما أنا في منتصف الطريق أطلت أشعة الشمس فبددت ما في نفسي من مخاوف، ورحت أقترب من المستشفى والكنيسة بقلب مفعم بالرجاء.
حين دخلت الباحة التي تفصل الكنيسة عن المستشفى، تقدم إلي رجل الدين يلبس الثوب الأسود متمتما صلاة، وبين يديه الكتاب المقدس، وتمعن بي لحظة وسأل: أنت صديقه يا بني؟ - نعم، يا أبت! - لقد تأخرت يا بني. جاءت النهاية منذ ساعة في مطلع الفجر. انظر إلى هاتين اليدين المجرمتين، لقد قتلته أنا بيدي. رب عفوك عن عبدك الخاطئ الضعيف! إن صديقك جاءنا في الدير هناك في أعلى تلك الهضبة، وقد كان منهوكا؛ إذ لم يستطع أن يقطع كل الطريق بأوتوموبيله، فالجسر خربه اليابانيون قبل أن ينسحبوا، فاضطر صديقك لأن يمشي ورفاقه نحوا من أربعين كيلومترا. ووصل مستر جوهر متعبا في أول الليل يغتسل بعرقه. لقد نام عندنا في تلك الليلة. رب عفوك عن معاصي. أنت ترى أن الدير في أعلى الهضبة والبرد في الليل قارس، وليس عندنا حرامات، وحين دخلت غرفته في الصباح وجدته محموما يهذي، داء الجنب في رئتيه الاثنتين. إن ديري فقير يا بني. لقد جهدت في جمع المال وحرثنا وزرعنا وبعنا محصول أراضينا. لقد حاولت أن أشتري حرامات لنا ولجيراننا ففشلت. انظر! وانتزع رجل الدين ورقة من بين صفحات الكتاب المقدس قرأت فيها:
إن عرضك أربعة آلاف دولار ثمن ألفي حرام مرفوض؛ إذ إن شركة «مكحش وشركاهم» عرضت عشرة سنتيمات زيادة بالحرام؛ أي أربعة آلاف ومائتي دولار.
المخلصون
مكتب مخلفات الجيش
وفيما الأب يتضرع إلى الله من جديد أن يعفو عن خطيئاته ويتهم نفسه بجريمة قتل صديقي؛ لخلو الدير من الحرامات، أقبل دكتور المستشفى، فعرفني الكاهن إليه وسأله أن يسير بي إلى غرفة الميت؛ نمرو 8. وقبل أن أدير ظهري سألني الأب: «مسألة الصلاة عليه؛ هل كان صديقك يؤمن بالكتاب الأحمر الذي تتأبطه؟»
أجبت: لقد آمن به ثم كفر، يا أبتاه.
وماشيت الدكتور نحو غرفة إبراهيم، أستمع لذلك الطبيب يتكلم عن المريض الذي خسره غير آبه كتاجر تعود أن يفر منه زبون حينا بعد حين . وقبل أن نصل إلى باب الغرفة أوقفني وقال: «كان من المؤكد نجاة صديقك لو أن عندنا «بناسلين». في الشهر الماضي، حاولت شراء 500 زجاجة من مخلفات الجيش فخسرتها في المزايدة. شركة «مكحش وشركاهم» دفعت أكثر مني عشرة سنتيمات بالزجاجة. من هي هذه الشركة «مكحش» التي تشتري كل شيء؟» •••
وكشفت الشرشف الأبيض عن وجه إبراهيم، فبان وجهه المتضخم في لون الشمع، وقد تراخى شارباه الثائران إلى خطين مائعين، ونبت الشعر في وجهه طويلا بشعا، وشخصت عيناه باهتتين كعيني سمكة، وتطلعت إلى خلفه فرأيت سترته معلقة، معروكة، في عروتها زهرة قرنفل يابسة، وقد استوت فوق السترة برنيطته الموحلة وليس في شريطتها ريشة، وتحتها حذاؤه وقد وحدت الوحول ألوانه.
وبقيت وإبراهيم وحيدين في تلك الغرفة المظلمة، وليس معنا إلا كتاب «مجاني الأدب» يتأرجح في يدي، وقد قبضت عليه بإبهامي وسبابتي، في المكان المحروق، حيث أراد إبراهيم أن يولعه ويتلف لعنته.
الدواة
جلست في تلك الغرفة المقفلة النوافذ خائفة، حيية، وقد سكن كل ما حولها إلا نور سراج ضئيل يهتز شعاعه الباهت فتتراقص معه أخيلة بعض رياش الغرفة. وقد كانت الفتاة في وحشة ذلك الليل وحيدة على مقعد حريري أزرق، مطرقة كأن تلك الورود التي زانت رأسها ثقلت عليه فحنته. وقد تماوجت العطور من حولها وانتثرت الأزهار وتدلت بردايات الدمقس، وامتد السرير العريض ذو الوسادتين المجاورتين يعلوه اللحاف المطرز. وكانت قدماها قلقتين بالحذاء الجديد الأبيض اللماع، تكثر من تقليبهما، وأظافرها برمة بالطلاء الأحمر الذي لم تعرفه قبل صباح ذلك اليوم؛ فهي تتفرس بها ثم تطبق يديها وتبسطهما، وتهم بأن تقرض أظافرها بأسنانها فلا تفعل. وقد استقام خصرها النحيل تحت صدر عمر وتوثب جانباه، وتصلب جيدها في عقد من اللؤلؤ المزيف، وتنقب وجهها في طوقة النور البهي الذي يغمر وجوه العذارى.
وأرهفت فتاتنا سمعها وجلة فلم تسمع إلا ضربات فؤادها.
وأصغت فإذا بصدى خافت يتسرق من خلال النوافذ المقفلة علمت منه أن الموسيقى لا تزال تعزف في الطابق الأسفل. وعبثا حاولت أن تطرد عن أذنيها صدى مواعظ خالتها «أم عمر» التي ألقتها عليها والفتاة تستحم في فجر ذلك اليوم. وكانت تلك المواعظ خليطا من الإنذار والتشويق ووصفا للذة الجنسية وألمها لو لم تطهر ألفاظه لتبذل. وكانت الفتاة تشعر بالدوار؛ إذ ذعرت لسماع نحنحة خفيفة في الخارج، وبان ظل فدخل الباب محترسا واقترب منها متمهلا ملقيا في صوت ناعم مضطرب «مساء الخير!» ثم وقف الظل أمامها وامتدت يده إلى ذقنها، وعاد الظل إلى الكلام: «لماذا لا تنظرين إلي يا رئيفة؟» فرفعت نظرها خجلة متمهلة وأبصرت لأول مرة وجه محمد الكرار - الزوج الذي انتقوه لها - وابتسمت نشوى وقد فر الخوف من نفسها، وانبسطت أسارير وجهها وطيات روحها في لذة الضعف الأنوثي؛ إذ يستسلم للرجل القوي، فليس في الدنيا ما يبعث في نفس المرأة غريزة الاستسلام مثل قوة لفلفها الحنان.
يقولون لك: إن اقتياد فتاة إلى فراش زوج تجهله عادة همجية بهيمية، بل يسرفون في القول فيذكرون أن الهمج والبهائم تتعارف وتتآلف قبل أن تتزاوج. أما أنت - يا قارئي - فإنك مثلي محافظ رجعي ترى السفه في ذلك الافتراء؛ إذ إنه في وسعك أن تستشهد بمئات من الأزواج والزوجات الذين قطعوا مراحل العيش هانئين وهم لم يبدأ تعارفهم إلا في ليالي الزواج. ومن أظهر هؤلاء الأزواج الفتى محمد الكرار وعروسه رئيفه عبد المجيد؛ فإن رئيفة صيرها محمد سيدة منزل، وكانت في دار أبويها ابنة بين جمهور من إخوة وأخوات لا قيمة لها، ونعمت معه باللذة الجنسية المشروعة، فالتهبت بين يديه نزوات غرامها فأشعل تلك النيران برفق وأطفأها بلين وحنان. وأما محمد الكرار، فقد وجد في رئيفة عطف الأم التي فقدها طفلا ووفاء الممرضة وهيام الحبيبة التي تغزل بها شاعرا يحس بالغرام ولا يمارسه.
وهكذا مرت عسال الشهور وهما في غمرة من سعادة لا يفترقان إلا ساعات المداومة التي يقضيها محمد في المدرسة الابتدائية؛ إذ كان يدرس فيها ويديرها. وكانت رئيفة في غيابه تطالع الكثير، وتختص بالقراءة من مكتبتها العامرة رواية «الغراب الشائب» لمؤلفها محمد الكرار، فما من يوم مضى إلا وأعادت قراءة تلك الرواية أو بعضها، وما من مساء عاد محمد من عمله في المدرسة إلا ولاقته رئيفة ضاحكة تقبله وتعيد عليه شيئا من نكات «الغراب الشائب» أو حوادثها، أو مقاطعها الرائعة، ثم تسأله فخورا: «هذا ما كتبت وأنت دون العشرين، ترى ما الذي تؤلف قبل أن تبلغ الأربعين؟»
وكانت تعيد هذا السؤال في النهار مرارا، متئدة في أول الأمر، حتى إذا مرت الشهور ولم ينتج محمد شيئا صار السؤال يحمل رنة العتاب. وفي العام الثاني من زواجهما، أمست رئيفة تلقي السؤال على زوجها بشيء من مرارة وقساوة، ثم تشير إليه بأسماء رفاقه في الدراسة وهم دونه مقدرة كيف نبه ذكرهم وكثر إنتاجهم الأدبي، وكيف لهجت الصحف بأنبائهم، وقد صار بعضهم في أعلى مراكز الدولة، في حين أنه - محمد الكرار - لا يزال معلم مدرسة في إحدى ضواحي دمشق.
أما محمد فكان يداعبها قائلا: «إني لا أطلب العظمة بل السعادة، وها إني في جنة الدنيا؛ دمشق، ظافر بملاك هذه الجنة؛ رئيفة، ومهنتي أشرف المهن؛ التعليم. من يطلب العظمة إلا الأبله؟ ولئن كنت تصرين علي بطلب العظمة، فاعلمي أنه كلما سما أحد من رفاقي، شعرت أن قد نبتت ريشة في جناحي وأن جناحي قوي واستطال. ما صاغني الله غازيا وما أنا بالطامح إلى الفتوحات. والآن، هات قبلة وابسمي فإنك بشعة حين تبسمين!»
وهكذا ركضت الأيام ورئيفة تتحرقها آلام الخيبة في زوجها الذي سمن ونعم، وبدأ الشعر يتراجع إلى مؤخرة رأسه في صلعة براقة، واستدار بطنه في بروز هائل، وراح ضميرها يؤنبها أن تلك السعادة التي غمرته بها أطفأت نار نبوغه؛ فقد كان في أول العهد - على رغم انقطاعه عن الكتابة - تنطلق من شفتيه كلمات لاذعة وهاجة. أما اليوم فقد ترهلت نكاته؛ فهو يشير إلى صلعته ويسميها «بيضة الرخ العاجية»، ويضع يده على بطنه ويقول: «كل العظمة التي أصبتها في الحياة التفت حول وسطي.» وشعرت رئيفة بما يشبه الاحتقار والكره نحو محمد، ولكن ذلك الشعور كان يذيبه منظر محمد أو تصهره قبلاته.
وغير مستغرب أن من خمل شأنه قل أصدقاؤه ... ولقد نسي الناس «الغراب الشائب». وما كان محمد بالمثري أو الزعيم السياسي، ولا هو تطلب عشرة الناس؛ فانقطعت الأقدام عن داره، وما دخلها من غريب إلا جيولوجي أميركي طاعن في السن كان ينقب في الصحراء السورية على دمن مدينة غابرة، ويؤم دمشق مرة كل شهرين لشراء بعض الحاجات فيتناول وقعة على مائدة تلميذه القديم محمد الكرار. وكان الأستاذ ورئيفة يتعاونان على محاولة قدح الشرار في نفس محمد، فيجيب هذا ضاحكا: «تريدني - يا أستاذي - أن أنقب عن مدينتي مثلما أنت منقب عن مدينتك؟ لكنت أنت أسعد حالا لو أنك مكثت مستريحا في الغوطة تمتع نظرك بجمال دمشق العامرة لا متعبا تنقب عن دمار مدينة غيبتها الرمال.»
وكان من عادة محمد حين يرجع إلى البيت في المساء أن يفاجئ زوجته بهدية صغيرة من أثمار أو حلويات، وربما ابتاع لها حلية مزيفة جذابة شأن من ضؤل راتبه وكبر قلبه؛ لذلك لم تستغرب ذات عشية أن تسمع منه حين آب: «في جيبي شيء لك.» ثم ناولها بدلا من الهدية ورقة دعوة لحضور الاستعراض السنوي في اليوم الثاني، وأخبرها أن مكانها سيكون على الدكة الكبرى المعدة للنساء، أما هو فسيمشي خلف الجيش، وزاد أنه سيحمل العلم السوري فيهزه مرتين: واحدة لرئيس الجمهورية، وثانية لرئيسة قلبه. بلى، فقد دب إلى حديث محمد شيء من السماجة.
فابتهجت رئيفة أن تصبح - ولو مرة في العمر - على دكة الاستعراض، وأن ترى محمدا بين المتظاهرين يهز العلم، وبكرت في صباح اليوم التالي فارتدت أجمل أثوابها، وبالغت في التجمل، وهرولت إلى دكة الاستعراض، في المكان المعد للنساء، فرأت أن الحاضرات اللواتي سبقنها قليلات، وأن معظم الكراسي شاغرة، فأمت واحدة منها وهمت تقتعدها إذ اقترب منها شرطي سائلا: «يا سيدة، أين بطاقتك؟» فأرته البطاقة، فأشار إليها أن تذهب إلى المقاعد الخلفية القصوى، فهذه الكراسي هي لعقيلات كبار الموظفين، وقرأت بعض الأسماء على تلك الكراسي؛ حرم حسين باشا العساف، عقيلة عبد المجيد بك السوقي، مدام جورج بك الديراني زوجات رجال كانوا بالأمس رفاقا لمحمد.
وتراجعت خجلة ميممة ناحية الدكة الخلفية، فإذا بعجوز تصيح بصوت عال: «بعض نساء هذه البلدة طموحات.» وعلت قهقهة من الحاضرات، وتطايرت العبارات الساخرة، ولم يهدأ الضحك إلا حين وصل رئيس الجمهورية بين الهتاف والتصفيق، فاعتلى مكانه وصدحت الموسيقى بلحن الرئيس، وتكامل عدد الحاضرين من رجال ونساء، وبدأ الاستعراض.
وكأن الطبيعة أرادت أن تشترك في الاحتفال؛ فأرسلت نسيما باردا فإذا الأجسام مفولذة، والوجوه مستبشرة فرحة، والأعلام خفاقة. يا له من يوم مفعم بالروائع، ويا لها من مظاهرة! فقد استمر الاستعراض ساعة وربعا مشى فيه الجيش بترتيبه البديع وأسلحته الصقيلة، ومشت الجماهير والوفود من حضر وبدو. وكان أحد خطباء دمشق يذيع ما يجري فيتكلم في ميكروفون يتصل بمحطة إذاعة الراديو، ويخلط روايته بالحماس أو المجون حسب ما تقتضيه المشاهد فتسر رئيفة لما تسمع؛ إذ إن المذياع كان واقفا خلف كرسيها. وفيما هي مصغية إلى فصاحته، علا التصفيق من الجماهير، واشتد الضحك، وثارت زوبعة من التصفير، وسمعت رئيفة المذياع يحدث: «إني أسمع التصفير والضحك والتصفيق ولا أدري السبب. رويدكم أيها السامعون! أظنني اهتديت إلى سبب الهرج، إني أرى تحت هذه الشمس صلعة تبرق يسميها صاحبها «بيضة الرخ»، وأرى كومة من الشحم تمشي، وبالونا منفوخا يتوسط تلك الهضبة الشحمية. هذا صديقنا محمد الفرار، أظنكم تعرفون لماذا نناديه «الفرار»، وكان يدعى «الكرار». لأنه كر في «الغراب الشائب» مرة ثم ظل يفر. ها هو يهز العلم السوري لفخامة الرئيس. أتسمعون الهتاف؟ هو يهز العلم مرة ثانية نحوي. سلامات يا أستاذ! اسمعوا! اصبروا! إن أستاذنا محمدا لم يعد كرارا ولا فرارا. ها هو قد سلم العلم لأحد تلامذته وربض على الأرض يلهث. اسمعوا الضحك والصياح. ها. ها. ها. هاتوا ليموناضة لأستاذنا المنهوك. تقدم ضابط فمسح بمنديله «بيضة الرخ» المباركة. برافو! نهض الأستاذ من جديد وتناول العلم. إلى الأمام يا فرار! ها هو يستأنف السير. إن كتلة الشحم تتدحرج من جديد ...
واختل النظام هنيهة وساد الهرج، وراح الكل يضحكون، وغفلوا عن رؤية امرأة ناحلة قفزت من دكة الاستعراض ورمحت بين صفوف الجماهير، وأسرعت ماشية راكضة نحو بيتها تلهث باكية ثائرة تود لو أن الأرض تنفتح فتدفنها وتدفن معها خجلها وخزيها والمهانة التي لحقت بها في ذلك الصباح. وحين وصلت رئيفة إلى البيت صعدت توا إلى غرفتها ففتحت النوافذ المقفلة وراحت تبترد في ذلك النسيم، وارتمت على كرسيها الحريري الباهت اللون تسبح عيناها بالدموع ويغتسل جسدها بعرق الإعياء. ومرت عليها ساعات ثلاث يدور حولها نسيم دمشق البارد فلا تشعر به، ورفق بها عقلها فخدر عن التفكير فلم تفقه أحية هي أم ميتة.
وفجأة ظهر محمد فأهوى عليها يقبلها ضاحكا، ثم حملها إلى السرير وأتاها بثياب، وأصر عليها أن تبدل أثوابها، وأغلق النوافذ وانصرف.
لم تنهض رئيفة في صباح اليوم التالي لتهيئ القهوة لمحمد على عادتها، بل إنها كانت تئن وتتقلب وتهذي. وجس محمد جبهتها بشفتيه فإذا هي حارة، ووضع محمد أنامله على نبضها فإذا هو قلق، متقطع، مسرع. وكان تنفسها مجهدا وفي أعلى وجهها شبه دائرتين متجمرتين؛ كل عوارض ذات الرئة، تشخيص حققه الطبيب حين لبى الدعوة مسرعا. «حسبتني أداوي مريضا واحدا فإذا بين يدي عليلان.»
عبارة طالما رددها الطبيب في غرفة رئيفة، فمذ لازمت الفراش عاف محمد مدرسته، وبقي يحوم حول سرير زوجته يثب لكل نأمة في الليل أو في النهار، متوتر الأعصاب، حانقا، خائفا، يغير وسادتها ويمسد لحافها، ويتعهد أمورها مسرعا بإلقاء الكلمة الناعمة الحنون، مشجعا إياها، حاسرا عن زنديه يتخطى الغرفة كمن يتحدى عدوا يريد مقاتلته. ولقد زهد بالطعام، فلئن جيء له بما يأكله فعل متأففا متعففا. أما النوم فما عرفه إلا كما تعرفه الهرر؛ غفوة ثم انتفاضة، ثم وثبة، ثم غفوة من جديد.
وجاء صباح اليوم السادس عشر ورئيفة غاطسة في نومها تتنفس تنفسا هادئا متسقا عميقا، صافية الوجه، فجسها الطبيب، وابتسم وهمس في أذن محمد: «ربحنا المعركة. ارجع إلى مدرستك.»
وود محمد أن يرقص ويغني أو يهتف، ولكنه كبح ثورة طربه مخافة أن تستفيق رئيفة من راحة غفوتها، فراح يتفرس بذلك الوجه الذي أحبه، وما درى إلا وقلمه في يده ينظم بضعة أبيات من الشعر في الإنكليزية يخطها على بياض الوسادة، وأحكم وضع الوسادة بحيث تقع عليها عينا رئيفة متى استفاقت. وكانت الأبيات أنشودة مطلعها: «صرعت الموت إذ دانى حبيبي!»
وحينما وضع محمد ساقيه في بنطلونه وجد أن بطنه ضمر قيراطين! •••
تلك النوافذ التي لبثت مقفلة أسبوعين عادت تنفتح، وذلك الوجه الذي شحب عاد إليه الرواء، وذانك القيراطان اللذان ذابا استردهما وسط محمد الكرار قراريط، وكذلك رجعت المرارة تتأكل نفس رئيفة إذ عادت إليها الحياة، غير أن حبها لمحمد عمق وزها صفاؤه؛ فليس من شيء يجعل النفس تتماسك مع نفس أخرى مثل أن تترافقا في سفرة خطرة.
وفيما تتمطى الحياة في منزل هذين الزوجين فاجأهما البريد بحوالة مائة دولار ثمن «صرعت الموت»، واعترفت حينذاك رئيفة بأنها أرسلت الأبيات إلى عنوان نقلته عن مجلة أميركية، فتسلم محمد الحوالة ووقع على صك طويل عريض مطبوع بحروف صغيرة، مبتسما ابتسامته الهادئة غير مكترث، شأنه في جميع أمور الحياة، حتى إنه لم يقرأ الصك الذي وقعه، كذلك غفلت رئيفة عن قراءة الصك؛ فقد أصبحت فوارة المرح بهذا الظفر فلا تطيق قراءة.
في خريف 1946م، كان في دمشق موضوع واحد للمجون: محمد الكرار؛ فقد اكتسحت الدنيا أغنية «صرعت الموت»، وترجمت إلى كل اللغات، وأنشدت في المراقص والحانات، وحينما جهرت رئيفة بأن زوجها هو ناظمها تجاوب الضحك في أنحاء المدينة، فأي يصدق أن محمد الكرار نظم قصيدة قبض عليها مائة دولار ووقع صكا يتنازل به عن كل حقوقه، صكا طبع بأحرف صغيرة تكاسل عن قراءته قبل أن يمضيه؟ ومتى عرف عن «الفرار» أنه شكسبير اللغة الإنكليزية؟
وكأن ربة المجون لم تكتف بهذا لتشبع بالهزء عابديها، فجاءتهم بشيء أضحك؛ فقد هرع تلامذة الأستاذ محمد إليه ذات صباح؛ إذ أبصروا به ووجهه إلى الجدار يعالج بطنه بيد، وسبابة اليد الأخرى في فمه يحاول أن يتقيأ، فلما سألوا عن حاله أجاب: ما من أمر خطير . زوجتي في وحامها، وفي بعض الأحيان تصيبني أعراضها.
فسرت في المدينة إشاعة أن الأستاذ حامل، وأي شيء من دلائل الحمل أوضح من ذلك البطن الضخم البارز؟ وذات يوم طلعت جريدة «النخوة» بالخبر التالي تطوقه دائرة ضخمة حمراء:
يسوءنا أن نعلم أن إجهاضا جرى في منزل الأستاذ محمد الكرار، وقد انقطع الأستاذ عن المداومة في مدرسته. ونحن فيما نذيع هذا الخبر آسفين نتساءل: ترى أي الزوجين أجهض؟
بين الحيوانات الناطقة فئة سادية لا تستطيب الحياة إلا حين تدوس على الضعيف؛ فإن السقط في نفوسها يتطلب التفوق، فلا يظفر به إلا في إظهار القوة على من ضؤل شأنه. هم في بعض الأحيان يسرفون في الإجرام حتى ليقتلوا، وأحيانا تقصر جناياتهم على ترويج الأكاذيب. وكانت من ضحايا هذه الشيمة الصفراء رئيفة؛ إذ إنها بعد أن فقدت جنينها ضجرت بمنزلها فصارت تبتعد عنه فأوسعها ذلك، وهي قد فهمت من الطبيب أنها حين فجعت بالجنين فقدت أمومتها إلى الأبد. ولقد أرادت ذلك الجنين أملا يحقق ما وعد به محمد من فوز وأخفق بتحقيقه في الحياة. فها هي الآن وزوجها ميت حي، وآمالها بطفل قد تلاشت، وغريزة الأمومة فيها مكبوحة، فلا عجب أن نبذت القعود في البيت، وصارت تنزل إلى السوق تبتاع حاجاتها بنفسها من خضار ولحم وثياب وعطور وغيرها، تبتغي بذلك التسلية وقتل الوقت. وأمست تطيل الوقوف في الحوانيت لا تنعما بالوقوف، بل اتقاء لشر المكوث في البيت. هذا، وقد بدأت أسعار الحاجات تتصاعد بحيث صار راتب زوجها يقصر عن شراء كل شيء تحتاجه، فأصبح من الحكمة التروي في الشراء والانتقاء والمساومة.
لذلك ارتجفت الألسنة السوداء بسم الأقاويل: «هل بلغك أن رئيفة تطيل الوقوف في دكان اللحام؟ ... هل سمعت أنها تتهامس مع ذلك العطار؟ ... هل قيل لك إن رئيفة والبقال في مغازلة؟»
وكان من حسن حظ رئيفة أن لم يبق لها عشراء، فلم يترام إليها ما يقال عنها.
وكأن آلامها من الإجهاض، ونكبة الخيبة بمحمد، وفشلها في أمل يعيضها عن محمد، وأوجاعها من رؤية ذلك الفتى الذي عشقته وما تزال تهواه ، والذي سمعت من شفتيه أولى كلمات الحب في ليلة الزفاف، وها هي تراه قد مسخ كاريكاتورا، وكأن شقاءها في عزلتها عن الناس؛ كل هذه تكالبت عليها؛ فنحلت وتهدمت، فما عادت تستطيع الخروج من البيت في بادئ الأمر، ثم عيت عن الحركة فلازمت الفراش وبدأت تتلاشى.
أما الأطباء فقد جاءوها فرادى وبعثات، وأما الأدوية فقد استحالت دار الكرار إلى صيدلية. ونزلت بمحمد الحيرة فلم يدر ماذا يفعل؛ فقد دعا الإخصائيين من دمشق، وبيروت، والقاهرة، وكل يصف علاجا، ويذكر اسم علة، ولم يتفق اثنان على تسمية الداء، غير أنهم أجمعوا على أن رئيفة إن لم تكن مسلولة فهي على أبواب السل، وأن هواء الصحراء الجاف يفيدها؛ لذلك تهافت محمد على قبول وظيفة معاون لأستاذه الجيولوجي في الصحراء السورية. وانتقل برئيفة وأدويتها إلى خيمة في البادية تحاذي خيمة الأميركي البحاثة، وقطع علاقاته مع المدرسة في ضاحية دمشق.
وهكذا مرت الشهور على تلك الخيمة يظللها شبح الموت، ولا يسمع فيها إلا أنات رئيفة وشظايا من كلامها؛ إذ هي تحرض محمدا على الاعتناء بصحته، وتضرع إليه أن يأكل وأن ينام، وتبكي إذ ترى نحوله وشحوبه ونظراته التائهة. أما محمد فقد يئس من الطب وغمر الحزن قلبه فكره الكلام، فما عاد يرى إلا في بحران من التفكير، اللهم إلا حين يفتح القرآن ويجود آياته؛ فإن قلبه ينعم بالإيمان، فما تتبدد آلام نفسه ولا يسكن قلقه إلا في نشوة ترتيل سور المصحف الكريم.
وراحت الحياة تجمد حول تلك الخيمة، وكثف ظل الموت واسود، ورئيفة تهبط نحو الفناء ببطء وألم، ومحمد يتهدم ويحزن ويجود القرآن.
وذات ظهيرة، إذ كان المخيم ينتظر عودة الأستاذ الأميركي من دمشق، ظهرت سيارته القديمة تتبعها قافلة من سيارات، وسرعان ما نزل منها جمع من صحافيين ومصورين، يترفه بينهم في الوطء على الثرى بعض كبار موظفي الدولة السورية، وأقبلوا على محمد يهنئونه ويهزون يده بحماس. وفي الوهلة الأولى، ظن محمد أنه انتقل إلى عالم المجانين، أو أن أحد مجاني دمشق قسا عليه بأضحوكة جديدة . ولكن الأستاذ الأميركي تقدم ووضع يده برفق على كتف محمد وقال: «لقد اقترفت نحوك إثم السرقة؛ فإني كنت أبصر بك قرب هذا السراج في الليالي وأراك جادا في الكتابة، وصرت أترقب انصرافك فأسرق - على علم من رئيفة - ما تكتبه، فأنسخه حتى اكتملت روايتك «عنترة والنفط». لقد أرسلتها إلى هوليوود فاشتروها. إنما أحدثوا فيها تغييرا. لا أدري إن كنت تذكر ما ألفت؛ فأنا أعيده عليك: كبير مهندسي شركة نفط أميركية - وهو كذلك أعظم مساهم فيها - يستضيف شيخ قبيلة عربية في الصحراء، يكتشف الزيت ويشتري، بل يكاد يستوهب الشيخ امتياز استغلال الزيت لقاء ثمن بخس. تأتي ألوف العمال، وترسل ألوف المعدات، وبعد الحفر يجدون أوقيانوسا من نفط فيفرزون القساطل، وفيما هم يهمون باستخراج النفط، يظهر طيف عنترة فيجوف رمحه ويشكه بالبئر فينتزع كل النفط ويفرغه بظرف صغير، ويضع الظرف وراءه على حصانه وينصرف كما أتى شبحا لا يراه إلا رئيس المهندسين الأميركي.
وهكذا كلما حفر المهندس بئرا وظفر بالنفط، جاء عنترة فامتص النفط برمحه إلى ظرفه، واحتمله على جواده ومضى.
وطبيعي أن تضطرب أمور الشركة الأميركية المستثمرة وتهتز ماليتها ويدب الذعر في قلوب مساهميها، وتستبدل المهندس بآخر ثم بغيره وغيره، فما أفاد التبديل، بل استمرت الآبار تطفو بالنفط ثم تجف. وكان أن توفي الشيخ وتولى زعامة القبيلة ابنه، وهو فتى عالي الدراسة، ففتش بين أغراض أبيه عن نسخة من اتفاقية النفط فلم يجدها، وطلبها من الشركة ففتحوا صندوقهم وانتزعوها فإذا هي بيضاء إلا آخر ورقة منها كانت خالية من الكلمات ولم يظهر عليها إلا صورة عنترة وحصانه ورمحه وظرفه.
وليس الأميركان من الذين يؤمنون بالسحر أو الأعاجيب، ولا هم من الذين يفرون من مواجهة الحقائق، فأدركوا أن كل ما في الأمر أنهم يملكون معدات ثمنها ملايين نثروها في أرض نائية غريبة، وأنهم أنفقوا الملايين في محاولة استغلال مشروع لا تحمي حقوقهم فيه عقود مقاولة. فأسرع رئيس الشركة إلى ابن شيخ القبيلة ونفحه اتفاقية سخت شروطها على ابن الشيخ، فصار الأميركان متى ظفروا بالزيت قدروا على استخراجه من غير أن يسبقهم إليه عنترة. وكان خلال ذلك - وهنا ظهرت أصابع هوليوود - قد اشتبكت عواطف ابن الشيخ في معركة غرامية؛ أحب ابنة رئيس الشركة، وزهد في النفط والخيام والثقافة، بل ترك أمور القبيلة لأخيه الأصغر، ووثب مع فتاته إلى خلف عنترة، وراح جواد هذا يعدو بالثلاثة وبالظرف الفارغ إلى الواحة الكبرى في قلب الصحراء، تلك التي يحجبها السراب ولا يسكنها إلا كل من رضي عنه عنترة.»
وفيما كان الأستاذ الأميركي يروي مختصر رواية «عنترة والنفط» كان الصحافيون يدونون الملاحظات، والمصورون يلتقطون الصور. وعاد الأستاذ إلى الكلام: «هذه المرة لم نقترف غلطة «صرعت الموت»، فسلطنا عدسة المكرسكوب على كل حرف من سطور الاتفاقية ولم نوقع من غير أن نقرأ. في الأسبوع القادم، ستحتفل هوليوود بعرض فلم «عنترة»، وسيكون محمد الفرار هناك ليساهم بالحفلة، وليتسلم مائة ألف دولار ثمن روايته.»
أما محمد فكان يسمع ويرى ولا يدري ما الذي يجري حوله، غير أنه استفاق عند سماع خبر سفرته إلى هوليوود وعلق بصره بتلك المضطجعة على السرير فآلمه أن يرى ذلك الوجه الشاحب وقد تهدل جلد ساعدها فبانت عظامه، حتى ليحسب الناظر إليها أنها ميتة لو لم تكن عيناها نجمتين بالحياة تسطعان.
وعبثا تضرع الأستاذ الأميركي، وتشفعت رئيفة، ورجا صحافيو دمشق أن في ظهوره شرفا للعرب، فكان محمد يجيب أن ما يشده إلى سرير رئيفة هو شيء أثمن من الشرف، وأحب من الشهرة، وليس من شيء يغريه بترك الخيمة.
ولكن محمدا في نهاية الأمر سلخ نفسه عن تلك الخيمة حين ظهر له أن سفرته قد تيسر الفوز بطبيب عالمي الشهرة يصطحبه في أوبته فيصف لرئيفة ما يشفيها. •••
حينما حومت الطائرة فوق مطار دمشق كاد محمد الفرار أن يقفز منها ليعدو نحو خيمة رئيفة، وما إن وقفت وفتح الباب حتى أمسك بذراع الدكتور «ماديسون» وصاح به: «وصلنا! وصلنا!» وسمع محمد هتاف الجماهير متبرما وتقبل التهاني والوسام حانقا، وأصغى إلى القصائد والخطب في ضيق صدر، وما تنفس الصعداء إلا حين ركب الأوتوموبيل مع الدكتور «ماديسون» يرافقهما بعض مشاهير أطباء دمشق الذين عالجوا رئيفة وقصدوا جميعا إلى المخيم في الصحراء.
وكطائر عاد إلى عشه وفراخه بعد سفرة منهكة خطرة، هكذا ترامى محمد على سرير رئيفة يقبلها ضاحكا باكيا، تهتز نفسه بين تيارات العواطف، ثم أفسح المجال للطبيب «ماديسون» فتقدم إلى المريضة وقال: «أراك فتية! يجب أن تستثيري كل ما في قواك من عزم، وتتعاوني معي على صرع هذا المرض. إن محمدا في حاجة إلى رفيق في سفرة هذه الحياة.»
فأجابت باسمة: «إن محمدا بلغ الذروة، ومن صار في القمة لا يحتاج إلى رفيق!»
فهز الطبيب رأسه وطفق يتفحصها ويسأل زملاءه عن العلاجات التي وصفوها، ووقف حائرا يخاطب الأطباء بقوله: كل ما فعلتموه ووصفتموه كان صحيحا.
ووقف «ماديسون» حائرا، ثم اقترب من العليلة ثانية يجس صدرها، فارتطمت أصابعه بشيء صلب خيط طي قميصها فانتزعه بعنف، وإذ رآه انتفض صائحا: «سم البنغال!» هذا السائل هو السم الذي يقتل ببطء وليس له من علاج!
وتطلع إلى الأطباء هائجا: من منكم وصف هذا العلاج السام؟
وصاح محمد هلعا: رئيفة! من أعطاك هذه الزجاجة؟
فابتسمت رئيفة وتكلمت بهدوء الظافر: لا تتهم أحدا. لقد فتشت عن هذه الزجاجة طويلا حتى وجدتها أخيرا في سوق العطارين. ما هي بزجاجة تلك، وما سائلها بسم، بل هي الدواة التي بحبرها كتبت رائعتك «عنترة والنفط». والآن اقترب مني وخذ بيدي وحدثني عن الحفلة الافتتاحية في كاليفورنيا وكيف استقبلتك دمشق في المطار ...
وشعت الحياة في وجهها ومضة ثم اضمحلت.
الخطاب المبتور
وقعدنا في ديوانه نتحدث صامتين؛ أنا والباشا.
أصغي أنا إلى أفكاره فأسمعه يقول: «أنا الوزير وهذا ديواني. إن صحف بيروت تطبع صورتي وتنشر أخباري كل يوم. بين يدي سيف السلطة، وجاه الحكم، وأبهة السلطان. أنا عشير الملوك وخليل السفراء. إيماءة من إصبعي على هذا الزر، تسير جيشا. من هذا الشبح الجالس أمامي، الطافر من ظلمة ماض بعيد؟ بلى، عرفته في الجامعة، ولكن ذلك منذ ربع قرن. وليكن اسمها جامعة، فهي مدرسة على كل حال. وماذا يهم إن كان هذا الرجل ذا شأن في أيام التلمذة ومتفوقا علي؟! هذه مدرسة الحياة وأنا فيها وزير. أما هو، من هو هذا العائد من مهجر يجهل موقعه أساطين الجفرافية؟ ومن يأبه لتلك التسعة دولارات والثلث من الدولار التي قيل إنه جاء بها من غربته؟! وما له يقتعد ذلك الكرسي مثقلا بثقة النفس؟! وما هذه البسمة الساخرة على شفتيه؟! تراه تحدثه نفسه أنه أحق بمقعدي مني والله ...
وأنصت هو إلى صمتي فراعته رعود تفكيري وبروقه: «الله، الله! هذا نديم بعينه، رحم الله عهد التلمذة، يوم كان مسعود يتبع خطواتي مبصبصا بذنبه، متوددا إلي، يستكتبني خطابا أو يرجوني أن أصلح له مقالا، ثم يستعطفني أن أتوسط له صحافيا ينشر له ذلك المقال. بلى، كان مسعود موسرا فأبوه يغدق عليه الحوالات من أوستراليا. وكان مسعود أنيق الثياب. ولقد أوحت أناقته وفخامة مظهره الأجوف إلى أحد مجان الجامعة «سمير ملوك» أن يطلق عليه لقب «الباشا». وهذه خمس وعشرون سنة مرت، تقلب خلالها مسعود على كراسي الحكومة حتى منحه ملك عربي لقب باشا.
فصار «الباشا» باشا من صحيح. هل انتقمت الأيام منا أم أنصفت مسعودا؟ وكدت أقهقه هزءا بنفسي وبسمير ملوك، أم هزءا بمسعود؟! لم أدر ...
ولبثنا في صمت يشق دويه الآذان، حتى التقت عيوننا، فابتعد اللؤم عن نفسينا، وذبنا نحن الاثنين في ضحكة طاهرة، هي سكرة الروح إذ تستل من ذكريات صباح العمر أشعة تنفذ إلى كوى النفس فتثير ظلمة كهولتها وتبخر ما فيها من قذارة، فنسينا الخصام والتفوق والحسد. ومضت ساعة أنس ودعابة، فلما هممت بالانصراف، صاح بي مسعود: «إذن أنت عازم على زيادة «سرابايا»؟ ما أجمل هذه المصادقة! أنا قاصد إلى «سرابايا». هي في قائمقامية «العباسية». ما اسمه؛ صديقك الذي قتل في «الفلبين»؟ رشيد المغربي؟ بيت المغربي جماعة «أوادم». في الانتخابات الماضية، أعطونا أكثرية 94 صوتا. سآمر الحاجب أن لا يطلب منك بطاقة حينما ترجع في صباح الغد. ادخل هذا الديوان فور وصولك. نمشي حوالي الساعة العاشرة ... على فوقه، يجب أن تنسفهم خطابا. لئن كنت نسيت صنعة الخطابات ففي ديواني كاتب لا بأس به يحسن إنشاء الخطب. لا تدفع له شيئا فمعاشه يكفيه، وأنا دائما أتصدق عليه بشيء. رويدك! وكبس الزر الكهربائي كبستين طويلتين، وكبسة قصيرة، فما أسرع أن هرول إلينا رجل أصلع شاخ فتيا، فزرر سترته وانحنى متضعدا أمام الباشا؛ فخاطبني الباشا مشيرا إلى الكاتب: «لعلك تذكره، هذا «سمير ملوك».» •••
ولقد علمتني الغربة احترام الوقت وتقديس المواعيد، فمثلت في ديوان الوزير في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي، فلم أجده هناك. وبعد انتظار ساعة أقبل في طليعة جماعة تواكبه، وجثم على كرسيه يتحدث معهم بشئون لم أفهم مغازيها، فمن بحث في سباق الخيل، إلى الإعجاب بفيلم مصري ظهر حديثا، إلى نقد قصيدة رثاء، إلى مفاضلة بين سيارتي «كرايسلار»، و«بويك». وأنا بينهم صامت مشدوه حتى جاءت ساعة الظهر فدعاني الباشا إلى الغداء معه. ولم نترك بيروت حتى الساعة الواحدة بعد الظهر؛ إذ سرنا في قافلة سيارات تحمل جنودا وموظفين، وكنا كلما بلغنا قرية، أوقف الموكب جمهور القرويين، وتبادل الوزير الخطب معهم والأحاديث السياسية. وأذكر أن وظيفة معاون جمرك في بيروت كانت شاغرة في ذلك الحين، وكان الوزير يعد بها عشرة أشخاص في كل قرية نمر بها. وكان الباشا يباهي أمامي بدهائه السياسي: «السياسة (وتفلسف الباشا) هي أخذ وعطاء. خذ مواعيد بأصوات انتخابية، وأعط وعودا بوظائف حكومية.»
قلت: «وإذا جاء يوم الحساب، فكيف تبر بوعودك لهؤلاء وتقعدهم كلهم في كرسي واحد، أتراك تفعل المستحيل وتكذب علماء الطبيعة ...؟»
فابتسم وقال: «إن السياسي هو رجل يفعل المستحيل، ووظيفة معاون الجمرك اتفقنا بالأمس مع دمشق أن تكون لسوري!» وقهقه.
وراح الباشا الوزير يضخم في عيني نفسه كلما أوغلنا في هذه السفرة، فطفق يحدثني من جديد عن ذلك الكتاب الذي يهم بتأليفه، وأنه يستمد عناصره من الحياة مباشرة. وصار الكتاب يضخم بعد كل استقبال، حتى حسبت أنه إذا استمرت استقبالات الأهالي، فسيصبح الكتاب دائرة معارف.
وهون الله، فبلغنا سراي «العباسية». وكان الاستقبال هنالك رائعا؛ إذ أتت وفود القرى ببيارقها، واستلفت نظري علم «سرابايا» المتعدد الألوان. وعلا الهتاف للوزير. وسرعان ما اعتلى الباشا منبرا وراح يخطب في الشعب؛ فبعد أن تغنى بالعباسية وأمجادها التاريخية، وأكد لسامعيه أن أيا من أبناء قائمقامية «العباسية» يفوق سوبرمان، وطرزان، وغاندي، وأنشتين، ونيوتن، وعلي الزيبق أو هنري فورد أو عنترة العبسي؛ تخلص إلى ذكر «الفلبين» والفاجعة التي نزلت بالشرق المتوسط باستشهاد البطل رشيد المغربي، وأن الباشا حينما علم بالخطب من صديقه - وأشار إلي - أسرع فسألني أن آتي بنفسي لأحمل لبني العباسية وصية شهيدهم الأخيرة.
إذ ذاك أشرقت علي الحقيقة حين عرفت أن زيارة الباشا للعباسية لم تكن صدفة، وأنه اقتادني إلى هناك ليستثمر حضوري ويبتاع به أصواتا انتخابية. وكأنه لمح حنقي، وكنت إلى جانبه على المنبر، فأخذ يقدمني للجمهور، ويعزو إلي مقاما سياسيا في المهجر لم أحلم به، وغمرني بألقاب علمية لم أسمع بها، ولقبني بسموأل لبنان الذي تحمل أخطار الأسفار ومشاقها إلى لبنان لأحمل وصية الصديق الأخيرة.
وجاء دوري للخطابة، فنهضت وفتحت فمي:
أيها الإخوان
كان رشيد المغربي بين يدي حينما لفظ أنفاسه الأخيرة، فهز حامل علم «سرابايا» بيرقه وصاح: «فليحي بطل سرابايا!»
فأجابه فتى يحمل علم «الفحيص»: «اخرس! إن رشيد المغربي ابن الفحيص، فليحي رشيد المغربي بطل الفحيص!»
وتطايرت الشتائم، واشتبك بنو القريتين في معركة بترت خطابي؛ فوجمت واتخذت موقفا حياديا. ولقد علمتني معارك «الفلبين» أن الحذر كل الشجاعة، فهرعت أبتغي مكانا قصيا، غير أن أمواج المعركة غمرتني، ولم أدر إلا وعصا كسرت على كتفي الأيسر، فماجت الدنيا في عيني ووقعت على الأرض أستمع إلى أصوات القتال بيمنى أذني، وأصغي باليسرى إلى زقزقة عصافير الجنة ...
وفرق الجند بين المتقاتلين، وتوسط العقلاء؛ فسكنت الجلبة، واعتلى الوزير المنبر ثانية. فبعد أن مجد قرية «سرابايا» وعظم ضيعة «الفحيص»، ذكر أن الشهيد رشيد المغربي ولد في «سرابايا»؛ فهو ابنها غير منازع (هتاف من بني سرابايا)، غير أن أملاكه في «الفحيص» وزوجته منها، وفيها كان عداد تذكرة نفوسه؛ فهو بدون شك فتى «الفحيص» (هتاف من الفحيصيين). وكان الباشا يود أن يطلق على الشهيد لقب «بطل القريتين»، ولكنه يريد أن يزيد إلى أمجاد «العباسية» التاريخية فتحا جديدا، فهو يرغب إلى الجمع أن يوافقوه على تسمية الشهيد «بطل العباسية» فدوى الهتاف، وأطلق الرصاص، وهاج القوم فرحين مؤيدين اقتراح الوزير في حكمته السليمانية، فشكرهم الباشا، وتمنى الشفاء العاجل للأربعة عشر جريحا.
حينئذ تقدم زعيم المقاطعة وبلغ الوزير قرارات القوم التالية:
أولا:
مطالبة الحكومة الأميركية بتعويض مالي لأسرة الشهيد.
ثانيا:
إقامة تمثال ل «بطل العباسية» وتوجيه الدعوة للتبرعات إلى المهاجرين في أنحاء الدنيا.
ثالثا:
مطالبة رئيس الجمهورية اللبنانية بتعليم أولاد الشهيد على نفقة الحكومة.
رابعا:
شكر فخامة الوزير لعطفه على المقاطعة.
خامسا:
إرسال تلغرافات إلى صحف بيروت بهذا المعنى.
قال الوزير لسائق السيارة: «تمهل!» وأوضح لي: «أريد أن أتمتع بمشهد هذا المغيب. أود في كتابي وصف سيارة تنحدر إلى بيروت عند الغروب. وعلى ذكر كتابي آسف أنك لم تنه خطابك. قل لي ماذا كانت كلمات الشهيد الأخيرة؟ فقد سمعت أنه مات بين ذراعيك.»
أجبت: «لقد نطق بكلمة واحدة قبل أن يلفظ أنفاسه.» - أي كلمة؟ - كلمة «آخ!» - قل لي كيف صرع؟ - كان بين نارين. - اليابانيون والأميركان؟ - اليابانيون وزوجته. - وكيف كان ذلك؟ - أرادت زوجته أن تغسل فسطانها، فأمرت زوجها رشيد المغربي أن يملأ لها سطل ماء من قسطل قرب اليابانيين، فلما دنا منهم صوبوا البنادق وأمروه بالرجوع. - ولماذا لم يرجع؟ - لأن امرأته أمرته أن يملأ السطل ماء ... - إذن فقد مات ... - حاملا سطلا ...
قال الباشا: «أريد أن أصف - في كتابي الجديد - كيف يتفجر الدم من صدر قتيل. قل لي بم شعرت حين رأيت الدم يفور من صدر صديقك؟ - لم يكن هناك من دم. - إذن كيف قتل رشيد المغربي؟ - الخوف قتال يا باشا!
وقبل أن نترجل من السيارة في بيروت، شعرت أنه جاء دوري بإلقاء سؤال؛ فتطلعت إليه وسألته بلهجتنا أيام التلمذة: «مسعود! كيف حذقت هذا النفاق؟» فضحك حتى كاد يغمى عليه، وأمسك بكتفي الصحيحة وخاطبني بلهجة الحكيم يعظ أحمق، فقال: «الصدق قتال يا باشا!»
وحينما غابت سيارته عن عيني وانقطع صوت قهقهته، تبلجت لي الحقيقة المؤلمة، وهي أن مسعود ألبسنا في زمن الكهولة وفي مدرسة الحياة لقبا خلعناه عليه أيام الصبا وفي مدرسة التلمذة، فخاطبت نفسي معترفا بلقبي الجديد: «هذه حال الدنيا يا باشا.»
البرهان القاطع
بعد السلام والكلام، أسمعني تلك العبارة من جديد، فأمسكت بكلتا يدي قميصه من تحت عنقه وهززته هزا عنيفا رجرج نظارتيه، وصحت: انطق بهذه العبارة مرة ثانية، تر نفسك مضطجعا على مخمل هذا الرصيف تعد نجوم السماء في هذه الظهيرة ...
ولقد كنت فظا قاسيا على مخاطبي، ولكنها عبارة سمعتها من كل من لقيته بعد رجوعي إلى «مانيلا» على إثر دخول القوات الأميركية تلك المدينة، وتحريرها من اليابانيين؛ إذ طفت الشوارع والمتاجر أطلب وأتداول مع أصدقائي ومعارفي في شئون تحصيل الرزق. وكانت كل محادثة تبتدئ أو تنتهي بنفس العبارة: «افتح خمارة.»
كيف أفتح خمارة وقد ولدت وشببت في «بعقلين» لبنان، تدوي في أذني كلمة «حرام». بلى، حرام أن تقبض «فائضا» على دين؛ حرام أن ترمي بكسرة الخبز، أو تنفق من معاشات الحكومة أو من دفعات المهاجرين؛ حرام أن تدخن سيكارة أو تفوه بشتيمة؛ كل شيء حرام إلا عبادة الله، وقهر النفس، وحراثة الأرض، والعناية بها.
وهنا في «مانيلا» يريدونني أن أفتح خمارة! أي شيء من ماضي بان سافلا فشجعهم على مثل ذلك الاقتراح! فلا عجب إذن أن ثار حنقي حين سمعت تلك العبارة من جديد. وإني عصبي المزاج لا أقوى على كبح غضبي متى ثار، لا سيما إذا كان خصمي وضيع الحال، نحيل البنية. عجبا لسراع الغضب: كيف يضبطون عواطفهم أمام من يفوقهم قوة أو شأنا؟! ذكرني متى اجتمعنا أن أروي لك كيف استطعت أن أكبح جماح غضبي في حضرة ضابط ياباني يدغدغ كتفي بسوطه، ويصف السالفين من أهلي بكلمات تسمع ولا تطبع!
وحين أفلتت فريستي من يدي تابعت تسياري في الشوارع، فألفيت حوانيتها خمارة تجاور خمارة، فضلا عن متجولي الباعة الذين ملئوا جيوبهم وأيديهم بقناني الوسكي، والجنود والبحارة يملئون الشوارع والأقنية بأجسامهم وشتائمهم ودولاراتهم وعراكهم. ولئن جاز أن تسمى دمشق مطبخا كبيرا، فقد كانت «مانيلا» في تلك الأيام حانة كبيرة.
وفيما أنا أحسب نفسي أسير وحيدا، تطلعت فإذا بالأسود الباسم ذي القرنين والذيل الطويل يماشيني قائلا: يا مجنون! حين ترجع إلى لبنان، سيسألونك: كم جمعت من مال، لا كيف جمعت المال. ارجع عن غباوتك، وافتح حانة تغنيك في شهرين. تلك الدنيا التي عمرت بها مخيلتك طمست ولن ينقب عن آثارها الباحثون! «هلو عمو!» بادرني وليم زعرور الجندي اللبناني الأميركي، طاردا الشيطان من جواري: «أراك سابحا في التفكير، بماذا تفكر عمو؟» قلت: إني أفكر بوسيلة أكسب بها دولارا من غير أن أفتح خمارة!
قال: لماذا لا تحاول الخدمة في الجيش؟ - هاه؟! - كمدني أعني. إنهم يستخدمون ألوف المدنيين. اذهب إلى البناية الكبرى قرب المرفأ وقدم استدعاءك.
وحين صعدت درجات تلك البناية، لم أدر كيف بلغتها؛ فإني لم أركب أي عجلة تمشي على دواليب، كذلك لم أذكر أن قدمي لمستا الأرض، غير أني أعرف من نفسي أني متى أردت الإسراع شددت على كتفي جناحين. «إني أطلب عملا.» أجبت الفتاة الأميركية التي سألتني: «هل في وسعي أن أسعفك؟» فناولتني ورقة ملأتها باسمي، وجنسيتي، وسيرة حياتي، واسم أبوي، وثقافتي، وأمضيت تلك العريضة ودفعتها إلى الفتاة سائلا: متى أعود؟
قالت: إن لم تكن في عجلة فاصبر قليلا، نحن في حرب ونفعل كل شيء بسرعة.
فجلست في قاعة الانتظار هنيهة، وسرعان ما عادت الفتاة مبتسمة قائلة: تفضل بمقابلة كابتن كلي.
وتبعتها إلى حيث أشارت، فنهض الكابتن وحياني وقدم إلي سيكارة قائلا: إني درست عريضة استدعائك. إن المعاش الذي ندفعه لك هو 150 دولارا. أراك تبتسم. إني أدري أن هذا المعاش لا يكيفك؛ أنتم المدنيين تدفعون دولارا ثمن عشرين سيكارة وثمانية دولارات ثمن كيلو لحم؛ لهذا دعوتك إلي. أراك تدعي أنك خريج الجامعة الأميركية في بيروت! هذا حسن، حسن جدا! إننا نحسبك كخريج جامعة أميركية في الولايات المتحدة ونجعل معاشك تسعمائة دولار ، أراك فرحا. إنما لا تتعجل، فنحن نريد برهانا قاطعا على أنك خريج الجامعة الأميركية في بيروت ... هل لك أن تأتيني بشهادتك؟
قلت: إنها ... - احترقت. هذا ما كنت أخشاه. - لا ... لم تحترق، ولكني أحرقتها خوفا من اليابانيين. غير أنه في وسعي أن آتيك بشهود ... - شهود؟ ما نفع الشهود. أنا في وسعي أن آتيك بشهود أنني أنا الرئيس روزفلت وغريتا غاربو. - لماذا لا تبرقون إلى بيروت؟ - التلغرافات هي للأمور الحربية فقط، ولكن تعال معي إلى ج2؛ دائرة الاستخبارات؛ هناك يعرفون متى حشوت ضرسك، وماذا همست في أذن حبيبتك إذ قبلتها لأول مرة. هيا بنا فمكتبهم في البناية المقابلة.
ومشينا معا، ولم أستغرب الأهمية التي يعلقونها على الجامعة الأميركية في بيروت؛ فإني ما حدثت أميركيا إلا وجدت أنه قد سمع بتلك الجامعة؛ فمعظمهم يجهلون أين هي سوريا أو لبنان، ولكنهم يعرفون الجامعة الأميركية في بيروت ... إنها مؤسسة ثقافية عظمى مكانها إسطمبول أو أثينا أو القاهرة، وربما كانت في القدس أو بغداد.
وودعني الكابتن كلي بعد أن عرفني إلى الماجور ملر وخوفني منه قائلا - مشيرا إلى ملر: «حذار من هذا الذئب، لئن دعاك إلى سهرة فارفض الدعوة.» ثم زاد: «لئن جئتهم بالبرهان القاطع أنك خريج جامعة بيروت، فابدأ عملك في صباح الغد بمعاش تسعمائة دولار.» فشكرته وانصرف.
أما ملر فقد كان سريع الخطا، قلق الصوت، يختطف الكلام، ولكنه كأكثر الأميركان، مصقول التهذيب لطيف، ففتح الباب الذي وراء طاولته ودعاني: «لنمش إلى الشرق الأوسط؛ إنه في الجناح الأيسر من هذه البناية.»
ودخلنا غرفة كبرى كتب على رتاج بابها «الشرق الأوسط»، عمرت بالرفوف تحتشد فيها الكتب والأوراق والصور. وما إن لفظ ملر «الجامعة الأميركية في بيروت» حتى جاءه القائم على تلك الغرفة بدفاتر وكتب. وراح الماجور يقرأ إحداها عابسا بعض الأحيان، ومقهقها تارة قهقهة هزت كل خلية في جسمه، ثم سألني: بالطبع أنت تذكر بعض أغاني الجامعة؟
فوقفت وأنشدت منها أغنيتين.
فقلب مجلد صور فوتوغرافية وسأل: «هؤلاء الرجال، هل تعرف منهم أحدا؟ فحدقت وأجبت سلبا. وقلب الورقات إلي ثانية، فأشرت بإصبعي إلى تلك الهامة الجرمانية تعممها عليقة من الشعر الأبيض الكثيف وأجبت: «رحم الله الأستاذ نيكولي مدرسي في علم الاقتصاد.» - وهذه البنايات؟ - بلى، هذه «وست هول» حيث تقام الحفلات.
وكدت أن أحدثه عن «لولا المحامي» و«نخب العدو»، غير أني ذكرت أن الأميركان يمقتون المتبجحين.
ثم راح يتصفح دفترا آخر ظهرت فيه حوانيت ومتاجر ومطاعم، فلما أن وصل إلى صفحة 43، صحت: «قف! هذا هو المطعم الذي يقابل بوابة الجامعة. هذان صاحباه الأخوان توفيق وأديب فيصل، وهذا الدفتر الأسود الذي بينهما هو دفتر الهوالك. لو تصفحته لرأيت حسابي غير المدفوع؛ 34 ليرا و28 قرشا.»
فأطبق الدفتر ودفع به وبالكتب إلى القيم على تلك الغرفة. وصمت برهة مفكرا ثم خاطبني: اسمع! نحن في حرب وأنا جندي في جيش. إني مقتنع أنك خريج جامعة بيروت، ولكننا في الجيش لا ننفذ الأمور بسبب الأوهام أو الاقتناع أو الشعور أو الظواهر، بل نتقصى الحقائق الراهنة. ما أدراني أنك لم تكن مستخدما في الجامعة، أو تلميذا، أو أنك عرفت هذه الأمكنة والأشخاص بسبب مصادقتك لأحد الناس في الجامعة؟ إني آسف أن ليس في مقدوري أن أثبت للكابتن كلي أنك خريج جامعة بيروت؛ إذ إنك لم تأتني بالبرهان القاطع. غير أنه في طاقتي أن أخدمك. تعال إلى حانوت الجيش واشتر بعض حاجاتك. أسعارنا بخسة.»
وهبطنا إلى الحانوت، وهو في الطابق الأول من البناية، فعجبت لهذا الجيش يحارب ويصطحب معه ما رأيت من بضائع؛ فقد أبصرت الغرائب: كمنجة، قيثارة، ماندولين، كل أنواع العطور والحمرة والبودرة ... وما فتح الله ورزق من ضروري وغير ضروري. لا عجب أن قال ذلك القائد الألماني في إيطاليا: «الجيش الأميركي؟! زمرة مليوناريين في أثواب جنود.» ولما فرغت الفتاة التي تتولى البيع من خدمة أحد الزبائن، اقتربت من رفيقي الماجور فحيته: مرحبا يا عشيقي!
أجابها: مرحبا يا جميلة الوجه!
قالت: حسبتني نفضت يدي من كريه خدمتك أمس حين اشتريت كل حاجاتك بتلك المزيفة التي أعطيتنيها صباح البارحة.
أجاب الماجور: ما كنت لأرجع إلى التطلع إلى سحنتك البشعة لولا أني أريد أن أشتري - وأشار إلي - بعض حاجات لرفيقي. هاك وثيقة تخصيصاتي، ولا تبيعيني ثانية من تلك القاذورات التي تسمينها بضاعة.
وتطلعت الفتاة إلى وثيقة التخصيصات بلحظة خاطفة، وكلمتني «إن جشع صديقك لم يبق له حقا بالشراء إلا حذاء واحدا «ومشمعا». قلت للماجور: «لعلك في حاجة إليهما.»
فمد قدمه يريني حذاء بنيا جديدا، وأشار إلى مشمع يحمله على زنده وأجاب: «لقد اشتريت هذين أمس وعندي في الخيمة سواهما.»
وقاست الفتاة قدمي وقامتي بلحظة خاطفة ثانية، وجاءتني بسرعة البرق بشمع قياس 42 وحذاء بقياس ؛ فنقدتها 11 دولارا، وحملت ما ثمنه في المدينة 120 دولارا. وراح الماجور يشوقني إلى شراء أغراض ثانية مباحة كمياتها ولا ترتبط بوثيقة مخصصات، فرفضت شاكرا؛ فإن آداب السلوك في «بعقلين» لبنان، هي أن لا تشبع على مائدة مضيفك مهما برح بك الجوع.
وكان رفيقي من أولئك الذين تزخر معلوماتهم فتطوف عن ألسنتهم فتفرق عشراءهم؛ إذ ما أسرع ما سمعت الماجور يقول: «أنت من العنصر السامي بلا ريب. انظر إلى قامتك فهي في طول قامتي وعرضها، كلانا في قياس 42، أما حذاؤك فهو قياس ، في حين أني ألبس . إني أراهن أن ساقي أعلى من ساقك.» وكشف بنطلونه ودعاني إلى المقايسة، فوجدته صادقا؛ إذ إن ركبته علت ركبتي بنحو قيراط. وعاد الماجور إلى دلق المعلومات: «لا عجب فأنت سامي وأنا إنكلوسكسوني. أما هذه الفتاة فهي أسوجية الأصل، وإني أراهن أن ساقها أطول من ساقي مع أنها امرأة.» فدارت الفتاة حول الحاجز الذي يفصلها ووضعت قدمها قرب قدمينا وحسرت عن ساقها إلى همامة فخذها، فبانت ركبتها أعلى من ركبة الماجور بنحو نصف قيراط. وكأنما رفيقي رأى ما أرعبه، فجس «بطة» ساق الفتاة وصاح: «حذار! فقد ضخمت بطة ساقك واشتدت وإن هذا في المرأة لعيب، خففي من الألعاب الرياضية.»
فأجابت الفتاة مشمئزة: «كذب وبهتان. إن ساقي جميلتان! ليس من فتى في الجيش لم يهنئني على هندامهما. كذلك لن أنقطع عن العتلتة.»
ودارت نحوي ودعتني لأن أجس: «قل لصديقك هذا الخبيث إن كانت بطة ساقي ضخمة العضلات.» فلمست ساقها لمسة خفيفة وابتسمت متأدبا شأن الغريب لا يود أن يشترك في جدال بين صديقين.
وحين صرنا في الباب منصرفين، التفت الماجور إلى خلفه وسأل: «ماذا تفعلين هذه الليلة؟» أجابت: «اسأل الليوتنان سمث، هو الذي يخرج بي هذه الليلة.»
فغمز رفيقي بعينيه وصاح: «بعض الفتيات محظوظات.» أجابت صديقته بعد أن أخرجت لسانها ساخرة: «بعض الضباط طوال الألسنة!»
وحين صرنا في الشارع، فاضت معلومات الماجور ثانية فجدد ملاحظاته الفلسفية: «إن الذين لا يفهمون الأميركان يعيبوننا بأمور نحن منها براء. إن دعابتنا مع النساء طاهرة ليس فيها لؤم الفجور، فلسنا نحسب أعضاء الجسم مما يحرم ذكره أو لمسه.» أجبت متلعثما: «صدقت، لقد عايشت الأميركان وخبرتهم.» واحمر وجهي. تراه لاحظ كيف بلعت ريقي وارتعشت أناملي حينما لمست تلك الساق؟ وأردت الافتراق عنه، فجرني إلى مطعم عبر الشارع وأصر على أن أشاطره زجاجة بيرة، فجلسنا نتحدث كثر من ساعة استهلكنا خلالها زجاجات لا زجاجة واحدة. ولم يشأ إلا أن يدفع عني، فشكرته. وودعني معتذرا، شاجبا قوانين الجيش التي تغل يديه عن خدمتي وتسهيل أمر استخدامي.
ووقفت في عتمة ذلك الشارع - خارج الرستوران - وقد بدأ المطر يقع رذاذا، فوضعت المشمع على كتفي من غير أن أرتديه، وكانت أوركسترا المطعم تعزف لحنا خافتا، وفي نفسي ظلمة أشد حلكا من عتمة الشارع، وفي قلبي وحشة وغمرة حزن.
لقد مرت بي مواقف يأس كثيرة في هذه الغربة المريرة. أذكر يوم كنت أتمشى بابنتي الصغيرة في البولفار إذ مر بائع بالونات ملونة منفوخة، فنادته ابنتي وصرفته أنا؛ إذ لم يكن معي ثمن ذلك البالون. كذلك أذكر رعب السجن الياباني؛ حيث ضاجعت طيلة الليل رجلا صينيا ميتا لفظ أنفاسه في وجهي وصبغت دماه قميصي. وأذكر يوم اختبأنا رجالا ونساء وأطفالا في كهف اتقاء غارات الطيارات، ووقعت القذيفة قربنا بحيث لفحت وجوهنا ريحها، ولكني لا أذكر مرارة قطعت نياط قلبي مثل تلك التي شدت على أوتاره حين وقفت خارج ذلك الرستوران لا أدري إلى أين أسير، ومن أين أكسب الرزق في اليوم التالي. حقا، إن الحيرة آلم على النفس من الخيبة، والخوف، والفاقة.
لا أدري كم طال وقوفي هناك: ألحظة أم ساعة؟ ولكني استفقت من غيبوبة آلامي على قهقهة الماجور، تلك الضحكة التي كان يقهقهها في مكتبه وهو يقلب الكتب وينهال علي بالأسئلة.
وفيما هو يقهقه خاطبني بكلمات متقطعة: رح إلى الكابتن «كلي» غدا، وقل له أن يضع اسمك في قائمة المستخدمين بمعاش 900 دولار في الشهر. لقد ظفرت بالبرهان القاطع على أنك من «خريجي الجامعة الأميركية في بيروت».
وخلع مشمعه مقهقها من جديد، متابعا حديثه: الظاهر أننا تبادلنا المشمعين؛ فحين مددت يدي إلى جيب المشمع أتطلب محرمتي وجدت هذا ...
وانتشل من جيب المشمع تلك الملاعق الأربع التي استملكتها أنا من المطعم حيث شربنا البيرة ...
قهوة سوراط
لليوتولستوي
كان في سوراط - إحدى مدن الهند - قهوة يؤمها الكثيرون من المسافرين والأغراب من مختلف جهات العالم، فإذا هم اجتمعوا أنس كل إلى رفيقه وأقاموا يتفكهون ويتحادثون. وقد ساقت التقادير إلى تلك القهوة رجلا فارسيا من المولعين بعلم اللاهوت، وكان الرجل قد أنفق العمر يبحث عن طبيعة الله، فدرس كتبا كثيرة ونشر تآليف عديدة، وكأنه استرسل في درسه وتنقيبه استرسالا غير محمود، فلم يلبث أن أصابه الخبال، فكف عن اجتهاده، وتمادى في الكفر حتى لم يعد يؤمن بوجود الله. فلما اتصل أمره بالشاه، غضب عليه وطرده من بلاد العجم. وهكذا ساء أمر اللاهوتي؛ فبعد أن جادل العمر كله مدافعا عن «السبب الأول»، صارت حاله إلى البلبلة، فبدلا من أن يفطن إلى جنونه وفقده «عقله» أمسى يعتقد أنه ليس ثمة من «عقل» يدير هذا الكون.
وكان في خدمة هذا العجمي عبد أفريقي يسير في ركابه أنى توجه، فلما دخل القهوة قعد العبد على حجر في الخارج «يتشمس» ويلهو بطرد الذباب الذي كان يزعجه بأزيزه حول أذنيه. وما إن اطمأن باللاهوتي مجلسه في الديوان، حتى طلب كأسا من الأفيون لم يكد يتجرعها حتى أسرعت حركة دماغه وبدأ فعل الشراب يظهر فيه ، فخاطب عبده من خلال الباب قائلا: قل لي أيها العبد الشقي، أتعتقد بوجود الله أم لا؟
فأجاب العبد ثم أسرع فانتشل من منطقته تمثالا صغيرا من الخشب وصاح: «هو ذا الإله الذي حفظني من يوم ولادتي، وليس في بلادنا من لا يؤمن بالشجرة المقدسة التي صنع منها هذا الإله!»
أما رواد القهوة فقد استغربوا هذا الحديث بين اللاهوتي وعبده، وعجبوا لسؤال السيد، ولكن عجبهم كان أشد حين سمعوا جواب عبده، وكأن ما فاه به العبد قد استغضب أحد الجلاس - وكان برهميا - فصاح بالعبد: «ويحك أيها المعتوه! أفتحسب أن الإله يحمل تحت المناطق؟ لا إله إلا براهما، وإنه لأعظم من العالم بأسره؛ إذ إنه هو الذي خلقه؛ لهذا نحن شدنا من أجل تكريمه الهياكل على ضفاف الكنج حيث يسبحه البراهمة، فليس في الدنيا من يعرف الله سواهم. وها قد نشبت الثورة بعد الثورة، فلم تفت في عضدهم ولا أنقصت من سيادتهم؛ إذ إن براهما - ولا إله سواه - يحميهم ويصد عنهم غارات الأعداء.
وما إن فرغ البرهمي من قوله حتى سرت الخيلاء إلى نفسه؛ إذ توهم أنه أقنع الجمهور، ولكن سرعان ما تلقاه أحد الحضور - وهو سمسار من اليهود - بقوله: ضللت يا صاحبي؛ فالإله الحقيقي لم يختر هيكله في الهند ولا هو يحمي جماعة البراهمة. إن الإله الحقيقي، هو إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، لا يعطف على غير شعبه المختار، وهم الإسرائيليون الذين أحبهم منذ بدء الخليقة ولم يحب سواهم، ولئن يكن قد فرقنا اليوم في أنحاء العالم، فهو لم يفعل ذلك تخليا عنا، بل إرادة أن يبلونا. ولقد وعد بأن يجمع شعبه يوما من الأيام في بيت المقدس، وإذ ذاك يعود إلى بيت المقدس رواؤه ويهز بنو إسرائيل عصا الحكم فوق رءوس أمم الأرض أجمعين.
وغلب التأثر على اليهودي فأجهش بالبكاء. وفيما هو يحاول الكلام ثانية، قاطعه مبشر إيطالي قائلا: إن ما نطقت به لضلال وأي ضلال! إنك لتنسب الظلم إلى جلالته تعالى، فهو لا يستطيع أن يحب أمتكم أكثر من حبه سائر البشر، ولئن خص اليهود بحب في سالف الأيام، فلقد مضى على ذلك الزمن أكثر من تسعة عشر قرنا؛ إذ أغضبوه وحملوه على محو أمتهم وتشتيتهم، حتى إنك لا تجدهم إلا بقية مبعثرة هنا وهناك، وليس لدينهم تأثير فلا يعتنقه أحد. إن الله لا يفضل أمة على أمة، بل ينادي الجميع أن ينضموا إلى صدر الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وهي وحدها كفيلة الخلاص.
واتفق أنه كان بين المستمعين قس بروتستنتي، فاصفر وجهه، وتطلع إلى المبشر الكاثوليكي وطفق يتكلم: عجبا لك! أفتزعم أنه لا خلاص بغير اعتناق دينك، وأن الخلاص نصيب الذين يخدمون الله متمشين على سنة الإنجيل في نصه وفي روحه؟
وكان إلى جانب المتحادثين رجل تركي يشغل وظيفة في جمرك سوراط لم ينقطع طيلة الحديث عن تدخين غليونه، ولكنه حين سمع تتمة الحوار التفت إلى المسيحيين معا وخاطبهما بلهجة الغطرسة: يا بطل ما تؤمنون بتلك الديانة الرومانية التي حل الدين الحقيقي - دين محمد - محلها منذ أكثر من ألف ومائتي سنة. وهل في وسعكم أن تنكروا انتشار الدين الحنيف في أوروبا وآسيا وتجاوزه الأقطار إلى بلاد الصين المتنورة؟ لقد قلتم لهنيهة خلت: إن الله قد نبذ اليهود واستشهدتم على ذلك بذلهم ومسكنتهم، وبأن الناس يعرضون عن مذهبهم فلا يعتنقه منهم أحد فأقروا إذن بحق الإسلام؛ إذ إنه خفاق اللواء في مشارق الأرض ومغاربها. حذار حذار، فلن ينجو من عذاب الله إلا المؤمنون برسالة خاتم الأنبياء وصفوة المرسلين، ولن يخلص من هؤلاء إلا أتباع سيدنا عمر لا أشياع علي، فإن هؤلاء قد نشزوا عن الدين القويم.»
وحاول اللاهوتي الفارسي - وهو من شيعة علي - أن يحتج على هذا الكلام، ولكن ارتفعت إذ ذاك ضوضاء ملأت المكان؛ فقد كان أولئك الأغراب ينتمون إلى مختلف العقائد والمذاهب؛ فكان بينهم مسيحيون من بلاد الحبش، ولاميون من تيبيت، وإسماعيليون، وأناس من عبدة النار؛ فاشتركوا جميعا في اللغط والمماحكة في طبيعة الله وكيفية عبادته، وأصر كل على أن بلاده انفردت بعبادة الله الحقيقي عبادة صحيحة، ولم يعتزل وطيس هذا الجدال إلا صيني من تلامذة كونفوشيوس انكمش في أقصى زاوية من القهوة وأخذ يشرب الشاي على مهل ويصغي إلى حديث الباقين من غير أن يفوه بكلمة، فلحظ التركي هذا الصامت، فخاطبه بلهجة الشاكي يختصم إلى قاض وقال: إنك لتقوى على تثبيت الذي ذكرته يا أخي الصيني. لقد بقيت ساكتا حتى الساعة، على أنك لو نطقت لما أيدت غير أقوالي؛ فإن التجار الذين يؤمون سوراط من بلادكم، فيأتون إلي في طلب المساعدة؛ يؤكدون لي أن قد تسربت إلى بلاد الصين ديانات كثيرة، غير أن أحبها إلى الصينيين هي الديانة الإسلامية؛ لذلك هم يعتنقونها عن طيبة خاطر. فهلا تثبتن كلامي وتبسط لنا معتقدك في الله ورسوله؟
فالتفت إليه الحاضرون جميعا وصاحوا به: «بلى، بلى، أسمعنا رأيك في هذا الأمر!»
فأغمض الصيني عينيه وفكر هنيهة، ثم عاد ففتحهما ثانية وسل يديه من كميه الواسعين وطواهما على صدره، وأخذ يتكلم بصوت هادئ خافت يقول: يخيل إلي أيها السادة، أن لا شيء يمنع الناس من الاتفاق في الإيمان إلا عجبهم وكبرياؤهم. اسمحوا لي أن أضرب على هذا مثلا بالقصة التالية: «غادرت الصين وقدمت إلى هذه البلاد على باخرة إنكليزية كانت قد طافت حول الأرض. وقد تحتم علينا أن ننزل إلى الشاطئ الشرقي من جزيرة سومطرا في طلب الماء العذب، فلما بلغنا البر وكان الوقت ظهرا، نزل البعض منا يتفيئون أشجار جوز الهند، وكنا جماعة ننتمي إلى مختلف البلدان. ولم يطل مكوثنا حتى وافانا رجل أعمى عرفنا عند بعدئذ أنه فقد بصره لطول تحديقه في الشمس يبغي أن يستكشف طبيعتها ويحاول أن يقبض على ضيائها، وأجهد نفسه فأطال نظره إلى الشمس؛ فلم يعد عليه هذا الجهد إلا بأن أضرت أشعتها باصرتيه فأخمدت فيهما النور؛ يحدث نفسه حينئذ بقوله: ليس ضياء الشمس بسائل، فلو كان سائلا لسهل سكبه من إناء إلى إناء، ولاستطارته الريح كما تفعل بالماء، وما هو بنار، فلو كان نارا لأطفأها الماء، وليس ضياؤها بروح ؛ لأنه ينظر بالعين، وما هو بمادة؛ إذ يستحيل تحريكه، إذن فما دام ضياء الشمس ليس بسائل ولا نار ولا روح ولا مادة فهو إذن لاشيء!
تلك كانت حجته. أما استمراره على التحديق في الشمس والتفكر بأسرارها فقد سبب له فقد بصره وإدراكه. فلما أن عمي جاء عماه مثبتا لاعتقاده بأن الشمس لا وجود لها!
وكان يرافق هذا الأعمى عبد له، فلما أجلس سيده في ظل شجرة جوز الهند، راح فالتقط جوزة أخذ يعدها سراجا لليله، فجعل من خيوطها فتيلة، وعصر من جوفها زيتا غمس فيه الفتيلة. وإن العبد لجاد في عمله، إذ بسيده يتنهد ويسأله: أفما كنت مصيبا يا عبدي حين قلت لك: إن الشمس غير موجودة؟ أفلا ترى أي ظلام يحيق بنا؟ مع هذا يقول الناس: إن الشمس موجودة! لئن صح ما يزعمون، فما هي الشمس؟
فأجابه العبد: أنا لا أدري ما هي الشمس، وليس من شأني أن أتعرض لمثل هذا البحث، غير أنني أعرف ما هو الضياء؛ ها أنا ذا قد أعددت لك سراجا أستعين به على قضاء أمورك في الليل، والوصول إلى أي شيء تطلبه في الكوخ.
ثم التقط قشرة جوزة وقال: «هذه شمسي.» وكان إزاءهما رجل أعرج يسير على عكازين، فضحك حين سمع هذا الكلام وقال: «يلوح لي أنك أعمى منذ ولدت، فأنت إذن لا تعرف ما هي الشمس، فاستمع إلي أخبرك: الشمس هي كرة نار ترتفع في الصباح من البحر وتنحدر كل عشية بين جبال جزيرتنا. ولقد شهدنا هذا كله - نحن سكان الجزيرة - ولو كان لك أن تتمتع بناظريك لتحققت صدق ما قصصت عليك.»
فعارضه صياد سمك كان يصغي إلى الحديث بقوله: ما أسهل أن يعرف الإنسان أنك لم تبارح جزيرتك قط! ولو لم يبتلك الله بالعرج فكنت قادرا على أن تطوف مثلي في قارب صيد؛ لعرفت أن الشمس لا تغيب بين جبل جزيرتنا، بل ترتفع من الأوقيانوس كل صباح، وتغيب في البحر كل مساء. وإني أرى هذا المشهد كل يوم، فهو إذن صحيح لا ريب فيه.
فقاطعه حينئذ رجل هندي كان بين الجماعة فقال: إنه ليدهشني أن ينطق رجل ذو بصيرة وروية بمثل هذا الهذيان. أفيعقل أن كرة نار تنغمس في المياه من غير أن تنطفئ؟ ليست الشمس بكرة نار ولكنها إله اسمه «ديفا
Deva »، يعتلي عربة ويطوف الدهر كله حول «مارو
Meru » الجبل الذهبي، وقد تهيج الحيتان الشريرتان «راغو
Ragu » و«غاتو
Ketu » فتبتلعانهما فيعم الأرض ظلام ويسرع كهنتنا إلى نجدة الشمس، فيضرعون إلى الآلهة أن يطلقوا سراحها، فيستجاب دعاؤهم ويحل عقال الشمس. وليس في الدنيا من يزعم أن الشمس لا تشرق إلا في بلاده غير أمثالك من الذين ضرب الجهل على عقولهم، وقضي عليهم أن لا يفارقوا جزيرتهم.»
وجاء دور ربان سفينة مصرية فقال: أخطأت يا صاح، فليست الشمس إلها ولا هي اختصت الهند بالتطواف حولها وحول الجبل الذهبي، إني جواب آفاق، طواف بحار، فلطالما دغدغت الرياح شراع سفينتي في البحر الأسود وحيال شواطئ بلاد العرب، ولطالما زرت الفيلبين ومدغسكر. ولقد علمتني أسفاري أن الشمس لا تنير الهند وحدها، بل تضيء على الأرض جميعا، ولا هي تطوف حول جبل واحد، بل ترتفع في الشرق البعيد فيما وراء جزر اليابان وتغيب بعيدا بعيدا وراء أقصى جزر بلاد الإنكليز. فمن أجل هذا أطلق اليابانيون على بلادهم اسم «نيبون
Nippon »؛ أي «مولد الشمس». أنا واثق مما أقول؛ فلقد سحت كثيرا وسمعت كثيرا من جد لي بلغ في تجواله أقصى زوايا البحر.
وأراد الربان المصري أن يستمر في الشرح، ولكن إنكليزيا من بحارة سفينتنا قاطعه الحديث فقال: ما من أناس يجيدون معرفة حركة الشمس إجادة سكان بلاد الإنكليز. إن كل إنكليزي يعرف حق المعرفة أن الشمس لا تشرق ولا تغيب، ولكنها تظل دائرة أبدا حول الأرض، وليس أدل على هذا من أننا طفنا العالم بأسره، فلم نصطدم بالشمس، بل كنا أنى ذهبنا نجد أنها تظهر في الصباح وتستتر في العشية.
ثم أخذ بيده قضيبا ورسم على الرمل دوائر، وحاول أن يشرح دوران الشمس حول الأرض، فأعياه ذلك، ولمح في تلك اللحظة ربان السفينة الإنكليزي، فأشار إليه وقال: هذا الربان أعرف مني بحقيقة الأمر، فسيتولى عني إيضاح ما غمض عليكم.
وكان الربان رجلا فطنا، وقد لبث صامتا طيلة الحديث، فلما توجهت إليه الأنظار وسأله رفاقه أن يتكلم قال: إن كلا منكم يخدع نفسه ويضلل رفيقه؛ فإن الشمس لا تدور حول الأرض، بل إن الأرض هي التي تدور حول الشمس وحول نفسها أيضا، فلا يمضي على هذه أربع وعشرون ساعة حتى تواجه الشمس في اليابان والفيلبين وسومطرا وفي أفريقيا وأوروبا وأميركا وفي بلدان غيرها كثيرة. فأنتم ترون أن الشمس لا تقتصر منفعتها على جبل أو جزيرة أو بحر، حتى ولا على أرض وحدها، بل هي تشرك في الضياء سيارات كثيرة غير أرضنا هذه. ولو رفعتم بأنظاركم إلى السماوات العلا، بدلا من أن تخفضوها إلى ما تحت أقدامكم، لوضح لكم أن الشمس لا تشرق من أجلكم وأجل بلادكم فقط ...»
تلك كانت أقوال الربان الحكيم التي اكتسبها من طول تحديقه في السماوات ومن تجواله في بحار العالم. •••
فلما فرغ الصيني من سرد قصته قال: ما أشبه هذا المثل بالأمر الذي اختلفتم عليه، فإن الخيلاء التي حملت كلا من ربان السفينة في سومطرا على أن يدعي ملك الشمس، واقتصار منفعتها على بلاده، هي التي تحملكم على ادعاء ملك الله، واقتصار منفعته عليكم أو على أهل مذهبكم. يا شد ما يفرق العجب بين الرجل والرجل! أفليست كل أمة تبتغي أن تحبس في هياكلها ذاك الذي يقصر العالم بأسره عن أن يسعه؟ وما هو الهيكل - مهما عظم - إذا قيس بالعظيم الذي ابتناه الله؛ لكيما يضم فيه الناس أجمعين إلى معتقد واحد وديانة واحدة؟
إن الناس ابتنوا هياكلهم على مثال الله العظيم، فجعلوا لكل هيكل أجرانا، وسقفا مقببا ومصابيح وصورا وتماثيل ونقوشا وكتاب شرائع وتقدمات ومذابح وكهنة ... ولكن قولوا لي: أي هيكل حوى جرنا كالأوقيانوس، وسقفا مقببا كالسماوات، ومصابيح كالشمس والقمر والنجوم؟ وأي رسوم تماثل الرجال الأحياء المتحابين المتعاونين؟
أي آثار هي أظهر من آثار هذه البركات التي أغدقها الله على الإنسان لسعادته وهناءته؟ وأي كتاب شرائع هو أوضح معاني من الكتاب الذي خط في قالب الإنسان؟ وأي ذبائح توازي التضحية التي يقوم بها رجال هذا العالم ونساؤه؛ إذ يكونون متحابين؟ وأي مذبح شرف حتى ضارع قلب الرجل الصالح؟
كلما سما نظر الإنسان في خالقه، ازداد معرفة له، وكلما ازدادت معرفته لله، ازداد اقترابه منه وتحديه إياه في صلاحه ورحمته وحبه للإنسان. فخليق بالرجل الذي يرى شعاع الشمس يملأ العالم أن يترفع عن تأنيب ذاك الذي لا يرى من الشمس إلا خيطا واحدا من خيوط نورها، وأن يتنكب عن احتقار غير المؤمن الذي عمي فلم يعد يستطيع أن يرى الشمس أصلا ... •••
تلك كانت أقوال الصيني تلميذ كونفوشيوس، وقد أصغى إليها من في القهوة معجبين، فلما فرغ منها بقي القوم صامتين وكفوا عن التباهي بعقائدهم والتفاضل بأديانهم.
1
صفحه نامشخص