أقول: إن أراد انها مشهورة الحرمة بين العلماء، يذكرونها في مجالسهم ومذاكراتهم ويأنفون من وقوعها فصحيح، وهو حجة عليه فيما رام من التحليل. وان أراد بانها مشهورة بأنها من الحق والعدل، فبهتان مبين، ولاحجة في السكوت عن التغيير على الحكام لما علم أنه لا ينفع الانكار عليهم، بل وبما صار حرمة الخطايا من ضروريات الشرائع. ومن خفي عليه مدرك الضرورة في ذلك، فعليه باستقراء مواقع الأحكام، فيجد الله تعالى قد حكم بالقصاص. وان أراد أنها مشهورة الوقوع، وشهرة وقوعها بافريقة دليل على تحليلها، فهذا استدلال باطل، وكلام عن الحقيقة حائل. فكم اشتهر بالبلاد من المظالم والمكوس والمنكرات والمحرمات بالإجماع؟. فوقوع الفعل من المكلفين، لايدل على الإباحة والجواز، إلا في حق من ثبتت عصمته، وهذا جلي عن أن يفتقر إلى دليل، لمن له أدنى فهم ودين. لكنه ربما استمر المنكر فخف وقعه على القلوب، فتنوسي انكاره، لاعتياده واعتياد السكوت عنه، فيعتقد البعداء عن الشريعة حقيقته، ويسندون ذلك الوهم إلى أنه لو كان منكرا لما اشتهر، ولو كان منكرا لأنكره علماء العصر، أو لم كان منكرا لأنكره فلان العالم، وفلان الصالح، وفلان المعتقد، وما يلقون البال إلى مانع الانكار، ولا إلى ما للساكتين من الاعذار، وإلى ما يقع لهم من انكار ذلك لي مجالس التعليم والمذاكرة، بل يجازفون (5 = 186 / ب بذلك) القول مجازفة الجاهلية في قولهم: "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون"(¬1). وقد انتهى الأمر إلى أن صار انكار المنكر اغراء عليه، وتنبيها على المسارعة إليه، للقوة الغضبية، وبعثا للعصبية على تحليله، وتفسيق من قال: يستوي قولهم وتضليله. فكيف لا يسكت الناس عن تغيير المنكر خوف الزيادة؟، وقد صار هذا المشار إليه بالعلم يستدل على التحليل بالشهرة والعادة.
صفحه ۹۳