حرب القرم ومؤتمر باريس مرحلة من مراحل المسألة الشرقية، وهنا يجدر بنا أن نتفهم ماهية المسألة الشرقية وتطوراتها. لا نريد الرجوع إلى الماضي كثيرا، إلى العصور القديمة أو العصور الوسيطة، بل نكتفي بالرجوع إلى قيام الدولة العثمانية كدولة عظمى تسيطر على جنوب أوروبا الشرقي في القرن السادس عشر، وطالما كان العثمانيون دولة عظمى؛ أي قوة مهاجمة، وطالما كانت الدولة العثمانية في دور الفتوح والاتساع لم تكن هناك مسألة شرقية، وإنما كانت المشكلة مشكلة أوروبا؛ مشكلة استطاعة أوروبا الوقوف أمام هجمات العثمانيين العنيفة. لقد استطاع العثمانيون القضاء على الإمبراطوريات البلقانية الكبيرة؛ فقضوا على إمبراطورية الصرب، وإمبراطورية البلغار، ودمروا الدولة البيزنطية، واستولوا على عاصمتها، وجعلوها عاصمة للإسلام، واستولوا على ولايتي الأملاق والبغدان والقرم، وأصبح البحر الأسود بحيرة تركية، كما استطاعوا القضاء على دولة المجر، وأصبحت المجر ولاية عثمانية من أهم الولايات العثمانية.
وإنما أخذت مسألة شرقية في الظهور حين أخذت موجة الفتح التركي في الانسحاب، وأخذ الأتراك يتقهقرون تدريجيا من ولاياتهم المتطرفة، وخاصة من أواسط أوروبا، فظهر الأمل يقوى بالتدريج في أوروبا في انسحاب العثمانيين يوما ما من وسط أوروبا وشبه جزيرة البلقان.
لا نريد هنا الدخول في الأسباب المتعددة التي دعت إلى ضعف الدولة العثمانية، وتقهقر النفوذ العثماني الإمبراطوري، ولكنا يمكننا أن نشير إلى انحلال النظم العثمانية ذاتها منذ القرن السابع عشر، هذه النظم التي كانت من أسباب القوة العثمانية؛ فلقد كانت مركزة حول شخصية السلطان إلى حد كبير، ولها صلة كبيرة بقوته وبطشه، فلما ضعفت شخصيات السلاطين، عادت نظم الحكم التي كانت قوة للدولة العثمانية نقمة عليها، ووقفت عقبة كأداء في طريق الإصلاح مدة طويلة، وخاصة نظام الرق الذي نشأت على أساسه الهيئة الحاكمة وقوة الجيش العثماني، فلكي تستطيع الدولة البقاء كان لا بد لها من محاولة القضاء على نظام الرق هذا.
فعوامل ضعف الدولة العثمانية ترجع كما هو ظاهر إلى ظروف داخلية، وأخرى خارجية، لا تقل عنها أهمية، ومن أهم العوامل الخارجية ظهور النمسا والروسيا كدولتين حديثتين مهاجمتين متوسعتين، فلقد غدت هاتان الدولتان في حالة حرب تكاد لا تنقطع مع الدولة العثمانية، حتى استنفدت قوة الدولة العثمانية وحيويتها. هاتان الدولتان في ظل عائلتي الهابسبرج ورومانوف أخذتا في الظهور والتوسع على حساب ممتلكات الدولة العثمانية في وسط أوروبا، في حوض الدانوب وعلى حدوده، وعلى سواحل البحر الأسود.
أخذت المسألة الشرقية تظهر بشكل واضح إذن في القرن الثامن عشر، وأخذت تظهر القوميات البلقانية المسيحية التي هيأت لها سياسة الدولة «الملية» وسائل المحافظة على لغتها وعاداتها وتقاليدها ودينها ونظمها، وأخذت الدول الكبرى الأوروبية تتخذ لها مواقف معينة من نمو هذه القوميات: إما مناصرة لها، أو عاملة على تحديد أطماعها، أو راغبة في مد نفوذها وسلطانها عليها.
بدأت تثور المسألة الشرقية إذن بشكل واضح في الربع الأخير للقرن الثامن عشر، حين اضطرت الدولة العثمانية أمام الضغط الروسي والنمساوي إلى الاعتراف بنفوذ الروس في شمال البحر الأسود، وبسيطرة الهابسبرج على وسط أوروبا، ومنذ ذلك لم تعط الدولة العثمانية فرصة طويلة للاستجمام أو لاستعادة قوتها، ولاقت الدولة من باشاواتها الثائرين عليها أو شبه المستقلين مثلما لاقت من أعدائها التقليديين، من استبعاد لنفوذها وقضاء على سيطرتها، وتمزيق لأوصالها.
ولم ينقذ الدولة حقيقة من عدوتيها الكبريين الروسيا والنمسا إلا ظهور روح المنافسة بينهما؛ فالدولة النمساوية بصفة عامة بعد أن استرجعت المجر من الدولة العثمانية وأمنت حدودها في حوض نهر الدانوب من ناحية العثمانيين أخذت تلحظ بعين القلق تقدم النفوذ الروسي في البحر الأسود، وخاصة في بولونيا، وأخذت تخشى بعض الشيء صلات الجنس الصقلي التي تربط بين روسيا وبين شعوب البلقان الصقلية، وسرعان ما شغلت بحروبها مع بروسيا ثم مع الثورة الفرنسية ونابليون في غرب أوروبا، وفي الميدان الإيطالي، فاضطرت أن تغادر بصفة عامة سياسة العداء بإزاء الدولة العثمانية.
كما أن الدولة العثمانية شعرت من ناحيتها بحاجتها للإصلاح ، وقامت محاولات للإصلاح وخاصة في نظام الجيش، وكانت هناك محاولات في القرن الثامن عشر قام بها بعض السلاطين المصلحين؛ لإصلاح النظام الحربي العثماني، وعرف محمود الثاني أن الإنكشارية التي عزلت سليما من قبل وقتلته، هم أعداؤه وأعداء الدولة وأعداء التقدم، فلقد كانوا أكبر عناصر الفوضى في الدولة؛ لفسادهم وسوء نظامهم واستمرار ثوراتهم، لقد أثبتت التجارب أنهم أصبحوا عنصرا لا قيمة له في ميدان الحرب، في الوقت الذي أصبحوا فيه خطرا كبيرا على سلام الدولة وأمنها وطمأنينتها. حاولت الإنكشارية إشعال الثورة على السلطان المصلح، ولكنه لم يكن لهم نظام ولا زعماء، قد مل الناس غطرستهم وتكبرهم وغرورهم وانحلالهم حتى رجال الدين أنفسهم رأوا في القضاء عليهم إنقاذا للإسلام؛ ولذا لم يقم أحد سلاحا، حين أمر السلطان بمهاجمتهم وتدميرهم ومحو اسمهم ونظامهم.
وحلت محلهم العساكر المحمدية، اهتم السلطان بإنشاء جيش جديد قوي، فهو عصب الدولة التي حلت بها الكوارث من كل جانب، وضاقت المنطقة التي كان للسلطان فيها حكم فعلي، فما كان للسلطان إلا اسم من سلطة في سوريا أو أرمنية أو العراق أو الموصل أو مصر، وكان باشاوات حلب وعكا وبغداد قد رفعوا راية الثورة، وحاول محمود بسط سلطانه على بعض الولايات الثائرة، وتم له إخضاع العراق والقضاء على المماليك والإنكشارية فيها.
وكان جهد محمود الحقيقي مركزا في إصلاح الجيش، وكان من الصعب إيجاد الضباط وتدريبهم؛ لتفشي الجهل بين الناس، فاستعان محمود بالبروسيين والفرنسيين، وأحرز بعض التقدم في تنظيم الجيش والبحرية، ولكنه فشل في اختيار قواد جيشه، ومن هنا كانت هزائمه أمام قوات واليه محمد علي. لقد حاول محمود إصلاح نظم الدولة الأخرى مثل المالية؛ فحاول إدخال النزاهة والأمانة، وعمل على زيادة موارد الدولة، وخاصة بعد معاهدة أدرنة التي فرض فيها الروس عليه غرامة حربية كبيرة، ووضع نظام الوقف تحت إشراف الدولة، ولكنه اتبع سياسة الاحتكار مما جعل إنجلترا تحتج على هذه السياسة. فإنجلترا في ذلك الوقت كانت تتبع سياسة حرية التجارة؛ عندئذ أعاد محمود النظر في هذه السياسة، وخاصة في العلاقات التجارية بين دولته وبريطانيا، وكان نتيجة ذلك إمضاء اتفاقية أغسطس 1838 وبها ألغيت كل الاحتكارات في كل ولايات الدولة (بما فيها مصر).
صفحه نامشخص