وبالوالدين إحسانا ؛ لتزداد يقينا وإيمانا، فقال لها - ولم يزدد إلا جحودا وقسوة، وحنقا ونفورا ونبوة: لا سبيل لك بغير المنقوشة إلى بلوغ المرام، فاقطعي حبال الرجاء واذهبي عني بسلام.
وكان بإزائهما من يسمع ما دار بينهما من المقال، فتى قد توفرت فيه شروط السماحة والوجاهة والكمال، فقال لها: اركبي يا أماه على هذه الراحلة، فأنت سميرة والدتي في القافلة، ثم نظر إلى هذا المهين نظرة الغضب، وعبس في وجهه وقطب، وقال بعد أن قرعه بالعصا، ورجمه بالحصا: يا قذى جفن الدين، وبلاء نفوس المهتدين، أما علمت أن الجنة تحت أقدام الأمهات، وبطاعة الوالدين يفوز الولد بأقصى الدرجات! لك الويل إن الشقاوة غلبت عليك، وقادك العقوق إلى النار برجليك، ثم خلى سبيله وانصرف، وهو على عدم قتله في غاية الأسف.
وبالجملة فأخبار هذا السفيه المفند في مثل هذه الرذائل لا تعد، ثم ضرب صفحا عن ذكره، بعد أن لعنه في علانيته وسره، ولا زلنا نخوض في حديث بعد حديث، ونحن ساخطون على هذا الرجل الخبيث، حتى عول الحاضرون على الرواح، وكان أكثر الليل قد مضى ودنا الصباح، فانتصبت عند انفضاض الناس للوداع، وكان غيري قد فاز بلذة السماع، وقلت لغلامي: يا ابن شكلة، هيئ لي على الفور البغلة، فقال: إني تركتها في الدار مع الجواد والحمار، هنالك انتهز صاحبي الفرصة، وقال: إنه لم يبق من الليل إلا حصة، فاقبل مني النصيحة، واسترح في هذه القاعة الفسيحة، وكنت لطول السهر قد اعتراني بعض فتور وخدر، فلم أخالفه فيما به أشار؛ لبعد المنزل واقتراب النهار، بل أجبت بالطاعة، وتبعته إلى القاعة.
وبعد أن اضطجعت فيها على سرير، ودعني وعدل إلى بعض المقاصير، وإذ كنت بين اليقظان والنائم في تلك القاعة الخالية من النسائم، إذ سمعت من بعيد صلصلة حديد؛ فطار عن جفني الوسن، واقشعر مني البدن، وتلوت وقد أعياني الأرق:
قل أعوذ برب الفلق ، وبينما أنا من الفزع في اضطراب إذ أبصرت معي شبحا من داخل الباب، فتأملته وقد استولى على قلبي الرعب وخفق، وكدت أموت من شدة الفرق، فإذا هو رجل طويل القامة، قصير اليدين، كبير الهامة، عاري الجسد، أصلع الرأس، يلوح عليه مع شيخوخته أنه شديد البأس، فقويت جأشي وثبت الجنان، وقلت له: أمن الإنس أنت أم من الجان؟! فصاح صيحة كأنها الرعد في خلال الغمام، وتنهد تنهد الواله المستهام، ثم قال بعد هذه الضجة: قد مر بي عشرون حجة، ما طرق سمعي حديث بشر، ولا وقعت عيني على أنثى ولا ذكر، فما هذه الأغاني والأصوات، والألحان الموسيقية المطربات، التي شنفت المسامع؟ وما هذه الشموع التي أضاءت بها جميع المواضع؟ فقلت مجيبا له وقد سكن روعي، وتماسكت بعض التماسك ضلوعي: إن رب هذه الدار أنكح ابن أخيه ابنته نوار؛ فصرخ صرخة هائلة وسقط على الأرض، وقد كاد بما حل به من التشنجات يختلط طوله في العرض، فلما أفاق من غشيته، ورجع إليه بعض قوته، قال: اللهم اجعل هذه الوليدة برة بوالدتها سعيدة، ولا تجعلها كأبيها الشقي المحروم من رحمة الحي القيوم، فقلت له: من أنت يا أبتاه؟! ومن أين أقبلت يرحمك الله؟! وما هذا الحديد الذي حمله أعياك، وأودى بك إلى هذه الحالة في دنياك؟! فجثا على ركبتيه، وبسط راحتيه، وقال بعد تضرع وابتهال، وطلب الغفران من ذي الجلال: إني والد هذا الجبان الخائن، عدو نفسه المهان المائن، وإني أقبلت عليك من طبقة في الأرض تحت قدميك، طرحني فيها هذا الوغد العنيد، بعد أن كبلني - كما ترى - بالحديد، ولعل الباعث له على ذلك - والله أعلم بما هنالك - هو أنه زار في بعض الأيام ثلاثة إخوة من اللئام، وكان أبوهم هلك عن تركة جسيمة، وأموال عظيمة القيمة، فلما اقتسموها وهو إليهم ناظر، تكدر منه على عدم موتى الخاطر، ودخل علي في بعض الليال، ومعه أربعة متنكرون من الرجال، فوضع في رجلي هذا القيد الثقيل، وحبسني في هذه الطبقة عن الصاحب والخليل، وأشاع أني شربت كأس المنون، وبكى واستبكى علي العيون.
تنكرني دهري ولم يدر أنني
أعز وأحداث الزمان تهون
فبات يريني الخطب كيف اعتداؤه
وبت أريه الصبر كيف يكون
وقد لبثت في السجن عشرين من الأعوام، لا يزورني فيها من الناس شيخ ولا غلام، ولا أتغذى في الليل والنهار، إلا بشربة ماء ورغيف من الكشكار، تدفعها إلي في كل صباح، عجوز اسمها كفاح، ثم تغلق علي باب الطبقة، ولا تأخذها بي شفقة، وقد غفلت في يوم هذه الوليمة عن الباب، فتركته وانسابت كأنها الحباب في الحباب، فلما خفقت الأصوات، وانقطع حس الآلات، خرجت لاستنشاق النسيم، فاجتمعت بك في هذا الليل البهيم.
صفحه نامشخص