المقالة الأولى
المقالة الثانية
المقالة الثالثة
المقالة الرابعة
المقالة الخامسة
المقالة السادسة
المقالة السابعة
المقالة الثامنة
المقالة التاسعة
المقالة العاشرة
المقالة الحادية عشرة
المقالة الثانية عشرة
المقالة الثالثة عشرة
المقالة الأولى
المقالة الثانية
المقالة الثالثة
المقالة الرابعة
المقالة الخامسة
المقالة السادسة
المقالة السابعة
المقالة الثامنة
المقالة التاسعة
المقالة العاشرة
المقالة الحادية عشرة
المقالة الثانية عشرة
المقالة الثالثة عشرة
المقالات الأدبية
المقالات الأدبية
تأليف
صالح مجدي
المقالة الأولى
الجزاء من جنس العمل
كان لي جار من الكهول، يخلب بسماع أحاديثه العقول، فقال لي ذات يوم - وقد خلا ناديه من الناس، ولم يكن معنا فيه أحد من الجلاس: يا بني، إنه يختلج في صدري منذ أربعين سنة سر ما جرى ذكره في هذه المدة الطويلة على الألسنة، وها أنا عليك الآن أقصه، وكما رأيته بأسانيده أنصه، فأعر سمعك لمقالي، والتقط منه نفيس اللآلي. إني دعيت بمجلس أنس إلى وليمة عرس، فبادرت بالإجابة عملا بما رواه عن النبي الصحابة، فلما دخلت دار العروس عطفوا بي، قبل الجلوس، على الخوان؛ لتناول ما راج من الطعام، مع فتية من الظرفاء وأبناء التجار العظام، ثم انتقلت مع هؤلاء الجماعة، بعد مضي برهة لا تنقص عن ساعة، إلى مجلس سماع الألحان والأغاني المطربة الحسان، فلاحت مني التفاتة ذات اليمين.
فرأيت رجلا منعزلا في ناحية عن الجالسين، وهو قصير القامة، دقيق الساقين، أشعث أغبر، مشوه الخلقة، حالك السواد، قبيح المنظر، محدودب الظهر، مرتفع الصدر، فقلت لخال الفتاة الذي دعاني إلى الوليمة: من أين تعرف هذا الرجل صاحب الخلقة الذميمة؟ فقال لي وهو مبتسم: إن هذا العبوس هو صهري أبو العروس؛ فقلت: تبا له! مالي أراه وهو رب الفرح غارقا في بحار الهم والترح! فقال: إنه ورث جميع ما فيه عن جده وأبيه، وإني سألت عن أطواره وأحواله أحد أقاربه وأمثاله، فأخبرني أنه ما دعي فأجاب، ولا تكلم في أي مادة فأصاب، ولا قرع بابه ابن سبيل، ولا تصدق على سائل بالنزر القليل، وطالما لهج أمام والده في المحافل ، مع ما هو عليه من البخل بقول القائل:
هبك عمرت عمر عشرين نسرا
أترى أنني أعيش وتبقى
ولئن عشت بعد موتك يوما
لأشقن جيب مالك شقا
وهو وإن كان والد ربة الزفاف، وبعل أمها شقيقتي بلا خلاف، فإنه ما حضرها في عقد نكاح، ولا قام لها بأداء واجب ولا مندوب ولا مباح، ولا سعى بدعوته إلى داره أحد لعدم وقوفه في شحه عند حد، وما أظن أنه بش في وجه صهره وهو ابن أخيه، الذي ما بنى بابنته لرغبته فيه، بل لطمع في الاستحواذ على ماله من بعده، عقب حلوله عما قليل بلحده؛ لأنه عار عن حلل المروة، مجرد عن حلية الإنسانية والفتوة، تارك للمفروض والمسنون، متقلب في أودية السخف والجنون، مشغوف بالأباطيل، آخذ في الأضاليل، ما انبعث شعاع عقله لشيء سوى العبث، ولا شيع هالكا إلى جدث، وهو حائر في أمره، نابذ لمكارم الأخلاق وراء ظهره، وقيل إنه قصد الأقطار الحجازية للتجارة، في سنة من السنين لا للحج والزيارة، وكان ذلك غب قدومه من العراق بكثير من الجمال والنياق، فقالت له أمه: خذني معك إلى بيت الله الحرام؛ لأقضي فريضة الحج هذا العام، فأجابها إلى سؤالها بشرط أن تكون نفقتها على نفسها من مالها، فلما توسطت الدرب في السير مع الركب سقطت من تحتها الراحلة، وكادت تفوتها القافلة، فمشت على قدميها حتى كلت وضعفت قواها واضمحلت، وولدها لا يلتفت إليها، ولا تأخذه رأفة بها ولا شفقة عليها، فقالت له، وقد وقفت من شدة التعب عن المسير، وامتد إليه طرفها فارتد وهو حسير: يا بني، احملني على واحدة من هذه الدواب؛ لتفوز في غد بجزيل الثواب، ولا تتركني في هذه الفدافد الشاسعة، والدروب والعقبات الوعرة غير الواسعة؛ فأموت بالظمأ والسغب، أو أقع في قبضة أحد من العرب، أو تفترسني الوحوش الكواسر، وأنت على خلاصي من هذه التهلكة قادر.
فقال وقد نسي ما لها عليه من الحقوق، مبارزا لها بالعقوق: هيهات هيهات أن يستوي على قتب، سوى من يبذل الفضة والذهب ، فأنقديني خمسين من الدراهم، التي هي لجروح أمثالي كالمراهم؛ حتى أسمح لك براحلة سريعة الحركة، لا يلحق غبارها سليك بن السلكة؛ فقالت له: يا بني، إني حملتك تسعة أشهر في بطني فلا تخيب فيك ظني، وتذكر قول الرحيم الرحمن في كتابه المنزل على سيد ولد عدنان:
وبالوالدين إحسانا ؛ لتزداد يقينا وإيمانا، فقال لها - ولم يزدد إلا جحودا وقسوة، وحنقا ونفورا ونبوة: لا سبيل لك بغير المنقوشة إلى بلوغ المرام، فاقطعي حبال الرجاء واذهبي عني بسلام.
وكان بإزائهما من يسمع ما دار بينهما من المقال، فتى قد توفرت فيه شروط السماحة والوجاهة والكمال، فقال لها: اركبي يا أماه على هذه الراحلة، فأنت سميرة والدتي في القافلة، ثم نظر إلى هذا المهين نظرة الغضب، وعبس في وجهه وقطب، وقال بعد أن قرعه بالعصا، ورجمه بالحصا: يا قذى جفن الدين، وبلاء نفوس المهتدين، أما علمت أن الجنة تحت أقدام الأمهات، وبطاعة الوالدين يفوز الولد بأقصى الدرجات! لك الويل إن الشقاوة غلبت عليك، وقادك العقوق إلى النار برجليك، ثم خلى سبيله وانصرف، وهو على عدم قتله في غاية الأسف.
وبالجملة فأخبار هذا السفيه المفند في مثل هذه الرذائل لا تعد، ثم ضرب صفحا عن ذكره، بعد أن لعنه في علانيته وسره، ولا زلنا نخوض في حديث بعد حديث، ونحن ساخطون على هذا الرجل الخبيث، حتى عول الحاضرون على الرواح، وكان أكثر الليل قد مضى ودنا الصباح، فانتصبت عند انفضاض الناس للوداع، وكان غيري قد فاز بلذة السماع، وقلت لغلامي: يا ابن شكلة، هيئ لي على الفور البغلة، فقال: إني تركتها في الدار مع الجواد والحمار، هنالك انتهز صاحبي الفرصة، وقال: إنه لم يبق من الليل إلا حصة، فاقبل مني النصيحة، واسترح في هذه القاعة الفسيحة، وكنت لطول السهر قد اعتراني بعض فتور وخدر، فلم أخالفه فيما به أشار؛ لبعد المنزل واقتراب النهار، بل أجبت بالطاعة، وتبعته إلى القاعة.
وبعد أن اضطجعت فيها على سرير، ودعني وعدل إلى بعض المقاصير، وإذ كنت بين اليقظان والنائم في تلك القاعة الخالية من النسائم، إذ سمعت من بعيد صلصلة حديد؛ فطار عن جفني الوسن، واقشعر مني البدن، وتلوت وقد أعياني الأرق:
قل أعوذ برب الفلق ، وبينما أنا من الفزع في اضطراب إذ أبصرت معي شبحا من داخل الباب، فتأملته وقد استولى على قلبي الرعب وخفق، وكدت أموت من شدة الفرق، فإذا هو رجل طويل القامة، قصير اليدين، كبير الهامة، عاري الجسد، أصلع الرأس، يلوح عليه مع شيخوخته أنه شديد البأس، فقويت جأشي وثبت الجنان، وقلت له: أمن الإنس أنت أم من الجان؟! فصاح صيحة كأنها الرعد في خلال الغمام، وتنهد تنهد الواله المستهام، ثم قال بعد هذه الضجة: قد مر بي عشرون حجة، ما طرق سمعي حديث بشر، ولا وقعت عيني على أنثى ولا ذكر، فما هذه الأغاني والأصوات، والألحان الموسيقية المطربات، التي شنفت المسامع؟ وما هذه الشموع التي أضاءت بها جميع المواضع؟ فقلت مجيبا له وقد سكن روعي، وتماسكت بعض التماسك ضلوعي: إن رب هذه الدار أنكح ابن أخيه ابنته نوار؛ فصرخ صرخة هائلة وسقط على الأرض، وقد كاد بما حل به من التشنجات يختلط طوله في العرض، فلما أفاق من غشيته، ورجع إليه بعض قوته، قال: اللهم اجعل هذه الوليدة برة بوالدتها سعيدة، ولا تجعلها كأبيها الشقي المحروم من رحمة الحي القيوم، فقلت له: من أنت يا أبتاه؟! ومن أين أقبلت يرحمك الله؟! وما هذا الحديد الذي حمله أعياك، وأودى بك إلى هذه الحالة في دنياك؟! فجثا على ركبتيه، وبسط راحتيه، وقال بعد تضرع وابتهال، وطلب الغفران من ذي الجلال: إني والد هذا الجبان الخائن، عدو نفسه المهان المائن، وإني أقبلت عليك من طبقة في الأرض تحت قدميك، طرحني فيها هذا الوغد العنيد، بعد أن كبلني - كما ترى - بالحديد، ولعل الباعث له على ذلك - والله أعلم بما هنالك - هو أنه زار في بعض الأيام ثلاثة إخوة من اللئام، وكان أبوهم هلك عن تركة جسيمة، وأموال عظيمة القيمة، فلما اقتسموها وهو إليهم ناظر، تكدر منه على عدم موتى الخاطر، ودخل علي في بعض الليال، ومعه أربعة متنكرون من الرجال، فوضع في رجلي هذا القيد الثقيل، وحبسني في هذه الطبقة عن الصاحب والخليل، وأشاع أني شربت كأس المنون، وبكى واستبكى علي العيون.
تنكرني دهري ولم يدر أنني
أعز وأحداث الزمان تهون
فبات يريني الخطب كيف اعتداؤه
وبت أريه الصبر كيف يكون
وقد لبثت في السجن عشرين من الأعوام، لا يزورني فيها من الناس شيخ ولا غلام، ولا أتغذى في الليل والنهار، إلا بشربة ماء ورغيف من الكشكار، تدفعها إلي في كل صباح، عجوز اسمها كفاح، ثم تغلق علي باب الطبقة، ولا تأخذها بي شفقة، وقد غفلت في يوم هذه الوليمة عن الباب، فتركته وانسابت كأنها الحباب في الحباب، فلما خفقت الأصوات، وانقطع حس الآلات، خرجت لاستنشاق النسيم، فاجتمعت بك في هذا الليل البهيم.
ثم إنه استعد للانصراف إلى حبسه وهو ساخط على يومه، راض عن أمه، فقلت له: إلى أين وقد فرج عنك الكرب، ونجوت وزال عنك الخطب، وتخلصت من الطبقة والتصفيد، وبلغت - بمنه تعالى - فوق ما تريد؟ فقال ودمعه في انهمال، ونيران جواه في اشتعال: يا بني، جزيت عني خيرا، ولا لقيت من زمانك ضيرا، كيف السبيل إلى الخلاص، وليس لي عن السجن مناص؟! وكيف أرمي ولدي باتباعك في مهاوي الفضيحة، وأكشف الغطاء عن أفعاله القبيحة؟ وإن أجلي قد أخذ في الاقتراب، وشمس حياتي قد توارت بالحجاب، فقلت له: لا تخش على ولدك من الفكاك العار، فإن لي التزاما بعيد المزار، أسيرك إليه في غد؛ بحيث لا يشعر بك أحد، فقال لي: لا سبيل إلي ما جنحت إليه؛ لأن ذمتي لا تطاوعني عليه، فقلت له: إن أبيت إلا الإصرار على الإقامة في غيابة الجب إلى يوم القيامة، فأنا أسعى في خلاصك منه بالقوة القهرية، وأفضح ولدك بين البرية، فقال لي: يا بني، سر على مهل ولا تعجل، فالجزاء من جنس العمل، وكما يدين الفتى يدان، وإني مستحق لهذه العقوبة من قديم الزمان؛ فإني قتلت والدي في حب المال، وجرعته بيدي كأس الوبال، وهذه آثار دمه على الجدار تشهد علي بأني رميته بسهام البوار. فلما عرفت حقيقة الخبر، ووقفت على جلية الأثر، تبين لي أن الوالد أشقى من الولد، وأن عذابه في الآخرة أشد، وكان الليل قد أدبر، والصبح قد أسفر، فانطلق وهو أبغض إلي من قاتل ابن جبير، ولسان حالي يتمثل فيه بقول البهاء زهير:
بحق الله متعني
من ذاتك بالبعد
فلا تصلح للهزل
ولا تصلح للجد
فلا صبحت بالخير
ولا مسيت بالسعد
فكان آخر عهدي بهذا الجار أول انقطاعي عن سماع مثل هذه الأخبار، فخرجت من داره، عازما على عدم ازدياره، قائلا في نفسي: لا راد لما قضاه الله وأراده، راجيا منه سبحانه أن يختم لنا بالحسنى وزيادة.
المقالة الثانية
في التصريح بحميد الأخلاق، والتلويح بالتوبة عن الاعتراض على الرزاق
دخل رجل من سكان الأطراف، ذات يوم مدينة بديعة الأوصاف، وطاف بشوارعها المنيفة، وأزقتها المرونقة اللطيفة، وأسواقها النفيسة الأمتعة، وخاناتها ذات الأقمشة الثمينة والحلل المرصعة، فرأى في أثناء طوافه بهذه الأماكن المزخرفة، الحوانيت والمساكن جما غفيرا من ذوي الثروة واليسار، والأبهة والرفاهية والاعتبار، والنعم الوافرة، والخيرات المتكاثرة، وكان عليه أطمار بالية، ولم تكن عيشته حالية، فترك المدينة وانتجع الجبل، وقلبه بنيران الاعتراض على رازقه اشتعل، فلما خلا بنفسه تمنى موته وحلوله برمسه، ولكراهته في البقاء، واعتقاده أنه خص من بين الناس بالشقاء؛ خلع جلابيبه وقذف بها إلى السماء، وضل عن طريق الهدى واستحب العمى، وتمادى على القذف بها إلى الجو وهي تسقط عليه، وتنجذب في أقل من لمح البصر إليه، وما برح عاكفا على هذا العمل، حتى وهت قواه وضعف جسمه وكل، واحتاج إلى الراحة فجلس على الأرض.
وهو على غاية من الغضب والنكد، وكان بالقرب منه أجمة فيها أسد، قد خرج من عرينه للاصطياد، والفتك بكل حيوان صعب الانقياد، فلما وقعت عينه على هذا المعترض المخالف، لم يصرفه عن الحملة عليه صارف، فزمجر زمجرة الرعد، وأيقن بنيل المنى وبلوغ القصد، فأقبل عليه بأظافر كالخناجر، وكشر عن أنياب كالسيوف البواتر، وكاد يبدد منه أمعاه، ويريحه من الاعتراض على مولاه، هنالك ضاقت به الحيل، وانقطع منه الأمل، وتحقق أن القضاء به نزل، وانطوى من حياته سجل الأجل، فاسترجع وحوقل، وتاب من ذنبه وعلى الله توكل، وأخلص النية، وأقبل على التضرع بحسن طوية.
وبينما هو متقلب في أودية الدهشة والحيرة، مترقب هلاكه وضيره، إذ ظهر له وهو في أثناء الخطر فارس على فرس محجل أغر، لا يلحق منه الغبار، ولا يجول سواه معه في مضمار، وكان هذا الفارس شديد الباس، وافر العزم قوي المراس، فعطف بلا مهل على أسامة، بشهامة تامة وصرامة، وخفف ما عليه من اللباس، وألقى ما بيده من السلاح، وهجم عليه وهو من نفسه واثق بالنجاح، ولكمه بيده على أنفه، لكمة هائلة ساقه بها إلى حتفه، وبإقدام هذا الهمام المنيع، تخلص الرجل من الموت المقتضب السريع، ثم وقف على مصرع أبي الحارث وأنشد، وهو منه في الكفاح أقوى وأشد:
عرضت نفسك للأخطار معتمدا
على وثوقك في الإقدام بالظفر
ولو علمت بما لاقى سواك لها
مشيت وحدك في البيدا بلا خفر
ولما نجا هذا اليائس على يديه، دنا منه وانكب على قدميه، فانحنى عليه، ومن الأرض أقامه وقبله بين عينيه، وهنأه بالسلامة.
وبينما هو يسأله عن سبب تجرده عن الثياب، ووجوده في هذا القفر الخراب، وهو يجيبه عما دار في خلده من الوسواس، من اعتراضه على رب الناس، ويخبره أنه إلى الله تاب، وأقلع عن ذنبه وإليه أناب؛ إذ خرجت عليهما قطاع الطريق، من كمين في درب داخله مضيق، فقال له: لا تخف ولا تحزن، وقف مكانك وإلى الفرار لا تركن، ثم وثب على صهوة جواده الأدهم، وامتشق سيفه وعليهم أقدم، وهو يقول وقد اعتراهم من حملته الذهول:
أنا الهمام الذي في كل معترك
سيفي يقرب من أخصامي الأجلا
فلو تمثلت في الهيجا لعنترة
لفر عن جنده رغبا وما وألا
ولو زحفت إلى الأبطال منفردا
لانفل جمعهم من قبل أن أصلا
ولما انكشف عنه الغبار بعد ساعة، وقد قتل عشرة من الجماعة، ولم ينج من سيفه الماحق، سوى من كان تحته جواد سابق، كر راجعا إلى صاحبه كالقشعم، وهو بهذين البيتين يترنم:
والنصر من تحت أعلامي وبين يدي
بالأمن يسعى إلى من قد أبيح دمه
ولو تمثل لي شخص الزمان وفي
كفي حسام لزلت في الوغى قدمه
وعندما قرب منه سارع إلى ملاقاة جنابه؛ ليحظى بلثم قدمه في ركابه، وأطلق لسانه بشكره، وأثنى عليه في سره وجهره، وكان الفارس قد جمع الأسلاب، بعد أن فرق الأحزاب، وهم بدفعها إلى صاحبه؛ لتذهب عنه بالفقر وغياهبه، وقال له: اقبل هذا النزر اليسير، واعذرني في التقصير، وإن شئت فسر معي إلى الأوطان، حتى تكون آمنا في ذمامي من حوادث الأزمان، فقال له وقد اتسع صدره وانشرح، ولاحت عليه بشائر السرور والفرح: إن مفارقة الأرواح للأشباح أهون علي من فراقك يا فارس البطاح، وكيف أقدر على ذلك وقد دفعت عني المهالك، وغمرتني بالإحسان بعد أن بدلت خوفي بالأمان؟! فاسمح لي بخدمتك؛ لأعيش في نعمتك، فأجاب إلى ما طلب، وبلغه بمرافقته الأرب، والفارس المذكور هو من نسل معن بن زائدة المشهور، وهو في السماحة آية، وفي الجود غاية، وفي الحلم لا يجارى، وفي العلم والرواية لا يبارى، وفي الشعر حسان، وفي البلاغة سحبان، وله دراية تامة بالأخبار، ومعرفة كاملة بالآثار، وهو أول مبادر إلى سماع النوادر؛ قيل إنه خرج غير مرة من جميع ماله بدون احتياج أحد من الناس إلى سؤاله، ولطالما كان يترنم في المحافل بقول القائل:
المال ينفد والثناء يخلد
والجود في كل المواطن يحمد
وأخو السماحة في البلاد جميعها
بين العباد على الدوام مسود
ونقل عنه صاحبه الذي فاز منه بالذمام، واستغرق في خدمته عدة من الشهور والأعوام، أنهم دخلوا عليه في ناديه بمغلول، وقتيل على الأعناق محمول، وقيل له: إن ابن أخيك قتل ابنك عمدا بلا شريك، فأمر بإطلاقه من حبال وثاقه، وقال له وقد عافاه من القصاص، ومن عليه بالخلاص:
قتلت أخا كريما كان عونا
على الأعداء في يوم الكفاح
وبالإثم ارتديت ولست تدري
بأنك صرت مقصوص الجناح
ثم أقبل بوجهه عليه، وأبدى له من الابتسام ما دفع عنه كل ما هجس بخاطره من توقع الانتقام، ولخوفه عليه من غائلة أتباعه بعث به في أمان إلى بعض أقطاعه. ولعمرك هذا هو الجود الذي أنسى جود حاتم، والحلم الذي محا من الصحف حلم قيس بن عاصم.
وزاره في داره ذات يوم جماعة من الأفاضل، ممن تتحلى بمعارفهم أجياد المحافل، فتجاذب معهم أطراف الرواية، وأظهر كل منهم فيها ما عنده من الدراية، وقام وتكلم فأحسن، وتنوع فيما أبداه وتفنن، وأطلق لجواد فكره في هذا المضمار العنان، ففاز بالسبق وحاز قصب الرهان، ولا زال في هذا المبحث الطويل ينتقل من الجمل إلى التفاصيل، حتى قال في حقه، من يعول على صدقه:
لله درك من إمام ما له
بين البرية في الرواية ثاني
كم من مخبأة كشفت لنا الغطا
عنها بأعذب منطق وبيان
ومن محاسن شعره الذي سارت به الركبان، وأضاءت ببدور معانيه في خدور مبانيه الأكوان، ما رواه عنه أبناء الأدب، واستملاه نبلاء العجم والعرب، حين قال في خطابه لابن وده، وقد أصمى فؤاده بسهام صده:
حسبي بحبك في الغرام نحولا
ومدامعا فوق الخدود سيولا
سل عن ليال بالجوى قضيتها
وقد اتخذت بها السهاد خليلا
نعم السهاد فلو ألم بي الكرى
لرأيت مع طيف الخيال عذولا
وقوله لنديمه في مجلس انشراح، طاب فيه تناول الراح:
هاتها يا نديم من خد أهيف
سيف لخطيه في المضارب مرهف
عاطنيها ممزوجة برضاب
طاب لي منه في الصبابة مرشف
وقوله لمليحة اسمها حياة الأنفس، وقد خطرت بين يديه في حلة من سندس:
ملئت بحبك يا حياة الأنفس
كل القلوب عرفت أم لم تعرفي
وعلى هواك وقفت روحي فاسمحي
بقبولها مني ولا تتوقفي
ونقل عن صاحبه الذي اتسعت دائرة أرزاقه، عند اختصاصه به وتخلقه بأخلاقه؛ أنه حضره في يوم افتخر فيه بالبلاغة كل حكيم، وامتاز فيه بالفصاحة كل عليم، فقام على قدميه، وابتكر خطبة لم ينسج على منوالها، ولم يأت قبله أحد بمثالها، فلم يبق أحد من فصحاء تهامة إلا أذعن له بالزعامة، وهو جدير بما قال فيه بعض واصفيه:
قس الفصاحة في زمانك أبكم
ولأنت منه بكل شيء أعلم
ولديك سحبان البلاغة أخرس
مع أنه في عصره متكلم
وقد ضربت الأمثال بصدقه في الأخبار، واعترف له به العلماء والأحبار، وقام الدليل والبرهان، على أنه أوحد الزمان:
هو الثقة الذي نسعى إليه
لنأخذ عنه أخبار الأوائل
هو البحر الذي في كل فن
يحل بفكره صعب المسائل
ولقد سأله أحد جلسائه عن تاريخ بعض الممالك المشهورة، وعن مباني البرابي والأهرام التي هي من الآثار المأثورة، فأجاب عما أراد بأوضح إشارة، وأرشده إلى الصواب بأفصح عبارة، وأماط القناع عن وجه أشرف البقاع، وبسط الكلام على ما كانت مصر عليه من الأحوال الظاهرة والباطنة في عهد ملوكها الأولين من الفراعنة، ونوه بما وقع فيها من كمشيد وباقي الأكاسرة، ونبه على حوادث البطالسة والقياصرة، وقص أثر فتوحها بالإسلام، وانتزاعها من قبضة الأروام، وكان ذلك في محفل حافل، حضره جم غفير من الأفاضل، وقد قام من بينهم شيخ كبير بدقائق علم التاريخ خبير، فقال مخاطبا له بأشرف المعاني، وألطف الألفاظ والمباني:
تاريخ آدم والدنيا بأجمعها
لولاك ما زاد إيضاحا ولا ظهرا
لا زلت تبدي بما أوتيت من حكم
في كل ما فيه نفع للورى أثرا
ووفد عليه وهو بمدينة بغداد درويش من الأمجاد، فغمره ببحار المواهب، ورفع قدره بين ذوي المراتب، وكان هذا الدرويش خزانة نوادر، وكنانة نكات تهيم بسماعها الأكابر، فقال له رجل من ندماء الفارس اسمه كميت: حدثنا بأحسن ما رأيت؛ فقال الدرويش صاحب المخترعات المشكورة، والمبتدعات الحسنة المشهورة:
إني مررت في سياحتي بخراسان على قرية كانت لبني ساسان، فرأيت بظاهرها شيخا محلوق اللحية عاري الجسد، وشيخة في عينها اليسرى رمد، وهي كالتي قال في حقها الواحد الأحد:
وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد
فقلت له: ما اسمك؟ وما اسم هذه القرية بين القرى؟ وما هي هذه الشيخة التي مثلها في النساء لا يرى؟ فقال له: أما أنا فاسمي أبو الغواية ضلال، وأما القرية فاسمها في الكتب القديمة ملال، وأما الشيخة فهي زوجة الشيخ جابر، إمام زاوية أيوب بن صابر، وإنه عازم على فراقها؛ لشراسة أخلاقها، وعدم وفاقها، وإنها بالأمس قرعت بابي، ورفعت قضيتها إلى جنابي، وسأنظر إليها، وأقضي بالحق لها أو عليها. فقلت له: ما هي وظيفتك يا أبا غواية؟ وكيف تقضي ولست بقاضي الولاية؟ فقال: اعلم أني أنا نائبه في هذا البلد، وأني أحفظ من القرآن الفاتحة، وقل هو الله أحد. فقلت له: إذا كنت كذلك يا جاحظي السحنة، فما لي أراك مخالفا للكتاب والسنة؟! فقال: إنهم قلدوني نيابة القضاء بهذا الشرط، وأغضوا عما يفرط مني من الخلط، وأخذوا علي بذلك العهود، فما أخرج عن هذه الحدود. فقلت له: بقي عليك شيء لا بد منه، وأمر مهم لا محيص عنه، وهو أنك تجب نفسك بيدك، وتخلع زوجتك على ولدك، حتى إذا انفصلت روحك الخبيثة عن بدنك، ودرجت إلى حفرتك بعد اندراجك في كفنك، سحبوك على وجهك إلى الجحيم، وطرحوك في نار العذاب الأليم، فوقعت هذه النصيحة عند الشيخ الخرفان، موقع القبول والاستحسان، وأجاب إلى ما دعوته إليه وامتثل، وقصد حانوت الحلاق؛ لبت ما أمر به بلا مهل، وقال وهو متأهب للقيام يمدحني بهذا الكلام.
لك الثناء على نصح أعيش به
بين العباد جليل القدر في بلدي
لا سيما بعد فقد الأنثيين ومن
بعد التخلص من أهلي ومن ولدي
قال الكميت: فلما سمعنا أعجوبة هذا الدرويش، قلنا: كم يشاهد من عجائب الدنيا من يعيش!
المقالة الثالثة
في اليسر بعد العسر
حدثني مبارك الطلعة، الصديق الثقة، في ليلة أنس كانت بالبدر المنير مشرقة؛ أنه نشأ بمدينة سان، فيما سلف من الزمان؛ أخوان يتيمان، توفي أبوهما وهما صبيان، وماتت أمهما بعده بعام، وتركتهما بلا زاد ولا حطام، فألجأتهما ضرورة القوت، تارة إلى خدمة ذوي البيوت، وطورا إلى الكد في العمل من غير كسل، مع سد الرمق بكل ما حصل، وتماديا على مزاولة هذه المشاق، التي ضاق بها منهما الخناق، حتى جمع كل واحد منهما بعد أن بلغا أشدهما؛ مقدارا من الدراهم المعدودة، والنقود المدخرة المرصودة، فاتقفا على التأهل بشقيقتين شريفتين عفيفتين، واشتغل منهما الفكر بذلك في الجهر والسر.
وسمع بخبرهما بعض اللصوص، فصرف عزيمته إليهما بالخصوص، وانقض على مأواهما في ليلة حالكة السواد، وقد غرقا في بحر الكرى بعد طول السهاد، فسرق المال وطار قبل أن يفضحه ضوء النهار، واستيقظا من الرقاد، وشغفهما إلى الزواج في ازدياد، ولم يعلما بذهاب الأثر والعين، ولا بانتهاب النضار واللجين، فقال أحدهما للآخر: بالمال يتخذ الإنسان سلما، ويصعد به متى أراد إلى السما، ونحن بما عندنا من النقد، نفوز على رغم الحسود بالقصد، فابعثني إلى أي خاطب إن رمت نيل المطالب، فقال له.
وقد لاحت منه التفاتة إلى باب الخزانة، التي كانت بالأمس محتوية على الأمانة: ما لي أرى عقب هذا الباب قد انصدع، وقفله انفصل عنه ووقع، وفي الحال أخذ بيده وقصده، وبحث عن المال فما وجده.
لله أشكو من زمان ساءني
وعلي غارات المصائب شنها
وسرت إلى قلبي هموم غمومه
وسيوفه لقتال صبري سنها
فطفقت أنشد والخطوب تنوشني
صبت علي مصائب لو أنها
1
هنالك أرسلا من أعينهما أدمعا، وتأسفا على ضياع دراهمهما وتوجعا، وتمثلا في هذه الحال، بقول من قال:
مال كأن غراب البين يرقبه
فكلما قيل هذا مجتد نعبا
ثم أجمعا أمرهما على مفارقة الأوطان لبلوغ الأوطار، وقد هان عليهما في طلب الرزق ركوب الأخطار، وقال أكبرهما اللبيب مخاطبا لأخيه الأريب، ومسليا له على نوائب الأزمان، والنزوح بغير اختيار عن الأوطان:
تغرب عن الأوطان في طلب العلا
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم واكتساب معيشة
وعلم وآداب وصحبة ماجد
فإن قيل في الأسفار ذل ومحنة
وقطع فياف وارتكاب شدائد
فموت الفتى خير له من حياته
بدار هوان بين واش وحاسد
هذا وقد جدا في التقلب من واد إلى واد، والتنقل في النجائد والوهاد، وصبرا على هذا المصاب صبر من استسهل الصعاب، وتأسيا في هذا الخطب النازل بما قال القائل:
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى
فما انقادت الآمال إلا لصابر
ويقول من يرجو بصبره بلوغ المآرب، ويترقب حسن العواقب:
الصبر مثل اسمه مر مذاقته
لكن عواقبه أحلى من العسل
ويقول من ضاقت عليه المذاهب، ورماه الزمان من كنانة غدره بنبال النوائب:
صبرا على نوب الزمان فإنها
مخلوقة لنكاية الأحرار
لا يخسف النجم الضعيف وإنما
يسري الخسوف لرفعة الأقمار
فكانا تارة يمدان أيديهما للسؤال في الظلمات، وآونة يحتطبان في ضياء النهار من الأجمات، ومرة ينخرطان في سلك العملة، ويقتديان في نقل الجير والطين بالفعلة، وأخرى يخفران الحوانيت بالليل، ويحرسان في الغياض المواشي والخيل، وكلما ضجر أحدهما من الاغتراب، قال له أخوه بأعذب خطاب: يا ابن أمي، إن لسان الفرح يناجي، صبرا صبرا؛ فإن الفرج يفاجي. ويخفف عنه بلواه بقول القائل رحمه الله:
خفض عليك ولا تكن قلق الحشا
مما يكون وعله وعساه
فالدهر أقصر مدة مما ترى
وعساك تكفى شر ما تخشاه
وقد عكفا على مثل هذه الأعمال، مترقبين من دهرهما صلاح الأحوال، مدة سبعة أعوام، وستة أشهر وخمسة أيام، حتى تحصلا في خلال هذه المدة على مقدار لا يزيد على المسروق في العدة، فتداولا في العودة إلى الأوطان، التي حبها من الإيمان.
بلادي وإن جارت علي عزيزة
ولو أنني أعرى بها وأجوع
ولي كف ضرغام إذا ما بسطتها
بها أشتري يوم الوغى وأبيع
ثم ترقبا للسفر، يوما ليس فيه مطر، وهم الجيران والأمثال، بمنعهما عن الترحال، فقال أحدهما مشيرا بيده إليهم، وشاكرا لهم ومثنيا عليهم:
لو كان قلبي معي ما اختار غيركم
ولا أردت سواكم في الهوى بدلا
لكنه راغب فيمن يعذبه
فليس يقبل لا قولا ولا عملا
وتفرغا للمناقشة في هذا الصدد، وسرعة الانقلاب إلى البلد، والعزيمة على التأهيل باثنتين من الأبكار، أو من الثيبات المصونات الأحرار، وبعد أن طال في ذلك بينهما الجدال، انحط رأيهما على الترحال، فوجها وجهيهما إلى البحر، وكان بينهما وبينه مسيرة ميل في البر، فقطعاه على أقدامهما بلا مهل، ولحقا بالموردة على عجل، وكان لسان الحال ينشدهما عند ذلك من أبكار أفكار حبيب، هذا المعنى الفائق الرائق الغريب:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منزل
وبمجرد وصولهما إلى الساحل، المشحون بالمراكب والزوارق والصنادل، نزلا سريعا مع الركاب، في زورق متأهب للذهاب، وقالا وقد رفع الشراع، بعد الإشارة بالوداع.
ودعتهم ودموعي
على الخدود غزار
فاستكثروا دمع عيني
لما استقلوا وساروا
فلما انساب هذا الزورق انسياب الأرقم، بريح طيبة في لجة البحر الأعظم، صار يقتحم الموج ويمر من فوقه مر السحاب، ويتجنب في طريق سيره ما ارتفع من الشعاب، حتى إذا قطع مسافة يومين تكدر صفاء الجو، واختلفت الرياح وأظلمت السماء وتحدر النو، وانكسرت الدفة وتقطعت الحبال، وأقبلت الأمواج من كل جهة كالجبال، واختفى عن أعين الملاحين أثر المسالك، وتحقق الوقوع في مهاوي المهالك، وعظم الخطب، واشتد الكرب، وعلا النحيب والصياح، وكثر العويل والنواح، وتوالت المصائب، وزحفت جنود الأخطار من كل جانب، واستغاث الركاب برب الأرباب، وبسط الربان راحة الضراعة، والابتهال والدعاء وأمنت الجماعة:
يا خالق الخلق يا رب العباد ويا
من قلت في محكم التنزيل ادعوني
إني دعوتك مضطرا فخذ بيدي
يا جامع الأمر بين الكاف والنون
وإذ كان لا دافع لسهام القضاء والقدر، ولا مانع لما تحتم وقوعه من الضرر، اضطرب الزورق ودار، وانحدر على الفور إلى القرار، وجميع من فيه من الناس هلك، وصار طعاما للسمك.
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
تنوعت الأسباب والموت واحد
ولم ينج من هذا السفر المنحوس، بعد فقد المنقوش والملبوس سوى الأخوين؛ حيث ظفر كل منهما بلوح فركبه، وانطرح عليه من شدة التعب كالخشبة، وترك نفسه عليه لمشيئة الأقدار، وكان البحر قد سكن وارتفعت الأمطار، فاستقام به في السير واعتدل، وقرب به من البر وإليه وصل.
أروم الصفا والقرب من جيرة المسعى
وأجعل أجفاني لأقدامهم مسعى
فوادي الغضا في مهجتي وأضالعي
هي المنحنى والعين أرسلت الدمعا
ألا يا حمام الأيك هيجت لوعتي
إلى جانب الجرعا ومن حل بالجرعا
بلاد على أفق السماء محلها
أحن إليها والذي أخرج المرعى
فتعانقا عناق الألف للام، وأفرطا على الدهر في الملام.
لا تأمن الدهر في كل الأمور ولا
تعتب عليه إذا ما خان أو غدرا
فإنه لم يزل في حكمه كلفا
بما يسوق إلى أبنائه ضررا
وقال كل واحد منهما وقد أصبح عاريا صفر اليدين: ليت شعري، إلى أين نذهب إلى أين؟ وقد جار علينا الزمان، واقتفى منا الأثر في كل مكان، وأغرى بنا من بنيه الأوغاد، وجند علينا منهم الأجناد، فنصبوا لنا من قبل حبائل النكد، واستلبت لصوصهم منا ما جمعناه وهو أقل العدد، وسلط علينا البحر فكان أدهى وأمر؛ لأنه ذهب بالدرهم والدينار، وأتى على ما كان من الجلابيب والأطمار.
ألا إنما الأيام أبناء واحد
وهذي الليالي كلها أخوات
فلا تطلبا من عود يوم وليلة
خلاف الذي مرت به السنوات
ولولا لطفه بنا عز وجل، ووجود فسحة في الأجل، لم يكن لنا من الهلاك، في هذه الدفعة فكاك، فماذا نصنع الآن في هذا العسر وقد مسنا الضر؟ أنرجع إلى الوطن بالخيبة وتجريد البدن؟ أم نطوف بجميع الربوع، ونهجر في طلب الرزق الهجوع؟ وبعد أن طال بينهما الكلام في مثل هذا المقام، بدا لهما أنهما لا يرجعان إلى مسقط الرأس، وهما على هذه الحالة من الفاقة والبأس، وترجح عندهما عدم الإياب، إلى وطنهما بلا مال ولا ثياب.
لي في الله حسن ظن جميل
إن تجافى عن الخليل خليل
لي رزق لا بد منه وعمر
ينقضي والكثير منه قليل
ومع العسران تتابع يسر
وصروف الزمان حال يحول
رب أمر يضيق ذرعك منه
لك فيه إلى النجاة سبيل
إنما هذه الحياة غرور
قد شغفنا بها فأين العقول؟!
ننظر الحق ثم نعرض عنه
ونراه ونحن عنه نميل
ليت شعري عواقب الأمر ماذا
وإلى ما بنا المآل يئول
ما قضاه الإله لا بد منه
فعلام هذا العريض الطويل
إن لله في العباد مرادا
وسوى ما أراده مستحيل
نحن مستعملون فيما خلقنا
ما لنا في نفوسنا ما نقول
فتوغلا في المدن والقرى والضياع، واشتغلا بما فيه صلاح حالهما وخافا على وقتهما الضياع، وكانا تارة يقطعان الحجر، وتارة يقلعان الشجر، وطورا يحرثان الأرض بالأثوار، ويبذران الحبوب فيها بمقدار، وطالما مرت عليهما سنوات وشهور، في رعي الإبل والبقر بالأجور، واهتما بمباشرة ما يقربهما من الغنى، ولو كان فيه ما فيه من العنا، حتى تبسم لهما الدهر العبوس، وامتلأت أيديهما من الفلوس، وتذاكرا في العودة إلى الديار، فاستصوبا الرجوع إليها بما لهما من اليسار، وأول مسألة خطرت لهما بالبال، وهيجت منهما البلبال، هي مسألة الزواج التي لا تهجس بالخاطر إلا عند الرواج، وقال أحدهما لأخيه من أمه وأبيه: الآن نبلغ الأمل، ونصفع قفا من لام أو عذل، فاستعد بنا للرحيل، واصفح الصفح الجميل، وكان الليل بظلامه قد أقبل، والنهار بضيائه تحول، واحتاجا للراحة فأخذ كل منهما مضجعه، بعد أن ملأ بحديث الأمان مسمعه.
يا راقد الليل مسرورا بأوله
إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
فلا وأبيك ما مضى من الليل إلا هجعة قليلة، وبرهة من الزمن غير طويلة، حتى وقعت ضجة، عقب هذا ورجة، وصاحت صائحة في أثر غادية ورائحة، واشتعلت النار في جميع جهات الدار، واحترق من السكان، من كان غير يقظان، وفي هذه الكرة، عدم الإخوان الصرة، وما سلما من اللهب، ولا تخلصا من العطب، إلا بعد تجشم أخطار لم تكن في الحساب، وخوض أهوال دونها ضرب الرقاب، ووثوب فيما بين أماكن محترقة، بغاية العسر من كل طبقة إلى طبقة، وتجردا عن لباس ونعال، وحمير وأفراس وبغال.
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت
ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها
وعند صفو الليالي يحدث الكدر
وبعد مضي سبعة أعوام كوامل، في كد وتعب بلا طائل، لم يكن رأس مالهما سوى السلامة، فأكثرا على الدهر من الملامة، وأعرضا عن التنويه بذكر دار الولاد، ورأيا أنه لا فائدة في تعلق الآمال بزينب وسعاد، واعتزلهما الصاحب والجار؛ لفاقتهما عند احتراق الدار.
لقد ملني بالفقر خلي وصاحبي
وإن جئت أشكو ما أقاسيه صاح بي
وكل فتى قاسى من الدهر فاقة
يصير غريبا وهو بين الأقارب
وكل غريب وهو ينسب للغنى
تعود له كالأهل كل الأجانب
فما المال إلا في الملا زينة الفتى
وما الفقر إلا من أمر المصائب
وما العكس للإنسان إلا مشقة
وما السعد إلا من أجل المواهب
وكم عالم في الناس يحتاج درهما
وكم جاهل قد حاز جاه المناصب
وكم من رفيع حط بالفقر قدره
وكم من وضيع ساد فوق المراتب
ولو أن للآداب حظا وقسمة
لزاحمت أرباب العلا بالمناكب
ثم التفت إلى أخيه وتبسم، وهو بنار الغيظ يتضرم، وقال: يا أخي، لا باعث للغضب، على اللص والبحر والنار ذات اللهب، ولا داعي للاعتراض والإعراض، فإنه جل وعلا منزه عن الأغراض، وإن المقدر في الأول لا يغير، ولا تبديل لقوله تعالى في القرآن الحكيم:
ذلك تقدير العزيز العليم ، فقال له أخوه وقد عبس وبسر، وغاب عنه صوابه وزاغ منه البصر: يا أخي، لا تسح بنا في الأقطار ولا تمرح بنا في الأقاليم والأمصار ولنكف عن السعي في طلب الأرزاق؛ حيث آل أمر ما اكتسبناه إلى السرق والغرق والاحتراق.
لقد نلت أهوال الشدائد كلها
ومارست أحوال الخطوب الكوارب
وذقت حلاوات الزمان ومره
وعلمني حكما دوام التجارب
وأشرعت الأيام نحوي رماحها
كأني عدو للزمان المحارب
ولم أر في أبناء آدم من له
صفاء وداد خالص من شوائب
ولا نباشر في المساء والصباح، شيئا من الأعمال التي ما فزنا منها بالنجاح، وتحول بنا عن السهل إلى هذا الجبل المرفوع؛ ليفترسنا الوحش أو نموت من الجوع، ونستريح في هذه المرة، من المعيشة الكريهة المرة، ولا برح يسخط على الزمان الخئون، ويحسن لأخيه شرب كأس المنون، حتى أطاعه وصعد معه على هذا المرتفع الشاهق، الذي رأسه للسحاب ملاصق، فلما استويا على ظهره، وركض بأرجلهما في وعره، انتهيا فيه إلى مغارة، في ساعة اشتدت بها الحرارة، وكانا قد أضر بهما الظما، وكادا يكتحلان بمراود العمى، فمالا إلى المغارة المذكورة، التي تبدو لعين الرائي كأنها مقصورة، وحيث كان وصولهما إليها من طريق اضطرمت فيها من القيظ نيران، سقطا على الأرض كالموتى تحت بعض الجدران، وأقاما على هذه الحال إلى وقت العصر، وكانت درجة الحرارة قد انحطت وزال الحر، فارتكن أحدهما بظهره إلى جدار، فوقعت عليه منه قطعة جص لا يحملها حمار، لكنه مرق من تحتها كالسهم، ولم يحصل له منها أدنى وهن ولا وهم، والتفت بوجهه إلى هذا الجدار، وأمعن النظر فيه، وتأمل بالدقة في تركيبه ومبانيه، فإذا هو من آثار بناء رصين، هو في الحقيقة عبارة عن دائر قبر كأنه حصن حصين، وقد اقتضت الحكمة الإلهية أنه قد انفتحت فيه طاقة متسعة، فنظر فيها وكان أخوه راقدا فنهض معه، فلم يدركا آخرها ببصرهما الحديد، ولم يدركا به ما وراءها من الامتداد البعيد، وكان بيد أحدهما آلة، فعالج بها هذه الطاقة، واستعان بأخيه على هذا العمل، حتى أحدثا في الجدار المذكور فرجة يلج منها الجمل، وانكشف لهما سرداب عظيم الاتساع، مهندم الشكل جسيم الارتفاع، فانطلقا فيه كفرسي رهان، وعثرا في آخره على إيوان، فألفياه مزخرفا بنقوش وكتابات، وصور ورموز وإشارات، ووجدا به جملة من الجواهر والأحجار، الثمينة الغالية الأسعار، واللآلئ البديعة، والدرر الرفيعة، والصور الغريبة، والأواني العجيبة، والأموال الوافرة، والأسلحة الفاخرة، فسجدا شكرا لله سبحانه على هذه النعم الجزيلة، والهبات الربانية الجليلة، ثم توجها إلى أقرب مدينة من الجبل المذكور، واكتريا بها دارا واسعة ذات سور، ونقلا إليها كنزهما في عدة أيام، من غير أن يشعر بهما أحد من الأقوام، وأكثرا من الحشم، والجواري والخدم، وفتحا الأبواب للغادي والرائح، والسائح من الناس والبارح، وانتجعتهم الشعراء من جميع الفدافد، بكل ما رق وراق من منتخبات القصائد، فغمرا منهم الماشي والراكب، ببحار العطاء والمواهب، وأنفقا على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، وشيدا المساجد للعبادة والمارستان لمعالجة المريض والعليل، وشاع ذكرهما في السخاء والبذل في الشدة والرخاء، واشتهرا في جميع الآفاق بالسماحة ومكارم الأخلاق، فانجذبت إليهما قلوب العباد، وأثنوا عليهما في كل ناد، وأقبل عليهما أكابر الدولة وأمراؤها بوجه بشوش، ولهجت بحسن سيرتهما الرعية والجيوش، وتناشدوا مدائحهما في مجلس سيد الأقيال، سلطان عصرهما أبي الأشبال، فأرسل رسوله في طلبهما؛ ليقف بنفسه على حقيقة نسبهما، فلما قدم بهما عليه، قبلا الأرض بين يديه، وقال أكبرهما يمدحه بهذه الأبيات، بعد ما دعا له بطول البقاء وصفاء الأوقات:
لئن شرفت أرض بمالك رقها
فمملكة الدنيا بكم تتشرف
بقيت بقاء الدهر أمرك نافذ
وسعيك مشكور وحكمك منصف
ومكنت في حفظ البسيطة مثلما
تمكن في أمصار فرعون يوسف
ومذ تبين له بعد أن تليا عليه ما لهما من القصص، وما تجرعاه في مدة حياتهما من القصص؛ أنهما ممن حنكتهم التجاريب، وهذبتهم التداريب، وعرفوا أصول السياسة، واستحقوا الانتظام في سمط أرباب الرياسة؛ بسط لهما بساط فضله وكرمه، ونظر إليهما بعين عنايته وحسن شيمه، وقربهما من سدته، وجعلهما من ندمائه وعترته، واعتمد عليهما في تدبير مملكته المنيفة، ولا يزال يقلدهما وظيفة بعد وظيفة، حتى خلع على أكبرهما خلعة الوزارة، وألبس أصغرهما حلة الإمارة، وكان له كريمتان من المخدرات، كأنهما الشمس والقمر بين أترابهن من البنات، فأنعم على الوزير بالكبرى، ومن على الأمير بالصغرى، وتبدل عسرهما باليسر، وتضاعف منهما لله الشكر، وعاشا معه في سعة وأرغد عيش، رافلين في حلل الحرير بعد الخيش، هكذا كانت عاقبة هذين الأخوين، اللذين نشآ يتيمين فقيرين، وقد سعيا بقدميها إلى المنية، فكان لهما في هذا السعي بلوغ الأمنية.
المقالة الرابعة
وتلك الأيام نداولها بين الناس
نشأ بمصر في سالف العصر رجل خليع، من نسل الصريع، كان مغرما بالسياحة، مولعا من عهد نشأته بالملاحة، ممتطيا غارب الأمل إلى الغربة، منتضيا في التطواف عضبه، قاطعا الأغوار والأنجاد، ساعيا في الفيافي بلا ماء ولا زاد.
لا يستقر بأرض أو يسير إلى
أخرى لشخص قريب عهده ناء
يوما بحزوى ويوما بالعقيق ويو
ما بالعذيب ويوما بالخليصاء
وتارة ينتحي نجدا وآونة
شعب الحزون وحينا قصر تيماء
وقد اتفق له في بعض الأسفار، المتوالية بجميع الأقطار؛ أنه حج إلى بيت الله الحرام، في عام من الأعوام، وبينما هو يدعو ربه عند طوافه بالكعبة، إذ سمع في الأسحار، زنجيا متعلقا بالأستار، يقول في تضرعاته، عقب انصرافه من صلاته: إلهي، أنت قلت في كتابك المنزل على خلاصة أحبابك:
وتلك الأيام نداولها بين الناس
فأين دولتي يا شديد القوى والباس؟ فدنا منه وجذبه من الأطواق، وأخرق به غاية الإخراق، وقال له: كيف يا أخس الرجال، تعلق أملك بالمحال؟! ولست يا أسود البشرة من القوم الكرام البررة، أم كيف - لا أم لك - تترقب الصعود إلى الفلك، وتتعلق منك المطامع، يا أنحس مخلوق بأسعد الطوالع؟! مع أنك إلى الآن لم تفز بالعتق، ولم تخلع عنك ثياب الرق، يا ويلك إن كنت قد اغتررت بولاية كافور، الذي كان آمرا في صورة مأمور، فتلك فلتة من فلتات الدهر، وهفوة من هفواته التي تقصم الظهر، وكأنك بمولاك أيها العبد الآبق، والوغد المهين المارق، وقد جد في طلبك، وردك إلى سوء منقلبك، وطرحك على التراب، وصب عليك سوط عذاب، فقف عند حدك، وارجع في عملك إلى كدك، واجعل يا هذا أمنيتك قاصرة، على ملء بطنك وستر عورتك الظاهرة. فقال له الزنجي، وقد استدل بفعله على رعونته وسخف عقله: يا هذا، خفف عليك، فليس الأمر منك ولا إليك، وكف عن هذا التقريع والتوبيخ والتشنيع، فإنك تعلم أن الله على كل شيء قدير، وأنه سبحانه وتعالى بالإجابة جدير، وإني على ثقة من بلوغ المآرب، والفوز بنيل المطالب؛ لأنه ما دق باب الله أحد من العباد إلا فاز من فيض إحسانه بما أراد، وهذا هو اعتقادي ونيتي، من عهد ولادي ونشأتي، والعبرة بالنية في الماضي والآت، وقد قال صلوات الله عليه بنص الثقات، من ضمن الأحاديث المرويات: «إنما الأعمال بالنيات.» ورجائي في مكارمه التي لا تعد، أنه لا يردني في هذا العام بغير القصد، لا سيما وقد وقعت على أعتابه، وتوسلت إليه بصفوة أحبابه، وحفظت قوله تعالى وهو للقلوب طب
وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ، وقد أمرنا بالدعاء فلا نيأس من الإجابة، وفقني الله وإياك للإصابة.
فقال الخليع وقد تمكن منه الغضب، وانحرف عن سنة العجم والعرب، وكاد يحترق من نار غيظه بلهب أو يقتل نفسه ويذهب فيمن ذهب: إن استجاب الله دعاك، وبلغت على زعمك مناك، صفعت قفا الزمن، ورفعت ألوية الفتن، وإلا خضبت بدني بالسواد، وهمت مع أبناء جنسك في كل واد.
ولولا أنه خلى سبيله وراح، وغاب عن نظره في البطاح، لضربه في الحرم، وتعدى عليه وظلم، لكن لخوف ابن الصريع من أن هذا العبد ربما نال ما رام، ندم على ما شجر بينهما من الخصام، وتذكر في الحال قول من قال:
وإذا العناية صادفت عبد الشرى
نفذت على ساداته أحكامه
ولما مضت أوقات الحج، وانقضت سويعات العج والثج، وحن كل إنسان إلى موطنه، واشتاق إلى أهله وسكنه؛ امتطى كل فريق متن طريق، فأما الزنجي فلم يعلم أين درج، ولا على أي سلم عرج، وأما الخليع فكان من جملة من ركب البحر بعد فوات عشر من عيد النحر؛ لأنه لتمام الخيبة، لم ينتجع طيبة، ولم يتمتع قبل القفول بزيارة الرسول، وعند حلوله بالسفينة، مع فتية من أهل الوقار والسكينة، انتقلت بهم بعد نشر الشراع من أشرف البقاع، إلى الجهة التي أملوا الوصول إليها، وعطفوا بالحمول عليها، وقد كان في هذه البرهة معرضا بجانبه عن الناس، كأنه من ملوك بني أمية أو من خلفاء بني العباس، وما ذاك إلا لاستغنائه بالقناعة عن مخالطة أحد الجماعة؛ ولذا كان يترنم في الرواح والغدو بقول من كان في عزلة عن الحبيب والعدو:
وأدبني الزمان فلا أبالي
هجرت فلا أزار ولا أزور
ولست بقائل ما عشت يوما
أسار الجند أم ركب الأمير
لكن بعد خمسة أيام وخمس ليال، أظلمت السماء قبل الزوال، وانحطت على السفينة من جهة الجنوب، ريح عاصفة متواترة الهبوب، فحرفتها عن اتجاه المسير، ومزقت شراعها الكبير، واجتهد كل ملاح، في خلاص الأرواح، من هذا الارتباك المفضي إلى الهلاك، فما نجحت الأعمال، ولا تحققت الآمال، بل ضاق الفضاء، ونزل القضاء، وخاب الرجاء، وعز الوصول إلى النجاء، وحان الحين، ونعب غراب البين، وتبدل بالخوف الأمان، وطاش عقل الشجاع والجبان، وطار من الحمام، على رءوس الجميع الحمام، ونادى منادي الفراق، لا سبيل إلى البقاء بعد هذا المحاق؛ حيث صالت جنود الأمواج، على تلك السفينة المصنوعة من الساج، فانخرقت قبل طلوع النهار، وانجذبت بما اغترفت من الماء إلى القرار، وما أظن أنه نجا من الغرق، سوى ابن الصريع الذي كان يهلك من الفرق، وسبب نجاته من هذا الموت العاجل، أنه أدرك بمصادفة الأقدار بعض الصنادل، فانزوى فيه بلا رفيق ولا مصاحب، وهو لا يشك أن طرف الردى له مراقب، وقد انقطع أمله إلا من الخالق، وأخذ في الاعتذار عما كان منه في السابق.
أسير الخطايا عند بابك واقف
على وجل مما به أنت عارف
يخاف ذنوبا لم يغب عنك غيبها
ويرجوك فيها فهو راج وخائف
ومن ذا الذي يرجو سواك ويتقي
وما لك في فصل القضايا مخالف
فيا سيدي لا تخزني في صحيفتي
إذا نشرت يوم الحساب الصحائف
وكن مؤنسي في ظلمة القبر عندما
يصد ذوو القربى ويجفو المؤالف
لئن ضاق عني عفوك الواسع الذي
أرجي لإسرافي فإني تالف
وعما قليل وصل به هذا الصندل الخفيف، عند صفاء الجو وسكون البحر إلى رصيف، تحت سفح جبل سهل الانحدار، فصعد عليه فورا بدون انتظار، وكانت الشمس قد طلعت، وعن الأرض بمقدار رمحين ارتفعت، فصبر حتى جفت أثوابه، واستراح وعاد إليه صوابه، ثم استوى قائما على قدميه، وبسط نحو السماء يديه، وقال وقد زال عنه التعب، وتخلصت رجله من ربقة العطب:
لك الحمد إذ أنقذتني دون رفقتي
من الموت بين الموج في ظلمة البحر
ونجيتني وحدي وقد كنت يائسا
بلطفك يا ربي سريعا إلى البر
وبعد ذلك التفت إلى جهة اليمين على عجل، وأخذ في السير بلا توان ولا مهل، فوصل قبل العصر، إلى مرج نضير فيه نهر، فجلس على حافته واضطجع، وقد ذهب عنه الروع والفزع، وصبر حتى إذا ما خف عنه النصب، وتوضأ وصلى ما عليه وجب، اقتطف من بعض الأشجار، ما سد خلته من الأثمار، وقال وهو يجول في أكنافه، ويسرح طرفه في أطرافه:
إذا ما الدهر بيتني بجيش
طليعته اغتمام واغتراب
أغار عليه من جهتي كمين
يسوس أمور عسكره كتاب
وبت أنص من شيم الليالي
عجائب من حقائقها ارتياب
بها أجلو همومي عن فؤادي
كما يجلو همومهم الشراب
ثم ترك المرج وراء ظهره، وتوكل على مولاه في سره وجهره، وسار ولكن غير بعيد، فصادفه على خيل البريد، رجال بيض الألوان، سود الشعور والأجفان، عليهم ملابس حسان، وفي يد كل واحد منهم سنان، ولما وقعت أعينهم عليه، مالوا بكليتهم إليه، وبشوا في وجهه وحيوه بتحية الإسلام، وقابلوه بما يستحق الغريب من الإكرام، وحملوه على دابة عظيمة، من الجياد التي في سيرها مستقيمة، وتمادوا به على الحركة، بين الرياض باليمن والبركة، حتى أدخلوه من باب يعرف عندهم بالمأنوس، ومثلوه بين يدي ملكهم المضاهي في لونه للآبنوس، فبعد أن تأمله مليا، وعرفه جليا، تكلم معه برقة ولطافة، وبعث به إلى دار الضيافة، وكان ابن الصريع قد تحقق أنه صاحب الوقفة بالحرم، فأيقن أنه زلت منه القدم، وأوجس في نفسه خيفة، وخشي منه جوره وحيفه، وتوهم أنه ربما أمر بقتله، قبل وصوله إلى أهله، وأن نجاته من البحر ما أغنت عنه شيئا في البر، هنالك نثر من عينيه العبرات، وتمنى أنه لو هلك في السفينة أو في الفلوات، ولا كان قد وقع في قبضة هذا الأسود، الذي يحتمل أن نار الإساءة في قلبه لم تزل تتوقد، بيد أنه لما دعي إلى المقابلة، بعد عشرة أيام كاملة، قبل في الحال بين يديه الأرض، وأتى بالسنة فأجيب بالفرض، ثم قال له الملك بابتسام: مرحبا يا ابن الكرام، فقال الخليع وقد كساه الحياء ثوب الخجل، وزال ما كان اعتراه من الخوف والوجل:
سجاياك إن عافيت أندى وأسمح
وعذرك إن عاقبت أجلى وأوضح
وإن كان بين الخطتين مزية
فأنت إلى الأدنى من الله أجنح
وقلت: سيجزيني المليك بفعلتي
فقال: سأعفو عنك حالا وأصفح
فلما سمع منه ما أبداه، قربه من سدته وأدناه، وتزحزح له عن مكانه، وأجلسه على السرير في أمانه، وقال له وقد ضمه إلى صدره، وقبله في عارضيه ونحره: أي ذنب وقع منك؟ وأية جناية صدرت عنك حتى تأتي بهذا الاعتذار يا صاحب الجاه والاعتبار؟ أما أنت يا رب المقام الجليل، لغلامك المخلص نعم الخليل، معاذ الله أن يكون هناك ما يوجب العقوبة، ويدعو إلى لوم فيه أدنى صعوبة، فقال الخليع وقد اتسع صدره وانشرح، وكاد يطير من شدة السرور والفرح: تالله يا كريم الخلال، ويا شريف الخصال، إنك أولى بالملك من غيرك؛ حيث فاضت على الأنام بحار خيرك، وهل يكون في ذلك نزاع أو جدال، وإنك قد احتويت على جميع مناقب الكمال؟!
فيك ما شئت من بديع صفات
حار في حصر بعضهن الأديب
فيك حلم ورأفة وسخاء
وسداد به يسود الأريب
ولأنت عند كل إنسان، أعز من أهله والإخوان، أما أنا على الخصوص، فعندي من الأدلة والنصوص، ما به يثبت أنك أوحد الملوك والأقيال، وأسعد من تضرب بعدله الأمثال؛ لأني جنيت فعفوت، وأسأت فأحسنت وما جفوت، فجوزيت بما أنت أهله من علو المكانة، وجوزي سواك على سوء فعله بالإهانة.
ولو أنني أصبحت كلي ألسنا
وأطلقتها في بث ما هو لازم
لقصرت عن إحصاء بعض مناقب
بها اشتهرت في الخافقين تراجم
وبالجملة والتفصيل: فليس لك في زمانك مثيل، ولسان حال كل من رآك، يقول وهو واقف تحت لواك:
ولو أنني أصبحت في كل نعمة
وكانت لي الدنيا وملك الأكاسره
لما وازنت عندي جناح بعوضة
إذا لم تكن عيني لشخصك ناظره
فأثنى عليه الملك وشكره، ولجزيل إحسانه غمره، فقال الخليع مخاطبا له، وقد أثرى بعد الإفلاس، بقول إبراهيم بن العباس:
سأشكر عمري ما تراخت منيتي
أيادي لم تمنن وإن هي حلت
رأى خلتي من حيث يخفى مكانها
فكانت بمرأى منه حتى تجلت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه
ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
وكان النهار قد انقضى، والليل قد أقبل بالمسرات والرضا، فقام الملك والخليع، والوزير الكامل ابن المطيع، وركبوا عند خروجهم من الديوان عربة، فسارت بهم حتى انتهوا إلى قصر العقبة، ونزلوا في هذا القصر، بمنظرة مشرفة على نهر، وبعد أن لبثوا بها هنيهة يسيرة، ولحيظة من الزمن قصيرة، دعاهم الشريف ابن مطرب، أمام الحضرة الملوكية إلى صلاة المغرب، فاصطفوا وراءه، وكان حسن القراءة، فصلى بهم المكتوبة، في الساعة المطلوبة، ثم انتقلوا بعد الفراغ من الصلاة المذكورة، إلى قاعدة المائدة المشكورة، فأكلوا حتى اكتفوا من الطعام، وكان آخرهم قياما الإمام، وبعد أن شربوا القهوة، صعدوا في بستان القصر على ربوة، فصلوا صلاة العشاء الأخيرة، وركب كل من الوزير والإمام عربة صغيرة، وتوجه إلى داره، بعد ما فاز من الملك بيساره، ولما خلا المكان لابن الصريع، من ابن مطرب وابن المطيع، سأل الملك عما وقع له بعد الانصراف من أم القرى، وكيف كان وصوله إلى هذه المدينة عالية الذرى؟ فقال له: اعلم أني ركبت البحر، فانكسرت السفينة على صخر، وتعلقت بلوح فأوصلني إلى البر، بلا سوء ولا شر، وحملني رجال البريد كما حملوك على جواد، وساروا بي إلى المدينة باجتهاد، فلما دنوا بي من الأسوار، وكانت الشمس في رابعة النهار، ألبسوني بعد السلام من الهلك، في يوم الخميس تاج الملك، وعقدوا لي في أحسن طوالع السعود، موكبا عظيما أكثروا فيه من العساكر والبنود، ومشوا بي والمظلة على راسي، والدهر لي في جميع أحوالي مواسي، حتى أجلسوني على التخت، ولا جرم أن هذا من سعادة البخت، وسألت فيما بعد عن الحامل لهم على ذلك، ولماذا لم يقتدوا بغيرهم من الممالك؟ وما هو هذا السبب الذي بلغت به الأرب، فأخبرني جم غفير، من ضمنهم الوزير، أن العادة الجارية من قديم، في هذا البلد العظيم، أن الرعية متى مات ملكها القائم، ولت عليها من الأجانب أول قادم، وخلعت عليه الخلعة الملوكية، وأذعنت له بالعبودية، وأقول لك يا خليع هذا مصداق قول الملك العلام، في القرآن الحكيم
وتلك الأيام .
لما أتتني دولتي
والدهر سالم وابتسم
نلت المنى وبلغت ما
أرجوه من فيض النعم
وغدوت في الملك الذي
أوتيت منشور العلم
وكانت نفسي تحدثني عقب الفطام، أن أحظى ذات يوم بهذا المرام، وتذعن لي بالطاعة بعض العباد، وأكون نافذ الأحكام في البلاد، وكان لي حاسد من أبناء حام، لا يغفل عن مواجهتي بالملام، فكان يقول لي متهكما بي: إني رأيت لك في المنام، أنك يا حام تملك رقاب الأنام، فكنت أصول عليه وأجول، وأسخر به كما يسخر بي وأقول:
ألا قل لمن كان لي حاسدا
أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في فعله
لأنك لم ترض لي ما وهب
فجازاك عنه بأن زادني
وسد عليك وجوه الطلب
ولم يزل هذا دأبه ودأبي، حتى نلت ما رمت بفضل ربي، فقال الخليع: أنت يا رب السعادة، في عصرك أهل للحسنى وزيادة؛ لأنك ملكت فعدلت، وعن مكارم الأخلاق ما عدلت.
فاسلم ودم في صفا عيش وفي ترف
ففي بقائك ما يسلي عن السلف
فأنت للمجد روح والورى جسد
وأنت در فلا تأسى على الصدف
وكان ابن الصريع قد ناهز الستين من الأعوام، وعرف بلغات كثير من الأقوام، فآثر الإقامة مع الملك في بلده، على الرجوع إلى أهله وولده.
إن كان لا بد من أهل ومن وطن
فحيث آمن من ألقى ويأمنني
وعاش في خدمته عشرين سنة، مرت كأنها لقصرها سنة، ولما مات هذا النديم، الذي كان أصدق خديم، شيعه الملك مع أرباب دولته إلى لحده، واحتفل بمأتمه وبكى على فراقه وفقده، ولم يعش بعده سوى ثلاث سنوات، كان عليه في أثنائه بادي الحسرات.
المقالة الخامسة
في الاشتغال بمباشرة المناصب عن الاحتفال بمسامرة الصديق والصاحب
نقلت من خزانة الأسرار، بإحدى مدن الآثار، عن حبر أحبار، وجهينة أخبار؛ عبارة بالحروف مرقومة، تحت صورة في الكتاب مرسومة، تشير بإحدى يديها إلى المقة والوفاق، وبالأخرى إلى المقت والشقاق، وهي مع ما فيها من اللطافة، تعد في ذاتها خرافة، ونصها: أنه كان يوجد بمدينة تلمسان، كهل من عفاة بني ساسان، أنهكت جسمه الفاقة، ولم يقابله دهره بالطلاقة، وكان له وليد نجيب، أو حفيد ذكي لبيب، انحاز إلى مؤدب صبيان، ومعلم أطفال وفتيان، فتعلم القراءة منه والكتابة، وأبدى في حفظ دروسه النجابة، وأخذ عن غيره النحو والصرف، وجال في ميدان الأدب بأسبق طرف، وبلغ من المنطق والبيان والبديع، ما يرتفع به قدر الوضيع، واستحوذ من العروض والإنشاء واللغة وسائر الفنون، والحديث والفقه والتوحيد وآداب البحث على ما تقر به العيون، وبرع في معرفة الهيئة والجبر والهندسة والحساب.
وحل بفكره الوقاد في كل فن مسائله الصعاب، حتى أصبح لا يجاريه مجار، ولا يباريه في مجاله مبار، وهاجر في طلب العلم إلى أكثر البلاد، وكانت آخر مدينة انتهى إليها بغداد، فاجتمع فيها بأقيال البراعة، وأبطال البلاغة واليراعة، وركب معهم سفينة المناقشة ورفع في بحرها شراعه، ومد بينهم في كل فرع من العلوم باعه، فلما تبين لهم أنه فارس الميدان، وأنه أوحد زمانه في المعارف بين الأخدان، مالوا إليه وكثرت في المدينة خلانه، وأثنت على أخلاقه بكل لسان جيرانه.
وشاع بين البرية ذكر معلوماته الخارجة عن حد القياس، حتى طرق مسامع وزير أحد خلفاء بني العباس؛ حيث قيل له وهو في محفل من نبلاء الجلاس: إن هذا الأستاذ أفصح من قس، وأذكى من إياس.
فقال الوزير لحاجبه ابن جرير: اقصد في غد دار هذا الفاضل، الذي دونه المباحث كل مناضل، والتمس من جنابه، أنه يزورنا بركابه؛ لعلي أتخذه كاتبا ومشيرا، وحاسبا بالديوان وسميرا، فقبل الحاجب الأرض وأجاب بلبيك، وقال: إنه سيكون عندك وبين يديك، فلما كان في صبيحة يوم الجمعة، هيأ بغلة عظيمة السرعة، وسعى إليه وسأله عن داره، من وجيه كان ساكنا في جواره، ومذ لقيه وجاء به إلى مولاه، قربه وأكرم مثواه، وأنزله برواق من مأواه، ورفع درجته على من سواه، ولما كان هذا المتفنن حلو الفكاهة، حسن المسامرة حجازي النباهة، خلب العقول بفصاحته، وسلب الألباب بسحر بلاغته، وتشبث من عهد نشأته، بما ينشر بين الملأ أعلام شهرته، ويذهب عنه العسر والباس، ويجلب له اليسر بين الناس، ويجذب إليه قلوب الورى، ويطيع له أسد الشرى، ويرغب فيه العباد، ويحبب فيه ذوي الرشاد.
وقد احتفل بذلك في السر والعلن، حتى نال بغيته وفاز بالذكر الحسن، ولم يدع من أفعال الخير شيئا إلا سارع إليه، وانقض بلا توان انقضاض العقاب عليه، فكنت تارة تراه بالمساجد، كناسك راكع ساجد، وتارة يبدو في المجالس، بوجه بشوش عابس، وطورا يبرز بين الأقران، في حلة الرأفة والإحسان، وطالما أحرز قصب السبق، في مضمار نضرة الحق، وتمادى على هذا العمل، بلا فتور ولا كسل، إلى أن تقرب بمثل هذا السلوك، من هذا الوزير الذي تفتخر به الملوك، فقلده في ديوان الخليفة، بوظيفة كاتب الإنشاء المنيفة، ثم تنقل من إيوان إلى إيوان، حتى استوى على مرتبة رئيس كتاب الديوان، وصار يركب في المواكب، بعد انتظامه في سلك ذوي المراتب، ويتقلب في أودية النعم، ويتصرف التصرف التام فيما يتعلق بأرباب السيف والقلم، ولا زال في كل يوم يعلو مناره، وينمو على الدوام فخاره، ويزداد بين الأمراء اعتباره، ويغرس في أفئدة الوزراء وقاره، إلى أن نال من زمانه الأمل، ووصل بالإرادة الأزلية إلى ما وصل، ولاحظته عيون السعادة، ففاز بالحسنى وزيادة.
ألا رب راج حاجة لا ينالها
وآخر قد تقضى له وهو جالس
يجول لها هذا وتقضى لغيره
وتأتي الذي تقضى له وهو آيس
وبعد أن تقلد بهذه الوظيفة الرفيعة، وتأهل من بنات أعيان المدينة بحرة في حسنها بديعة، أقبلت عليه الدنيا بخيراتها الجزيلة، وامتلأت عليه داره من الخدم والجواري الروميات الجميلة، واشتغل بمباشرة المناصب، عن الاحتفال بمسامرة الصديق والصاحب، فثارت عليه طوائف الحساد من كل جانب، واتهموه بالانحراف عن أقوم المذاهب، وقال فيه شاعرهم:
إذا رفع الزمان وضيع أصل
وألبسه ثياب الاعتبار
فسالم من أردت سواه وانظر
له أبدا بعين الاحتقار
وزعموا أن بشاشته تبدلت بالتقطيب والعبوس، وأن فظاظته وعدم استقامته قد اشمأزت منهما النفوس، وأنه اعتزل الأشراف، وحاد عن طريق الإنصاف، وبالغوا في ذمه، وبالغوا في هجاء أمه، وقال بعضهم في مجلس الوزير: إن سوء فعله من الأدلة القائمة على دناءته وخسة أصله، وأنه مبير كذاب، ومثير للفتن مرتاب، وأنه لما نال بغيته بغى، وضل بعد الهداية وطغى، وتاه على أبناء جنسه، ولم يذكر في يومه ما لقيه في أمسه.
وقال آخرون: إنه بقية من قوم عاد، وإن حياته مضرة بالأنام على القرب والبعاد، وإنه ظهير لذوي المعايب، ونصير للعاكفين على المثالب، وليس الباعث لهم على إذاعة هذه الأقاويل الكاذبة، وإشاعة هذه الأباطيل التي سهامها به صائبة، سوى الغيرة والحسد الذي رماهم بنبال الكمد.
وإذا خشيت من الأمور مقدرا
وفررت منه فنحوه تتوجه
وبالجملة فإنهم أقاموا على هذه الوتيرة مدة من الزمن غير قصيرة، ونسبوا إلى بعض أصهاره، أنه هجاه بقوله من بديع أشعاره:
ما لي أراك عدلت مما لضرورة
عن سنة الأشراف والأمجاد
أنسيت أنك قد نشأت بلا أب
في فاقة من معشر أوغاد
من أين كان لك التقدم عنوة
لا عن أبيك ولا عن استعداد
وكان كلما ذكر في محفل قال أدناه وأعلاه، مشيرا إلى كبره:
لو كان فيهما آلهة إلا الله .
وحيث إن كل ذي نعمة عليها محسود، اجتهدوا في تقبيح سيره المحمود، حتى أوغروا عليه صدر ولي أمره، بعد أن أقاموا له البراهين على اعتزاله وكفره، فتنكر له وعزله، وعن وظيفته السامية فصله، فلما انزوى عقب الطرد بقصره، لم يتركوه بلا أذى في حصره، بل اعتدوا عليه وبعثوا إليه.
أمسيت يا طير مقصوص الجناح وقد
ألقاك صيادك المحتال في القفص
لا فرج الله عنك الكرب فيه ولا
أخلاك فيه مدى دنياك عن غصص
وأنت لا شك بعد الموت في سقر
بنص ما أنزل الجبار في القصص
وكان قد اكتسب من الرزق الحلال بالهمة، ما لا يحصى من الأموال الوافرة الجمة، وادخرها في داره المضاهية في زينتها لمدينة إرم، التي كانت آهلة بالسراري الحسان والحشم، ولولا شغفه بحب الرياسة، وتولعه بأحوال السياسة، لعاش عيشة راضية في يسار وثروة، ولذة وافية وزيادة حظوة، وكيف لا وقد كان في هذه الدار المزخرفة الرصينة الأسوار، ما تشتهي الأنفس وتعجز عن وصفه الألسن، مما يشرح الصدور ويسر الأعين، من عرب أتراب، تسحر بجمالها الألباب، وحور عين حسان، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، وهو معهن آناء الليل وأطراف النهار، في جنات تجري من تحتها الأنهار.
ولما توارى عن ذوي الأحقاد، وانقطعت عنه ألسنة الحساد، كان لا يسمع ما يكدر منه الخاطر، أو يحرك ما انطوت عليه الضمائر من غيظ وحنق، على من بنار النميمة احترق، فلو أنه دام على هذه الحال؛ لتنعم منه البال، لكنه لما طال عليه المدى، وتذكر شماتة العدى، عاف الشراب والطعام، وانعجم لسانه عن الكلام، وضاق منه الخناق، وكادت روحه تبلغ التراق، وهجر الكواعب، وبسر في وجوه ذوي الملاعب، ومج سمعه الأنغام والأغاني، وأعرض عن مشاهدة الغواني، وتوهم أن بستانه النضير الواسع، وروضه المزهر البائع؛ قد أمسى لتقارب الأطراف، أضيق من سم الخياط بلا اختلاف، وأظلمت الدنيا في عينيه، وصار لا يبصر ما بين يديه، وساءت منه الأخلاق، واعترض في سره وعلانيته على الخلاق، مع أنه كان يستقبح الفسق والفجور، ويمقت منكر البعث والنشور، ويقضي بكفر أدهى أبناء معرة النعمان؛ حيث قال وهو أشعر العميان:
أتترك لذة الصهباء عمدا
بما وعدوك من لبن وخمر
حياة ثم موت ثم نشر
حديث خرافة يا أم عمرو
وكان لاحتجابه عن انتشاق نسيم الأخبار، يصبح ويمسي في اختناق على مقالي النار، ولقد عيل منه الاصطبار، بعد طول الانتظار، وأضحى لا يقر له قرار، بأي مكان من الدار، حتى إنه في خلال الدوران، دخل قاعة مزخرفة البنيان، ووقف تجاه شباك، مشرف على شارع ابن الحباك، فوقع بصره على شيخ كبير، كأنه لضخامته بعير، وهو يتوكأ على عصاه، وقد كشف رأسه وقفاه، وشرع في طلب الصدقة، من ذوي المروءة والشفقة، بقوله: يا أهل المراحم والمروة، والمكارم الشاملة والفتوة، تصدقوا على بعل الشيخة أم طبق، بما يستر العورة ويسد الرمق.
فلما رآه وهو على ما به من الاضطرار، إلى سؤال الجائز والمار، حسده على غدوه ورواحه، وتمنى أن يحظى مثله بإطلاق سراحه، وقال لغلامه وائل: علي بهذا السائل؛ فانطلق على الفور يهرع خلفه، فأدركه قبل الانسياب في أول عطفه، وقال له: أيها السائل المضطر، أجب الرئيس أوحد الدهر، فحصل للشيخ من شدة الارتياع، ضرب من الخدر والصداع، وأوجس منه في نفسه خيفة؛ لتوهمه أنه من الأعوان، الموكلين بضبط كل سائل من الرجال والنسوان. وقال: سألتك بالله يا ابن الحلال، ألا ما تركتني أسعى في طلب زرق العيال، فتلطف به حتى لان وأجاب، وسار معه وهو على غاية من الارتياب، وأدخله القصر بعد صلاة العصر، فاعتراه من هيبة المكان، ما زلزل منه الأركان، وكاد عقله من رأسه يطير، عند رؤيته لأعوان هذا الرئيس الخطير، ومن شدة ما ناله من الذهول، هم بالرجوع من قبل الوصول، فمنعه الخادم أبو خف، عما أراد بلين ولطف، ولا زال يسكن عنه بعض روعه، وينهاه عن رجوعه، ويعده من مولاه بزوال البوس، وامتلاء كيسه بعد الإفلاس بالفلوس، حتى وقف به أمام سيده بالبستان، وقال له: ادن من مولانا وقبل راحتيه بأمان.
فلما عاينه الشيخ جثا عن ركبتيه، وبادر إلى تقبيل مواطئ قدميه، فأقامه وعلى متكأ بجواره أجلسه، وبش في وجهه وبعذوبة ألفاظه آنسه، وسأله عن أحواله، وعن مقر زوجته وعياله، ثم أمر غلامه ابن بسام، بالتوجه به إلى الحمام، وبعد تنظيف بدنه، وإزالة ما عليه من درنه، خلع عليه حلة تليق بحاله، وغمره من الإحسان بما كفه عن سؤاله، وحمله بعد حلق رأسه وقص شاربه، إلى مولاه فأكرمه وأجلسه بجانبه، وقال له: أيها الشيخ، الذي ألبسه الشيب من الوقار أبهى ثياب، أنت صرت الآن عندنا من أجل الأصدقاء والأحباب، وقد ربطنا لك ولعيالك، من المرتبات ما يستقيم به أود حالك، ورفعنا ما بيننا وبينك من الحجاب، فادخل علينا بدون استئذان من أي باب، وأتحفنا بما تلتقط من الأخبار، ولا تخف بعد إقبالنا عليك غائلة الإدبار، فقال الشيخ متمثلا ، بما راق وحلا:
يا أيها البر الكريم ومن له
منن حللن من الزمان وثاقي
من شاكر عني نداك فإنه
من عظم ما أوليت ضاق خناقي
منن تخف على يديك وإنما
ثقلت مئونتها على الأعناق
وحضرت المائدة بالأطعمة، فدعاه إليها وعلى سواه قدمه، فامتنع الشيخ وتأخر، وأحجم عند الإقدام وتقهقر، وقال: معاذ الله أن يأكل السائل المسكين، مع حضرة الرئيس الأجل المكين؛ لأنه لا يسوغ للصعلوك، الذي لا يساوي قلامة ظفر مملوك، أن يتجارى على الأكل مع المالك، ولو ساقه الجوع إلى المهالك، وكيف يجلس معه على خوان، يتعذر الدنو منه على الوجوه والأعيان؟! فقال له الرئيس النبيل: هذه عادتنا مع الحقير والجليل، ولا زال يدعوه إلى الزاد وهو يمتنع، ولونه من شدة الخجل ينتقع، إلى أن تقدم لكن على رغم أنفه؛ لأنهم كانوا يقودونه من أمامه ويسوقونه من خلفه، ولما قعد للأكل ولم يتفق له ذلك من قبل، مد يده وهي في غاية الارتعاش، وتناول أول لقمة فسقطت على الفراش، وهكذا كان يأكل بخوف ووجل، وكأن حلقه مسدود بصخرة من جبل، مع أنه كان يتأتى له في غير هذا الخوان، ابتلاع عشرة أرغفة بفخذ من الضان، ولا شك أنه ما تحصل من هذه المائدة الكثيرة على شبع، بل قام جائعا يتمنى الأكل مرة أخرى مع التبع، إلا أنه قد حيل بينه وبين المرام؛ لخوفه من التوبيخ والملام، ولما فرغ من غسل يديه، وانتصب أمام الرئيس على رجليه، أشار إليه بالقعود، وأجاب بالركوع والسجود، فألح عليه حتى جلس فوق بساط منقوش، في قاعة بجوار قاعة المائدة مفروش، وبعد أن شرب القهوة، ازداد فرحا ونشوة، وبات إلى الصباح وهو في سرور وانشراح، ثم خرج من القصر ولسان حاله يقول، وفي طريقه يجول:
تبدل عسري بيسر وقد
بلغت من الدهر كل المنى
فيا رب زدني قبولا به
أعيش سعيدا حليف الغنى
وكان برفقته أحد غلمان الدار، فأخذه معه في السير إلى جهة اليسار، حتى أوصله في عطفة مائلة، إلى المنزل الذي نقلت إليه العائلة، ثم تركه وانصرف من حيث أتى، ودخل هو على زوجته فسمعها تقول لأحد أولادها: يا فتى، أين أبوك الأقرع بن شعلان؟ فإنه لو رأى ما نحن فيه من الخير والإحسان، لزال عنه الهم والترح، ولبكى من شدة الفرح، تالله يا قرة العين، وحياة أختك أم بطنين، إني أطن أننا الآن في منام، والذي نحن فيه أضغاث أحلام. فقال لها وقد لاحت منه التفاتة إلى جهة الباب: هذا أبي قد أقبل يرفل في أبهج أثواب، فعند ذلك هرولت الشيخة بملابسها الجديدة إليه، وقبلت يده وسلمت بالاشتياق عليه، وقالت له: يا أبا الأطفال، من أين لنا هذا الإقبال؟ فقال لها: يا بنت عبد الله، هو من عند الله، ثم قص عليها ما جرى من أوله إلى آخره، وأوقفها على باطنه وظاهره، وقال لها: وأنت أخبريني كيف كان الانتقال، من دويرتنا الحقيرة إلى هذا المنزل العال؟! فقالت: جاءني جماعة من الغلمان، بأقمشة صالحة للبنات والصبيان، وقالوا: إن الشيخ بعث بها إليكم فالبسوا منها ما شئتم، فإنه فصلها عليكم، وسيروا بنا إلى الدار التي اشتراها برسمكم، وأعدها بجوار قصور الأعيان والأمراء لكم، فلما توسطناها وطفنا بما فيها من المناظر والمخادع، والأروقة الواسعة المطلة على الدور والجوامع، وكان طوافنا فيها بالذكور والإناث، وجدناها بديعة الهندسة كاملة الأثاث، وألفينا بها من الحنطة والسمن والعسل، والفول والزيت والزيتون والثوم والبصل، ما يكفي بلا تردد في القول، مدة لا تنقص عن نصف حول، وها هي أمامك وبين يديك، فطف بها إن لم يكن في الطواف مشقة عليك. فقال لها وقد تبسم، وهو بمدح المنعم عليه يترنم: قولي معي في الابتهال، بعد الصلاة على النبي والآل: اللهم بارك لنا فيما أعطيت، ومتعنا بزيارة ساكن طيبة وحج البيت، وانظر بعين الرضا والقبول، والرعاية الكاملة والشمول، إلى من عمنا من بحر كرمه، بوافر هباته ونعمه.
وكان الليل بظلامه أقبل، والنهار بضيائه تحول، فأكلوا حتى اكتفوا مما تهيأ لهم من الطعام الفاخر، وحمدوه سبحانه على ما اغترفوا من بحر جوده الزاخر ، وباتوا في مسرات وأفراح، إلى أن أشرقت غرة الصبح الوضاح، ثم نهض من نومه كأنما نشط من عقال، وصلى صبحه وأفرغ عليه ملابسه في الحال، وأكل مع أولاده ما تيسر، وخرج من داره واكترى من السوق حمارا أخضر، فركبه وانساب في الأزقة والشوارع، فالتقط كل خبر شائع، وسارع بما جمع إلى مولاه، فقص عليه ما سمع من الأفواه، ويا ليته باع كما شرى، بل أضاف إلى كل لفظة من أمثالها عشرا، فحظي عنده بأعلى منزلة، وبالغ في احترامه وبجله، وقال له: أيها الشيخ المعمر، ومن هو نعم السمير المدبر، اركض بخيلك ورجلك ولو في الدواوين والمصالح، وأتحفني بأخبار المقيم والغادي والرائح، وإن لاح لك في مدحي فرصة، فانتهزها عسى تزول بها عني الغصة؛ لأعود يا أبي، كما كنت إلى منصبي. فأجابه الشيخ بالطاعة والسمع؛ لطمعه في الحصول منه على النفع، ثم ودعه وانقلب إلى داره، وأمر كلا من زوجته وأولاده بالتجرد عن أطماره، وصعد بهم في الثلث الأخير من الليل على السطح، وكان يحفظ من القرآن الشريف سورة الفتح، فتلاها بسكينة وخشوع، وقد تناثرت من عينيه الدموع، وقال: يا أولادي، أنتم تعلمون ما كنا فيه من الفقر، وعري البدن والفاقة التي تقصم الظهر، وإن هذا الرجل المحسن تكفل لنا بالمئونة والكسوة، ودفع عنا بما وصلنا به من الإحسان ما كان للزمن من الجفوة، فارفعوا أكف الضراعة بإخلاص، واطلبوا منه جل وعلا إنقاذه من ضيق الأقفاص، وعودته إلى ما كان عليه من الإقبال، وامتيازه في الدرجة عن الأقران والأمثال، وقد استمر معهم على ذلك نحو سنة، لا تأخذهم فيها عند السحر نوم ولا سنة.
فلما كان في أول ليلة من شهر الصيام، خلعوا ملابسهم والناس نيام، ودعوا وعليهم أمنت الوالدة، وكانت أبواب الدعاء مفتحة والأيام مساعدة، فاستجيب دعاء الوالد والأفراخ، وانتشل الرئيس من وحلة الطرد وما له من الأوساخ، وذكر عند الوزير بخير في الديوان فأمر برده إلى منصبه، وانجلت عنه غياهب الحرمان، وعند فراغ الشيخ في صبيحة هذه الليلة من عبادته سعى إلى خدمته على حسب عادته، فتعذر عليه الوصول إلى الجناب، بسبب ازدحام الحمير والبغال والخيل على الباب، ولما أعياه ذلك، وضاقت عليه المسالك، قال لبعض الخدم، وكان اسمه كعب بن قدم: كيف السبيل إلى لقاء السيد الجليل؟ فقال مستهزئا به وقد رجمه بالحصى، وضربه على كتفيه بالعصا: من أنت أيها الحقير، حتى تحظى بمقابلة الرئيس الخطير؟ إني أظن يا سخيف العقل أنك مجرد من حلية الفضل، أيخطر ببالك أنه باق على عهده القديم، أو أنه يجد وقتا يستغرقه في منادمة النديم؟! أما علمت يا خرفان أنه تحول من شان إلى شان، وأنه أماط عنه جلباب التواضع والفتور، واستعد لمباشرة الأمور، وكأن به قد أهمل الرفيق، وتغافل إلا عن الرحيق.
فقال له الشيخ: كذبت فيما ادعيت، ولا جرم أنك عليه افتريت، وسأقص عليه خبرك؛ ليقطع من الدنيا أثرك، فقال الخادم: يا شيخ الضلال سترى، أن مثلي ما كذب وما افترى، وكان الأقرع قد تعب من طول مدة الوقوف، فرجع إلى داره بالخيبة والكسوف، وبمجرد دخوله العتبة، قال له ابنه أبو رقبة: يا أبتي، إن الراتب ما أتي به في هذا اليوم، وإنه لا قدرة لنا في الليل والنهار على الصوم؛ فسكت الشيخ على مضض، وقد اعتراه من شكوى ولده المرض؛ لأن عائلته لما كانت كثيرة العدد، كان لا يبقى من مرتبها اليومي أدنى شيء إلى غد، ويقال إنهم باتوا في هذه الليلة بلا زاد، وإن أحوالهم قد تبدلت بعد الصلاح بالفساد.
ثم انتبه الشيخ من نومه ونهض في يوم الأحد، إلى ملاقاة مولاه الأوحد، فلم يصل بأي حيلة إليه؛ لكثرة الازدحام عليه، وقد استمر على ذلك أربعة أيام، مضت عليه كأنها لطولها أربعة أعوام، وخطر بباله في اليوم الخامس، أنه يدخل عليه وهو في الديوان جالس؛ لعله يفوز من الاجتماع معه بعد الوحشة بالاستئناس، فانتهز فرصة استراحة الحراس، وأيقن أنه بزعمه أتقن الحيل، واندفع في قاعة جلوسه على عجل، وتأمل فيها فوجدها ملونة الجدران واسعة، وهي لأنواع الظرافة والزخرفة جامعة، وشاهد في صدرها شبحا كأنه أسد، أو آدميا مشوه الخلقة كالرصد، وقبل أن يدنو منه ويفوز بالقصد، سمع منه صيحة هائلة كالرعد، فانقلب على ظهره وسحبوه، وطرحوه على الأرض وضربوه، وقال له زعيم الأعوان نذير، موبخا له على فعله النكير: لك الويل يا أغبر، يا مهين يا قبيح المنظر، كيف خاطرت بنفسك، وتجاريت على ارتكاب ما يسوقك إلى رمسك؟! ثم تفل في وجهه وصفعه، وقال: على أبيك اللعنة وعليك معه، اذهب - لا كنت - من حيث أتيت، وإن رجعت بعدها إلى هذا البيت، أشبعناك ضربا، ودفناك بالحياة غصبا، تبا لك يا سلالة الأنذال، ويا حثالة أسافل الجهال، كيف تسعى بقدمك إلى إراقة دمك!
فلما انفلت الشيخ من أيدي الأعوان اللئام، وقد خف عنه بعض ما كان يجد من الآلام، أخذ يمشي الهوينى حتى انتهى إلى منزله عند الغروب وهو في ارتباك، وقد أشرف من الضرب بالسياط على الهلاك، ودخل على زوجته وشقه مائل، والدم من رأسه سائل، فقالت له: من فعل بك هذا يا ابن شعلان؟! قال: فعله جماعة من الأعوان، بعد ما أفرطوا في السب واللعن، وأوعدوني إن لقيني أحد منهم بالطعن. فقالت له: لعلك ما عرفت لزعيمهم حقه، ولا استعملت معهم في كلامك الرقة، فعوقبت على قلة أدبك، بما أودى بك إلى سوء منقلبك، وإنه يجب عليك مع فقرك، وزيادة فاقتك وعسرك؛ أنك يا أقرع بالنزر اليسير تقنع. فقال لها: إني دخلت في قاعة الرئيس الهمام، لزعمي أني له من جملة الخدام، فسحبوني على وجهي قهرا، وعاملوني بضد عدل كسرى، هنالك نسيت بما ناله من العذاب الأليم، ما كانت فيه مع عائلتها من النعيم، وتمثلت وهي على جمر الغضا بقول من مضى:
أيا ويح دهر منه قد عدم الوفا
فما ينقضي فيه لراجيه مأرب
يكدر عيش المرء بعد صفائه
وإن ما كسا ثوبا من العز يسلب
ثم قال لها: يا حليلتي، ويا صاحبتي وخليلتي، إن هذا الرجل قد غدر بي ومكر، وجعلني عبرة لمن اعتبر، وانقطع عنا كما تعلمين الراتب، وزحفت إلينا جنود النوائب، فاخلعي مع البنات ما عليكن من اللباس، ولنقل بأجمعنا: اللهم يا شديد الباس، اشدد وطأتك عليه، وافصله من منصبه ولا تنظر إليه، وليكن ذلك سريعا معجلا، لا بطيئا مؤجلا.
لعن الله من يرى الضر للنا
س ويسعى في كشف حال الخلائق
رب فأنزل عليه سوط عذاب
وارمه الآن في أشد المضايق
وأذقه نكال بطشك واصرم
عمره في دياره بالصواعق
يا شديد المحال شدد عليه الك
رب وانصب له شباك العوائق
وكان دعاؤهم عليه كل ليلة في وقت الفجر، فاستجاب الله منهم في عامهم وقضي الأمر، ومنع عن مباشرة وظيفته، بعد إحالته على خليفته، وكان السبب في إبعاده على ما قيل في هذه المرة، هو أنهم رموه بقتل خادمه سكران بن خمرة؛ لادعاء بعضهم عليه أنه جمع ما جمع من الرشوة، وصرفه في سبيل اللهو والصبوة، ولما عاد إلى ما كان فيه من الضيق والكرب، وكان في هذه الدفعة قد انتقم من الحساد بالضرب، أغضب الصديق والجار، وفي حكمه على الجميع جار، فازداد عليه حنق العاقل والأحمق، ونظر إليه كل واحد منهم بعين العدو الأزرق، وبعد أن مكث في سجنه نحو شهر، يتقلب وحده على الجمر، تذكر الأقرع بن شعلان، الذي كان يأتيه بالأخبار في بعض الأحيان، وكان هذا الشيخ عند ذلك يقول، وجسمه من السغب في نحول: ليت شعري هل يسمح الزمان الذميم، بالقرب من سدة الرئيس الكريم، ويسالمني بعد ما فعل فعلته، وغير في عبادة الإخلاص قبلته، وأبى إلا أن يصفعني بخفه، ويطأ عنقي بظلفه، وتحول معي من الأدب إلى السفاهة والقباحة، ومن اللين إلى الصعوبة والوقاحة، وبينما هو يلهج بكيت وكيت، ويتعلل بلو وليت، ويقول هيهات هيهات، أن يرجع ما فات! إذ دخل عليه بشير، غلام الرئيس الخطير، وكان قد بعث به إلى هذا الأقرع، فانطلق إلى منزله كلمح البصر أو أسرع، وقال له بعد السلام والتحية: أجب مولانا صاحب السدة السنية، وكان الشيخ لا يعرف هذا الغلام، مليح الصورة رشيق القوام ، فقال له: ومن هو هذا الأمير، الذي تدعوني لمقابلته وإليه تشير؟ فقال: هو سيدك ونصيرك، وعدتك في شدتك ومجيرك، وإني أيها الشيخ الفقير، أعتذر لك عنه في التقصير، وقد جاء معي أخي عنبر، وهو واقف أمام بابك الأكبر؛ فلثم الشيخ يده اليمين، وقال له: مرحبا بك أيها الأمين، وكان الغلام قد هيج فيه شهوة الطمع، وأعطاه من النقود كمية اندفع بها عنه الوجع، ووعده بأموال وضياع، ورفاهية أحوال ومتاع، فلم تكن إلا هنيهة من الزمن أو لحظة، حتى نال الشيخ من هذا الطلب حظه، وبمرافقة الغلام إلى مولاه سمح، وعفا عن دهره المسيء وصفح، وبعد صلاة الظهر لبس أطماره البالية، وتمنى مفارقة عيشته غير الحالية، وسار مع الرسول، ولسان حاله يقول:
سامح زمانك إن أتى
بعد العناد مسالما
واقبل معاذير امرئ
أولاك منه مكارما
فلما دخل عليه في قاعة الجلوس، ودنا منه بوجه غير عبوس، وانكب على القدمين، وقبلهما بعد اليدين، قال له: ما الذي قطعك عني، وأنت بمنزلة الروح مني؟ فقال: قطعتني عنك السياط، وحرماني أنا وعيالي من المرتب للسماط، فتأسف عليه وتألم، وقال: تالله يا أبا مريم، إني ما رأيتك منذ عدة شهور، مع احتياجي لك في بعض الأمور، وإني ما أشرت إلى أحد بضربك، ولا أغريته على شتمك وسبك، ولا أمرت بقطع الراتب، بعد قيده في سجل الكاتب، فقال له: يا سبحان ربي! أما أنت الذي أشرت بضربي، وأمرت بقطع معاشي، وشق ريش رياشي؟ فقال: لا وحرمة ما لك علي من الخدامة، ما وقع في حقك ما يوجب الملامة، فإن كان قد أصابك من الإهانة، ما يقضي بالانخفاض بعد علو المكانة، فلا تحمله على الاستخفاف، بمن هو دونك ولو من الأجلاف، بل احمله على رداء إبليس، الذي يستر به عين كل رئيس، عند قيامه بوظيفة جليلة؛ لينسيه صديقه وخليله، ويضرب الحجاب بينه وبين العدو والحبيب، حتى لا يميز البعيد من القريب.
فلما سمع الشيخ منه مقاله، عرف أنه صادق المقالة، وصفا له وقبل عذره، وانقاد له وامتثل أمره، وشرع على جري عادته في إتحافه بالأخبار، فزال عنه بعض ما نزل به من الأكدار، وضاعف له أرزاقه، وحل منه الفقر وثاقه، وكساه حلة جديدة، وملأ بطنه الجائع بالثريد والعصيدة، وأقطعه ضيعة خصبة، ذات بساتين وعيون عذبة، يقال إن غلتها لا تنقص في كل سنة، عن مائتين من الدنانير المستحسنة، ووعده أنه إن عاد إلى منصبه الفخيم، وانجلت عنه دياجي العزل الوخيم، كان أول داخل عليه وآخر خارج من عنده، وشاركه في أمره ونهيه وحله وعقده، فعند ذلك قال له الشيخ بعد أن أخذ عليه العهود: سترجع إلى منصبك على رغم الحسود، ثم تركه ومضى إلى البيت، يعدو على رجليه كالجواد الكميت، وقال لزوجته: أيتها الوليفة، إن الرجل تاق إلى الوظيفة، فاستعدي للدعاء له لا عليه، عسى يعود منصبه إليه. فقالت له: إنه ما عرف لك هذه المنقبة، لما سالمته الأيام وجلس على المرتبة، وإننا لا نزال بخير، ما دام هو في ضير، وقد رأيت بالأمس ما فعله. فقال: لا تثريب عليه يغفر الله له، ثم دعا فأجيب بعد مدة من الزمن إلى ما طلب، وفاز الرئيس من دعائه بالأرب.
وكان الشيخ قد احتال حتى خرق سقف مخدع ظريف في الطريق الموصلة إلى الديوان المنيف، وانتظره إلى أن ركب ومن تحته عبر، فأدلى من الخرق رداء حجب بصره عن النظر، فانزعج الرئيس وقال وهو في حالة الخوف: ما هذا الملم الذي حرك مني الخوف؟ فقال له الشيخ: يا مولاي، لا بأس عليك، هذا ردائي قد سبقت به إليك، حتى لا يتمكن إبليس من وضع ردائه على وجهك المهاب، وأعود أنا إلى ما كنت فيه من العذاب.
فلما عرفه ذهب عنه الروع والاضطراب، وأنزله من المخدع وقربه منه كل الاقتراب، ووصله واتصل به غاية الاتصال، وعاش معه في أرغد عيش بلا انفصال، حتى أدركه الحمام بعد ثمانية أعوام، ولم يزل أولاد هذا الشيخ من بعده، رافلين عند الرئيس في حلل رفده، ناطقين بشكره، إلى أن ثوى بقبره، تغمده الله برحمته ورضوانه، وأسبغ عليه النعم السرمدية في جناته، ومتعه فيما بها من القصور، بوصال الحور الفائقة في الحسن على تمام البدور.
المقالة السادسة
في لص حليف إنصاف، حميد أخلاق وأوصاف
قرأت في صحف الأوائل، من أخبار بعض القبائل، حكاية عجيبة، ورواية في بابها غريبة، غردت بها العناديل والبلابل، على أفنان بساتين مدينة بابل، وهي أنه كان بهذه المدينة، ذات الأسوار العالية الحصينة، لص حليف إنصاف، حميد أخلاق وأوصاف، كان إذا ألجأته الضرورة إلى القوت، وتسلق على جدران بعض القصور والبيوت، لا يأخذ منه لغذاء العيال، سوى مؤنة ثلاث ليال؛ ليكون فيها منعم البال، لا يذوق مرارة السؤال، فكان لسان حاله ينشد، إذا لامه لائم أو فنده مفند:
خبرت الناس قرنا بعد قرن
فلم أر غير ختال وقال
وذقت مرارة الأشياء طرا
فما طعم أمر من السؤال
وقد اتفق ذات يوم أنه نفذ ما بيده، واحتاج إلى ما يسد الرمق في غده، فخرج من داره في الصباح، راجيا الحصول على الرزق المتاح، فصادف في طريقه شابا ثيابه نظيفة، معتدل القامة ذا روح خفيفة، فاقتفى منه الأثر، وتوهم أنه بلغ الوطر، ولا زال يسعى خلفه ويرعاه، ولا يعلم أنه خاب مسعاه، حتى انتهى إلى باب جسيم، على سور مرتفع عظيم، فعزم على أنه يختلس منه ما يكفيه مدة من الدهر، لا تنقص أيامها في الحساب عن شهر، فلما جن عليه الليل وسجى، واشتد ظلام الدجى، أخذ سلم التسليق، وركب متن الطريق، وقصد هذا الباب، فوصل إليه بسرعة دونها سرعة السحاب، وطرح سلمه من الخارج على حائط الدار، وصعد على أعلاه بدون انتظار، ثم أدار سلمه المذكور إلى الداخل، وثبته وانحدر عليه إلى أسفل كالقضاء النازل، ولما استقرت على الأرض قدمه، ندم حيث لا ينفعه ندمه؛ لأنه مد بصره يمينه وشماله وأمامه، فرأى فضاء كفضاء تهامة، ولم يجد به سوى قاعة صغيرة، بل عشة من الأخشاب حقيرة، فتوسطها على سبيل الاستيعاب، فألقى بها على حبل أقمشة الشاب، وشاهده مضاجعا على التراب لعجوز، لا يسوغ النظر إليها ولا يجوز.
وقائل قد قال ما سنها؟
فقلت: ما في فمها سن
فأطرق برأسه هنيهة وذهب، وفؤاده قد شب به حريق اللهب، وفي الحال صعد على المعارج، وانقلب من الداخل إلى الخارج، وتعثر في أذياله، واكتفى من الغنيمة بخيبة آماله، وعلم أن صاحب المال، لا يتسربل في الغالب بسربال شعر.
قد يجمع المال غير آكله
ويأكل المال غير من جمعه
وسارع بالخيبة إلى داره، فتوارى بها قبل تنفس صبح نهاره، ثم خرج منها قبل الزوال، وآلى على أن لا يقتفي متقمشا من الرجال، وبينما هو يمشي في أضيق زقاق، إذ رأى شيخا التفت منه الساق بالساق، وهو خفاشي العينين، محدودب الظهر عريض الكتفين، له لحية طويلة قذرة، وجلابيب رثة محتقرة، وعلى رأسه عمامة بالية كبيرة، وبيده اليمنى عكازة قصيرة، فتبعه على الأثر، ولم يزغ عن رؤية البصر، حتى دخل من فرجة باب منخفض العتبة، في دهليز كأنه لطوله واتساعه رجمة، هنالك خلى سبيله وانصرف، وإلى خارج الأزقة عن المدينة انحرف، وصبر إلى النصف الأخير من الليل، وانحط على منزل هذا الأحدب انحطاط السيل، وعلا على الجدران؛ حيث أعانه المقدور والإمكان، وعطف على قاعة مزخرفة الصناعة، فصادف فيها سريرا من عمل الهنود، على قبة من الحرير نادرة الوجود، فدنا منه وتأمل فيه، فعاين فيه فتاة جميلة مضاجعة السفيه، وأبصر عند رأس هذا السرير الفريد، عشر مفاتيح صغيرة من الحديد، فأخذها وانساب في الأروقة، كأنه النار المحرقة، فعثر في جهة اليسار، على رواق فيه عشر صناديق كبار، ففتحها واحدا بعد واحد بالمفاتيح، فأضاءت له النقود من داخلها كالمصابيح، وبذلك انجلت عنه غياهب الغمة، وسجد شكرا لله على هذه النعمة، وأنشد:
والله لولا الله سبحانه
لقلت للفضة سبحانها
لو كان الفضة في جرة
حركت الجرة آذانها
ولكنه عدل عن طريق الإسراف، وقسم هذه الصناديق قسمة إنصاف، فنقل خمسة منها إلى منزل الشاب الفقير، وحمل الفتاة وطرحها بجانب الحصير، وساق العجوز إلى الشيخ الكبير، ووضعها بجواره في القبة على السرير.
فلم تك تصلح إلا له
ولم يك يصلح إلا لها
واختص من الصناديق باثنين، وترك ثلاثة منها بلا مين، وكان من عادة هذا الهرم مع الصبية، أنها تتعهده بالدلك حتى يستيقظ من نومته الهنية، فلما كان في صباح ليلة ذهاب الكنوز، واستبدال هذه الصبية بالعجوز، انتبه الشيخ من كراه، والتفت إلى وراه، فرأى جيفة في موضع الوليفة، فوكزها برجله في صدرها، وكزة هيأتها إلى قبرها، وسحبها على وجهها وهو مذموم مدحور، وألقاها في حفرة مرحاض مهجور، ثم تفقد ماله فوجد سبعة من الصناديق قد عدمت، فهوت أركان قواه وهدمت، وطار لبه، وانخلع قلبه، وبكى لذهاب الزوجة والعين، وسخط على الزمان ولعن غراب البين.
أف للدنيا إذا كانت كذا
أنا منها في بلاء وأذى
إن صفا عيش امرئ في صبحها
جاءه بالأمس بما فيه القذى
ولقد كنت إذا ما قيل من
أنعم العالم عيشا؟ قيل ذا
ثم حلق لحيته، وغير حليته، ودار في الأزقة؛ ليعثر على من فعل معه هذه الدقة، وأما الشاب المتعفف، الذي كانت ثروته على يد اللص المنصف، فإنه كان يترك العجوز كأنها من نومها في رمس، فلا تنتبه إلا إذا أحرقتها حرارة الشمس، فلما كان في فجر تلك الليلة السعيدة، استشعر بيد رخصة تباشر جسده بالدلك، فتوهم أنه في منام، ثم فتح عينيه فزال عنه الشك، وقال لها: من أين أقبلت يا قرة العين؟ وهل أنت إنسية أم من الأرواح الجنية؟ فقالت له وهي باسمة، وقد وثبت على قدميها قائمة: طب نفسا، فإني ازددت بك أنسا، وإني هدية من الله إليك، قد أنعم بي عليك، وأنا من خيار الإنس بلا محال، ولا أدري من ساقني إليك في هذه المحال، حتى أقوم له بالشكر وأدعو له بطول العمر؛ لأني وإن كنت على فراش من حرير، وحولي من الجواري جم غفير، إلا أني كنت في حبائل شيخ يدعي أنه ابن سبعين، وعهدي به أنه تجاوز التسعين، ثم التفتت ذات اليسار، وقالت له: أبشر بالغنى واليسار، فهذه الصناديق الخمسة من مال ذلك المهين، وإنها هي شطر ماله باليقين، ولقد نظر الله إليك بعين الرضا، وأنقذك من غائلة الفاقة بالقدر والقضا، فإن كان لك هذا السور، فشيد لنا من داخله أبهج القصور، واغرس حوله ما تشاء من الزهور، ولا تخف صولة الفقر، فقد تيسر لك الأمر.
فلما سمع منها مقالها، وفهم سؤالها، بادر إلى البناء والنجار فشيدا له القصر، في مدة لا تزيد عن شهر، واشترى ما احتاج إليه من الأثاث، ما يكفي للخدمة من الذكور والإناث، وعقد عقد النكاح، على شمس الصباح، وبنى بها في ليلة جمعة، بقاعة أوقد بها ألف شمعة، ثم شمر عن ساعد الاجتهاد، في التجارة ففاز منها بما أراد، وكان رئيس التجار في ذاك الوقت، قد رمي من المرض بسهام السقام والمقت، وارتحل من دار الفناء، إلى دار البقاء والهناء، فقلدوا الشاب المذكور بهذه الرياسة، لما عهد فيه من حسن السياسة، وكان الشيخ قد عرف بالتجسس الشديد، والتفحص الأكيد، أن زوجته وماله عند هذا الغريم لا محالة، فاستعدى عليه الحاكم، وقال له: أجرني من هذا الظالم. فلما بعث إليه الأعوان، وجاءوا به إلى الديوان، وهم بسؤاله، وطرحه في مهاوي أهواله، وثب اللص وثبة الأسد الكاسر، وقال أنا غريم هذا الخاسر، فخلوا سبيل الشاب، وخذوا مني الجواب، وقص على الحاكم القصة، وأزال عن التاجر الغصة، وسأل الشيخ عن الشيخة، فأنكر وجحد، وقال: ما لي بها علم وحق الواحد الأحد، فكذبوه وهجموا عليه في داره، بلا إذن منه ولا تراض، فألفوا رمة العجوز في المرحاض، فأحاطوا به وقبضوا على أطواقه، ولم يتأخروا عن شد وثاقه، وقادوه حقيرا ذليلا إلى ولي الأمر، بعدما ضبطوا أمتعته بالغلبة والقهر، واعترف في حضرة القاضي بالقتل، فاستحق القصاص، وحكم عليه بالموت الذي ليس عنه مناص، واستتاب الحاكم اللص المنصف، بعد أن ربط له على الخزينة ما يقوم بكفاية المتعفف، وأنعم عليه بمنزل المقتول، وكانت هذه الحادثة الغريبة سببا في بلوغ المأمول.
بذا قضت الأيام ما بين أهلها
مصائب قوم عند قوم فوائد
المقالة السابعة
الوفاء مليح، والعذر قبيح
اتفق لرجل مكين، من مدينة بكين، أنه ساح في الأمصار وطاف بمدينة الأنصار، فصادف في الروضة النبوية، رجلا من فقراء البرية، تلوح عليه سيمة الأتقياء، مع أنه من الفجرة الأشقياء، الذين لا يحفظون لأحد ذمة، ولا يرعون له حرمة.
شخص خبيث لو طلبت اسمه
من أحد يوصف بالضن
بادر في الحال إلى كشفه
وقال عفريت من الجن
ففرح به بعد المسامرة غاية الفرح، واتسع صدره لمرافقته وانشرح.
لا تعاشر كل من أبصرته
ربما استأمنت جهلا من يخون
ولكم غرك سمت ظاهر
تحته من قلة العقل فنون
وبعد أن فاز بزيارة سيد الأنام، ونال من البركات النبوية فوق المرام، وتمثل في مدحه عليه صلوات ذي الجلال، بعد لثم أعتابه بقول من قال:
ألا يا رسول الله يا أشرف الورى
ويا بحر فضل سببه دائم المد
لأنت الذي فقت النبيين رفعة
من الله رب العرش مستوجب الحمد
يناجيك عبد من عبيدك نازح
عن الدار والأوطان والأهل والولد
ويسأل قربا من حماك فجد له
بقرب فقرب الدار خير من البعد
ليلثم أعتابا لمسجدك الذي
به الروضة الفيحاء من جنة الخلد
ثم قفل من المدينة المنيفة، إلى مكة الطاهرة الشريفة.
فارقت طيبة مشتاقا لطيبها
وجئت مكة في وجد وفي ألم
لكن سررت بأني بعد فرقتها
ما سرت من حرم إلا إلى حرم
وكان قد استأنس بهذا الشيطان، وغمره من بحر كرمه بالإحسان، ونشله من أوحال الشقاء والامتهان، واتخذه صديقا له وقدمه على سواه من الإخوان.
ألا رب من تحنو عليه ولو ترى
طويته ساءتك تلك الضمائر
فلا تأمنن خلا ولا تغترر به
إذا لم تطب منه لديك المخابر
فلما خرج من طيبة في يوم الخميس، تعلق بأذياله هذا الخسيس، فأخذه برفقته، وحله من قيد الفقر وربقته، وكان هذا الرجل حافيا، مكشوف الرأس عاريا، فاكتسى وانتعل، وامتطى متن جمل.
قالت أراك مع الأنذال تصحبهم
ومن يصاحبهم في عمره يهن
لا يصحب المرء إلا من يوافقه
متى رأيت الظبا والأسد في قرن
أجبتها مظهرا عذري ومنشدها
بيتا به تضرب الأمثال في الزمن
يقضى على المرء في أيام محنته
حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
لكن لاتصاف اللئيم ابن الغبية، بخبث الطوية، كان لا يغفل على الدوام، عن إضرار ما تقع عليه عينه من الخاص والعام، ولا غرابة في ذلك ممن ليس له عهد ولا ذمام؛ لأن أصل العداوة اصطناع المعروف إلى اللئام.
كل امرئ راجع يوما لشيمته
وإن تخلق أخلاقا إلى حين
فأضمر في نفسه الغدر لهذا السيد الجليل القدر.
أعدى عدوك أدنى من وثقت به
فحاذر الناس واصحبهم على دخل
فإنما رجل الدنيا وواحدها
من لا يعول في الدنيا على رجل
وعول على قتله؛ لأجل الاحتواء على ما في رحله.
لعمرك ما المعروف في غير أهله
وفي أهله إلا كبعض الودائع
فمستودع ضاع الذي كان عنده
ومستودع ما عنده غير ضائع
وما الناس في شكر الأيادي وشكرها
إلى أهلها إلا كبعض المزارع
فمزرعة أجدت فضوعف زرعها
ومزرعة أكدت على كل زارع
وكيف يثمر غرس المعروف، في أرض لئيم بالغدر موصوف!
ومن يصنع المعروف في غير أهله
يلاقي كما لاقى مجير ام عامر
أعد لها لما استجارت ببيته
أحاليب ألبان اللقاح الدوائر
وأسمنها حتى إذا ما تمكنت
فرته بأنياب لها وأظافر
فقل لذوي المعروف هذا جزاء من
يجود بمعروف على غير شاكر
فلما جن الليل، وصمم الخبيث على طرحه في حفائر الويل، تفرس فيه الخادم، أنه على الشر عازم، فتدبر بعقله أنه ينبغي لمثله، أن لا يتركه يركض في مضمار جهله، بل يجاريه في ميدان جده وهزله، ويوهمه أنه موافق له على ما أراد؛ حتى يقف منه على حقيقة ما دار في خلده من الفساد، فلما عرف كنه ما نوى عليه، وجنح قلبه إليه، اختلى بمولاه وأخبره بالواقع، وجاءه في إخلاصه بالبرهان القاطع.
أخلق بمن رضي الخيانة شيمة
أن لا يرى إلا صريع حوادث
ما زالت الأرزاء تلحق بؤسها
أبدا بغادر ذمة أو ناكث
فشكر السيد غلامه، وأثنى على أخلاقه، ووعده بمضاعفة مرتباته وأرزاقه، وقال له: يا بني، لا تجزع، فالباغي له مصرع، وإنه سيرمي بسهام كيده في نحره، ويلقى عما قليل عاقبة شره.
ثم أخذ حذره من هذا الوغد الزنيم، والعدو الأحمق اللئيم، وأظهر له أنه نام، فصبر حتى انسدلت أستار الظلام، وثار هذا المهين، ثورة أسد العرين، واستل بيده خنجره، وقصد من المنعم عليه الحنجرة، ودنا منه وكاد أن يطعنه، ولم يعلم أنه لم تأخذه سنة، فوثب عليه وثبة الهاصر، وهو لسيفه من غمده شاهر، وهجم عليه وضربه به صفحا على صدره، فسقط منه الخنجر وانقلب على ظهره، هنالك انقض عليه الخادم، قبل استوائه على قدميه، وربط بعمامته من ورائه يديه، وعول على إتلاف مهجته، قبل نهوضه من وقعته، ونوى على أنه يعدمه الحياة، ولا ينتظر فيه أمر مولاه، ويعمل بضد ما قال القائل، في هذا الخائن الجاهل:
إذا ما الظلوم استحسن الظلم مذهبا
ولج عتوا في قبيح اكتسابه
فكله إلى صرف الزمان فإنه
سيبدي له ما لم يكن في حسابه
فكم قد رأينا ظالما متمردا
يرى النجم تيها تحت ظل ركابه
فعما قليل وهو في غفلاته
أناخت صروف الحادثات ببابه
فأصبح لا مال ولا جاه يرتجى
ولا حسنات سطرت في كتابه
وقابله الجبار منه بفعله
وصب عليه الله سوط عذابه
فنهاه سيده عما عليه عزم، وقال له: لا تعجل على هذا البرم - البرم بالتحريك اللئيم - ثم التفت إلى هذا اللعين، وقال له: ما الباعث لك على هذه الخيانة وأنت أمين؟! فقال مجيبا له بلعثمة وتلجلج لسان: يا مولاي، ما حملني على هذا إلا وسوسة الشيطان، وهو الذي أنساني ذكر ما أسديت من الحسنات، وكاد لولا رجاء عفوك يسوقني إلى الممات.
أتيت ذنبا عظيما
وأنت للعفو أهل
فإن عفوت فمن
وإن جزيت فعدل
ثم رفع إليه رأسه وهو في خجل من خيانته، وقال متمثلا بقول من اعتذر عن جنايته:
يا من أسأت وبالإحسان قابلني
وجوده لجميع الناس مبذول
قد جاء عبدك يا مولاي معتذرا
وأنت للعفو مرجو ومأمول
وبعد ذلك أرسل العبرات، وأنشد وهو مصعد الزفرات:
أسأت ولم أحسن وجئتك هاربا
وأين لعبد من مواليه مهرب
يؤمل غفرانا فإن خاب ظنه
فما أحد منه على الأرض أخيب
فلما سمع ما جاء به من مقاله، أمر بإطلاقه ورثى لتذلله في سؤاله، وأعطاه ما تيسر من النقود، وقال له: اذهب من حيث أتيت يا كنود (الكنود كافر النعمة) وإياك بعد هذه المرة، أن تضمر الغدر لابن أمة ولا حرة، واحمد مولاك على السلامة، واعمل من الآن فصاعدا إلى يوم القيامة، ثم أشار إلى غلامه فزوده بطعام، وقال له: انصرف عنا بسلام؛ فقبل يده ومضى، وفي قلبه من عدم نجاحه جمر الغضا، ولما غاب عن الأبصار، وانفرد في البيداء عن العبيد والأحرار، حدثته نفسه الأمارة، بأن يشن على منقذه من الهلاك الغارة، وبينما هو يجول كالمجنون في القفار، ويميل تارة ذات اليمين وطورا ذات اليسار، إذا رأى على باب مضيق ثلاثة من قطاع الطريق.
إن ضاق بي بلد يممت لي بلدا
وإن نأى منزل بي كان لي بدل
وإن تغير لي عن وده رجل
أصفى المودة لي من بعده رجل
لم يقطع الله لي من صاحب أملا
إلا تجدد لي من صاحب أمل
فدنا منهم بلا خوف ولا وجل، وقال لهم: اقتفوا أثري على عجل؛ لتحظوا بالمال الجزيل، بعد قتل رجل جليل، تركته في البيداء مع خادم جبان، وسبعة من الجمال وبغلة وحصان. فطاروا إليه معه، طمعا في الاكتساب والسعة، وكان الليل قد أقبل بغياهبه، والنهار تحول بكواكبه، عن تنوير مشارقه ومغاربه، وقد نزل السياح مع خادمه على رأس الدرب؛ للراحة من التعب وعبادة الرب، فقبل استراحته هجموا عليه، وزعموا أنهم وصلوا إليه، فلم يأخذه منهم فزع، ولا خوف ولا جزع؛ لأنه كان فارس الأرض في طولها والعرض، بل ثار عليهم ثورة الأسد، ووقف لهم كالسد في الطريق الأسد، فقرب منه الأول، وهو على قتله قد عول، فلاقاه بدون اكتراث ولا وجل، وضربه بالسيف على رأسه فكاد يصرم منه الأجل، ففر هاربا من بين يديه، ولو ثبت أمامه لقضى عليه، ثم عطف على الثاني، بلا مهل ولا تواني، ووكزه برمحه في أحشاه، فتبددت أمعاه، ومال إلى الثالث كأبي الحارث (كنية السبع) وطعنه في إحدى عينيه بالعسال، فتركه عبرة للأمثال، وأراد الخائن أن يلفت العنان، وينفلت من قبضة الهوان، فلم يدعه الخادم دون أن حمل عليه، وقبض بيديه على إحدى رجليه، وأدركه مولاه، فألقاه على قفاه، وربط أطرافه بعمامته، وتمكن منه الخادم فأفرط في صفعه وملامته، واستأذن سيده في جذ رأسه، واستئصال شأفته وخلع أضراسه.
الشر مصراع له سطوة
تستنزل الجبار من عرشه
وأنت إن لم ترج أو تتق
كالميت محمول على نعشه
لا تنبش الشر فتبلى به
فقلما تسلم من نبشه
إذا طغى الكبش بلحم الكلى
أدرج رأس الكبش في كرشه
لله في قدرته خاتم
تجري المقادير على نقشه
فقال له: اصبر ولا تعجل، وعن منهج الحلم لا تتحول، ثم نظر إلى هذا الأسير، المهين الغدار الحقير، نظرة غضب، وعبس في وجهه وقطب، وقال له: ويلك يا نسل الأوغاد، وحثالة غير الأمجاد، كيف قابلت الحسنة بالسيئات، ونسيت ما فات؟! لأقتلنك شر قتلة، ولأجعلنك لقطاع الطريق مثلة، ولأصلبنك بين الوهاد؛ ليعتبر بك الرائح والغاد.
فقال له: يا مولاي، ذنبي عظيم، وجرمي بلا شك جسيم، وإني بما فرط مني مستحق لعدم الصفح عني، إلا أن طمعي في مكارم أخلاقك وحلمك، وثقتي برأفتك وحزمك، حملاني على التمسك منك بأسباب الخلاص، مما ليس عنه محيص ولا مناص.
لا شيء أعظم من ذنبي ومن أملي
لعفوك اليوم عن ذنبي وعن زللي
فإن يكن ذا وذا عندي قد اجتمعا
لأنت أعظم من ذنبي ومن أملي
فبالله يا حميد الأوصاف، ويا محيي سنة الأشراف، إلا ما عفوت في هذه الكرة، عمن وسوس له أبو مرة.
أنا المذنب الخطاء والعفو واسع
ولو لم يكن ذنب لما عرف العفو
فقال الغلام: اقطع من الحياة حبل الرجا، فليس لك بعد هذا سبيل إلى النجا، وامتشق خنجره وعليه صال، وكاد يجرعه كأس الوبال، لولا أن سيده أشار إليه بالكف، عن التعجيل عليه بالحتف، وقال: يا عدو نفسك، قد عفونا في هذه الدفعة عن جنايتك، وأغضينا عن خيانتك، فاذهب إلى حيث أردت من البلاد، وإياك والتعرض لضرر أحد من العباد، ثم أمر بإطلاقه من وثاقه، وقال له: إن عدت إلى سوء فعلك، ورجعت إلى خسة أصلك، محوت منك الأثر، وجعلتك عبرة لمن اعتبر، فقبل بين يديه التراب، وانساب انسياب الماء من السحاب، وبعد انصرافه بنحو ساعة من النهار، امتطى السياح متن الطريق في القفار، وواصل السير، بلا نصب ولا ضير، حتى إذا لم يبق بينه وبين مكة الشريفة، سوى مرحلة عزم على أخذ راحة خفيفة، فلما نزل وضربت خيامه، وهيأ له الطعام غلامه، مد بصره إلى جهة الأمام، فرأى خمسة من قطاع الطرق اللئام، وممن وراءهم الخبيث، الذي سلف في حقه الحديث، فأفرغ على نفسه لامته، وأحضر له خادمه كنانته، وأوتر قوسه في الحال، وكان أرمى خلق الله بالنبال، فطلب القوم على الفور كأنه عنترة أو أبو ثور، ورمى أول الخمسة في فؤاده، فهوى قتيلا من صهوة جواده، وألحق بالثاني الثالث، وأصاب الرابع المسمى بالحارث، وهرب الخامس وهو من الحياة يائس، وسمعه الخادم وهو يذم الزمان، ويبكي على فقد الإخوان، ويقول: ليت هذا المشئوم، اللعين المذموم، ما التقى معنا في الفدفد، وساقنا إلى هذا الفارس الأوحد، وليتنا عصيناه ولا أطعناه، وكنا عند مقابلته قتلناه، وأما الخائن الغدار، فبينما هو معول على الفرار، إذ انقض عليه الغلام، ورماه ببعض السهام، فأورده موارد الحمام، وصرم عمره وانقطع الخصام، ووقف على مصرعه، فسمعه يقول من فمه، وهو مضرج على الثرى بدمه، صرعني البغي الوخيم، وهوى بي في مهاوي العذاب الأليم؛ لأني عدلت عن قول القائل من حكماء الأوائل: «الوفاء مليح، والعذر قبيح.»
المقالة الثامنة
في العودة من السفر بالمسرة والصفا، وتهنئة أحد الأصدقاء بالشفا
قال الحسن بن أبي الحسن، المصري الموصوف بالخلق الحسن، لما سئل عما رأى في غيبته باليمن، وما شاهد في تلك الدمن: إني لشغفي بحب السياحة ، وتولعي من عهد نشأتي بالملاحة، قصدت في بعض أسفاري، مع الشيخ أبي إسحاق جاري، التوجه إلى مسقط رأس الفقيه عمارة، الذي لقي بعد العاضد دماره، وما أغنى عنه فضله، ولا أدبه ونبله، فلما نزلنا بساحة هذه البلاد، وجاورنا من فيها من العباد، ألفينا بها فتية من أنصار العلوم، وأكابر الأحبار المتميزين بالفهوم، جنح إلينا من بينهم يعروف أريب، معروف فيما بين أخدانه باللبيب، فمارسناه في جميع الأمور النافعة، فإذا هو في كل شيء منها باقعة، وأعلامه فيها منشورة، ومساعيه في الخير مشكورة، وسماحته حاتمية، ونفسه شريفة عصامية.
نفس عصام سودت عصاما
وعلمته الكر والإقداما
وصيرته ملكا هماما
وبلاغته سحبانية، وشهامته شيبانية، وحكمته يمانية، وعقيدته إيمانية، وعدالته عمرية، وهمته علوية، وهو جدير بما تمثل فيه بعض واصفيه:
ولو صورت نفسك لم تزدها
على ما فيك من شرف الطباع
والواقع أنه مستحق لما به اتصف؛ لأنه في وطنه أعلم الخلف، وقد أقمنا معه من الأعوام أربعة، فأنستنا مكارمه الزائدة منن ابن زائدة، وتذكرنا بحلمه وذكائه، وفهمه ودهائه، أحنف وإياس، وعبد الحميد وأبا فراس، وأخذنا عنه ما يملأ الوطاب، من كل معنى رقيق مستطاب، ولما حنت جوارحنا إلى الأوطان، وتاقت أنفسنا إلى الأهل والخلان، طلبنا منه الإجازة، بعد الاستعداد لقطع المفازة، وعندما سمح لنا بالتحول عن هذه البقاع، وسار معنا يوما كاملا للوداع، وقفنا وأقسمنا عليه، والدموع تنحدر من أعيننا وعينيه، أن يرجع مصحوبا بالصحة والنعم الشاملة، وأن لا يحرمنا في أثناء غيابنا عنه من المراسلة، ووعدناه أننا نعود بعد عامين إلى دياره، وأن لا نبرح بإرادتنا عن جواره، إلا إذا أذن بالرحلة، إن كان في الأجل مهلة، وبعد أن سلك كل منهما طريقه، وتأسف كل الأسف حين فارق رفيقه، تمادى الحسن وصاحبه على السير، مع القافلة إلى مكة المشرفة بلا ضير، وكان وصولهما إليها في موسم الحج، فنالا بالوقوف على عرفة والعج، ما تقر به أعين المؤمنين، وتفرح به قصاد بيت رب العالمين، ثم توجها إلى زيارة الرسول، وبعد الفوز منه عليه الصلاة والسلام بالقبول، تحولا عن هذه البقاع، وركبا سفينة من سفن الشراع، ووصلا بريح طيبة إلى مصر، في يوم خميس بعد صلاة العصر، هنالك أولمت الولائم، واجتمع فيها القاعد من الأقارب والقائم، وتوالى وفود الأحباب للسلام، مدة ثلاث ليال وثلاثة أيام.
وكان للشيخ أبي الحسن الأريب، صديق ماهر لبيب، وهو صاحب وجاهة شريف، ذو همة عالية ومقام منيف، كان لا يفتر عن ملازمته طرفة عين، قبل أن ينعق بينهما غراب البين، فلما حضر من غيبته، وازداد به سرور عترته، وسعى إلى زيارته جميع الجيران، وجاء سائر خلانه من أبعد مكان، تخلف عنه ذلك الصديق النبيل، والرفيق الذي هو نعم الخليل، فسأل عن هذا الوجيه، من أقاربه وذويه، فقيل له: إنه متوعك المزاج، إلا أن بضاعة صحته أخذت في الرواج، فقال: الآن وجب السعي إليه، والإقبال في هذا الوقت عليه.
ثم قام من منزله ومعه من جيرانه جماعة، في يوم الاثنين بعد ثالث ساعة، واستوى مع ثلاثة منهم في عربة، وأمر بسرعة السير؛ ليبلغ أربه، فطارت العربة بهم في سكة معتدلة، بغاية ما يمكن من العجلة، حتى وصلت في هنيهة يسيرة، إلى قصر في وسط حديقة نضيرة، فنزل على الباب، بمن معه من الأصحاب، وسأل الحاشية عن سيدهم المحترم، بيت الشرف والعلم والكرم، فقال له أحد الغلمان: إنه بعافية وهو جالس في الإيوان. قال الحسن: فلما أخذنا الإذن منه ودخلنا عليه، وتمثلنا على الفور بين يديه، قام واثبا على القدم، وكان كأنه الخلال من السقم، إلا أنه كان قد أخذ في النقاهة، فقابلنا سريعا بالوجاهة، وسلم سلام المشتاق، وبث ما عنده من ألم الفراق، ونبأ أنه كان يستنشق نسيم الأخبار، في مدة هذه الغيبة من السفار، ولو زال عنه ما كان اعتراه قبل التلاق، لسارع إلى المقابلة في جملة الرفاق، فعند ذلك ضمه إلى صدره، وقبله في عارضيه ونحره، وبالغ في الثناء عليه، وفرح بتوجه الشفاء إليه، وقال متمثلا فيه، بما أبداه المتنبي في سيف الدولة من معانيه:
المجد عوفي إذ عوفيت والكرم
وزال عنك إلى أعدائك الألم
صحت بصحتك الأيام وابتهجت
بها المكارم وانهلت بها الديم
وراجع الشمس نور كان فارقها
كأنما فقده من جسمها سقم
وما أخصك في برء بتهنئة
إذا سلمت فكل الناس قد سلموا
فلما فرغ من العناق، وانتعشت الأرواح بطي شقة الفراق، قال الشريف لأبي الحسن: أقسمت عليك يا معدن الفطن، إلا ما أقمت معي هنا بهذا البستان البديع، أنت وعائلتك مدة فصل الربيع، حتى نتناول كئوس السمر، ونجتلي لذة المفاكهة في السهر، فأنعم بلا امتناع وأجاب، واجتمعت الأحباب بالأحباب، ثم سأله عما سمع وما رأى في بلاد الأجانب، وما شاهد فيها من العجائب، فقال: اعلم يا مليح الشمائل، ويا صحيح الرواية في الفضائل، أني سمعت بأنه كان يوجد في مدينة عدن، من جملة عجائب الزمن، شيخ من المعمرين، سنه لا تنقص عن مائة وخمسين من السنين، وكان له عشرة من البنين والبنات، من خمس أمهات، كانوا يتكلمون بكل لسان، ويحفظون القرآن، وينظمون الشعر، وينثرون الدر، ولهم في الآداب المؤلفات الفائقة، والمصنفات البديعة الرائقة، وكان كبير هؤلاء العلماء الأعلام، من ذوي الجسارة والإقدام، ويقال إنه خرج مع قافلة من بني سعد، في سفر إلى ناحية نجد، فتعرض لهم في الصحراء ليث هاصر، وأسد عظيم الجثة خادر، فدنا منه بشدة باس، وقوة مراس، ولطمه على أنفه في موقف الخصام، لطمة هائلة جرعه بها كأس الحمام، وكان لهذا الليث لبؤة وخمسة أشبال، فأحاطت به من جهتي اليمين والشمال، ومن الخلف والأمام، فصدمها صدمة بطل همام، فقتل منها ثلاثة وهرب منه الرابع، واقتفى أثر أمه في الفيافي والبلاقع، فعدا خلف الاثنين على قدميه كالجواد، ورماهما بسهمين أودى بهما إلى النفاد، ثم كر راجعا إلى القافلة، فقابلوه بمزيد الشكر والثنا، ونشروا بين يديه أعلام الهنا، وجمعوا له من الأموال عدة وافرة، فردها إليهم قائلا لهم: إنما أبغي ثواب الآخرة.
وكان عمره إذا رأيته باليقين، ينوف على مائة وعشرين، وهو مع ذلك حاضر الذهن، سالم العقل والبنية من الوهن، إذا نطق أتى بإحسان حسان، وإذا كتب سابق يراعه اللسان، لا يسأل إلا ويحسن الجواب، ويقول فيصيب شاكلة الصواب، ولقد رأيته يسأله سائل عن كثير من المسائل، وهو في جمع غزير، وجم غفير، فكان مما قاله في السؤال، وأجاب الشيخ عنه في الحال: أيها المولى المشهور، كيف تجمع أسماء الشهور؟ فقال: خذها على الترتيب، ولا لوم ولا تثريب، تجمع على محرمات، وأصفار، وأربعة وأربعاء أو شهور ربيع، وجماديات، وأرجاب وشعبانات، ورمضانات وشواويل أو شوالات، وذوات القعدة وذوات الحجة، وقد ظهرت المحجة.
قال: فكيف تجمع أسماء الأيام؟ فأجاب من غير تلعثم في الكلام: تجمع على سبوت أو أسبتة، وآحاد وأثانين، وثلاثاوات، وأربعاوات، وأخمسة أو أخمس، وجمع أو جمعات. فلما سردها سرد الأعداد، وأجاد كل الإجادة فيما أفاد، قبل السائل يديه، وقمنا نتعجب لكثرة ما لديه، ولبث أبو الحسن في حديقة الشريف الرفيع، إلى أن انقضت أيام فصل الربيع، ثم انتقل بعياله في شهر ذي القعدة، إلى منزله بخطة غيط العدة، واستمر بينهما الوداد والمحبة، إلى أن قابل كلاهما ربه.
المقالة التاسعة
في أحلام اللصوص، وما جاء فيها من النصوص
قال ناظم السلوك، نقلا عن خادم الملوك: خرجت للصيد مع جماعة من الجنود، في ركاب صاحب الأعلام والبنود، الليث الهصور، والملك المنصور، رب القلم والسيف المشهور، والرأي السديد المشهور، والعدل المنشور، والسعي المشكور، بطليموس الأكبر، خليفة الإسكندر، فاحتوينا من الغزلان والأرانب، والسباع الضارية والثعالب، على ما لا يعد، ولا يستقصى ولا يحد، ولشدة حرصنا على الصيد والقنص، انتهزنا ما تيسر من الفرص، وأطلقنا للجياد الأعنة، وقومنا الأسنة، وانتشرنا بلا ملال، ذات اليمين وذات الشمال، وفي أثناء ذلك غاب الملك المكين، عن أعين حاشيته وخادمه الأمين، فاهتموا في خلال غيابه بالبحث عن جنابه، فما وقفوا له على خبر، ولا وقعوا له على أثر، وكان قد توغل بالفدافد، في طلب المكاسب والفوائد، فانتهى إلى أجمة ملتفة الشجر، لا ينفذ منها لكثافتها النظر، وبينما هو شارع في التباعد عن أطرافها، والفرار على الفور من أكنافها، إذ ظهر له أربعة من اللصوص، كأنهم كانوا كامنين له بالخصوص، ودنا منه الأول باهتمام، وقال له من غير ابتسام: لقد تحقق لي ما رأيته في المنام، من أخذ هذا التاج والفوز بالمرام، فانزعه بلا معارضة ولا خصام، ولا تكثر على الدهر من الملام.
التاج تاجي يا جليل القدر
فانزعه واقبل يا كريم عذري
فقد رأيت أنني ملكته
في النوم من بعد طلوع الفجر
ثم تقدم الثاني وقال له في الخطاب: تجاوز لي عما عليك من الثياب، فقد قصصت رؤياي، على بشير بن بشراي، فنبأني أني أستحوذ عليها، وأضيف نعالك إليها، ثم أقدم وأحجم وقال وهو لا يبتسم:
تلك الثياب يا عميد القوم
أخذتها منك ببعض حقي
وذاك حسبما بدا في النوم
لي فاعتمد فيما أقول صدقي
ثم انقض الثالث على جواده الأدهم، وقال: إني رأيت في المنام، أني ملكت هذا المطهم، فانزل عن صهوته بلا جدال، وسلمني عنانه في الحال، وإياك والتوقف في هذا الطلب، حتى تأمن على نفسك من العطب.
هذا جوادي وإني في المنام بلا
شك ظفرت به في ليلة الأحد
فدعه لي وانصرف بالنفس ناجية
من المهالك واشكرني إلى الأبد
ثم وثب الرابع وثبة الأسد، وشهر في يده حسامه المهند، وقال: قد طلب ما أراده كل واحد من الجماعة، ولم يبق معك غير السلسلة والساعة، وهما اللتان رأيت في ليلة الخميس، أني انتزعتهما من صدرك يا رئيس.
هذه ساعتي وليس لمثلي
يا رفيع المنار عنها محيص
فتجاوز عنها بغير نزاع
إذ على أخذها فؤادي حريص
عند ذلك قال له الملك الأجل: لقد فزت يا هذا ببلوغ الأمل، بيد أن الصفارة الموجودة مع مفتاح هذه الساعة البديعة، فيها سر لا يدركه بلا موقف إلا ذو فطنة رفيعة، فادن مني حتى تعرف الحقيقة، وتهتدي في استعمال تلك الصفارة إلى أحسن طريقة، ثم إنه قبض بيده على الصفارة المجاورة للمفتاح، ووضعها على فيه وصاح، فسمعت جنوده الصفير، فهرع إليه منهم الكبير والصغير، وأحاطوا باللصوص من كل مكان، واستعدوا لطرحهم في مهاوي الهوان، هنالك قال الملك مخاطبا لهؤلاء اللئام، وقد امتزج بالغضب وامتشق في يده الحسام: يا قطاع الطريق، ومن ليس لهم في الدنيا رفيق، إني أرى في اليقظة دون المنام، أني أشنقكم والسلام.
ثم أشار إلى من حوله من الرجال، بالقبض عليهم بلا محال، فأجابوه إلى ما أراد، وملكوا منهم القياد، وساقوهم إلى ما نصبوا من الأخشاب، وأوقفوهم تحتها ووضعوا الحبال في الرقاب، ثم رفعوهم عن الأرض بلا مهل، وطووا منهم سجل الأجل، واقتفى الملك بعد ذلك من اللصوص الأثر، وبعث بروح كل من وقع به منهم إلى سقر، فأراح من شرهم العباد، ونشر لواء الأمن في جميع البلاد، وبهذه السيرة الحميدة، صارت أيامه سعيدة، وأثنى عليه المؤرخون بما هو أهله، وكيف لا وقد عم الأنام بعدله، ومدحه شعراء زمانه بالمدائح الفائقة، والقصائد النفيسة الرائقة التي منها:
نشرت لواء العدل في كل بقعة
وطهرت أرض الله من كل مفسد
ففزت ببث الشكر من خير أمة
وفقت على كل الملوك بمحتد
المقالة العاشرة
في مطاوعة النفس، والنجاة بعد اليأس
قال أبو المسرات، ابن أبي المبرات: إني لقيت شيخا من التجار، عليه سكينة ووقار، وله بين أمثاله منزلة رفيعة، ودرجة سامية غير وضيعة، وكان قد بلغ الثمانين، وصدق عليه قول بعض السابقين.
إن الثمانين وبلغتها
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
ولقد نشأ هذا الشيخ من مدينة الأهواز، بين مشاء من ناسها وهماز، وكان في مبدأ أمره مجبولا على مطاوعة نفسه، غير مكثرث بغده وأمسه، حتى إنه اتفق له في زمن الشبيبة، أنه رمي من حوادث دهره بمصيبة، كانت نجاته منها سببا في هدايته، وإقلاعه دفعة واحدة عن غوايته، وما ذاك إلا أنه خالف أمه وأباه، في طاعة شيطانه وهواه، ورحل مع قافلة من التجار إلى مدينة الأنبار، وبينما هي سارية بالليل، شاخصة بأبصارها إلى سهيل؛ إذ خرجت عليها من مكان سحيق، فرقة من قطاع الطريق، وحملت عليها حملة الجبابرة، بعدما أحاطت بها كالدائرة، فطرحت رجالها قتلى على الأرض، ولم تراع في حقهم السنة ولا الفرض، واستحوذت على البضاعة، وفقد كل واحد من أهل القافلة نفسه ومتاعه، وكان أبو المسرات ممن أصيب بضربة في الراس، فسقط على وجهه عادم الحواس، وبقي بين الأموات مدة ثلاثة أيام، كان آخرها أول العام، ثم دبت الحياة فيه بعد سبع، ولو زاد على ذلك لأكله السبع، فلما فتح عينه ورأى جثث القتلى حوله متراكمة، استرجع وحوقل وطلب من الله حسن الخاتمة، وحاول النهوض على قدميه، فعجز وتعذر القيام عليه، وبكى وأنشد في الحال، وقد أيقن بالزوال:
أقام على المسير وقد أنيخت
مطاياه وغرد حادياها
وقال أخاف عادية الليالي
على نفسي وأن ألقى رداها
مشيناها خطا كتبت علينا
ومن كتبت عليه خطا مشاها
ومن كانت منيته بأرض
فليس يموت في أرض سواها
ثم أقبل على نفسه باللوم، بعد ما تزحزح عن القتلى من القوم، وآلى أنه إن سلم من هذا المصاب، وتخلص مما هو فيه من أليم العذاب، لا يخالف نصيحة أمه وأبيه، بل يعيش بينهما عيشة الخامل دون النبيه، ويكف عن الأسفار، ولا يبرح عن فناء الدار، وكان في أثناء تضرعاته إلى مولاه، واستغاثته به سبحانه في سره ونجواه، يقول في مناجاته لربه، وهو متألم من جرحه معترف بذنبه:
يا رب هيئ لنا من أمرنا رشدا
واجعل معونتك العظمى لنا مددا
ولا تكلنا إلى تدبير أنفسنا
فالنفس تعجز عن إصلاح ما فسدا
أنت العليم وقد وجهت من أملي
إلى رجائك وجها سائلا ويدا
فلا تردنها يا رب خائبة
فبحر جودك يروي كل من وردا
ولا زال يزحف حتى وصل إلى ساحل البحر، بعد صلاة الظهر قبيل العصر، ثم وهت قواعد قوته، وتداعت بناء بنيته، فاضطجع اضطجاع الميت، وترك التعلل بلو وليت، وكان قد مضى عليه خمسة أيام، ما تناول فيها شيئا من الطعام، فغاب عن الوجود، وكاد يلحق بقوم عاد وثمود، وقال لسان حاله، يشكو من صروف الزمان وأهواله:
أبى الله أن يصفو زماني ساعة
ويحلو ولو في النوم مما يكدر
فنصبر لا طوعا ولا عن إرادة
ولكننا رغما عن الأنف نصبر
وفي أثناء الاضطجاع، عبرت بالقرب من الساحل سفينة شراع، فوقع بصر رئيسها عليه، فانجذب قلبه إليه، ودنا بسفينته من البر في الحين، وأشار بالنزول إلى اثنين من الملاحين، وقال لهما: إن وجدتما الروح، في هذا الشبح المطروح، فاحملاه على كاهليكما بلا مهل، وبادرا به إلينا على العجل؛ لعله ينجو من الهلاك، ويتخلص من غائلة الارتباك، فامتثلا أمره وسارعا إليه، وقربا منه وعطفا عليه، وقبض أحدهما على نبضه، بعد ما تأمل في طوله وعرضه، ثم وضع يده على صدره، وجعل أذنه على فيه ونحره، فتراءى له أن النفس يتردد فيه، فرفعه على كتفه واستعان بأخيه، وسعى به إلى السفينة، التي كانت كقلعة حصينة، وكان فيها طبيب، ماهر لبيب، فعالجه حتى توجه إليه الشفاء، وزال عنه السقم والعناء، وصار يروح ويغدو بين الملاحة، ويثني على من ساق إليه صلاحه، وبعد شهر كامل عادت إليه الصحة، التي هي بلا شك أجل منحة، بيد أن البحر اضطرب بعد السكون، وأظلم الجو وزاغت العيون، وهبت من الجنوب رياح عاصفة، ولمعت بروق للأبصار خاطفة، وانحطت على السفينة أمواج كالجبال، من الأمام والخلف واليمين والشمال، فدارت ثلاث دورات بلا انقطاع، وهوت كلمح البصر إلى القاع، وبمصادفة القضاء والقدر، قبض أبو المسرات على لوح كان قد انكسر، وأنشد وهو يتقلب في أودية الخطر، ويتملل من البرد والمطر:
يا رب ما زال لطف منك يشملني
وقد تجدد لي ما أنت تعلمه
فاصرفه عني كما عودتني كرما
فمن سواك لهذا العبد يرحمه
وقد مكث خمس ليال يعاني من البحر، ما هو أمر من الصبر، وأشد حرارة من الجمر، ثم قذفته الأمواج في اليوم السادس، إلى المينا المعروفة بابن قادس،
1
وكان ذلك في أول ليلة من شهر الصيام، وقد وصل إلى البر والناس نيام، فوقع طريحا على الغبرا، وكاد ينتقل من الدنيا إلى الأخرى، ولسان حاله يتمثل، بقول من أحسن في شعره وتجمل:
أنوح على دهر مضى بنضارة
إذ العيش حلو والزمان موات
وأبكي زمانا صالحا قد فقدته
فقطع قلبي منه بالزفرات
أيا زمنا ولى على رغم أهله
ألا عد كما قد كنت مذ سنوات
تمطى علي الدهر في متن قوسه
فصدعني منه بسهم شتات
ولما طلع النهار، ووقعت عليه أعين النظار، حملوه إلى دار أمير المدينة المعظم، وناطوا بعلاجه الطبيب ابن أبي محجم، فتوجه إليه الشقاء بعد ثلاثة شهور، واعتدلت صحته وحل بساحته السرور، وأقسم بالله العظيم، رب زمزم والحطيم، أنه ما دام على قيد الحياة، لا يتبع شيطان هواه، ولا يطاوع النفس، ولو ترتب على عدم مطاوعتها الحلول بالرمس، وبعد أن تاب، وإلى الله أناب، خرج في قافلة إلى الحجاز، ومنها وصل إلى مسقط رأسه بمدينة الأهواز، واجتمع فيها بأبيه وأمه، وانصرفت عنه غوائل همه، وانهمك على تحصيل المعارف، حتى بلغ النهاية في التالد والطارف، وأضحى بين أبناء الزمان، يشار إليه بأطراف البنان، وعاش بين أهله والعيال، حائزا لصفات الكمال.
المقالة الحادية عشرة
في القيام بشكر الصنيعة، لمن له في المروءة الدرجة الرفيعة
قال شبل بن ليث، المكنى بأبي غيث: تاقت نفسي إلى جوب الفدافد، واشتاقت إلى رؤية الهياكل والمعابد، فخرجت على حالة الانفراد، شاكي السلاح على متن الجواد، وتماديت على قطع الفيافي، والترنم ببديع القوافي، مدة شهور، وأيام وكسور، ولا زلت أنتقل من بلد إلى بلد، ولا أعرج في الرواح والغدو على أحد، حتى انتهيت إلى مدينة، كبيرة آهلة حصينة، فأودعت الحصان، عند صاحب خان، ثم سعيت إلى المسجد الجامع، المعروف بضريح ابن شافع، وأديت فيه بالقصر صلاة العصر، وبينما أنا أطوف فيه، وأمعن النظر في نواحيه، إذ رأيت بلا لبس، حلقة درس، في وسطها شيخ كأنه من بني حام، وهو حسن القيافة معتدل القوام، وسمعته يلقي على الطلبة بأفصح لسان، تفسير قوله تعالى:
والنجم والشجر يسجدان
هنالك جلست في هذه الحلقة؛ لالتقاط بعض الفوائد، واجتناء ما يتأتى في العثور عليه من الفرائد، فمما حفظته عنه وفهمته منه، في تفسير هذه الآية الشريفة، بعبارة سهلة لطيفة، أنه قال موضحا ما في الآية من الأقوال : أخرج ابن الأنباري في الوقف والابتداء، عن حبر الأمة ونجم الاهتداء، ابن عباس العالم بدقائق القرآن، أنه لما سأله نافع عن تفسير
والنجم والشجر يسجدان
قال: «النجم» معناه ما أنجمت الأرض.
وأنبتت مما لا يقوم على ساق، من قولهم: نجم ينجم بالضم في الاشتقاق. «والشجر» معناه ما أنبتته وقام على ساقه، وظهر للعيان، وأنشد مستدلا على ذلك بقول صفوان:
لقد أنجم القاع الكبير عضاهه
وقربه حيا تميم ووائل
وأتبع هذا البيت ببيت زهير بن أبي سلمى، الذي تنسب إليه الفصاحة وتنمى:
مكلل بأصول النجم تنسجه
ريح الجنوب كضاح ما به حبك
وهكذا يؤخذ من الدر المنثور للسيوطي في التفسير بالمأثور، وورد في تفسير الإمام الفاضل، العلامة الدلجي ابن عادل، أن النجم هو نجم السماء المعلوم، وسجوده هو الأفول المفهوم، والشجر هو شجر الأرض المعهود، وسجوده هو إمكان اجتناء ثماره التي هي غاية المقصود.
والنجم في تفسير المصري الهمام، هو ما لا ساق له ولا قوام، والشجر المذكور في المساق، هو ما له ساق، وسجود الاثنين، هو عنده سجود ظلالهما بلا مين.
وقيل: النجم هو الذي لا ساق له من النبات. والشجر هو الذي له ساق، ولبعضه ثمر يقتات، وسجودهما هو الانقياد لله رب العالمين فيما يريدهما طبعا، كانقياد الساجد من المكلفين طوعا، أو أنهما يسجدان لمبدئهما ومبدعهما، سجود دلالة على إثبات صانعهما.
وحكى ابن كثير في تفسير هذه الآية، خلافا تتحقق بمضمونه الدراية، فقال: قال ابن جرير، العالم النحرير الشهير: اختلف المفسرون في قوله تعالى:
والنجم ، بعد اتفاقهم على أن المراد من الشجر ما قام على ساقه بلا وهم، فروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير، والسدي وسفيان الثوري لا غير؛ أن النجم عند هؤلاء الثقات: ما انبسط على وجه الأرض من النبات، وقال مجاهد والحسن، وقتادة عالم الزمن: النجم هو الذي في السماء الأنور، وهذا القول هو الأظهر، فالنجم في عالم السماء، والشجر في مقام النماء؛ يسجدان لله الواحد القهار، وكل شيء عنده بمقدار، قال الله - تعالى - في كتابه المكنون، المنزه عن الشك والالتباس:
ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس .
وجاء في تفسير النسفي: أن النجم هو النبت ليس له ساق كالذي عليه الجسم ارتفع، وهو كما قيل مأخوذ من نجم إذا طلع، والشجر هو ما له ساق يشاهد بالأبصار، وهو مشتق من مادة الاشتجار، الذي هو تداخل بعض الأشجار في بعض، ومناسبة طولها للعرض، ويسجدان أي لله يخضعان، ويشهدان على أنفسهما أنهما له سبحانه مسخران، وأنهما يدلان على وحدانيته، ويعترفان بربوبيته، ولو أتينا على جميع ما ذكره المفسرون من الأقوال، وما دونوه في كتبهم مما طرأ على هذه الآية من اختلاف الأحوال، لخرجنا عن الموضوع الذي عليه المعول وإليه الرجوع، فلما ختم الدرس، عند غروب الشمس، أقبل علي بطلاقة، بعدما شد نطاقه، وقال لي: لعلك أيها الأديب، في هذه الأوطان غريب، فقلت له: إي وأبيك يا علامة، إني من جبال تهامة. فقال لي: أنت ضيفي ما دمت في هذه البلاد، ولك علي المنة يا سليل قوم أمجاد، فأجبته إلى ما طلب، وكان ذلك في أول رجب، وتوجهت معه إلى دار وسيعة، ذات حديقة نضيرة بديعة، فعطف بي على قاعة مزخرفة بأنواع النقش، مفروش بأحسن فرش، ثم أجلسني على الفور في الصدر، وقال لي: أنت في هذه الدار لك النهي والأمر.
مسكننا هذا لمن حله
نحن سواء فيه والطارق
فمن أتانا فيه فليحتكم
فإنه في حكمه صادق
لا يجد الفاقة من زارنا
فربنا المانع والرازق
وبعد ساعة من الجلوس، حضرت مائدة عليها أطعمة تميل إليها النفوس، وفي أثناء الطعام، كان يحييني بما فوق المرام، ويقول: يا أثيل المجد، ويا أصيل الأب والجد، لقد سرني منك ما أوليتني به من الإجابة، وحققت فيك ما هجس بخاطري من الإصابة، وكيف لا تكون علي لك المنة العظيمة، وقد سعيت معي بذاتك الكريمة، ولم تحتقرني لسوادي، مع عدم وقوفك على حقيقة طارفي وتلادي؟!
فقلت له: يا مولاي ومالك رقي، ومن أنا عبده ولا أبتغي منه عتقي، أنت صاحب المنة والفضل، ولا ريب في أنك كريم الأصل، وإني على يقين أنك إن لم تكن من أبناء الأمراء، والصدور الفخام والوزراء، فأنت المقصود بين الناس، بقول عبد بني الحسحاس:
إن كنت عبدا فنفسي حرة كرما
أو أسود اللون إني أبيض الخلق
وايم الله إنك لجدير، بما نقل عن الخليفة المأمون الخطير، مخاطبا لإبراهيم بن المهدي عقب ضبطه في حال الخروج عليه، وتأمينه حين شق العصا ودعا بالخلافة إليه، وكان قد عفا عنه وقبل أعذاره منه، وشرع في مداعبته، بقوله له أنت الخليفة الأسود، وأمير المؤمنين الهمام الأمجد، لكنه لما تفطن أنه خامر قلبه من هذه المداعبة الفزع، واستولى عليه الرعب والجزع، قال في الحال تسكينا، لما نزل به وتأمينا:
ليس يزري السواد بالرجل الشه
م ولا بالفتى الأديب الأريب
إن يكن للسواد فيك نصيب
فبياض الأخلاق منك نصيبي
هنالك قام الشيخ واقفا، وقال بعد ثنائي عليه واصفا: أنت والله يا بديع الشمائل، على الحقيقة معدن الفضائل، وأنت علم الأعلام، وسيد علماء الإسلام، وبحر المعارف المتلاطمة بالذكاء أمواجه، وبر العوارف التي بهرت بالسخاء أفراده وأزواجه، وطود العلوم الراسخ، وفضاؤها الذي لا تحصى له فراسخ، وجواد الفهوم الذي لا يتأتى لحاقه، وبدر سمائها الذي لا يدركه محاقه، وأنت الرحلة التي تضرب إليها أكباد الإبل، والقبلة التي يصلي إليها كل مؤمن وعندها إلى الله يبتهل، وأنت علامة البشر، ومجدد الدين على رأس القرن الثاني عشر، ولعلك أنت الذي انتهت إليك في الدنيا رياسة المذهب والملة، وبك قامت قواطع البراهين والأدلة، وجمعت بين الفنون فانعقد عليك الإجماع، وتفردت بصنوف الفضل فسحرت النواظر والأسماع، فما من فن إلا ولك فيه القدح المعلى، والمورد العذب المحلى، إن قلت لم تدع قولا لقائل، أو طلت لم يأت غيرك بطائل، وما مثلك مع من تقدمك من الأفاضل والأعيان، إلا كالأمة المحمدية المتأخرة عن الملل والأديان؛ فإنها وإن جاءت آخرا، إلا أنها فاقت مفاخرا، فقلت له: يا من ليس لك في عصرك شريك، وصفتني بجميع ما هو فيك، لا سيما وأنك ما حققت لي معرفة، ولا وقفت لي على كنه صفة، ولا سبرتني في معارف، ولا اختبرتني في تليد من العلوم ولا طارف، فقال لي وهو باسم الثغر، ضاحك منشرح الصدر: إني بمجرد نطقك أخذتك بالفراسة، وثبت عندي أنك أهل للرياسة، وإني على ثقة من تقدمك على بني العصر، في النظم الفائق ورائق النثر.
فقلت: إن أردت أن تسمع مني ما حفظته من نظم السيد عبد الله الوزير، الذي لم يكن له في زمانه من أخدانه نظير، فهاك ما نقلته من خطه بنفسي، في مراجعة للقاضي علي بن محمد العنسي:
حتام تعذل في الهوى وتلوم
وإلام تطلب سلوتي وتروم
أنظن أسلو من حديث غرامه
يتلى على العشاق وهو قديم
وأنا الذي في الحب يعقوب بما
لاقيت قاسي الحزن وهو كظيم
وبمهجتي من قده غصن غدا
قلبي يصفق حوله ويحوم
قد دب عقرب صدغه حتى التوى
من فوق ذاك الخد وهو سليم
ولهان يلعب بالعقول وإن مشى
لعبت بغصن القد منه نسيم
ويلاه من قد به عدل وفي
شرع الهوى هو جائر وظلوم
ما جنة الفردوس إلا وجهه
للعين فيه نضرة ونعيم
ملك لساحر طرفه خدم ولا
عجب فذاك الساحر المخدوم
أسفى على باهي المحيا همت في
أوصافه واعتادني التوهيم
ولنا علي الذات أعظم حجة
خط العذار لأنه مرسوم
ما لي وبختي كلما انتظم اللقا
عرض العذول يميله ويلوم
أفنيت دهري أرصد الأفلاك في الل
قيا وهل تدري هواي نجوم
والبخت إن يصدق ظفرت بوصل من
أهوى ويكذب عنده التنجيم
ولربما فلك القضاء يدور بال
إسعاد لي بالوصل ثم يدوم
ويدور لي من كف من أحببته
كاس بمسك رضا به مختوم
فقال لي: لله درك من حافظ للسحر الحلال، وملاحظ لبديع الدرر واللآلي الغوال، فهل تحفظ أبياتا غير هذه في الغزل، يضرب بها في بابها المثل؟ فقلت له: يا مولاي، إني وإن كنت لست من فرسان هذا الميدان، ولا من رجال المعاني والبيان، إلا أني أتطفل على موائد هؤلاء الفضلاء الفحول، وإن كان تشبهي بهم ضربا من الفضول، وأنشدك من درر ابن نباتة المصري، ما بعقود الجمان يزري:
لا ورشف اللمى ولثم الخدود
ما عذولي عليك غير حسود
هائم في هواك مثلي ولكن
دفع الوهم عنه بالتفنيد
يا مليحا طرفي به في رياض
وفؤادي في النار ذات الوقود
لا تسل عن مسيل دمعي بخدي
قتل الدمع صاحب الأخدود
حبذا في حلاك لام عذار
وهي للحب آلة التوكيد
كل يوم تروع قلبا خليعا
يا بديع الحلى بحسن جديد
فقال لي: أنت في زمانك أروى من حماد، ودونك في البلاغة عبد الرحيم الفاضل وابن العماد، وأنت المشار إليه بالبنان، بين أبناء هذا الزمان.
فقلت له بأبي وأمي أفديك يا همام
إذ أنت في عصرك نعم الإمام
وأنت أحق وأولى بما يقوله فيك، أوحد النبلاء من واصفيك:
يا سراج التقى وبدر المعالي
دم منيرا وهاديا للعباد
فقال لي: أيها الأديب النبيه، والأريب الكامل الوجيه، أنت أولى بالمدح والثنا، والكرامة والغنى.
فقلت له: يا سيدي، إني مقصر عن القيام بما يجب من الشكر الجزيل، بين البرية لمقامك السامي الجليل، وإني لأرجو أن تأذن لي بالرحيل، إلى حج بيت الله وزيارة الخليل، والسعي إلى ضريح أفضل الأنام، والفوز من لثم أعتابه الرفيعة بالمرام.
فقال لي: لولا أنها فريضة لما كنت أجيبك إلى ما تروم، ولا تركت الفراق يرمي من شهبه برجوم، لكن انتظر هلال شعبان، حتى تخرج مع قافلة العربان، المتأهبة للسفر إلى أم القرى، والوقوف بعرفة والتبرك بأبي قبيس وحرى.
فلما انسلخ رجب، وخرجت قافلة العرب، جهزني معها بكل ما أحتاج إليه، وضمني للوداع إلى صدره والدموع تتحدر من عينيه، وقال لي: ناشدتك الله يا ابن الكرام، إلا ما جعلت الزيارة متواصلة في كل عام. فقلت له: يا عالي الذرى، ويا أعلم الورى، أنا ما أدع فرصة، لدفع هذه الغصة، ثم أخذ في السير، في الحال مع العير، وهو يقول مسليا لنفسه على ما أصابه من ألم النوى في يومه، بعد ذهاب أمسه:
أيا نفس لا تجزعي واصبري
وإلا فإن النوى متلف
حبيب جفاك وقلب عصاك
ولاح لحاك ولا ينصف
شجون منعن الجفون الكرى
وعوضتها أدمعا تنزف
ولما قطعنا المراحل العديدة بالتسيار، واشتد بي من معاناة الفراق الإضرار، وانحدر علينا عند ما دهمنا الليل، مطر من السماء كأنه السيل، ومكث خمس ساعات، يبعث إلينا منه بآفات، ثم انجلت الغياهب، وظهرت الكواكب، قلت متمثلا بهذه الأوزان، التي رويتها في زمن الشبيبة عن بعض الإخوان:
ما بال أنجم هذا الليل حائرة
أضلت القصد أم ليست على فلك
عادت سواريه وقفا لا حراك بها
كأنها جثت صرعي بمعترك
ما تنقضي ساعة منه فتطمعني
به ولا هو في وجه بمنسلك
هل من بشير بنور الصبح ينقذني
بشراه من طول وجد غير متركي
فقد أجد التواء الليل لي شجنا
وأضجعتني تباريحي على الحسك
وعند مطلع الفجر، خرج على القافلة في عاشر الشهر، حزب من قطاع الطريق؛ كأنه نار الحريق، وكنت قد تعلقت من عهد نشأتي بملاقاة الأبطال، وركوب الأخطار ومكابدة الأهوال، فامتشقت في يدي الحسام، وتأهبت في الحال للصدام، وقلت جريا على عادة فرسان الحجاز، لما انفصلت عن الصف للبراز:
أنا الأسد الضرغام في حومة الوغى
إذا ثار نقع في مهول الملاحم
وإني مبيد للأعادي جميعهم
بأسمر عسال وأبيض صارم
تفر كماة الجيش مني متى رأت
خيالي في يوم اللقا والتصادم
ولما فرغت من شعري دنوت من القوم، وأقبلت عليهم بالتقريع واللوم، وقلت لهم: يا أبناء اللئام، أتقطعون الطريق على حجاج بيت الله الحرام! فلما سمعوا مني هذا الملام، الذي هو أمضى من السهام، اندفع علي منهم فارس لا يقاومه رئبال، وقال لي: ويلك يا أخس الأنذال، كيف تجاريت على تقريعنا بهذا المقال، مع علمك بأن قطاع الطريق لا يميزون بين الحرام والحلال. فلا وأبيك ما أجبته إلا بنبلة في نحره، ساقته عاجلا إلى قبره، وعطفت بعده على أصحابه الأشرار، في جماعة من فرسان القافلة الأخيار، فقتلنا منهم اثني عشر، في أقل من لمح البصر، وهزم الله باقي الأشقياء، بسيوف هؤلاء الأتقياء، وقرأنا سورتي الفتح والأحزاب، وجمعنا بعد الاستراحة الأسلاب، وركبنا متن الطريق، فوافينا مكة المشرفة بلا تعويق، وأدينا الفريضة في وقتها وبلغنا الآمال، ثم انصرف كل منا إلى منزله واجتمع بالأهل والعيال، واستمرت بيني وبين الشيخ المراسلة، التي تقوم - كما يقال - مقام المواصلة، مدة من السنين والشهور والأيام، لا تنقص عن سبعة أشهر وعشرة أعوام، وكانت آخر مراسلة وصلت منه إلي في رمضان، أنه خارج للحج والزيارة في شوال مع خمسة عشر من الطلبة وثلاث من النسوان، فلما وقفت على هذه المكاتبة، واطلعت على هذه المخاطبة، اتحدت مع عشرين من رجال الحرب، وكانوا من الأبطال المعروفين بالطعن والضرب، وخرجنا في العشرة الأخيرة من شهر الصيام؛ لعلنا نحظى بمقابلته في البيداء ونحييه بالسلام، فلما توسطنا المفازة، بعد ما أخذنا من الشريف الإجازة، وقطعنا من المراحل بالتوان، خمسا كوامل في أمان، انقض علينا من جانبي الجبل، مائة فارس من ورائهم مائة ناقة وجمل، وحملوا علينا كالأسود، وصاحوا علينا بأصوات كالرعود، فلم نجد بدا من القتال، وصدمناهم صدمة الوبال، وكان معنا فارس جسيم كامل العدة تحته جواد من العيوب سليم، فكر عليهم معنا كرة الهاصر، وسطا عليهم بحسامه الباتر، وأظهر لهم ما عنده من الشدة، وقتل منهم أربعة عشر وحده.
ودارت عليهم في آخر النهار، دوائر الفناء والبوار، ولما انجلت الغمة، بما بذله فارسنا من الهمة، وانهزم الأعداء في منتصف شوال، وتخلوا عن الجمال والأثقال، أبصرت بين الأسارى شيخنا الإمام، وهو مشرف من الوثاق على الحمام، فوقعت على قدميه، وقبلت رأسه ويديه، وقلت له: نفسي لك الفدا، من حوادث الردى، ما الذي أوقعك في قبضة هؤلاء الأوغاد، وصفدك من غير رأفة بهذه الأصفاد، فلما سمع صوتي خف عنه ما كان يجد من الألم، واستوى قاعدا وزال عنه السقم، وقال أخبرني أنت يا أخي بالتفصيل، كيف كان خلاصنا من هذا التنكيل؟ فقلت له: يا أيها الصديق، ومن هو لي نعم الرفيق، إن خلاصكم كان على يد هؤلاء الأبطال، الذين أغرقوا أعاديكم في بحار الأهوال، وكان السبب في لقائكم بهذا المكان، أنني دعوت هؤلاء الشجعان، إلى السعي معي خدمة لجنابك، وتبركا بلثم ركابك، فقال لي: جزيت عني خيرا، ولا لقيت ما بقيت ضيرا، لقد فرجت عني الكربة، وأطلقتني من قيود النكبة، فإني لما كتبت إليك، أني قادم عليك، تأهبت لأداء الفريضة على عجل، وحملت عيالي على أربع نياق وجمل، وقلت في نفسي: لعلي أظفر بمقابلتك في الكعبة، وأتناول معك من ماء زمزم شربة، ولما خرجنا من البلد، لم يكن معنا من أهله أحد، بيد أنه تبعنا على الأثر، من الطلبة الخمسة عشر، وفي خلال سيرنا على مهل، انحط علينا هؤلاء الفجار من الجبل، فقتلوا من فرغ منه الأجل، واستحسنوا قبيح العمل، وكانوا مصرين على قتلي مع الجماعة؛ لخوفهم في البيداء من الظمأ والمجاعة، فأوقعهم الله فيما أضمروه، وحملتم إليهم من الموت كأسا فتجرعوه، ثم نزلنا للراحة بذلك المكان القفر، من ضحوة النهار إلى وقت العصر، ثم رحلنا بعد ما أدينا الصلاة، ونال كل من الزاد مناه، وبعد عشر ليال كاملة، وصلنا بالأمان في هيئة قافلة، إلى الحرم المكي المعظم، وكان ذلك في آخر ذي القعدة المكرم، فتوجهت مع الشيخ والأقارب، إلى داري المجاورة لدار الشريف غالب، وأقمنا بها بين الأهل والولد، في عيش رغد، وقد نسي كل منا ما كان يترنم به في السفر، وهو من بديع درر عفيف الدين التلمساني الأغر:
أحن إلى المنازل والربوع
وأنتم بين أحشاء الضلوع
وأضمر كتم أشواقي ووجدي
فتظهرها لجلاسي دموعي
ومن كلفي أعلل بالتمني
وأطمع في الخيال بلا هجوع
وأعترض النسيم أسى وشوقا
وأسأل وامض البرق اللموع
أيا عرب الحجاز كذا أضعتم
نزيلا في رحابكم الرفيع
فلما انقضت تلك الأيام القصار، ودخلت أوقات الحج والاعتمار، انتظمنا في سلك قصاد عرفة، في أحسن هيئة وأكمل صفة، ثم تحولنا من مكة إلى المدينة؛ لزيارة صاحب الوقار والسكينة، ووقف الشيخ على المقصورة النبوية، وقال متمثلا بقول أبي شباك أجل السادة الرفاعية المرضية:
في حالة البعد روحي كنت أرسلها
تقبل الأرض عني فهي نائبتي
وهذه دولة الأشباح قد حضرت
فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
وبعد الفوز بلثم الأعتاب، وأداء الواجبات في الروضة والمحراب، عدنا إلى أم القرى في سرور، ولذة سرمدية وحبور، والناس يقولون لنا في التحية، بألفاظ عذبة بهية: سعي مشكور، وحج مبرور، وزيارة بالقبول محفوفة، ومواقف في طاعة الله معروفة.
وعزم الشيخ على انتجاع بلاده؛ لاشتياقه إلى تلامذته وأولاده، فالتمست منه الإقامة معي إلى آخر المحرم، فأجاب وتفضل علي بذلك وتكرم، وكنت وقفت على نسبته، وعرفت حقيقة حليته، وثبت عندي أنه من نسل إبراهيم بن المهدي بن المنصور، وأنه اكتسب سواده من أمه التي كانت في لونها كالديجور، فقلت متمثلا بين يديه، بما يحسن إنشاده لديه:
لقد طبت فرعا حيث طبت أرومة
نعم طيب حيث الأصول أطايب
فللورد ماء الورد فرع يزينه
ولليث شبل الليث مثل يقارب
عشقت العلا طفلا ولم يك عاشقا
سواك وشبه الشيء للشيء جاذب
فأنت لها ابن وأنت لها أب
وأنت لها صنو وأنت أقارب
كذاك عشقت العلم والجود والتقى
وللناس فيما يعشقون مذاهب
ومذ استعد للذهاب، حث إلى وطنه الركاب، فقطعت معه أربع مراحل، للوداع والدمع من مقلتي هاطل، وأرسلت في صحبته من رجالي للحرس، أحد عشر بطلا كل واحد منهم على فرس، وقلت له: يا صاحب الدرجة الرفيعة، إني عاجز عن القيام بشكر ما بدأتني به من الصنيعة، فقال لي بعد بسط يديه بالدعاء إلى رب السماء والأرض، أن يمد في عمرك إلى يوم العرض: تالله ما أنت في كل شيء إلا فريد الزمان، ووحيد العصر والأوان، ولا غرابة فيما أقول؛ حيث اتضح لي أنك من نسل بضعة الرسول، ولا شك أنكم أهل بيت استعار الورى منكم جميع الخلال الحميدة، والخصال الجمة الفريدة، التي لا يبلغ شأوكم فيها عظيم، ولا يجاريكم فيها على طول المدى كريم.
المقالة الثانية عشرة
في التخلص من الخطب، بالعقل والصارم العضب
قال لي أبو الحزم: انفرد أمير الجيوش أبو العزم، عن رجاله والجنود، عقب بروق ورعود؛ لانتهاز الفرص في الصيد والقنص، فلاحت له على بعد نعامة، كأنها لجسامتها وارتفاعها دعامة، فاقتفى أثرها بلاحق، لا يفوته في مجاله سابق، وجد في طلبها؛ ليسوقها إلى عطبها، وعندما دنا منها وهم بالقبض عليها، سبقه ليث هاصر إليها، وضربها بأظافر، كأنها الخناجر، فقدها نصفين، وشطرها شطرين، فلما رأى ذلك أمير الجيوش، صاحب الوجه البشوش، عبس وبسر، وزاغ منه البصر، وجال على أبي الأشبال جولة الأبطال، وهو يترنم بقصيد، للطائي أبي زبيد:
أفاطم لو شهدت ببطن خبت
وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا
إذن لرأيت ليثا رام ليثا
هزبرا أغلبا يغشى هزبرا
تبهنس إذ تقاعس عنه مهري
محاذرة فقلت عقرت مهرا
أنل قدمي ظهر الأرض إني
وجدت الأرض أثبت منك ظهرا
وقلت له وقد أبدى نصالا
محددة ووجها مكفهرا
تدل بمخلف وبحد ناب
وباللحظات تحسبهن جمرا
وفي يمناي ماضي الحد أبقى
بمضربه قراع الخطب أثرا
ألم يبلغك ما فعلت ظباه
بكاظمة غداة لقيت عمرا
وقلبي مثل قلبك لست أخشى
مصاولة ولست أخاف ذعرا
وأنت تروم للأشبال قوتا
ومطلبي لبنت العم مهرا
ففيم تروم مثلي أن يولي
ويترك في يديك النفس قسرا
نصحتك فالتمس يا ليث غيري
طعاما إن لحمي كان مرا
فلما ظن أن الغش نصحي
فخالفني كأني قلت هجرا
مشى ومشيت من أسدين راما
مراما كان إذ طلباه وعرا
يكفف غيلة إحدى يديه
ويبسط للوثوب علي أخرى
هزرت له الحسام فخلت أني
شققت به لدى الظلماء فجرا
وجدت له بطائشة رآها
لمن كذبته ما منته قدرا
بضربة فيصل تركته شفعا
وكان كأنه الجلمود وترا
فخر مضرجا بدم كأني
هدمت به بناء مشمخرا
وقلت له يعز علي أني
قتلت مناسبي جلدا وقهرا
ولكن رمت شيئا لم يرمه
سواك فلم أطق يا ليث صبرا
تحاول أن تعلمني فرارا
لعمر أبي لقد حاولت نكرا
فلا تبعد فقد لاقيت حرا
يحاذر أن يعاب فمت حرا
ولما عاين أسد العرين، استعداد هذا القرين، حمل عليه وكشر ، وصاح وزمجر، فأجابه بصوت يصدع الصخور، ويقلع الرصين من القصور، وضربه بالسيف في جبهته، فشقه إلى صرته، وأنشد بعد انجلاء الغبار، وهو على مصرعه في القفار:
لقد علمت ليوث الغاب أني
أهدد كل جبار شجاع
وأمنع جانبي وأذب عنه
وأروي بالدما كل البقاع
وأني في اللقاء لهيب نار
وأن الأسد تحرق من شعاعي
وسيفي صارم عضب صقيل
يداوي الرأس من ألم الصداع
وبعد انتقامه من هذا الغريم، وانتظامه في سمط الدارس الرميم، التفت ذات اليمين، وليس معه ناصر ولا معين، فرأى غابة ملتفة الأشجار، تجري بالقرب منها أنهار، فانتجعها على جواده الأدهم، وهو صامت لا يتكلم، وبمجرد دنوه منها خرج عليه من فجوة، أربعة أشبال ولبوة، وهجمت دفعة واحدة عليه، وتوجهت بأنيابها إليه، فترك صهوة جواده بلا مهل، واخترط حسامه من غمده على عجل، وانحط على اللبؤة القاتلة، فضربها ضربة هائلة، أطاح رأسها عن البدن، وأخلى منها الربوع والدمن، وسطا على أحد الأشبال واقتلعه من الأرض، ورمى به آخر فاختلط طولهما في العرض، وأطاح بسيفه القاطع، رأسي الثالث والرابع، ثم جرى على قدميه حتى أدرك ابن النعامة، وتناول بيده اليسرى زمامه، وقصد الأجم وهو يترنم بأوزان، مأثورة عن أبي الطمحان:
وإني من القوم الذين همو همو
إذا غاب منهم سيد ناب صاحبه
نجوم سماء كلما غاب كوكب
بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم
دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
فلما انتهى إليها، وأشرف عليها، دخلها والجواد من خلفه؛ لأنه كان بمنزلة أنيسه وإلفه، ثم خلع عنه سرجه واللجام، وبلغه من الماء والمرعى المرام، وأوى إلى شجرة وارفة الظلال، واضطجع تحتها من التعب على الرمال، وكان الليل قد أقبل بسواده الحالك، وعاق جيوشه عن استكشاف ما سلكه من المسالك، فرجعوا بالخيبة إلى الخيام، وأبوا أن يمتعوا أجفانهم بما يتمتع به النيام، وقال نائبه، كأنه يخاطبه، متمثلا بقول مسلم بن الوليد، في ممدوحه الأمير يزيد:
ينال بالرفق ما تعيا الرجال به
كالموت مستعجلا يأتي على مهل
يكسو السيوف دماء الناكثين به
ويجعل الهام تيجان القنا الذبل
حذار من أسد ضرغامة بطل
لا يولغ السيف إلا مهجة البطل
موف على مهج في يوم ذي رهج
كأنه أجل يسعى إلى أمل
قد عود الطير عادات وثقن بها
فهن يتبعنه في كل مرتحل
تراه في الأمن في درع مضاعفة
لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل
فالدهر تغبط أولاه أواخره
إذ لم يكن كان في أعصاره الأول
فعد سليما فما في الملك من وهن
إذا سلمت وما في الدين من خلل
ما كان جمع العدا لما لقيتهم
إلا كرجل جراد ريع منجفل
هذا ما كان من أمر الجيوش والنائب، وأما أميرهم القسورة أبو العزم الغائب، فإنه لما غرق في بحار الكرى، بعد الظفر بأسد الشرى، انقض عليه خمسة من اللصوص، وأحاطوا به على الخصوص، وأوثقوه بالكتاف، وكادوا يطرحونه في مهاوي التلاف، وكان قد استشعر بهذا الأمر المنكر وهم بالوثبة عليهم بالسلاح، فلم يجد له سبيلا إلى الكفاح؛ لأنهم مالوا عليه قبل أن يثور من رقدته، واستحوذوا على لأمته وعدته، وقال له كبيرهم: أيها الرجل المغرور، ما ساقك إلى هذا المكان غير المعمور، إلا أمر يفضي بنفسك، إلى هلاكك وحلولك برمسك، فقلت له وقد أظهرت البشاشة بعد العبوس: كيف تقتلون من زالت عنه بسعودكم النحوس؟! على أني أعلم أنكم لو وقفتم على حقيقتي، وعرفتم ما أنا عليه لسلكتم طريقتي، ولاتخذتموني لكم من الأصحاب، ولآثرتموني بالود على جميع الأحباب، فقالوا له: وما هي حقيقتك يا نظيف الثياب؟ وما هي طريقتك التي اتباعها عين الصواب؟ فقال: أما حقيقتي فإني لص محتال، صاحب إقدام على الأهوال، وأما طريقتي فهي اختلاس الأرواح والأموال، ونهب أثاث القصور في غالب الأحوال، وعندي سر لو عرفتموه لانتفعتم به في كل ملمة، ولنجوتم به من الغوائل في كل ليلة مدلهمة؛ فقالوا له: وما هذا السر أيها الساحر؟ وهل تعلمته من الأوائل أو من الأواخر؟
فقال لهم: إنه لا يسوغ لإنسان، أن يتفوه به وهو في حالة الذل والامتهان، فإن أردتم الفوز بمعرفته، والوقوف على كنه صفته، فأطلقوا مني السراح، وردوا علي الجواد والسلاح، ثم اسمعوا مني، ما تتلونه في الشدة عني، وكانوا من غير الأشراف، الذين هم سكان الأطراف، وكانوا لا يميزون بين الحق والباطل، ولا يفرقون بين الصحيح والعاطل، ولا يتوهمون أن أحدا من الرجال، يخدع عند الضرورة بزخارف المحال، فصدقوني فيما أتيتهم به من الاختلاق، ومنوا علي بالإطلاق من الوثاق، وتقدم أحدهم إلي وناولني سيفي الصقيل، وقرب مني الجواد الأدهم الأصيل، فركبته وخرجت من الغابة، بوقار وسكينة ومهابة، وتبعوني طمعا في معرفة السر، الذي هو على حسب وهمهم ضرب من السحر، وهنالك امتشقت الحسام، وقلت لهم: ارجعوا من حيث أتيتم يا بني اللئام، فهذه حيلة ابتدعتها، وخديعة اخترعتها؛ لأتخلص بها من ورطة الارتباك، وأنجو من حبائل الهلاك، والآن ليس لكم عندي سوى قطع الرقاب، وترك جيفكم لغذاء الوحوش والكلاب، فإن أردتم لأنفسكم السلامة، فاذهبوا قبل أن تحل بكم الندامة، وإلا فابرزوا جملة واحدة، حتى أهدم من أجسامكم الأساس والقاعدة؛ فلما تحققوا مقالي، وعرفوا سؤالي، حملوا علي بالسيوف، وعولوا علي تجريعي كأس الحتوف، فصدمتهم صدمة تهد راسيات الجبال، وقتلت منهم في أقل من لمح البصر ثلاثة رجال، وكان النائب قد نشر البنود، ونادى بالرحيل في الجنود؛ لعله يقص الأثر، أو يقع على خبر، فلما انتصف النهار، نزل للراحة في القفار، وأرسل الجواسيس والعيون؛ ليكشفوا الطرق والمناهل والعيون، فغابوا ساعة من الزمان، ثم عادوا وأنا معهم على ظهر الحصان، متمثلا في الأول بقول السموأل:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
فكل رداء يرتديه جميل
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها
فليس إلى حسن الثناء سبيل
تعيرنا أنا قليل عديدنا
فقلت لها إن الكرام قليل
وما قل من كانت بقاياه مثلنا
شباب تسامى للعلا وكهول
وما ضرنا أنا قليل وجارنا
عزيز وجار الأكثرين ذليل
لنا جبل يحتله من نجيره
منيع يرد الطرف وهو كليل
رسا أصله تحت الثرى وسما به
إلى النجم فرع للوفاء طويل
وإنا أناس لا نرى القتل سبة
إذا ما رأته عامر وسلول
يقرب حب الموت آجالنا لنا
وتكرهه آجالهم فتطول
وما مات منا سيد حتف أنفه
ولا طل منا حيث كان قتيل
تسيل على حد الظبات نفوسنا
وليست على غير الظبات تسيل
ونحن كماء المزن ما في نصابنا
كهام ولا فينا يعد بخيل
وننكر إن شئنا على الناس قولهم
ولا ينكرون القول حين نقول
إذا سيد منا خلا قام سيد
قئول بما قال الكرام فعول
وما خمدت نار لنا دون طارق
ولا ذمنا في النازلين نزيل
وأيامنا مشهورة في عدونا
لها غرر مشهورة وحجول
وأسيافنا في كل شرق ومغرب
بها من قراع الدارعين فلول
معودة أن لا تسل نصالها
فتغمد حتى يستباح قتيل
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهمو
فليس سواء عالم وجهول
فإنا بني الريان قطب لقومهم
تدور رحاهم حولهم وتجول
ولما دنوت من العسكر، ورآني من الجنود كل قسور، هرعوا إلي وسلموا بالاشتياق علي، وسألني النائب المهاب، عن هذا الغياب، فقصصت عليه ما وقع لي من اللصوص والأسود، وكيف استعملت الحيلة في الانفكاك من القيود، فسجد شكرا لله على سلامتي، بعد أن أثنى على صرامتي، وتخلصي من الخطب، بالعقل والصارم العضب.
المقالة الثالثة عشرة
في التخلص من الأخطار وبلوغ الأوطار
ركب أبو الفخار، سفينة بخار، وتوسط اللجة، وعرض للأهوال المهجة؛ حيث شغف بالملاحة، في فصل لا يحمد المسافر رياحه، فلما جرت السفينة، وتوارت عن المدينة، خرجت عليها أهوية مختلفة، من جهات غير مؤتلفة، واندفعت عليها الأمواج، فحرفتها عن الاستقامة إلى الاعوجاج، هنالك انزعج الراكب والملاح، وانعجم اللسان عن الإفصاح، واشتغل الكهل، بنفسه عن الأهل، وهطلت الأمطار، وزمجر الرعد في جميع الأقطار، وتبدل الأمن بالخوف، ويبست الأمعاء في الجوف، واستولى على الرئيس الفرق، لما أيقن بالغرق، وبينما هو يكابد من الحيرة ما لا مزيد عليه، ويتعجب مما آل أمر سفينته إليه، إذ سمع قائلا يقول، وهو من ذوي العقول: ليتهم يطوون الشراع المنشور، ويقطعون الصاري الأخير المكسور، عسى أن يكون وراء هذا الخطب، فرج يزول به الكرب.
وكان الرئيس منه غير بعيد، فانشرح صدره بهذا الرأي السديد، وأشار إلي بالإجراء على عجل، فقوبل بالامتثال على مهل. وكان في ذلك النجاة من العواصف، التي يعجز عن وصفها الواصف؛ لأن السفينة كانت قريبة من ساحل جزيرة، فطرحتها الأمواج عليها في برهة يسيرة، وبمجرد وصولها إلى البر، سكن الريح وركد البحر، ولما غاب الليل بغيهبه، وآب النهار بكوكبه، انتقل أبو الفخار صاحب الحسب والنسب، في حلبة من أخدانه أبناء الأدب، إلى هذه الجزيرة، الواسعة الخصبة النضيرة، وجال فيها حتى انتهى مع الجماعة، إلى مدينة ملك جدير بالإطاعة، يعرف بنور الدين العادل، الموصوف بقول القائل:
جمع الشجاعة والخشوع لربه
ما أحسن المحراب في المحراب
وكان هذا الملك عارفا بالفقه على مذهب أبي حنيفة، عاكفا بكليته على الجهاد ونصرة الخليفة، متولعا بسماع الحديث، معرضا عن كل شين وخبيث، مجتنبا للإجحاف، مقبلا على الإنصاف، منتهيا عن المحرم من المشارب والمآكل، والملابس التي يتبهرج بها الجاهل، واقفا عند أوامر الشرع ونواهيه، آمرا بذلك رعيته وحاشيته وذويه، فلما تمثل القادمون بين يديه، وعرضوا بلا توان عليه، سألهم عن الحال، ومن أين الإقبال؟ فسارع أبو الفخار إلى لثم راحته الشريفة، وترنم في مدحه بأشعار ابن القيسراني المنيفة:
لك الله إن حاربت فالنصر والفتح
وإن شئت صلحا عد من حزمك الصلح
وهل أنت إلا السيف في كل حالة
فطورا له حد وطورا له صفح
سقيت الردينيات حتى رددتها
ترنح من سكر فخل القنا تصحو
وما كان كف العز إلا إشارة
إلى الحزم لو لم يغضب السيف والرمح
وقد علم الأعداء مذ بت جانحا
إلى السلم ما تنوي بذاك وما تنحو
إذا ما ديار ملكتك عنانها
تيقن من في غيرها أنه الذبح
متى التف نقع الجحفلين على الهدى
فلا مهمه يحوي الضلال ولا سفح
إذا سار نور الدين في الجيش غازيا
فقولوا لليل الإفك قد طلع الصبح
تركت قلوب الشرك تشكو جراحها
فلا زالت الشكوى ولا اندمل الجرح
صبرت فكان الصبر خير مغبة
فسيق إليك الملك يسعى به النجح
كأن القنا تجلو له وجه أمره
ولو أمهلت بلقيس ما غرها الصرح
بدولتك الغراء أصبح ضدها
بهيما ولولا الحسن ما عرف القبح
وكم من قريح القلب لو بات واردا
موارد هذا العدل ما مسه قرح
سخا بك هذا الدهر جودا على الورى
على أنه ما زال في طبعه شح
وقد كان يمحو رسم كل فضيلة
ونحن نراه اليوم يثبت ما يمحو
بك ابتهج الألباب وانتهج والحجا
وأثمرت الآداب واطرد المدح
ولاذت بك التقوى وعاذ بك العلا
ودانت لك الدنيا وعز بك السرح
فلا قلب إلا قد تملكته هوى
ولا صدر إلا قد جلاه لك النصح
وما الجود في الأملاك إلا تجارة
فمن فاته حمد الورى فاته الربح
ولم أختصر ما قلت إلا لأنني
أعبر عما لا يقوم به الشرح
ثم قال بعد الإنشاد: إننا يا رفيع العماد، قد خرجنا على الجزيرة من البحر، بعد ما يئسنا من النجاة وعدمنا الصبر؛ حيث هاجت علينا الرياح، من المساء إلى الصباح، وكادت السفينة تغوص إلى القاع، لولا قطع الصاري وطي الشراع، وهذه هي حالنا ولا ندري ماذا يكون ارتحالنا، فأما الإقبال من مدينة مجهولة الاسم، بعيدة عن العمران منهوكة الجسم، كانت في صدر الإسلام، منشورة الأعلام، وبتمادي الأيام، والشهور والأعوام، تغيرت مبانيها البديعة، وتهدمت معابدها وأبراجها المنيعة، وضاقت على العلماء ففارقوها، وفروا فرار الورق من أقفاصها متى أطلقوها، فقال له: ماذا كان المراد من السفر، في فصل الرياح العاصفة والمطر؟ وعلام عولت الآن، مع هؤلاء الأخدان؟ فقال: أما السفر فكان بصدد بيت الله الحرام، وزيارة رسول الله سيد الأنام، ولولا اختلاف الرياح، لفزنا في هذا العام بالنجاح، وأما الذي عولت عليه، وركنت بعد التخلص من المهالك إليه، فهو التفويض للحضرة الملوكية، التي فاض سحاب نوالها على البرية، فيما يستصوب لدى دولته العلية، وتتعلق به إرادته السنية. فقال الملك: أما أيام الحج، فقد تصرمت منها الحبال، ودخلت في حجاب الزوال، وكتب لك الثواب، ونجوت من العذاب، فإن أردت الإقامة، فلك ولأصحابك الكرامة، وإن أبيت إلا الرحيل، إلى وطنك أيها النبيل، بعثنا بك إليه مع أول سفينة، تقوم من هذه المدينة.
فقال: أيها الملك المطاع المبجل، والخاقان الشجاع المفضل، أما أنا فلا براح لي عن خدمة الركاب، وأما أصحابي فإنهم يؤثرون على الإقامة الذهاب، فلما وعى منه ما به أجاب، قربه من سدته وقيده في سجل الحساب، وأرسل من كانوا معه من الإخوان، إلى وطنهم بعدما غمرهم بالإحسان، وكان للملك عدة أولاد، كلهم من الشجعان الأمجاد، فتمثلوا فيهم عند الوداع، بقول الشاعر الحسن الابتداع:
إذا وضعوا تيجانهم فضراغم
وإن نزعوها عنهم فبدور
على أنهم يوم النزال قساور
ولكنهم يوم النوال بحور
وبعد رحيل القوم، بعشرة أيام ونصف يوم، تجهز الملك لقمع الخوارج، وجرد عليهم الجنود والبوارج، وصحبه في غزوته أبو الفخار، وكان في الحرب ثقيل العيار؛ لأنه ربي من عهد نشأته على ظهور الجياد، وعرف بين كماة الفرسان بطويل النجاد، وهذا فضلا عن سبقه في مضمار الأدب، وإحراز ما لا يتأتى لغيره إدراك شأوه فيه من الرتب.
فلما التقى الجمعان، ولمعت الأسنة في الطعان، انحط على الغريم كالسيل، وطرح الأبطال من فوق متون الخيل، وفتك هذا الباسل الغريب، بكل فارس نجيب، وشوش الصفوف، وقطع الكفوف، وجدع الأنوف، وأطاح القحوف، وفي أثناء ما كان يصول، وعلى الأعداء يجول، وقع بزعيم الخوارج الغادر، فصاح به صيحة الأسد الخادر، وصدمه صدمة هائلة، وطعنه في صدره طعنة واصلة، فلم تمنعها دروعه التي بها اعتصم، بل أودت به إلى العدم، ثم جال على مصرعه وقال: هلموا إلى الحرب يا عصبة الضلال، فانقض عليه من العصاة ألوف، وعطفوا عليه من كل مكان بالسيوف، وقبل أن تصل إليه نجدة، وتكشف عنه غمة الشدة، عقروا جواده، وملكوا قياده، وكان الملك فوق ربوة مشرفة على المعمعة، فلما شاهد بعينه في نزيله ما روعه، عيل منه الصبر، وسارع في الحال إلى النصر، وأمر الجيش بالحملة، وكان أول حامل في الجملة، وأدرك هذا الفارس الأوحد، وهو بالقيود والأغلال مصفد، فخلصه من الأخطار، وبلغه الأوطار، ولم يعهد عنه أنه فارق مخدومه في سفر، ولا فتر عن ملازمته في حضر، وقد أثرى وازداد يساره، وصفا عيشه وارتفع مناره، واستنهض إليه عائلته من بلده، وفرت عينه بأهله وولده، وفي هذا أدل دليل على شجاعته، وبسالته وبراعته، وأما سبقه في الآداب، وامتيازه على كثير من ذوي الألباب، فهو أمر شهد به كل يعروف بالفضائل في عصره موصوف، ومن ضمن ما نقل عنه من كتاب لبعض قرابته الأنجاب:
سيدي ما لي أراك عني في إعراض؟! وما لك عني غير راض؟! وما الباعث لك على الضن بالمراسلة، التي قامت الأدلة على أنها نصف المواصلة؟! أظننت أن الثروة غيرت أخلاقي، وأخمدت مني لأحبابي نيران أشواقي؟! هيهات هيهات! أن أتزحزح في المودة عن الثبات، أو أغفل عن التمثل بقول حاتم، الذي ضربت به الأمثال في السخاء والمكارم:
شربنا بكأس الفقر يوما وبالغنى
وما منهما إلا سقانا به الدهر
فما زادنا بغيا على ذي قرابة
غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر
معاذ الله أنسى الرفاق، وأتحول إلى الخلاف عن الوفاق، فكن جاريا على العادة في كتب الوداد، وانشر بطريفها مطوي التلاد، متعني المولى بلقاك، ومن كل سوء وقاك، ولا زال أبو الفخار الشهير، مقربا من سدة مخدومه الخطير، حتى لقي ربه الكريم، وفاز برحمة الرحمن الرحيم، ونظم في سلك ذوي السيادة، وختم له بالسعادة.
صفحه نامشخص