ولو تجاهلنا الفترة الراهنة المواتية والمشجعة، ثم تحقق الاستقلال بعد ذلك بأي سبيل آخر، فعلينا أن نتحمل العواقب ونتهم أنفسنا، أو بالأحرى نتهم أصحاب النفوس الحقيرة والمتحيزة الذين دأبوا على معارضة هذا السبيل دون تفكر أو تدبر. هناك أسباب يمكن أن نسوقها لتأييد الاستقلال، وهي أسباب ينبغي على الرجال أن يفكروا فيها بينهم وبين أنفسهم لا أن تقال لهم على الملأ. فلا ينبغي أن نكون منشغلين الآن بالجدل حول نيل الاستقلال من عدمه، وإنما متلهفين لنيله على أساس راسخ وآمن ونبيل، وقلقين ومهمومين لأننا لم نبدأ بعد في العمل على ذلك. إن كل يوم يمضي يزيدنا قناعة بضرورته. وحتى أنصار الملك (إن كان بيننا حتى الآن أمثال هؤلاء) عليهم - من بين جميع الناس - أن يكونوا الأكثر إلحاحا في الترويج له؛ فلو أن التعيين في اللجان هو ما وقاهم الغضب الشعبي في البداية، فإن شكلا متعقلا جيد التنظيم للحكومة سيكون هو الوسيلة الوحيدة المؤكدة لكي يظلوا في أمان. لذا فإن كانوا لا يتمتعون بما يكفي من الفضيلة ليكونوا «أحرارا»، فعليهم أن يتسموا بما يكفي من الحصافة ليتمنوا الاستقلال.
باختصار، الاستقلال هو «الرباط» الوحيد الذي يمكن أن يجمع بيننا ويحافظ على وحدتنا. وبعدها سوف نرى هدفنا، وسوف نصم آذاننا بصورة مشروعة عن سماع مشاريع عدو غادر ومتوحش. وعندئذ أيضا سوف نكون في وضع ملائم للتعامل مع بريطانيا؛ لأن هناك أسبابا تدعونا للاعتقاد أن كبرياء ذلك البلاط الملكي سيكون أقل تضررا عند التعامل مع الولايات الأمريكية من أجل وضع بنود سلام عنه عند التعامل مع من يعتبرهم «رعايا متمردين» لوضع بنود تسوية. إن تأجيلنا للأمر هو ما يشجع بريطانيا على أن تأمل في الغزو، وتراجعنا لا يؤدي إلا إلى إطالة أمد الحرب. وكما أوقفنا تجارتنا للحصول على تعويض عن خسائرنا وما لحق بنا من أضرار - دون أن نحقق من وراء ذلك أي نتيجة تذكر - فلنجرب الآن الحل البديل، بتعويض تلك الخسائر والأضرار بأنفسنا بصورة مستقلة، ثم نعرض فتح باب التجارة من جديد. سيظل الجانب التجاري والعقلاني من إنجلترا مؤيدا لنا؛ لأن السلام مع التجارة أفضل من الحرب دون تجارة. وإذا لم يحظ هذا العرض بالقبول، فيمكن التقدم به إلى ممالك أخرى.
على هذه الأسس أرسي القضية. ولما لم يتقدم أحد بعد بعرض يفند به المبدأ الذي احتوته الطبعات السابقة من هذا الكتيب، فهذا دليل على أن المبدأ غير قابل للتفنيد، أو أن الحزب المؤيد له أكثر عددا وغلبة من أن يمكن معارضته. لذا، بدلا من أن يحدق بعضنا في بعض بشك أو فضول مرتاب؛ فليمدد كل منا يد الصداقة إلى جاره بود وإخلاص، ولنتحد معا لنرسم خطا يكون أشبه بعفو ندفن به كل إساءة سابقة وننساها. دعونا نمح من بيننا مسميات مثل «حر» و«ملكي»؛ ودعونا لا نسمح بأن نسمع سوى كلمات من قبيل «مواطن صالح»، و«صديق مخلص موطد العزم »، و«مؤيد فاضل لحقوق الإنسانية وللولايات الأمريكية الحرة والمستقلة».
وإلى ممثلي الجمعية الدينية الأهلية المسماة «كويكرز» (جمعية الأصدقاء)، أو إلى كثيرين منهم اهتموا بإذاعة المنشور الأخير الذي حمل عنوان: «خطاب موجه لعموم الشعب حول تجديد الحجة الأزلية ومبادئ طائفة الكويكرز، فيما يتعلق ب«الملك» و«الحكومة»، وبشأن «الفتن» المنتشرة الآن في تلك المنطقة وغيرها من مناطق أمريكا»، أقول:
إن كاتب هذه السطور هو واحد من قلة لا تتعرض للدين بسوء قط، سواء بالسخرية أو الاعتراض تحت أي مسمى. والناس كافة سيحاسبون على ما يدينون به أمام الله، وليس أمام بشر. لذا فإن هذه الرسالة ليست موجهة لكم بوصفكم جماعة دينية، وإنما بوصفكم هيئة سياسية تقحم نفسها في شئون تأمركم تعاليم الصمت المعلنة ضمن مبادئكم بعدم التدخل فيها. ولما كنتم قد وضعتم أنفسكم - دون سلطة ملائمة تخولكم ذلك - في موضع الممثل لسائر جماعة الكويكرز، فإن كاتب هذه السطور - لكي يتخذ منزلة مكافئة لمنزلتكم - يجد نفسه مرغما على أن يعتبر نفسه ممثلا لجميع من يصادقون على الكتابات والمبادئ التي استخدمتم حجتكم لتفنيدها: وقد اختار الكاتب هذا الوضع الاستثنائي الشاذ لعلكم تكتشفون من خلاله معنى انتحال الشخصيات الذي لا تستطيعون رؤيته في أنفسكم؛ فلا أنتم ولا كاتب هذه الكلمات يملك حق ادعاء «التمثيل السياسي» أو لقبا يخوله ذلك.
عندما يحيد الناس عن الصراط القويم لا عجب في أن يتعثروا ويسقطوا. ويتجلى بوضوح في الأسلوب الذي تعاملتم به مع حجتكم أن السياسة ليست السبيل الأمثل لكم؛ فمع أنها قد تبدو لكم منقحة بإتقان فإنها ليست أكثر من مزيج من الصالح والطالح وضعا معا على نحو يفتقر إلى الحكمة، والاستنتاج الذي خلصتم إليه منها هو استنتاج متكلف وجائر في آن واحد.
إننا نسلم لكم بما جاء في أول صفحتين من حجتكم (التي تقع إجمالا في أقل من أربع صفحات) ونتوقع منكم أدب المعاملة بالمثل، لأن حب السلام والرغبة فيه ليسا حكرا على أتباع الكويكرية، فتلك هي الأمنية الفطرية والدينية لجميع طوائف البشر. وعلى هذا الأساس فباعتبارنا أناسا يكدون لوضع دستور مستقل خاص بنا، فإننا نفوق سائر الباقين من البشر في أملنا وغايتنا ومرادنا. «إن خطتنا ترمي إلى تحقيق سلام يدوم إلى الأبد». لقد سئمنا النزاع مع بريطانيا، ولا نرى نهاية حقيقية لهذا النزاع سوى في انفصال نهائي عنها. إننا نتصرف باستقامة ونزاهة، لأننا في سبيل تحقيق سلام دائم مستمر نتحمل نوائب وأعباء الوقت الحاضر. إننا نسعى وسنظل نسعى بثبات نحو الانفصال وفك عرى علاقة ملأت أرضنا بالدماء بالفعل؛ وهي علاقة، إن بقي منها ولو اسمها، سوف تصبح السبب وراء وقوع أضرار مستقبلية فادحة لكلا البلدين.
إننا لا نقاتل من أجل انتقام أو فتح؛ ولا بدافع من كبرياء أو شهوة؛ ولا نهين العالم بأساطيلنا وجيوشنا، ولا ندمر الأرض طمعا في الغنائم. فنحن نتعرض للهجوم تحت ظلال كرماتنا؛ وبداخل منازلنا وعلى أراضينا، يستخدم العنف ضدنا. إننا نرى أعداءنا في صورة قاطعي طرق ولصوص منازل، ولما كنا لا نجد الحماية لأنفسنا في القانون المدني، فإننا مضطرون إلى معاقبتهم بالقانون العسكري، وأن نستخدم السيف في نفس الحالة التي استخدمتم أنتم فيها المشانق من قبل؛ ربما كنا نشعر بآلام ومعاناة المعذبين في كافة أرجاء هذه القارة، بقدر من الشفقة التي لم تعرف بعد طريقها إلى صدور بعضكم. ولكن احرصوا على ألا تخلطوا بين سبب حجتكم وأساسها. لا تسموا برودة الروح دينا؛ ولا تضعوا «المتعصب» في موضع «المسيحي».
وأنتم أيها الكهنة المتحيزون لمبادئكم المعلنة والمسلم بها؛ إذا كان حمل السلاح إثما، فلا بد أن البادئ بالعدوان أكثر إثما، مع الفارق الكبير بين الاعتداء المتعمد والدفاع المحتوم الذي لا سبيل إلى اجتنابه. لذا إذا كنتم تعظون حقا بضمائر حية، ولا تحاولون أن تجعلوا من دينكم مطية سياسية، فعليكم أن تقنعوا العالم بهذا بأن تعلنوا مبادئكم لأعدائنا، لأنهم «هم أيضا يحملون السلاح». وعليكم أن تقدموا لنا البرهان على صدقكم بنشر مبادئكم في دورية سانت جيمس ليعرفها كبار القادة في بوسطن، والأدميرالات والقباطنة الذين ينهبون ويدمرون سواحلنا كأنهم قراصنة، وجميع الأوغاد القتلة الذين يعملون بالسلطة المخولة لهم من قبل «الملك» الذي تعهدتم بخدمته. فلو كانت أرواحكم طاهرة مخلصة كروح باركلي لنصحتم ملككم بالتوبة؛ وأخبرتم «ذلك البائس» بخطاياه، وحذرتموه من الهلاك الأبدي.
1
صفحه نامشخص