1 - عن نشأة الحكومة وغايتها بوجه عام، مع تعليقات موجزة على الدستور الإنجليزي
2 - عن الملكية والخلافة الوراثية
3 - أفكار حول الحالة الأمريكية الراهنة
4 - عن القدرة الحالية لأمريكا، مع بعض التأملات المتفرقة
ملحق
1 - عن نشأة الحكومة وغايتها بوجه عام، مع تعليقات موجزة على الدستور الإنجليزي
2 - عن الملكية والخلافة الوراثية
3 - أفكار حول الحالة الأمريكية الراهنة
4 - عن القدرة الحالية لأمريكا، مع بعض التأملات المتفرقة
ملحق
المنطق السليم
المنطق السليم
تأليف
توماس بين
ترجمة
محمد إبراهيم الجندي
مراجعة
حسام بيومي محمود
مقدمة
فيلادلفيا، 14 فبراير/شباط 1776
لعل الآراء الواردة في الصفحات التالية لم تؤلف «بعد» بما يكفي لتحوز تأييدا عاما؛ فاعتياد عدم اعتبار شيء ما «خاطئا» وقتا طويلا يعطيه مظهرا زائفا من «الصحة»، ويثير في بداية الأمر احتجاجا شديدا دفاعا عن الأعراف والعادات. ولكن سرعان ما تهدأ الجلبة؛ إذ الوقت كفيل بأن يهدي إلى الصواب أناسا أكثر ممن يهديهم العقل.
ولما كانت الإساءة الصارخة والممتدة في استخدام السلطة هي بوجه عام وسيلة التشكيك في حق استخدامها (وكذلك في أمور ما كان أحد ليفكر فيها قط لو لم يدفع أصحاب المعاناة دفعا إلى البحث فيها)، ولما كان ملك إنجلترا أخذ على عاتقه - بما له من حق شخصي - مساندة البرلمان في مباشرة ما يسميه «حقوقه»، ولما كان الشعب الطيب في هذا البلد يتعرض لظلم مفجع من الملك والبرلمان معا، فإن له حقا لا يمكن إنكاره في فحص ادعاءات كليهما، وحقا مماثلا في رفض اغتصاب أيهما للسلطة.
لقد حرص المؤلف حرصا شديدا على تجنب كل شيء ذي سمة شخصية في الصفحات التالية. لذا فليس هناك محل في هذا الكتيب للثناء على الأفراد أو توجيه اللوم إليهم. فليس للحكماء النبلاء حاجة في أن يثني عليهم كتيب كهذا؛ كما أن أولئك من أصحاب الآراء الطائشة أو العدوانية سيتوقفون من تلقاء أنفسهم ما لم يتعرضوا لأكثر مما يستطيعون احتماله من اللوم والتوبيخ جراء تحولهم عن تلك الآراء.
إن قضية أمريكا هي إلى حد بعيد قضية البشرية جمعاء. لقد ظهرت، وسوف تظهر، العديد من الظروف التي لا يمكن وصفها بأنها محلية، وإنما هي عالمية، والتي تأثرت بها مبادئ جميع «محبي البشرية»، وعند حدوثها، تأثرت بها عواطفهم. فتدمير بلد بالحديد والنار، وإعلان الحرب على الحقوق الطبيعية لجميع البشر، واستئصال شأفة المدافعين عنها من على وجه الأرض هو هم يشغل كل إنسان حباه الله القدرة على الإحساس؛ وإلى ذلك الصنف من الناس ينتمي المؤلف، بعيدا عن أي انتماء حزبي.
ملحوظة: تأجل نشر هذه الطبعة الجديدة بهدف ترقب (لو كان هذا ضروريا) أي محاولة لدحض «مبدأ الاستقلال»: ولما لم يظهر أي رد بعد، فقد افترضنا الآن أنه ما من رد سيظهر، إذ مر ما يكفي وأكثر من الوقت اللازم لإعداد مثل هذا الرد ونشره علانية.
أما عن شخصية مؤلف هذا العمل فهذا مما لا يهم الجمهور في شيء على الإطلاق، لأن موضع الاهتمام هو «المبدأ نفسه»، وليس «الشخص». غير أنه قد يكون من المهم القول إن المؤلف لا ينتمي إلى أي حزب، وليس خاضعا لأي شكل من أشكال التأثير، عاما كان أو خاصا، باستثناء تأثير العقل والمبدأ.
الفصل الأول
عن نشأة الحكومة وغايتها بوجه عام، مع تعليقات موجزة
على الدستور الإنجليزي
خلط بعض الكتاب خلطا شديدا بين المجتمع والحكومة بحيث أصبح الفارق بينهما ضئيلا أو معدوما بالكلية؛ في حين أنهما ليسا مختلفين فحسب، بل إن لهما جذورا مختلفة أيضا. فالمجتمع هو نتاج حاجاتنا، والحكومة نتاج شرورنا؛ المجتمع يدعمنا «إيجابيا» بتوحيد مشاعرنا، والحكومة تساعدنا «سلبيا» بكبح رذائلنا. المجتمع يشجع التواصل، والحكومة تخلق الخلافات. الأول راع، والأخرى رادعة.
المجتمع نعمة في كل الحالات، ولكن الحكومة حتى في أفضل حالاتها ليست سوى شر لا بد منه؛ وفي أسوأ حالاتها شر لا يحتمل، لأننا عندما نشقى، أو نتعرض «على يد الحكومة» لنفس البؤس الذي يمكن أن نتوقع التعرض له في بلد «من دون حكومة»، تشتد محنتنا عند التفكر في أننا نحن أنفسنا من وفر الوسائل التي بها نعاني. الحكومة - شأنها شأن الثياب - علامة على البراءة المفقودة؛ فقصور الملوك بنيت على أنقاض تعاريش الجنة. فلو كانت وخزات الضمير البشري نقية وموحدة ومطاعة على نحو لا يمكن مدافعته، لما احتاج الإنسان إلى مشرع سوى ضميره؛ لكن لأن الحال ليست كذلك، فإنه يجد ضرورة في التخلي عن جزء من ممتلكاته لتوفير وسائل حماية لبقية تلك الممتلكات؛ وهو يحمل على ذلك بنفس الحذر الذي يشير عليه في جميع الأحوال الأخرى بأن يختار من بين شرين أهونهما. لذا، لما كان الأمن هو الهدف والغاية الحقيقيان للحكومة، فيستتبع ذلك دون جدال أن أي شكل من أشكال الحكومة يبدو مرجحا أن يضمن لنا الأمن - بأقل تكلفة وأعظم فائدة - يكون مفضلا على باقي الأشكال جميعا.
ولكي نكون فكرة واضحة ومنصفة عن قصد الحكومة وغايتها، دعونا نفترض أن عددا قليلا من الناس يقيمون في جزء معزول من الأرض، منقطعين عن باقي الناس، ومن ثم فإنهم يمثلون أول السكان المعمرين لأي بلد، أو للعالم. في هذه الحالة من الحرية الطبيعية سيكون المجتمع هو أول ما يطرأ على أفكارهم؛ فهناك ألف دافع يثير اهتمامهم به، فقوة إنسان واحد في هذا المجتمع لا تتناسب بحال مع احتياجاته، وعقله غير متكيف مطلقا مع العزلة الدائمة، لذا فإنه سرعان ما يضطر لالتماس مساعدة ومعاونة آخر، وهذا الآخر بدوره يريد نفس الشيء. فإذا اتحد أربعة أو خمسة معا فإنهم يصبحون قادرين على بناء مسكن مقبول وسط البرية، في حين أن واحدا بمفرده يمكن أن يعمل طوال حياته دون أن ينجز شيئا؛ فإذا انتهى من قطع الأخشاب لا يستطيع نقلها، وإذا نقلها لا يستطيع نصبها؛ وفي الوقت نفسه، سيدفعه الجوع دفعا إلى التخلي عن عمله، وتتشتت به السبل سعيا وراء تلبية حاجاته المختلفة. وسوف يكون معنى المرض، أو حتى أي مكروه يصيبه، هو الموت، فمع أن أيهما قد لا يكون قاتلا، فإن كليهما سيمنعه من العيش، وينحدر به إلى حالة يمكن فيها القول إنه يهلك ولا يموت.
وهكذا فإن الضرورة - بوصفها قوة جاذبة - سرعان ما ستؤدي إلى انتظام المهاجرين الوافدين حديثا في صورة مجتمع تحل نعم المشاركة فيه محل الحكومة والالتزامات القانونية وتبطل الحاجة إليها طالما ظل أفراد هذا المجتمع منصفين فيما بينهم على نحو مطلق. لكن لما لم يكن مكان محصنا ضد الرذيلة سوى الجنة، فسيحدث حتما - كلما تغلب أفراد هذا المجتمع على أولى مصاعب الهجرة التي توحدهم معا حول قضية مشتركة - أن يبدأ التراخي في التسلل إلى أدائهم لواجباتهم وترابطهم، وهذا التهاون سيبين ضرورة إنشاء شكل من أشكال الحكومة لسد هذا الخلل في الفضائل الأخلاقية.
وسوف توفر لهم شجرة مناسبة مقرا للحكومة، وتحت فروعها تستطيع الجماعة كلها الالتقاء للتشاور في الأمور العامة. ومن المؤكد أن تصدر أول قوانين يسنونها تحت مسمى «نظم» فحسب، وأن تفرض دون تطبيق عقوبة سوى الازدراء العلني. وفي هذا البرلمان الأول سيكون لكل فرد مقعد؛ باعتبار ذلك حقا طبيعيا لا مراء فيه.
ولكن مع اتساع رقعة المستعمرة، تتزايد كذلك المخاوف العامة، وتؤدي المسافات التي تفصل بين الأفراد إلى صعوبة تلاقيهم جميعا في كل مناسبة كما كانت الحال في البداية، عندما كان عددهم صغيرا، ومساكنهم متقاربة، ومخاوفهم العامة قليلة وبسيطة. وسيبين هذا أنه من المناسب أن يتفقوا على ترك إدارة الجزء التشريعي لعدد منتقى من الأفراد تختارهم الجماعة كلها ويفترض أن لديهم نفس مخاوف وهموم أولئك الذين اختاروهم، وأن يتصرفوا بنفس الأسلوب الذي كانت الجماعة كلها ستتبعه لو كان الجميع حاضرين. وإذا استمرت المستعمرة في الاتساع، فسيصبح من الضروري زيادة عدد الممثلين؛ وللاهتمام بمصالح كل جزء من أجزاء المستعمرة سيجدون أنه من الأفضل تقسيمها إلى أجزاء مناسبة، على أن يرسل كل جزء عددا مناسبا من الممثلين؛ ولكي لا يتخذ الممثلون «المنتخبون» لأنفسهم أبدا مصلحة منفصلة عن مصلحة «الناخبين»، فإن الحكمة ستشير إلى ضرورة إجراء انتخابات متكررة؛ ومع احتمال عودة الممثلين «المنتخبين» بتلك الوسيلة إلى عامة جمهور الناخبين والاختلاط بهم بعد بضعة أشهر قليلة، يمكن ضمان إخلاصهم لعامة الجمهور من خلال الحرص المتعقل على عدم جلب المتاعب لأنفسهم بعد ذلك. ولأن هذا التبادل المتكرر سيولد مصلحة مشتركة بين جميع أجزاء المجتمع، فإن الجميع سيدعمون بعضهم بعضا على نحو تبادلي وطبيعي، وعلى هذا (وليس على اسم الملك الذي لا معنى له) تعتمد «قوة الحكومة، وسعادة المواطنين».
هذا إذن هو منشأ الحكومة وأصلها؛ وهو تحديدا وضع أصبح ضروريا بسبب عجز الفضائل الأخلاقية عن حكم العالم؛ وهذا أيضا قصد وغاية الحكومة، أي: الحرية والأمن. ومع أن أعيننا قد تنبهر بالمظاهر، أو تنخدع آذاننا بالآراء الرنانة، ومع أن الأهواء قد تحرف إرادتنا أو تعتم المصالح فهمنا، فإن الصوت الصادق للطبيعة والعقل السليم سينطق مؤكدا صحة هذا.
لقد استقيت فكرتي عن شكل الحكومة من مبدأ قائم في الطبيعة، ولا يمكن لأي حيلة بارعة أن تنقضه، ويقضي هذا المبدأ بأنه كلما كان الشيء أكثر بساطة كان أقل عرضة للخلل، وسهل إصلاحه لو أصابه الخلل؛ ومع وضع هذا المبدأ الأساسي نصب عيني، أقدم بعض الملاحظات على الدستور الإنجليزي المحتفى به أيما احتفاء. ولا بد هنا من الاعتراف بأن هذا الدستور كان نبيلا في عصور العبودية والظلام التي صيغ فيها. فعندما ساد الطغيان العالم، كان أقل قدر من التحول عن هذا الطغيان بمنزلة عملية إنقاذ جليلة. ولكن من السهل أيضا إثبات عدم خلو ذلك الدستور من العيوب، وكونه عرضة للاضطرابات، وعاجزا عن تحقيق ما يبدو أنه يعد به.
تمتلك حكومات السلطة المطلقة (مع أنها أكبر عار على الطبيعة البشرية) هذه الميزة، وهي ميزة البساطة؛ فإذا عانى الناس، فإنهم يعرفون المصدر الذي تنبع منه معاناتهم، ويعرفون العلاج كذلك، ولا يتحيرون بين مجموعة متنوعة من الأسباب والعلاجات. غير أن دستور إنجلترا معقد إلى أبعد الحدود، حتى إن الأمة كلها قد تعاني سنوات دون أن تتمكن من اكتشاف الجزء الذي يكمن فيه الخلل؛ فالبعض سيقول إنه في جزء معين، وآخرون سيقولون في غيره، وسيصف كل طبيب سياسي علاجا مختلفا.
أعلم أنه من الصعب التغلب على الأهواء المحلية أو الموغلة في القدم، غير أننا إذا كنا سنسمح لأنفسنا بفحص الأجزاء المكونة للدستور الإنجليزي، فسنجد أنها عبارة عن بقايا أساسية من شكلين قديمين من أشكال الحكومات الاستبدادية، وزادت عليها بعض مواد جديدة مستمدة من النظام الجمهوري. وتلك الأجزاء هي:
أولا:
بقايا الحكومة الملكية الاستبدادية ممثلة في شخص الملك.
ثانيا:
بقايا الحكومة الأرستقراطية الاستبدادية ممثلة في أشخاص النبلاء.
ثالثا:
مواد النظام الجمهوري الجديدة ممثلة في أشخاص أعضاء مجلس العموم، الذين تعتمد حرية إنجلترا على فضيلتهم.
المكونان الأولان - بحكم كونهما وراثيين - مستقلان عن الناس؛ لذا فإنهما «من الناحية الدستورية» لا يسهمان بشيء فيما يتعلق بحرية الدولة.
والقول إن دستور إنجلترا هو «اتحاد» بين ثلاث قوى تتبادل «مراجعة» بعضها بعضا هو ادعاء هزلي، فإما أن الكلمات لا معنى لها، وإما أنها متناقضة تناقضا صريحا.
فالقول إن مجلس العموم يراجع الملك قول يستلزم أمرين:
أولا:
أنه لا يمكن الوثوق بالملك من دون مراجعته ومحاسبته، أو بعبارة أخرى، أن التعطش للسلطة المطلقة هو المرض الطبيعي للنظام الملكي.
ثانيا:
أن أعضاء مجلس العموم - عن طريق اختيارهم لتحقيق هذا الغرض - إما أنهم أكثر حكمة أو أكثر استحقاقا للثقة من التاج.
ولكن لما كان الدستور نفسه الذي يعطي أعضاء مجلس العموم السلطة لمراجعة الملك عن طريق حجب الاعتمادات المالية يعود مرة أخرى ليعطي الملك سلطة مراجعة مجلس العموم، عن طريق تمكينه من رفض مشاريع القوانين الأخرى التي يتقدمون بها؛ فإنه بذلك يفترض من جديد أن الملك أكثر حكمة من أولئك الذين افترض من قبل بالفعل أنهم أكثر حكمة منه. ويا لها من سخافة بحتة!
وهناك أمر سخيف إلى أبعد حد في هيكل النظام الملكي؛ فهو أولا يعزل الملك عن وسائل المعلومات، غير أنه يفوضه في التصرف في حالات يكون أقصى قدر من حسن التقدير مطلوبا فيها. إذن فوضع الملك يعزله عن العالم، غير أن وظيفته تطالبه بمعرفته على نحو شامل ودقيق؛ لذا فإن الأجزاء المختلفة، عن طريق معارضة وتدمير بعضها البعض على نحو غير طبيعي، تثبت أن هذا الأسلوب كله سخيف وغير ذي جدوى.
وقد شرح بعض الكتاب الدستور الإنجليزي على النحو التالي: يقولون إن الملك جزء والشعب جزء آخر؛ ومجلس النبلاء هو مجلس ينوب عن الملك، في حين ينوب مجلس العموم عن الشعب؛ ولكن هذا يشتمل على جميع الاختلافات التي تصف مجلسا منقسما على نفسه؛ ومع أن التعبيرات المستخدمة مرتبة على نحو لطيف، فإنها عند فحصها تبدو فارغة وغامضة؛ وعندما تشيد الكلمات أفضل بناء تستطيع بناءه لوصف شيء إما لا يمكن وجوده وإما أنه من الصعوبة والغموض بحيث لا يحيط به الوصف؛ فدائما لن تكون الكلمات سوى أصوات لا معنى لها، ومع أنها قد تطرب الآذان فإنها لا تستطيع إشباع العقول، لأن هذا التفسير ينطوي على سؤال سابق هو: «كيف فاز الملك بسلطة يخشى الشعب ائتمانه عليها ويضطر دائما إلى مراجعته فيها؟ إن سلطة كهذه لا يمكن أن تكون منحة من شعب حكيم، ولا تستطيع أي سلطة - تحتاج المراجعة - أن تكون مستمدة من الله؛ ومع هذا فإن النصوص، الواردة في الدستور، تفترض وجود مثل هذه السلطة.
غير أن النصوص غير مؤهلة للمهمة؛ فالوسيلة إما لا تستطيع وإما لن تقوم بتحقيق الغاية، والقضية كلها عبارة عن انتحار؛ لأنه لما كان الوزن الأكبر دائما يحمل الوزن الأقل، ولما كانت جميع عجلات الآلة تحركها عجلة واحدة؛ فلا يتبقى لنا سوى أن نعرف أي قوة في الدستور صاحبة أكبر وزن، لأن تلك القوة هي التي ستحكم؛ ومع أن القوى الأخرى، أو جزءا منها، قد تعوق، أو تراجع - حسب صياغة العبارة - سرعة حركتها، فإن جهود تلك القوى ستكون غير ذات جدوى طالما كانت لا تستطيع إيقافها؛ وسوف تفرض القوة المحركة الأولى أسلوبها في نهاية الأمر، وما تريده بسرعة سوف يتحقق مع مرور الوقت.
ولا حاجة بالطبع للقول إن الملك هو تلك القوة الغالبة المهيمنة في الدستور الإنجليزي، كما أنه من الواضح أنه يستمد منزلته كلها فقط من كونه مانح الطبقات والمعاشات، لذا، فمع أننا كنا من الحكمة بما يكفي لإغلاق الباب أمام الحكم الملكي المطلق، فقد كنا في الوقت نفسه من الحماقة بما يكفي لإعطاء المفتاح للملك.
إن تحيز الإنجليز لحكومتهم برئاسة الملك، واللوردات، وأعضاء مجلس العموم نابع من الفخر الوطني أكثر مما هو نابع من العقل والمنطق. فالأفراد في إنجلترا أكثر أمنا بلا شك من غيرهم في بعض البلدان الأخرى، ولكن إرادة الملك تعادل قوة القانون في بريطانيا كما هي الحال في فرنسا تماما، مع الفارق المتمثل في أنها بدلا من أن تصدر من فمه مباشرة فإنها تصل إلى الشعب في صورة أكثر توقيرا هي قانون سنه البرلمان. وهذا لأن مصير تشارلز الأول جعل الملوك من بعده أكثر مكرا ودهاء؛ وليس أكثر عدلا وإنصافا.
لذا إذا نحينا جانبا كل عوامل الفخر والانحياز الوطني وقدمنا عليها النظم والأشكال، فستكون الحقيقة البسيطة هي أن كون السلطة الملكية في إنجلترا ليست جائرة كمثيلتها في تركيا أمر مرجعه إلى «دستور الشعب، وليس دستور الحكومة».
إن بحث «الأخطاء الدستورية» في الشكل البريطاني للحكومة هو في الوقت الراهن أمر ضروري للغاية؛ لأنه طالما أننا لسنا أبدا في وضع ملائم لإنصاف الآخرين ونحن مستمرون في التأثر ببعض التحيزات الموجهة، فإننا لسنا قادرين كذلك على إنصاف أنفسنا ونحن مكبلون بأي تعصب راسخ. وكما أن أي رجل على علاقة بامرأة بغي غير مؤهل لاختيار زوجة أو الحكم عليها، فإن أي تحيز لصالح دستور فاسد للحكومة سوف يعوقنا عن رؤية وتمييز أي دستور صالح.
الفصل الثاني
عن الملكية والخلافة الوراثية
لما كان البشر خلقوا جميعا في الأصل سواسية، فلا يمكن هدم تلك المساواة فيما بينهم إلا بفعل بعض الظروف اللاحقة؛ ويمكن إلى حد بعيد تفسير التمايز بين الأغنياء والفقراء، وذلك دون حاجة للإشارة إلى أعلام الظلم والشح القساة البغضاء. فغالبا ما يكون الظلم «نتيجة» للثراء ولكنه أبدا أو نادرا ما يكون «وسيلة» له؛ ومع أن الشح قد يحول بين المرء وبين فقر حتمي، فإنه بوجه عام يجعله أجبن من أن يكون غنيا.
لكن يوجد وجه اختلاف آخر وأعظم، وهو اختلاف لا يمكن تحديد سبب طبيعي أو ديني حقيقي له، وهو تمايز البشر إلى «ملوك» و«رعايا». فالاختلاف بين الذكور والإناث اختلاف طبيعي، والاختلاف بين الصالح والطالح اختلاف سماوي؛ ولكن كيفية مجيء سلالة من البشر إلى العالم سامية متعالية فوق باقي البشر، ومميزة عنهم وكأنها سلالة جديدة؛ أمر يستحق البحث والتدقيق، وكذلك هل هم الوسيلة لسعادة البشرية أم لشقائها.
في العصور المبكرة من عمر البشرية - وفقا لتاريخ الكتاب المقدس - لم يكن هناك ملوك؛ وكانت نتيجة ذلك أنه لم تكن هناك حروب؛ فكبرياء الملوك إذن هو ما ألقى بالجنس البشري إلى غياهب الفوضى. لقد تمتعت هولندا بدون ملك بقدر من السلام طوال القرن الماضي أكبر مما تمتعت به أي حكومة من الحكومات الملكية الأخرى في أوروبا. والعصور القديمة تؤيد نفس الملاحظة؛ فالحياة الريفية والهادئة لآباء التوراة العجائز الأوائل انطوت على عنصر سعادة معين تلاشى واختفى عندما جاء عصر الملكيات اليهودية.
ظهرت حكومات الملوك في العالم لأول مرة على يد الوثنيين، ومنهم أخذ بنو إسرائيل تلك العادة. لقد كان هذا هو أكثر اختراعات الشيطان نجاحا في ترويج عبادة الأوثان. بجل الوثنيون ملوكهم المتوفين تبجيلا رفعهم إلى مقام الآلهة، وأضاف العالم المسيحي بعض التحسينات على تلك العادة؛ ففعل المثل مع ملوكه الأحياء. وكم يكون لقب صاحب الجلالة المقدس معبرا عن العقوق والإلحاد إذا خلعناه على «دودة» تتحلل إلى تراب في أوج رونقها وروعتها!
وكما لا يمكن تبرير إضفاء كل هذا المجد على إنسان واحد دون غيره من الناس في ظل التساوي الطبيعي في الحقوق، فلا يمكن أيضا الدفاع عنه باسم الكتاب المقدس؛ إذ إن إرادة الله - كما أبلغها جدعون والنبي صموئيل - ترفض صراحة حكومة الملوك. وقد تعرضت كل أجزاء الكتاب المقدس التي تتحدث عن رفض الملكية للتحريف والإخفاء ببراعة في الحكومات الملكية، لكنها تستحق بلا شك اهتمام البلدان التي لم تتشكل حكوماتها بعد. تقول عقيدة الكتاب المقدس فيما يتعلق بالملوك: «دع ما لقيصر لقيصر»، غير أن هذا ليس تأييدا للحكومات الملكية على الإطلاق، إذ كان اليهود في ذلك الوقت بلا ملك، وفي حالة خضوع للرومان.
ثم مرت ثلاثة آلاف عام منذ وقت الشريعة الموسوية وإلى أن طلب اليهود تنصيب ملك عليهم سعيا وراء وهم قومي. كان شكل حكومتهم حتى ذلك الوقت (إلا في حالات استثنائية نادرة) نوعا من الجمهوريات يديرها قاض وشيوخ القبائل. لم يكن لديهم ملوك، وكان من الخطيئة مناداة أي مخلوق بهذا الاسم إلا رب العالمين. وعندما يتأمل المرء جديا في التكريم الوثني الذي يسبغ على أشخاص الملوك، فلن يجد مجالا للتعجب من تحريم رب العالمين - الغيور على ملكه وكبريائه - لهذا الشكل من أشكال الحكومة الذي يعتدي بكل إلحاد على صفة سماوية.
صنفت الملكية في الكتاب المقدس على أنها إحدى خطايا اليهود، التي استحقوا بسببها لعنة نزلت بهم. وتاريخ هذه الخطيئة جدير بالاهتمام حقا.
سار جدعون لتخليص بني إسرائيل من قهر المديانيين بجيش صغير، وحقق النصر، بتدخل إلهي لصالحه. فاقترح اليهود - الذين غرهم النصر وأرجعوا الفضل فيه إلى براعة جدعون العسكرية - تتويج جدعون ملكا عليهم وقالوا: «تسلط علينا أنت وابنك وابن ابنك لأنك خلصتنا.» وهنا يبلغ الإغراء مداه؛ فهم لا يعرضون عليه مملكة فحسب، وإنما مملكة وراثية أيضا، ولكن جدعون أجابهم من قلب تقي: «لا أتسلط أنا عليكم، ولا يتسلط ابني عليكم. الرب يتسلط عليكم.» ولا يمكن أن تكون كلماته أكثر وضوحا وتعبيرا؛ فهو لا يرفض هذا الشرف، ولكنه ينكر حقهم في منحه إياه؛ وهو كذلك لا يهنئهم بتصريحات مخترعة تعبيرا عن شكره، ولكنه بأسلوب إيجابي يليق بنبي يتهمهم بالجحود وعدم الولاء لمولاهم الحق ملك السماوات والأرض.
وبعد نحو مائة وثلاثين عاما من هذا، وقعوا مرة أخرى في نفس الخطأ. إن اللهفة المشتعلة في نفس اليهود لاتباع العادات الوثنية هي حقا أمر غير قابل للتفسير على الإطلاق؛ وما حدث هو أنهم عندما أمسكوا بابني صموئيل يرتكبان خطيئة إذ كانا منوطين ببعض الأمور الدنيوية، ذهبوا إلى صموئيل وحدثوه بغلظة وصخب فقالوا له: «ها أنت ذا قد شخت، وابناك لم يسيرا في طريقك، فالآن اجعل لنا ملكا يقضي لنا كسائر الشعوب.» وهنا لا يسعنا إلا أن نلاحظ أن دوافعهم كانت خبيثة، بمعنى أنهم يريدون أن يكونوا مثل الشعوب الأخرى، أي الوثنيين ، في حين أن مجدهم الحقيقي كان يكمن في مخالفة هؤلاء قدر المستطاع. يقول العهد القديم في الإصحاح الثامن من سفر صموئيل الأول: «فساء الأمر في عيني صموئيل إذ قالوا أعطنا ملكا يقضي لنا. وصلى صموئيل للرب، فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك لأنهم لم يرفضوك أنت بل إياي رفضوا حتى لا أملك عليهم. حسب كل أعمالهم التي عملوا من يوم أصعدتهم من مصر إلى هذا اليوم وتركوني وعبدوا آلهة أخرى، هكذا هم عاملون بك أيضا. فالآن اسمع لصوتهم، ولكن أشهدن عليهم وأخبرهم بقضاء الملك الذي يملك عليهم.» والمقصود هنا ليس سلوك ملك معين، وإنما سلوك عامة ملوك الأرض، الذين تاق بنو إسرائيل بشدة ليكون لديهم واحد منهم كباقي الشعوب. وبالرغم من شدة تباعد الأزمنة واختلاف الأعراف والعادات، يظل الطابع نفسه سائدا. «فكلم صموئيل الشعب الذين طلبوا منه ملكا بجميع كلام الرب؛ وقال: هذا يكون قضاء الملك الذي يملك عليكم؛ يأخذ بنيكم ويجعلهم لنفسه، لمراكبه وفرسانه، فيركضون أمام مراكبه» (يتفق هذا الوصف مع الأسلوب الحالي في إبهار الناس) «ويجعل لنفسه رؤساء ألوفا ورؤساء خماسين، فيحرثون حراثته ويحصدون حصاده، ويعملون عدة حربه وأدوات مراكبه؛ ويأخذ بناتكم عطارات وطباخات وخبازات.» (وهذا وصف للبذخ والترف فضلا عن ظلم الملوك وجورهم). «ويأخذ من حقولكم وكرومكم وزيتونكم، أجودها ويعطيها لعبيده؛ ويعشر زروعكم وكرومكم، ويعطي لخصيانه وعبيده.» (وبهذا نرى أن الرشوة والفساد والمحسوبية هي الرذائل الخالدة للملوك). «ويأخذ عبيدكم وجواريكم وشبانكم الحسان وحميركم ويستعملهم لشغله؛ ويعشر غنمكم وأنتم تكونون له عبيدا؛ فتصرخون في ذلك اليوم من وجه ملككم الذي اخترتموه لأنفسكم، فلا يستجيب لكم الرب في ذلك اليوم.» ويفسر هذا استمرار النظام الملكي؛ وشخصيات الملوك الصالحين القلائل الذين جاءوا منذ ذلك الوقت لا تطهر لقب الملك من الإثم ولا تمحو الخطيئة عن المصدر؛ فلم يكن الثناء الحسن الذي ناله النبي داوود موجها إليه «بصفته الرسمية كملك»، وإنما فقط بوصفه «رجلا» أخلص لله بقلبه. «فأبى الشعب أن يسمعوا لصوت صموئيل، وقالوا: لا بل يكون علينا ملك؛ فنكون نحن أيضا مثل سائر الشعوب، ويقضي لنا ملكنا ويخرج أمامنا ويحارب حروبنا.» وظل صموئيل يحاجهم ويجادلهم، لكن بلا طائل؛ وبين لهم جحودهم وكفرهم بنعمة الله عليهم، ولكن ما كان كل هذا ليفيد؛ ولما رأى عزمهم الكامل على المضي في حماقتهم، صاح قائلا: «فإني أدعو الرب فيعطي رعودا ومطرا» (وكان ذلك عقابا آنذاك إذ كان في وقت حصاد القمح) «فتعلمون وترون أنه عظيم شركم الذي عملتموه في عيني الرب بطلبكم لأنفسكم ملكا؛ فدعا صموئيل الرب فأعطى رعودا ومطرا في ذلك اليوم، وخاف جميع الشعب الرب وصموئيل جدا. وقال جميع الشعب لصموئيل: صل عن عبيدك إلى الرب إلهك حتى لا نموت، لأننا قد أضفنا إلى جميع خطايانا شرا بطلبنا لأنفسنا ملكا.» وتلك الأجزاء من الكتاب المقدس صريحة ومباشرة وإيجابية. فهي لا تسمح بأدنى التباس أو شك. فإما أن يكون رب العالمين قد بين هنا صراحة رفضه للحكم الملكي؛ وإما أن يكون الكتاب المقدس كاذبا. ولدى المرء أسباب وجيهة للاعتقاد أن سياسة إدارة الملك تتدخل - بقدر ما تتدخل مكائد رجال الدين - لحجب الكتاب المقدس عن الجمهور في البلدان الكاثوليكية؛ فالملكية في حالات تلك البلدان هي بابوية الحكومة.
ولقد أضفنا إلى مصيبة الملكية مصيبة الخلافة الوراثية؛ وباعتبار الأولى مذلة وتحقيرا لأنفسنا، فإن الثانية - التي تطلب باعتبارها حقا مكتسبا - إهانة وعبء ثقيل نفرضه على الأجيال القادمة. فلما كان جميع البشر سواسية في الأساس، فمن غير الممكن أن يكون لأحد الحق في تنصيب أسرته في وضع دائم يميزهم على الآخرين جميعا إلى الأبد، ومع أن المرء قد يستحق لنفسه «قدرا» لائقا من الشرف والتكريم والتبجيل من معاصريه، فإن ذريته قد يكونون غير جديرين على الإطلاق بهذا الإرث. ويكمن أحد أقوى البراهين «الطبيعية» على حماقة الحق الوراثي للملوك في رفض الطبيعة نفسها له، وإلا لما حولته في كثير من الأحيان إلى مهزلة ساخرة بمنحنا «حمارا على أنه أسد».
ثانيا: لما لم يكن بمقدور أي إنسان أن يحظى في البداية بأي تكريم عام سوى ما يعطيه له الناس، فإن مانحي هذا التكريم لا يمكن بحال أن يمتلكوا سلطة التخلي عن حق الأجيال القادمة. ومع أنهم يمكن أن يقولوا: «لقد اخترناك لتسودنا»، فإنهم لا يستطيعون - دون أن يظلموا أبناءهم ظلما بينا - أن يقولوا: «وسوف يحكم أبناؤك وأبناء أبنائك أبناءنا إلى الأبد»، لأن مثل هذا الميثاق المخالف للحكمة والإنصاف والطبيعة قد يضعهم في الخلافة التالية تحت حكومة فاسد أو مخبول. ولطالما تعامل معظم الحكماء من الناس - من وجهات نظرهم الخاصة - مع الحق الوراثي بازدراء؛ غير أن هذا الحق هو أحد تلك الشرور التي تصعب جدا إزالتها حال إقامتها؛ فكثير من الناس يخضعون بسبب الخوف، وآخرون بسبب الخرافة، والقسم الأكثر قوة يشتركون مع الملك في نهب الباقين.
هذا على افتراض أن السلالة الحالية من الملوك في العالم كانت لهم أصول شريفة؛ فمن الجائز جدا أننا إذا استطعنا إزالة الغطاء المظلم عن العصور الغابرة وتعقب أصولهم حتى مصدرها، فسنجد أن أولهم لم يكن سوى زعيم بربري وحشي لعصابة مارقة اكتسب فيها بأخلاقه الوحشية أو تفوقه في المكر والدهاء لقب زعيم اللصوص؛ وعن طريق زيادة قوته وتوسيع أعمال السلب والنهب أرعب الهادئين العاجزين عن الدفاع عن أنفسهم وأرغمهم على شراء أمنهم مقابل عطاءات متكررة يدفعونها قسرا. غير أن ناخبيه ما كانوا ليفكروا في منح ذريته حق الوراثة، لأن مثل هذا الإقصاء الدائم لأنفسهم يتعارض مع مبادئ الحرية والعفوية التي أعلنوا أنهم سيعيشون بها. لذا فإن الخلافة الوراثية في العصور الأولى للملكية لم يكن ممكنا أن تحدث باعتبارها حقا يطالب به، وإنما حدثت كأمر عابر أو مكمل؛ لكن لما كانت السجلات في تلك العصور قليلة أو معدومة، ولما كان التاريخ التقليدي مكتظا بالكذب والبهتان، كان من السهل جدا بعد انقضاء بضعة أجيال تلفيق قصة خرافية في زمن ملائم لإرغام العامة على ابتلاع فكرة الحق الوراثي. وربما أدت الاضطرابات المخيفة التي حدثت - أو بدا أنها ستحدث - عند موت الزعيم واختيار زعيم جديد (إذ لا يتصور أن الانتخابات بين البرابرة الوحشيين يمكن أن تكون منظمة أو خالية من الاضطرابات) إلى جعل كثيرين يفضلون ذرائع الوراثة في البداية؛ وهكذا حدث منذ ذلك الوقت أن ما تقبل في البداية باعتباره مناسبا فحسب أصبح فيما بعد يطالب به بوصفه حقا أصيلا.
لقد عرفت إنجلترا منذ الفتح النورماندي بعض الملوك الصالحين القلائل، ولكن هذه القلة تأن تحت وطأة عدد أكبر كثيرا من الملوك الفاسدين؛ غير أنه ما من إنسان عاقل يستطيع القول إن ادعاءه أنه من نسل ويليام الفاتح هو ادعاء مشرف. فنزول وغد فرنسي مع عصابة مسلحة من قطاع الطرق إلى الأرض الإنجليزية وإعلان نفسه ملكا على إنجلترا دون قبول من أهلها هو بصراحة تامة صنيع غير مسبوق في غاية الخسة والنذالة. وهو بكل تأكيد صنيع لا تقره السماء. غير أنه لا داعي لإضاعة الكثير من الوقت في فضح حماقة الحق الوراثي؛ ولو كان هناك أناس ضعفاء إلى حد الإيمان به فليتفضلوا إذن بتبجيل الحمار والأسد معا دون تمييز، وعلى الرحب والسعة. لكنني لن أحاكي ذلهم، ولن أعكر صفو إخلاصهم.
غير أنني أسعد بسؤالهم كيف جاء الملوك في البداية في اعتقادهم؟ وهذا السؤال لا يسمح إلا بثلاث إجابات وهي: عن طريق القرعة، أو الانتخاب، أو اغتصاب السلطة. ولو أن أول الملوك نصب بالقرعة لكانت تلك سابقة يختار على أساسها الملك التالي، وهو ما يستبعد احتمال الخلافة الوراثية. جاء شاءول (أول ملوك بني إسرائيل) بالقرعة، غير أن الخلافة لم تكن وراثية، ولا يبدو في الأمر أنه كانت هناك أي نية لأن تكون كذلك في أي وقت. ولو جاء أول الملوك في أي بلد عن طريق الانتخاب، فإن هذا أيضا يصنع سابقة لاختيار الملك التالي؛ لأن القول بسلب «حق» جميع الأجيال المقبلة من خلال فعلة الناخبين الأوائل - إذ لم يختاروا ملكا فحسب وإنما اختاروا أسرة من الملوك تحكمهم إلى الأبد - قول ليس له مثيل لا في الكتاب المقدس ولا في غيره، وإنما هو مذهب الخطيئة الأصلية، التي تفترض أن الإرادة الحرة لجميع البشر فقدت مع آدم، ونخلص من هذه المقارنة - التي لا بديل عنها - إلى أن الخلافة الوراثية لا يمكنها تحقيق أي مجد. ولما كان جميع البشر أخطئوا بخطيئة آدم، ولما كانوا خضعوا بخضوع الناخبين الأوائل، ولما كانوا مطيعين للشيطان في الأولى وخاضعين للسلطة في الثانية، ولما فقدنا براءتنا في الأولى وسيادتنا في الأخيرة، ولما كانت كلتاهما تعوقنا عن استعادة وضع وشرف سابقين، فإنه يترتب على ذلك حتما أن الخطيئة الأصلية والخلافة الوراثية صنوان متماثلان. إنها مرتبة مخزية! وعلاقة شائنة! غير أن أكثر السفسطائيين دهاء لا يستطيع تقديم مقارنة أكثر إنصافا.
وفيما يخص اغتصاب السلطة فلا أظن أن أحدا يمتلك من الوقاحة ما يكفي للدفاع عنها؛ أما كون ويليام الفاتح غاصبا للسلطة فتلك حقيقة لا مراء فيها. والحقيقة الصريحة هي أن الملكية الإنجليزية العريقة لن تصمد أمام الفحص والتدقيق.
ولكن ما يشغل البشرية ليس هو سخافة وعبثية الخلافة الوراثية بقدر ما هو شرها المستطير. فلو أن الخلافة الوراثية ضمنت لنا تقديم سلالة متصلة من العقلاء الحكماء لحملت خاتم السلطان الإلهي، ولكن بما أنها تفتح الباب أمام «السفهاء» و«الأشرار» و«الفاحشين»، فإنها تحمل في طياتها طبيعة الظلم والطغيان. إن الرجال الذين يعتبرون أنفسهم ولدوا ليحكموا ويتسلطوا ويعتبرون أن الآخرين ولدوا ليسمعوا لهم ويطيعوا سرعان ما يتحولون إلى جبارين؛ وتتسمم عقولهم مبكرا بداء العظمة باعتبارهم نخبة مختارة من بين بقية البشر، والعالم الذي يعيشون فيه يختلف جذريا عن العالم ككل، وهكذا لا تصبح لديهم فرصة لمعرفة الاهتمامات الحقيقية لهذا العالم، وعندما يخلفون آباءهم في الحكم غالبا ما يكونون هم الأكثر جهلا والأقل أهلية في جميع أنحاء مملكتهم.
وأحد الشرور الأخرى التي تلازم الخلافة الوراثية هو أن حدثا قاصرا في أي سن يمكن أن يجلس على العرش؛ وطوال الوقت حتى سن البلوغ تتاح لمجلس الوصاية الذي يعمل تحت مظلة الملك كل الفرص والدوافع لخيانة ثقته. ونفس المأساة الوطنية تحدث عندما يقع ملك عجوز فريسة الشيخوخة والضعف والعجز ويدخل آخر مراحل الضعف الإنساني. وفي كلتا الحالتين يصبح الشعب فريسة لكل وغد لئيم يستطيع التلاعب جيدا بحماقات الشيخوخة أو الطفولة.
لقد كانت الحجة الأكثر قبولا على الإطلاق التي عرضت تأييدا للخلافة الوراثية هي أنها تحفظ الأمم من الحروب الأهلية؛ ولو كان هذا صحيحا لكان أمرا جللا؛ حيث إن تلك أكثر الأكاذيب التي فرضت على الجنس البشري وقاحة على الإطلاق. فتاريخ إنجلترا بأكمله ينكر هذا القول. لقد حكم ثلاثون ملكا واثنان من القصر تلك المملكة الحائرة منذ الفتح النورماندي، وخلال ذلك الوقت كان هناك ما لا يقل عن ثماني حروب أهلية (من بينها الثورة) فضلا عن تسع عشرة حركة تمرد. لذا فإن الخلافة الوراثية تعمل ضد السلام بدلا من أن تحققه، وبذلك تدمر الأساس ذاته الذي تستند إليه.
وضع التنافس على الملكية والخلافة بين أسرتي يورك ولانكستر إنجلترا وسط مشهد دموي سنوات عديدة؛ إذ خاض هنري وإدوارد اثنتي عشرة معركة ضارية، علاوة على الكثير من المناوشات والحصارات. وقع هنري أسيرا لإدوارد مرتين، ووقع إدوارد بدوره في أسر هنري. وكم يكون مصير الحرب ومزاج الأمة غامضين عندما لا يكون الصراع قائما إلا على أساس أمور شخصية، فحمل هنري في موكب المنتصر من السجن إلى القصر، واضطر إدوارد للفرار من القصر إلى أرض أجنبية؛ لكن لأن تحولات المزاج المفاجئة نادرا ما تكون دائمة فقد أزيح هنري بدوره عن العرش مرة أخرى وأعيد إدوارد لخلافته. ودائما ما كان البرلمان تابعا للجانب الأقوى.
بدأ هذا التنافس في عهد هنري السادس - ولم يهدأ تماما حتى مجيء هنري السابع، الذي توحدت فيه الأسرتان - واستمر مدة 67 عاما؛ من عام 1422 حتى عام 1489.
وباختصار فإن الملكية والخلافة قادتا العالم كله (وليس فقط مملكة أو أخرى) إلى الدم والخراب. إن الملكية شكل من أشكال الحكم تدينه تعاليم الله، ويلازمه الدم.
ولو أننا دققنا النظر في مهمة الملك لوجدنا أن الملوك في بعض البلدان لا عمل لهم؛ وبعد تضييع حياتهم دون تحقيق سعادة لأنفسهم أو ميزة للأمة، ينسحبون من الساحة ويتركون ذريتهم للسير على نفس الدرب البائس. في الأنظمة الملكية المطلقة يقع عبء العمل كله - المدني والعسكري - على كاهل الملك؛ وقد جادل بنو إسرائيل في طلبهم لتنصيب ملك عليهم بهذه الحجة: «يقضي لنا ملكنا ويخرج أمامنا ويحارب حروبنا.» ولكن في البلدان التي لا يكون الملك فيها قاضيا ولا قائدا عسكريا - كما هي الحال في إنجلترا - يتحير المرء في محاولة معرفة ما هو عمله.
كلما اقترب شكل الحكومة أكثر من الشكل الجمهوري قل العمل الذي يمكن أن يقوم به الملك. ومن الصعب إلى حد ما إيجاد اسم مناسب لحكومة إنجلترا. السير ويليام ميرديث يدعوها جمهورية، لكنها في وضعها الحالي لا تستحق هذا الاسم لأن التأثير الفاسد للتاج، عن طريق جعل كل الطبقات رهن تصرفه، ابتلع السلطة تماما، وقضى على قوة ونزاهة مجلس العموم (وهو الجزء الجمهوري من الدستور) إلى حد جعل حكومة إنجلترا ملكية بقدر ملكية حكومة فرنسا أو إسبانيا. إن الناس يتصارعون مع الأسماء دون فهم معانيها؛ لأن الجزء الجمهوري وليس الجزء الملكي من دستور إنجلترا هو الذي يفخر به الإنجليز؛ أي حرية اختيار أعضاء مجلس العموم من بين أفراد الشعب الإنجليزي؛ ومن السهل أن نرى أنه عندما تخفق الفضيلة الجمهورية تنشأ العبودية. ما سر سقم دستور إنجلترا إذن إن لم يكن السبب هو أن الملكية سممت الجمهورية، وأن التاج سيطر على مجلس العموم؟
في إنجلترا ليس لدى الملك ما يفعله سوى إشعال الحروب ومنح الهبات؛ وهو ما يعني صراحة إفقار الأمة وتأليب أهلها بعضهم على بعض. إنه عمل جميل حقا للمرء أن يحصل على ثمانمائة ألف جنيه استرليني سنويا، ويحظى في مقابل ذلك بكل التبجيل والتوقير! إن رجلا واحدا مخلصا نحو مجتمعه صادقا عند ربه أكثر قيمة وجدارة من كل البرابرة المتوجين ملوكا في كل العصور.
الفصل الثالث
أفكار حول الحالة الأمريكية الراهنة
في الصفحات التالية لن أعرض إلا لحقائق بسيطة، وحجج واضحة، ومنطق سليم؛ وليس لدي أي مطالب تمهيدية من القارئ سوى أن يجرد نفسه من الهوى والتحيز، ويسمح لعقله ومشاعره باتخاذ القرار؛ لا أطلب منه سوى أن «يلزم» الطبيعة الحقيقية للإنسان أو - بالأحرى - ألا «يبرح» هذه الطبيعة، وأن يتكرم بتوسيع أفكاره ورؤاه لتتسع لما وراء وقتنا الراهن.
لقد كتبت مجلدات عن موضوع الصراع بين إنجلترا وأمريكا. وقد انخرط في الجدل رجال من كافة مناحي الحياة ومنازلها، بدوافع مختلفة، ونوايا وأهداف متنوعة، ولكن كل هذا كان بلا طائل، وقد انتهت فترة الجدل، وأصبحت الأسلحة هي الوسيلة الأخيرة لتحديد مصير هذا الصراع؛ كان القرار هو اختيار الملك، وقبلت القارة التحدي.
لقد قيل إن الراحل السيد بيلهام (الذي لم يكن خلوا من الأخطاء بالرغم من كونه وزيرا بارعا)، عندما تعرض للهجوم في مجلس العموم بدعوى أن التدابير التي اتخذها كانت ذات سمة مؤقتة، رد قائلا: «سوف تبقى طوال حياتي.» ولو أن فكرة كارثية جبانة بهذا القدر تستحوذ على المستعمرات في الصراع الحالي، فإن الأجيال القادمة ستتذكر أسماء أسلافها بكل مقت.
إن الشمس لم تشرق قط على قضية أكثر أهمية من تلك؛ فهي ليست قضية مدينة، أو بلد، أو إقليم، أو مملكة، وإنما قضية قارة بأكملها؛ تشكل على الأقل ثمن المساحة القابلة للسكن على وجه الأرض. وهي ليست قضية يوم، أو سنة، أو عصر؛ فالأجيال المقبلة مشاركة فعليا في الصراع، وسوف تتأثر - بمقدار قل أو كثر، وحتى نهاية الزمن - بالأحداث التي تقع اليوم. وقتنا الحالي هو وقت زرع بذور الكرامة والإيمان والوحدة القارية؛ وأقل شقاق يحدث اليوم سيكون بمنزلة اسم محفور بسن دبوس على القشرة الرقيقة لشجرة بلوط؛ إذ سوف يزداد الجرح اتساعا مع نمو الشجرة وسوف تقرؤه الأجيال القادمة بحروف كبيرة واضحة.
وبتحول القضية من المقارعة بالحجة إلى حمل السلاح، بدأ عصر جديد للسياسة؛ وظهرت طريقة تفكير جديدة. أصبحت جميع الخطط والعروض والمقترحات التي سبقت تاريخ التاسع عشر من أبريل/نيسان، أي قبل بدء القتال، أشبه بتقويم العام الماضي؛ أي أنه مع أنها كانت ملائمة آنذاك فقد أصبحت لاغية وعديمة الفائدة الآن. وأيا كان ما قدمه المؤيدون لأي من جانبي القضية حينها فقد كان يلتقي عند نفس النقطة؛ وهي الوحدة مع بريطانيا العظمى : وكان الخلاف الوحيد بين الطرفين هو طريقة تفعيل تلك الوحدة؛ فطرف يقترح القوة والآخر يريد الصداقة؛ لكن ما حدث حتى الآن هو أن الأول أخفق، والثاني سحب تأثيره ونفوذه.
وإذ قيل الكثير عن مزايا المصالحة التي هلكت - كحلم جميل - وتركتنا كما كنا، فمن الصواب أن ندرس الجانب الآخر من المجادلة، ونفحص بعض الخسائر المادية العديدة التي تقاسيها هذه المستعمرات، وستظل تقاسيها دائما، من خلال ارتباطها ببريطانيا العظمى واتكالها عليها: أي أن نفحص الارتباط والاتكال وفقا لمبادئ الطبيعة والمنطق السليم، ونرى ما علينا أن نثق به، في حالة الانفصال، وما يمكن أن نتوقعه، في حالة الاتكال.
لقد سمعت البعض يؤكد أنه طالما أن أمريكا ازدهرت تحت مظلة ارتباطها السابق ببريطانيا العظمى فإن نفس الارتباط يكون ضروريا من أجل رخائها المستقبلي، وسيكون لهذا الارتباط دائما نفس التأثير. ولا شيء يمكن أن يكون أكثر تدليسا وخداعا من حجة كهذه. فبهذا يمكن أن نؤكد أيضا أنه طالما أن الطفل نما على رضاعة اللبن فإنه لا ينبغي له أبدا أن يتناول اللحم، أو أن السنوات العشرين الأولى من حياتنا يجب أن تكون سابقة تحتذى في السنوات العشرين التالية. ولكن حتى هذا يعد إقرارا بأكثر مما هو صحيح، لأنني أقول بكل صراحة وبلا مواربة إن أمريكا كانت ستزدهر بنفس القدر، وربما أكثر بكثير، لو لم تقحم أي قوة أوروبية أنفها في شئونها. فالمعاملات التجارية التي أثرت أمريكا بها نفسها هي من ضرورات الحياة، وسيظل السوق مفتوحا أمامها دائما طالما ظل تناول الطعام عادة لأوروبا.
ويقول البعض في أمريكا إن بريطانيا العظمى دافعت عنا. وأقول إنه صحيح ومسلم به أنها استحوذت على أمريكا ودافعت عن القارة على حسابنا وعلى حسابها، وكانت ستفعل المثل مع تركيا بنفس الدافع؛ دافع التجارة والسلطة.
لقد ظللنا وقتا طويلا منقادين بكل أسف لأهواء وتحاملات قديمة وقدمنا تضحيات هائلة من أجل الخرافات. لقد تباهينا بحماية بريطانيا العظمى، دون التفكر في أن دافع بريطانيا العظمى كان هو «المصلحة» لا «المودة»؛ في أنها لم تكن تحمينا من «أعدائنا» على «حسابنا»، وإنما تحمينا من «أعدائها» على «حسابها»؛ من أولئك الذين ما كانوا ليتصارعوا معنا بأي حال ولأي «سبب آخر»، والذين سيظلون دائما أعداء لنا «لنفس السبب». لتتخلى بريطانيا عن ادعاءاتها في ملكية القارة، أو لتتخلص القارة من اتكالها على بريطانيا، وسوف ننعم بالسلام مع فرنسا وإسبانيا لو كانتا في حالة حرب مع بريطانيا. ولا بد أن تحذرنا مآسي هانوفر في الحرب الأخيرة من مخاطر الارتباطات.
لقد أكد البرلمان مؤخرا على أن المستعمرات لا علاقة لبعضها ببعض إلا من خلال البلد الأم، أي أن بنسلفانيا وجيرسي وغيرها من المناطق هي مستعمرات شقيقة مملوكة لإنجلترا؛ وتلك بلا أدنى شك طريقة عكسية ملتوية لإثبات علاقة الارتباط، لكنها الطريقة الحقيقية الوحيدة والأقرب إلى إثبات العدائية، لو جاز لي تسميتها بهذا الاسم. إن فرنسا وإسبانيا لم تكونا أبدا، وربما لن تكونا أبدا عدوتين لنا بصفتنا أمريكيين إلا من خلال كوننا رعايا لبريطانيا العظمى.
يقول البعض: «ولكن بريطانيا هي البلد الأم». ولو كان ذلك، فإن سلوكها لجدير بالمزيد من العار؛ فحتى وحوش البرية لا تأكل صغارها، وحتى الهمج لا يشنون الحروب على أسرهم؛ ولهذا فلو صح هذا التأكيد لكان في جوهره لوم وتقريع؛ ولكن الواقع أنه ليس صحيحا، أو صحيح جزئيا فحسب، وعبارة «البلد الأم» هي عبارة استخدمها بدهاء الملك وبطانته الطفيلية لغرض حقير هو كسب انحياز جائر غير مستحق من الناس اعتمادا على ضعف عقولنا وسذاجتنا. إن أوروبا وليست إنجلترا هي البلد الأم لأمريكا. لقد كان هذا العالم الجديد هو المأوى والملاذ لمحبي الحرية المدنية والدينية المضطهدين من «جميع أنحاء» أوروبا. إلى هنا فروا، ليس من الأحضان الحنونة لأم وإنما من القسوة الرهيبة لوحش؛ وينطبق هذا بشدة على إنجلترا، وما زال نفس الطغيان الذي أخرج المهاجرين الأوائل من ديارهم يلاحق ذريتهم.
في هذا الجزء الرحيب من العالم، ننسى الحدود الضيقة التي لا تزيد على خمسمائة وثمانين كيلومترا (وهو امتداد إنجلترا) وندير صداقاتنا على نطاق أوسع؛ إننا نؤكد مشاعر الإخوة لكل مسيحي أوروبي، ونبتهج بسخاء هذا الشعور.
ومن الجميل أن نلاحظ تدرجنا المنتظم في التغلب على قوة تحاملنا المحلي بينما نوسع تعارفنا بالعالم. فأي رجل يولد في بلدة في إنجلترا المقسمة إلى أبرشيات سوف يكون أكثر ارتباطا بإخوانه من رعايا الأبرشية (لأن مصالحهم ستكون مشتركة في معظم الأحيان) وسوف يميز صاحبه باسم «الجار»؛ وإذا قابله على بعد بضعة أميال من البلدة، فإنه سيتخلى عن فكرة الشارع الضيقة ويحييه باسم «ابن البلدة»؛ وإذا سافر خارج البلاد وقابله في أي بلد آخر فإنه ينسى الانقسامات التافهة للشارع والبلدة ويدعوه «ابن الوطن»؛ ولكن إذا تقابلا في رحلاتهما خارج البلاد في فرنسا مثلا أو في أي بلد آخر في أوروبا؛ فإن ذاكرتهما المحلية ستتسع لتصبح ذاكرة أفراد «إنجليز». وبتفكير مكافئ لهذا التفكير يمكن القول إن جميع الأوروبيين الذين يلتقون في أمريكا - أو في أي جهة أخرى من العالم - يمكن تسميتهم «أبناء الوطن»؛ لأن إنجلترا أو هولندا أو ألمانيا أو السويد، عند مقارنتها بالكل المتكامل، تعني نفس الأماكن التي تعنيها تقسيمات أصغر مثل الشارع والبلدة والمقاطعة ولكن على نطاق أوسع؛ إنها تقسيمات محدودة للغاية بالنسبة لأصحاب العقول القارية. إن السكان المنحدرين من أصول إنجليزية لا يبلغون الثلث حتى في هذه المقاطعة. لذا فإنني أرفض تطبيق عبارة البلد الأم على إنجلترا وحدها، وأعتبرها عبارة كاذبة أنانية ضيقة ومقتصدة.
ولكن ما الذي يعنيه حتى الاعتراف بأننا ننحدر جميعا من أصل إنجليزي؟ لا شيء. فبريطانيا - وقد أصبحت الآن عدوا صريحا - تدمر كل اسم أو لقب آخر لها سوى العدو: والقول بأن المصالحة واجبنا هو ادعاء سخيف حقا. لقد كان أول ملوك إنجلترا، من السلسلة الحالية (وهو ويليام الفاتح) فرنسيا، ونصف نبلاء إنجلترا ينحدرون من نفس البلد؛ ومن ثم - ووفقا لنفس أسلوب التفكير - ينبغي أن تخضع إنجلترا لحكم فرنسا.
لقد قيل الكثير عن القوة الموحدة لبريطانيا ومستعمراتها، التي يمكن لها أن تواجه العالم كله. لكن هذا ليس سوى افتراض؛ فمصير الحرب ما زال غامضا، والمصطلحات أيضا لا تعني شيئا؛ لأن تلك القارة لن تجهد نفسها أبدا إلى حد استنزاف سكانها لدعم الجيوش البريطانية في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا.
وبالإضافة إلى ذلك ما شأننا نحن بتحدي العالم؟ إن خطتنا هي التجارة، وإذا اعتنينا بهذه الخطة جيدا، فإنها ستضمن لنا الأمن والصداقة مع أوروبا؛ لأن من مصلحة أوروبا كلها أن تكون أمريكا «ميناء حرا». ستكون التجارة الأمريكية بمنزلة حماية دائمة لأمريكا، وسيكون انعدام الذهب والفضة فيها بمنزلة صمام أمان لها من الغزاة.
إنني أتحدى أشد المؤيدين للمصالحة أن يبين لنا ميزة واحدة يمكن أن تحققها هذه القارة من خلال ارتباطها ببريطانيا العظمى. وأكرر التحدي، لن نحظى بميزة واحدة. إن الذرة الأمريكية سوف تجد من يشتريها في أي سوق في أوروبا، كما لا بد لنا من دفع ثمن بضائعنا المستوردة، وسوف نشتريها من حيث شئنا.
غير أن الأضرار والخسائر التي نتكبدها مقابل هذا الارتباط لا حصر لها؛ وواجبنا تجاه البشرية عموما، وتجاه أنفسنا، يدفعنا إلى رفض هذا التحالف؛ لأن أي خضوع أو اتكال على بريطانيا العظمى يؤدي مباشرة إلى توريط هذه القارة في الحروب والصراعات الأوروبية، ويجعلنا على خلاف مع أمم كانت لولا ذلك ستسعى إلى صداقتنا، ولا نحمل ضدها أي غضب أو حقد أو سخط. ولما كانت أوروبا هي سوق تجارتنا فلا يجب علينا أن نشكل أي ارتباطات متحيزة مع أي جزء منها. إن مصلحة أمريكا الحقيقية هي تجنب الارتباطات الأوروبية، وهو الأمر الذي لا تستطيع أبدا تحقيقه في الوقت الذي تمثل فيه - باتكالها على بريطانيا - وزنا زائدا لموازنة السياسات البريطانية.
إن أوروبا مكتظة بالممالك على نحو لا يسمح باستمرار السلام فيها وقتا طويلا، ومتى اندلعت حرب بين إنجلترا وأي قوة أجنبية، فستنهار التجارة الأمريكية؛ «بسبب ارتباطها بإنجلترا». وقد لا تنتهي الحرب القادمة كما انتهت سابقتها، وإذا حدث هذا فإن دعاة المصالحة اليوم سوف يتمنون الانفصال وقتها، لأن الحياد في هذه الحالة سيكون رفيقا أكثر أمانا من سفينة حربية. إن كل ما هو طبيعي أو صائب يتضرع من أجل الانفصال، فدماء القتلى وصوت الطبيعة المنتحب يصيحان: «حان وقت الفراق». حتى المسافة التي باعد الله بها بين إنجلترا وأمريكا دليل طبيعي وقوي على أن تسلط الأولى على الأخيرة ليس أمرا مقدرا أبدا من السماء. وبالمثل فإن الوقت الذي اكتشفت فيه القارة الأمريكية يضيف ثقلا إلى هذه الحجة، والطريقة التي سكنها بها الناس تزيد الحجة قوة. لقد سبق اكتشاف أمريكا عصر الإصلاح، وكأن رب العالمين شاء بكرمه أن يوجد ملاذا لمن سيضطهدون في السنوات المستقبلية، حيث لن توفر لهم أوطانهم صداقة ولا أمانا.
إن سلطة بريطانيا العظمى على هذه القارة هي شكل من أشكال الحكومة لا بد أن ينتهي إن عاجلا أو آجلا: ولا يمكن لعقل جاد أن يستمد أي متعة حقيقية من خلال التطلع للأمام في ظل يقين مؤلم ومؤكد بأن ما يسميه هذا العقل «الدستور الحالي» إن هو إلا دستور مؤقت. وكآباء، لا يسعنا الابتهاج ونحن نعرف أن «هذه الحكومة» لن تستمر بما يكفي لأن تضمن أي شيء يمكننا توريثه للأجيال القادمة: وبطريقة بسيطة في المجادلة يمكننا القول إننا إذا كنا سنورط الأجيال القادمة في الديون فعلينا نحن أن ندفع الثمن من جهدنا، وإلا فإننا نستغلهم بحقارة ودناءة. ولكي نعرف واجبنا على نحو صحيح، يجب أن نأخذ أبناءنا في أيدينا، ونحدد موضعنا بعد بضع سنوات في الحياة؛ هذا السمو سيظهر لنا آفاقا مستقبلية تحجبها عن أنظارنا بعض المخاوف والتحيزات القليلة الحالية.
ومع أنني أحرص بشدة على تجنب توجيه أي إهانة لا لزوم لها، فإنني أميل إلى الاعتقاد أن كل هؤلاء الذين يعتنقون مبدأ المصالحة يمكن إدراجهم تحت الأوصاف التالية: رجال مهتمون بالقضية ولكن لا يمكن الثقة بهم، رجال ضعفاء «لا يستطيعون» الرؤية، ورجال متحيزون «يرفضون» الرؤية، ومجموعة معينة من الرجال المعتدلين الذين يحسنون الظن بالعالم الأوروبي أكثر مما يستحق. وتلك الفئة الأخيرة - بسوء تفكر وتدبر - سوف تكون السبب في الكوارث التي ستحل بهذه القارة أكثر من أي فئة من الفئات الثلاث الأخرى.
من حسن حظ الكثيرين أنهم يعيشون بعيدا عن مشهد الحزن ؛ فالشر لم يصل إلى أبوابهم بما يكفي لجعلهم يشعرون بالخطر الذي يهدد جميع الممتلكات الأمريكية. ولكن دعوا مخيلاتنا تنقلنا بضع لحظات إلى بوسطن، فبؤرة البؤس تلك ستعلمنا الحكمة، وستعلمنا ألا نتخلى أبدا عن السلطة لمن لا يمكننا الثقة به. لم يعد أمام سكان تلك المدينة البائسة الآن - الذين كانوا منذ بضعة أشهر مضت فحسب يعيشون في دعة وثراء - أي بديل سوى أن يبقوا فيها ويتضوروا جوعا، أو يخرجوا منها ويمدوا أيديهم متسولين. سوف يكونون عرضة لنيران أصدقائهم إذا ظلوا داخل المدينة، أو ينهب الجنود ممتلكاتهم إذا رحلوا عنها. ففي حالتهم الراهنة هم سجناء دون أمل في الخلاص، وفي حالة شن هجوم عام لإغاثتهم، سوف يتعرضون لعنف وضراوة كلا الجيشين.
إن أصحاب الطباع السلبية يستخفون إلى حد ما بجرائم بريطانيا، ولسان حالهم - في غمرة أمنياتهم بأن يأتي الأفضل - يقول مناديا: «تعالوا، تعالوا، ينبغي أن نعود أصدقاء مجددا.» ولكني أقول لهؤلاء ادرسوا المشاعر والعواطف البشرية، وضعوا مبدأ المصالحة أمام اختبار الطبيعة، ثم أخبروني هل يمكنكم بعد ذلك أن تحبوا، وتحترموا، وتعملوا بإخلاص في خدمة القوة التي أعملت الحديد والنار في بلادكم؟ فإذا لم تستطيعوا فعل كل هذا فإنكم فقط تخدعون أنفسكم، وبتأخركم تجلبون الخراب على الأجيال القادمة. وسوف تكون علاقتكم المستقبلية ببريطانيا - التي لا تستطيعون أن تحبوها أو تحترموها - علاقة قسرية غير سوية، ولأنها تتشكل فقط وفقا لخطة ملاءمة ظرفية، فإن تلك العلاقة سوف تتعرض خلال وقت قصير لانتكاسة أسوأ من الانتكاسة الأولى. ولكن إذا قلتم إنكم ما زلتم تستطيعون ابتلاع الإهانات والتجاوز عن الانتهاكات، فإنني أسألكم: هل أحرقت بيوتكم؟ هل دمرت ممتلكاتكم أمام أعينكم؟ هل لا تجد زوجاتكم وأطفالكم فراشا ينامون عليه أو خبزا يعيشون عليه؟ هل فقدتم والدا أو ابنا على أيديهم لتصبحوا أنتم الناجين التعساء البائسين؟! إذا لم يحدث هذا لكم، فليس بوسعكم الحكم على من تعرضوا له. ولكن إذا كان ذلك قد حدث لكم وما زلتم تستطيعون مصافحة أيدي القتلة، فإنكم غير جديرين باسم الزوج أو الأب أو الصديق أو المحب، وأيا كانت مراتبكم أو ألقابكم في الحياة، فإن قلوبكم قلوب جبناء وأرواحكم أرواح أذلاء.
ليس هذا تأجيجا للنيران أو مبالغة في وصف الأمور وإنما هو محاولة لمعايشتها بالمشاعر والأحاسيس التي تبيحها الطبيعة، والتي بدونها سنكون عاجزين عن أداء الواجبات الاجتماعية في الحياة، أو التمتع بهنائها. إنني لا أقصد عرض هذا الرعب بغرض استثارة مشاعر الانتقام، وإنما أريد أن نستيقظ من غفوات قاتلة خبيثة، لكي يمكننا السعي بحسم وراء هدف ثابت. وليس بمقدور بريطانيا ولا بمقدور أوروبا كلها أن تهزم أمريكا ما لم تهزم أمريكا نفسها بفعل «التأخير» و«الجبن». والشتاء الحالي يساوي في قيمته دهرا كاملا إذا استغل على النحو الصحيح، ولكن إذا ضاع أو أهمل فستعم الكارثة القارة بأسرها، ولن يكون هناك عقاب كاف لأي إنسان يستغل وسيلة للتضحية بشتاء بكل هذه القيمة والفائدة، أيا كان هذا الإنسان وأينما وجد.
إنه لمن المنافي للعقل، وللنظام العام للأشياء، ولجميع الأمثلة من العصور السالفة أن نفترض أن هذه القارة يمكن أن تظل وقتا أطول خاضعة لأي قوة خارجية. إن أكثر الناس تفاؤلا في بريطانيا لا يعتقد ذلك. ولا يمكن لأقصى درجات الحكمة البشرية - في هذا الوقت - وضع خطة لا تحقق الانفصال، الذي يمكن أن يحقق للقارة ولو عاما من الأمان. لقد أصبحت المصالحة الآن حلما زائفا مراوغا. لقد نبذت الطبيعة الارتباط بين البلدين، ولا يمكن للخديعة أن تأخذ مكانها؛ فكما قال ميلتون بحكمة: «لا يمكن أن تنمو مصالحة حقيقية أبدا في موضع اخترقته جراح الكراهية القاتلة بعمق.»
لقد كانت كل الطرق الهادئة لإحلال السلام عقيمة؛ فرفضت تضرعاتنا بازدراء؛ ولم تحقق شيئا سوى إقناعنا أنه ما من شيء يرضي الغرور أو يؤكد تعنت الملوك أكثر من الالتماسات المتكررة؛ وما من شيء أسهم أكثر من ذلك المعيار نفسه في جعل الملكيات في أوروبا ملكيات مطلقة: وانظر حالة الدنمارك والسويد. لذا، لما لم يكن أي شيء سيحقق المطلوب سوى القتال، فدعونا بالله عليكم نصل إلى الانفصال النهائي ولا نترك الأجيال القادمة يذبح بعضها بعضا، تحت شعار مسميات مدنسة مبهمة مثل «الدولة الأم» و«الأبناء».
إن القول بأنهم لن يعودوا لظلمهم مرة أخرى أبدا لهو خيال واهم متبطل، فقد تصورنا ذلك عند إلغاء قانون الطوابع، ثم زالت أوهامنا بعد عام أو اثنين لا أكثر؛ لأنه وإن صح ذلك فيمكننا أيضا أن نفترض أن الأمم التي هزمت ذات مرة لن تقوم لها قائمة أو تجدد الصراع مرة أخرى أبدا.
وفيما يتعلق بشئون الحكومة فإن بريطانيا لا تستطيع إنصاف هذه القارة؛ فهذا الأمر سرعان ما سيصبح أثقل وأعقد من أن تنهض به - بقدر مقبول من الراحة - قوة بعيدة عنا وشديدة الجهل بأحوالنا؛ لأنه طالما أنهم عجزوا عن إخضاعنا، فإنهم لا يستطيعون حكمنا. إن السفر المتكرر مسافة ثلاثة أو أربعة آلاف ميل لعرض حكاية أو رفع عريضة، ثم الانتظار أربعة أو خمسة أشهر للحصول على رد - وعندما تحصل عليه تجده بحاجة إلى خمسة أو ستة ردود أخرى لشرحه وتفسيره - لهو أمر لا بد أن ينظر له بعد مرور بضع سنين على أنه حماقة وسذاجة؛ لقد كان حدوث ذلك في وقت مضى مناسبا، وكذلك هناك وقت مناسب للتوقف عنه.
إن الجزر الصغيرة غير القادرة على حماية نفسها هي الأهداف المناسبة التي يمكن أن تضمها الممالك تحت جناح رعايتها؛ ولكن من الغرابة والسخافة إلى أبعد حد أن نفترض أن تظل قارة كاملة خاضعة على الدوام لحكم جزيرة صغيرة. إن الطبيعة لم تجعل قط قمرا تابعا أكبر من الكوكب الذي يدور حوله، ولما كانت إنجلترا وأمريكا - بالمقارنة بينهما - تعكسان النظام العام للطبيعة، فمن البديهي أنهما تنتميان لنظامين مختلفين؛ إنجلترا تنتمي لأوروبا وأمريكا لنفسها.
إنني لست منقادا بدوافع فخر أو تحيز أو سخط لتبني مبدأ الانفصال والاستقلال؛ وإنما أنا مقتنع بوضوح وإيجابية وضمير حي أن المصلحة الحقيقية لهذه القارة أن تكون مستقلة، وأن كل ما هو دون ذلك هو فقط ترقيع، ولا يمكن أن يحقق السعادة الدائمة؛ وسيعني أن نترك السيف بأيدي أبنائنا، ونتقهقر في خوف في وقت يمكن فيه لقليل من الجهد وقليل من التقدم الإضافي أن يحقق لهذه القارة مجدا لا يدانيه مجد.
ولما كانت بريطانيا لا تظهر أدنى ميل نحو التوصل إلى تسوية، فيمكننا التيقن من أننا لن نحصل على اتفاق يحوز قبول القارة، أو أي سبل تساوي تكلفة الدم والمال التي أجبرنا بالفعل على دفعها.
إن الشيء المتنازع عليه لا بد أن يحمل دائما قيمة تتناسب مع النفقات. والتخلص من رئيس الوزراء البريطاني اللورد نورث، أو وزارته المقيتة كلها، هو أمر لا يستحق الملايين التي أنفقناها؛ فإيقاف مؤقت للتجارة كان سيمثل إزعاجا كافيا لموازنة إلغاء جميع القوانين موضوع الشكوى، لو حدث هذا الإلغاء؛ ولكن إذا كان لا بد أن تحمل القارة كلها السلاح، ويصبح كل رجل جنديا، فلا يمكن أن يكون هذا من أجل النضال ضد وزارة تافهة متعجرفة فحسب. إننا إذن ندفع ثمنا باهظا من أجل إلغاء القوانين، لو كان هذا هو كل ما نقاتل من أجله؛ لأننا - في حساب منصف للأمور - سنجد أنه من الحماقة أن ندفع الثمن الذي دفعناه في معركة «بانكر هيل» مقابل قانون أو أرض. ولأنني اعتبرت دائما أن استقلال هذه القارة حدث سيقع حتما عاجلا أم آجلا، فإنني أعتقد - من واقع التقدم السريع الذي حققته القارة مؤخرا نحو النضج - أن هذا الحدث لا يمكن أن يكون بعيدا. لذا فمع اندلاع أعمال القتال، لم يكن مهما المجادلة في أمر أصلحه الزمن أخيرا؛ وإلا فإن هذا أشبه بإضاعة عقار من أجل رفع دعوى قضائية ضد تجاوزات مستأجر أوشك عقده على الانتهاء. لم يكن هناك من هو أكثر مني حماسا في تمني الصلح قبل تاريخ التاسع عشر من أبريل/نيسان 1775، ولكن في اللحظة التي ذاع فيها خبر ما حدث في ذلك اليوم، كرهت إلى الأبد فرعون إنجلترا الغليظ الحقود؛ واحتقرت ذلك التعس الذي يحمل اللقب المزعوم «والد شعبه» ومع ذلك يستطيع سماع أنباء ذبح هذا الشعب بإحساس متبلد، ويستطيع النوم ملء جفنيه ودماء شعبه معلقة في ذمته.
ولكن ماذا ستكون الحال الآن إذا انصلحت الأمور؟ أجيب: سيكون خراب القارة، وذلك لعدة أسباب:
أولا:
مع بقاء سلطات الحكم في يد الملك، سيمارس سلطة سلبية على عملية سن التشريعات والقوانين في هذه القارة. ولما كان قد أظهر نفسه عدوا متعنتا للحرية، وكشف عن تعطشه الشديد للسلطة التعسفية؛ أفلا يكون من نوع الرجال الذين يقولون لتلك المستعمرات: «لن تسنوا قوانين سوى ما يرضيني»؟ وهل هناك أحد في أمريكا بلغ به الجهل حدا لا يعرف معه أن هذه القارة وفقا لما يسمى «الدستور الحالي» لا يمكنها سن أي قوانين سوى ما يسمح به الملك؛ وهل هناك إنسان بلغ من الحمق حدا لا يرى معه أن الملك (بالنظر فيما حدث) لن يسمح بسن أي قوانين هنا سوى ما يلائم أغراضه؟ من الممكن جدا استعبادنا بقوانين تسن في أمريكا بنفس فعالية خضوعنا لقوانين سنت لنا في إنجلترا. فبعد إصلاح الأمور (كما يقولون) هل يمكن الشك في أن سلطة التاج بأكملها ستمارس لإبقاء تلك القارة ضعيفة وذليلة قدر المستطاع؟ وبدلا من التقدم للأمام سنتراجع للخلف أو نتصارع على الدوام أو نقدم الالتماسات على نحو سخيف. إننا بالفعل أعظم مما يريد لنا الملك، لذا ألن يحاول في المستقبل أن يحط من شأننا؟ ولإيجاز المسألة في نقطة واحدة: هل القوة التي تغار من ازدهارنا هي القوة المناسبة لحكمنا؟ من يجيب عن هذا السؤال بالنفي فهو نصير للاستقلال؛ فالاستقلال لا يعني أكثر من اختيار بين أن نسن قوانينا بأنفسنا أو أن يقول لنا الملك - أعظم عدو لهذه القارة: «لن تكون هناك قوانين إلا التي أريد.»
ستقول إن الملك يمارس سلطة سلبية في إنجلترا؛ فالناس هناك لا يمكنهم سن القوانين دون موافقته. وفيما يتعلق بالحق وحسن النظام، هناك شيء في غاية السخافة في أن يقول شاب لم يتجاوز الحادية والعشرين من عمره (وهو ما يحدث كثيرا) لعدة ملايين من الناس يكبرونه سنا ويفوقونه حكمة: إنني أحظر تحول هذا الفعل أو ذاك إلى قانون. ولكنني في هذا المقام أرفض مثل هذا النوع من الردود - مع أنني لن أتوقف أبدا عن فضح ما ينطوي عليه من عبثية - وأكتفي بالقول إن إنجلترا حالة مختلفة تماما، باعتبارها موطن الملك، وأمريكا ليست كذلك. إن تأثير الملك السلبي «هنا» أكثر خطورة وفتكا بعشر مرات مما يمكن أن يكون عليه في إنجلترا، لأنه «هناك» نادرا ما سيرفض منح موافقته لمشروع قانون يجعل من إنجلترا دولة قوية قدر المستطاع، أما في أمريكا فإنه لن يسمح قط بتمرير مشروع قانون كهذا.
إن أمريكا ليست سوى موضوع ثانوي في نظام السياسة البريطانية، فإنجلترا لا تنظر إلى مصلحة هذه البلاد سوى بقدر ما يخدم أغراضها. لذا فإن مصلحتها تقودها إلى قمع نمو مصلحتنا في كل حالة لا تحقق تعزيزا لمصالحها، أو حتى تتداخل مع تلك المصالح بأي قدر. وسرعان ما سنصبح في حالة لطيفة في ظل حكومة كهذه، بالنظر إلى ما حدث! إن الرجال لا يتحولون من أعداء إلى أصدقاء حالما يتغير الاسم: ولكي أبين أن المصالحة الآن تعد مذهبا خطيرا، أؤكد «أن سياسة الملك هذه المرة ستكون هي إلغاء القوانين من أجل استعادة وضعه في حكومة الولايات التابعة» بغرض أن «يحقق بالحيلة والدهاء على المدى البعيد ما لا يستطيع تحقيقه بالقوة والعنف على المدى القريب». وهكذا فإن المصالحة والخراب يرتبطان بصلة وثيقة.
ثانيا:
حتى أفضل اتفاق يمكن أن نتوقع الحصول عليه لن يكون أكثر من حيلة مؤقتة، أو نوعا من حكومة تحت الوصاية لا يمكن أن تستمر فترة أطول مما تحتاجه المستعمرات لتشب عن الطوق، بحيث تكون الحالة العامة للأمور في الفترة المؤقتة مضطربة ومتزعزعة وغير مبشرة. وبالطبع لن يقرر المهاجرون أصحاب الممتلكات المجيء إلى بلد يتعلق شكل الحكومة فيه بخيط رفيع، ويترنح كل يوم على حافة الفوضى والاضطرابات، وسوف يستغل عدد من السكان الموجودين الفترة الفاصلة في التخلص من ممتلكاتهم وأمتعتهم ويرحلوا عن القارة كلها.
غير أن أقوى الحجج على الإطلاق تقضي بأن لا شيء سوى الاستقلال - أي: الشكل القاري للحكومة - يمكنه الحفاظ على سلام القارة وتجنيبها ويلات الحروب الأهلية. إنني أخشى الصلح مع بريطانيا الآن لأنه من المحتمل جدا أن تتبعه ثورة عصيان في مكان ما قد تكون عواقبها أكثر تدميرا من كل شرور بريطانيا.
لقد ألحقت الهمجية البريطانية الدمار بآلاف الناس بالفعل (وسيكون نفس المصير على الأرجح من نصيب آلاف آخرين). وهؤلاء الرجال لديهم مشاعر مختلفة عن مشاعر من لم يعانوا شيئا ولم يلحق بهم الأذى؛ وكل ما يملكه هؤلاء الآن هو الحرية، وقد ضحوا بما كانوا يمتلكونه من قبل في سبيل تلك الحرية، وإذ لم يعد لديهم ما يخسرونه بعد الآن، فإنهم يستهجنون فكرة الخضوع. علاوة على ذلك فإن المزاج العام للمستعمرات تجاه حكومة بريطانية سيكون شبيها بمزاج شاب نفد وقته في الحياة وأوشك على الموت؛ لن تبالي المستعمرات بتلك الحكومة مقدار ذرة. والحكومة التي لا يمكنها حفظ السلام ليست حكومة على الإطلاق، وفي هذه الحالة فإننا ندفع أموالنا ولا نحصل مقابلها على شيء؛ ونتضرع لما يمكن أن تفعله بريطانيا، التي ستكون سلطتها سلطة نظرية كليا ولا حقيقة لها فعليا، لو اندلعت فتنة أهلية بعد المصالحة مباشرة! لقد سمعت بعض رجال - وأعتقد أن كثيرا منهم يتكلم من دون تفكير - يقولون إنهم مرتعبون من الاستقلال، إذ يخشون أن يؤدي إلى اندلاع حروب أهلية. إن من النادر أن تكون أفكارنا الأولى صائبة حقا، وتلك هي الحال هنا أيضا؛ لأن في الارتباط المرقع بين البلدين ما يثير عشرة أضعاف الرعب الذي يثيره الاستقلال. إنني أتبنى قضية أصحاب المعاناة وأعتبرها قضيتي الشخصية، وأعلن أنني لو أخرجت من بيتي ودياري، ودمرت ممتلكاتي، وضاقت بي الأحوال، فإنني باعتباري إنسانا حساسا للجراح والخسائر والأضرار لا يمكنني أبدا استساغة مبدأ المصالحة، أو اعتبار نفسي ملزما به.
لقد أظهرت المستعمرات روح حسن النظام والطاعة للحكومة القارية على نحو كاف لجعل كل شخص عقلاني مسترخيا وراضيا. ولا يستطيع إنسان أن يجد لمخاوفه أدنى ذريعة إلا على أساس صبياني سخيف بحق؛ كأن تناضل إحدى المستعمرات مثلا من أجل التفوق على أخرى.
حيثما لا توجد فوارق، لا يكون هناك مجال للتفوق ، والمساواة المطلقة لا تمثل إغراء. إن جمهوريات أوروبا جميعا (ويمكننا القول دائما) تنعم بالسلام. هولندا وسويسرا لا تخوضان أي حروب، خارجية أو داخلية: أما الحكومات الملكية فلا تنعم بالراحة والسلام طويلا أبدا؛ فالتاج نفسه يمثل إغراء للمغامرين داخل البلاد؛ وهذه الدرجة من الكبر والفخر المصاحبة دائما للسلطة الملكية تتضخم لتتحول إلى قطيعة مع القوى الخارجية في حالات تتفاوض فيها الحكومات الجمهورية على الأخطاء، باعتبارها حكومات تشكلت على مبادئ يمكن وصفها بأنها أكثر انسجاما مع الطبيعة.
وإذا كان هناك أي سبب حقيقي للخوف من الاستقلال، فهذا السبب هو أنه لم توضع خطة بعد. فالناس لا يرون السبيل؛ لذا - وكمدخل إلى هذا الشأن - فإنني أعرض التلميحات التالية، وأؤكد بتواضع في الوقت نفسه أنني أنا نفسي أنظر إليها باعتبارها ليست أكثر من وسيلة لإبراز شيء أفضل. فلو أمكن جمع الأفكار المتناثرة من عقول الأفراد لشكلت تلك الأفكار مواد يستطيع الحكماء الأكفاء تحسينها لتتحول إلى جوهر مفيد.
فلتكن انتخابات المجالس النيابية سنوية، لاختيار الرئيس فقط. وليكن التمثيل أكثر مساواة. ولتكن أعمالها محلية بالكامل، وخاضعة لسلطة الكونجرس القاري.
فلنقسم كل مستعمرة إلى ست أو ثمان أو عشر مقاطعات مناسبة، على أن ترسل كل مقاطعة عددا مناسبا من النواب إلى الكونجرس، بحيث ترسل كل مستعمرة ثلاثين نائبا على الأقل. سيبلغ إجمالي عدد نواب الكونجرس 390 نائبا على الأقل. ويجب أن يجتمع المجلس كل عام ويختار رئيسا بالطريقة التالية: عندما تجتمع كل الوفود، تختار إحدى المستعمرات بالقرعة من بين جميع المستعمرات الثلاث عشرة، وبعد ذلك يختار الكونجرس كله (بالاقتراع) رئيسا من بين نواب تلك المستعمرة. وفي المؤتمر السنوي المقبل، تختار واحدة من المستعمرات الاثنتي عشرة المتبقية بالقرعة، حيث تستبعد المستعمرة التي جاء منها الرئيس في المؤتمر السابق، ويستمر الأمر على هذا النحو إلى أن تأخذ جميع المستعمرات الثلاث عشرة دورها. ولكي لا يتم تمرير أي مشروع ليصبح قانونا إلا ما يكون عادلا ومنصفا على نحو مرض ومقبول، ينبغي أن يوافق عليه ثلاثة أخماس أعضاء الكونجرس ليمكن تسميتهم بالأغلبية ؛ ومن يعزز الفرقة والشقاق تحت لواء حكومة تشكلت بكل هذا القدر من المساواة فإنه جدير بأن يكون رفيقا لإبليس في عصيانه.
ولكن لما كانت هناك حساسية خاصة تجاه الشخص أو الأسلوب الذي يبادر بهذا الأمر ابتداء، ولما كان الأكثر قبولا واتساقا فيما يبدو أن ينبع هذا النظام من هيئة ما في وضع متوسط بين الحكام والمحكومين، أي بين أعضاء الكونجرس والشعب؛ فلنعقد إذن «مؤتمرا قاريا»، على النحو التالي، وللغرض الآتي:
تنتخب لجنة من ستة وعشرين عضوا من أعضاء الكونجرس؛ أي اثنين عن كل مستعمرة. ويختار عضوان من كل مجلس نيابي أو مؤتمر إقليمي؛ وخمسة ممثلين لعامة الشعب داخل عاصمة كل إقليم، ليكونوا ممثلين ونوابا عن الإقليم كله، وذلك عن طريق حضور أكبر عدد ممكن من الناخبين أصحاب الحق في التصويت من جميع أنحاء الإقليم لهذا الغرض تحديدا؛ أو يمكن اختيار الممثلين في اثنين أو ثلاثة من أكثر أجزاء الإقليم من حيث تعداد السكان، إذا كان هذا أكثر ملاءمة. في هذا المؤتمر - الذي تجمع على هذا النحو - سيتحد أهم مبدأين في المسألة كلها وهما «المعرفة» و«السلطة». فأعضاء الكونجرس أو المجالس أو المؤتمرات سيكونون بمنزلة مستشارين أكفاء مؤهلين ونافعين من خلال خبراتهم في الشئون الوطنية، والمجموع كله - باعتباره يحظى بالتفويض والتمكين من الشعب - سيمتلك سلطة شرعية بحق.
وينبغي أن تكون مهمة الأعضاء المجتمعين في المؤتمر هي صياغة «ميثاق قاري»، أو ما يمكن تسميته «ميثاق المستعمرات المتحدة» (في مقابل وثيقة «ماجنا كارتا» لدى إنجلترا) لتحديد عدد أعضاء الكونجرس وطريقة اختيارهم، وكذا أعضاء المجالس، وتواريخ اجتماعهم، ووضع خطة العمل والاختصاص بينهم (مع تذكير أنفسنا دائما بأن قوتنا قوة قارية، وليست إقليمية)؛ من أجل تأمين الحرية والملكية لجميع الناس، وقبل كل شيء ممارسة الشعائر الدينية بحرية، وفقا لإملاءات الضمائر، مع أي أمور أخرى يبدو ضروريا أن يشتمل عليها الميثاق. وبعد وضع الميثاق مباشرة ينتهي ذلك المؤتمر، وتصبح الهيئات التي ينبغي اختيارها بما يتفق مع ما جاء في الميثاق هي جهات التشريع والحكم في الوقت الراهن في هذه القارة: أدام الله عليها السلام والهناء.
وفي حال فوضت أي مجموعة من الرجال فيما بعد لهذا الغرض أو لغرض مماثل، فإنني أعرض عليهم المقتطفات التالية للمراقب الحكيم للحكومات المدعو دراجونيتي، يقول دراجونيتي: «يكمن علم السياسي في تحديد الجهة الحقيقية للسعادة والحرية. وهؤلاء الرجال الذين يكتشفون نظاما للحكم يشتمل على أكبر قدر من السعادة الفردية بأقل تكلفة وطنية يستحقون الشكر والامتنان عبر عصور من الزمان.»
1
سيقول البعض ولكن أين يكون ملك أمريكا من كل هذا؟ سأخبرك: أيها الصديق، إنه يحكم من أعلى، ولا يبث الفوضى والخراب في البشرية كما يفعل ملك بريطانيا الغاشم. ولكن لكي لا نظهر بمظهر معيب ولو حسب معايير الكرامة الدنيوية، فلنحدد يوما لإعلان الميثاق رسميا؛ ونجلب الميثاق ونضعه إلى جانب الشريعة السماوية، كتاب الله؛ ثم نضع فوقهما التاج بعد ذلك، وبهذا يعرف العالم أجمع أنه فيما يتعلق بقبولنا للملكية، فإن «القانون هو الملك» في أمريكا. فكما أن الملك هو القانون في الحكومات المطلقة، فلا بد أن يكون القانون هو الملك في البلدان الحرة؛ ولا ينبغي أن يكون هناك ملك آخر. ولكن لكي لا ينشأ بعد ذلك أي سوء استخدام لهذا التتويج، فلنحطم التاج في نهاية الاحتفال وننثر أجزاءه بين أفراد الشعب الذين هم أصحابه الحقيقيون.
إن تشكيل حكومة خاصة بنا هو حق طبيعي لنا: وعندما يتفكر أي إنسان بجدية في عدم استقرار الشئون الإنسانية، فسوف يقتنع أنه من الأكثر حكمة وأمنا بكثير أن نضع دستورا خاصا بنا بأسلوب هادئ مدروس متأن بينما نستطيع فعل ذلك، لا أن نترك حدثا بهذه الأهمية رهنا للزمن والحظ. وإذا أغفلنا هذا الآن، فقد يظهر بعد ذلك بعض الثوار المتمردين على شاكلة الإسباني ماسانيلو،
2
والذين قد يستغلون القلاقل والاضطرابات الشعبية ويجمعون القانطين والساخطين حولهم، وباغتصابهم لسلطات الحكومة، قد يجرفون الحريات التي اكتسبتها القارة كالطوفان. ولو عادت حكومة أمريكا مجددا إلى أيدي بريطانيا فإن الوضع المتداعي للأمور سيكون مغريا لأي مغامر يائس بأن يجرب حظه؛ وفي هذه الحالة، ما الإغاثة التي يمكن أن توفرها لنا بريطانيا؟ من الممكن أن تنتهي الكارثة المدمرة كلها قبل أن تسمع بريطانيا أنباء ما يحدث، ونجد أنفسنا نعاني مثل البريطانيين التعساء تحت نير قمع واضطهاد ويليام الفاتح. أنتم يا من تعارضون الاستقلال الآن، إنكم لا تعلمون ما تفعلون؛ إنكم تفتحون بابا لطغيان أبدي عن طريق إبقاء مقعد الحكومة شاغرا. وهناك الآلاف وعشرات الآلاف ممن يعتقدون أن المجد يكمن في أن نطرد من قارتنا تلك القوة البربرية الجهنمية الغاشمة التي حرضت الهنود والزنوج على تدميرنا. للوحشية ذنب مزدوج؛ أننا تعاملنا بقسوة وهم تعاملوا بغدر.
إن الحديث عن الصداقة مع أولئك الذين تمنعنا عقولنا من أن نثق بهم، وتنصحنا مشاعرنا الجريحة أن نبغضهم، هو جنون وحماقة. وكل يوم يمر يبلي البقية القليلة الباقية من الأصول المشتركة بيننا وبينهم، فهل يمكن أن يكون هناك أي سبب منطقي يدعونا لأن نأمل أنه مع انتهاء العلاقة سوف تزيد المودة، أو يزيد الانسجام بيننا، بينما ستكون لدينا هموم ومخاوف نتصارع عليها أعظم وأخطر وأكثر بعشرة أضعاف من أي وقت مضى؟
أنتم يا من تحدثوننا عن الوئام والمصالحة، هل يمكنكم أن تعيدوا لنا الوقت الذي مضى؟ هل يمكنكم أن تعيدوا للفجور براءته السابقة؟ إنكم لا تستطيعون ذلك؛ ولا تستطيعون المصالحة بين بريطانيا وأمريكا. لقد انقطع الخيط الأخير الآن، والناس في إنجلترا يوجهون خطبهم الرسمية ضدنا. هناك خطايا لا يمكن للطبيعة أن تغفرها؛ ولو أنها فعلت لما أصبحت طبيعة. وكما لا يستطيع المحب العاشق أن يغفر لمغتصب محبوبته، لا تستطيع هذه القارة أن تصفح عن جرائم القتل التي ارتكبتها بريطانيا. لقد غرس الله جل جلاله فينا تلك المشاعر غير القابلة للإخماد لأسباب وجيهة وحكيمة؛ فهي القائمة على حراسة صورته في قلوبنا، وهي التي تميزنا عن باقي الحيوانات عامة. كان العقد الاجتماعي سينحل ويتبدد، ويقتلع العدل من الأرض - أو يكون وجوده عارضا - لو أننا كنا قساة غير حساسين للمسات العواطف والوجدان. وكان السارق والقاتل سيفلتان من العقاب في غالب الأحوال لو لم تحثنا الجراح التي تسوغها طبائعنا على طلب العدالة.
أنتم يا من تحبون البشرية! أنتم يا من تجرءون ليس فقط على معارضة الطغيان وإنما على معارضة الطاغية، قفوا بقوة وحزم! لقد اجتاح الظلم كل بقعة من بقاع العالم القديم، وطوردت الحرية في جميع أرجاء الأرض؛ فطردتها آسيا وأفريقيا منذ زمن بعيد، واعتبرتها أوروبا دخيلة غريبة، وأعطتها إنجلترا إنذارا للرحيل. فاستقبلوا تلك الهاربة إذن، وأعدوا للبشرية قبل فوات الأوان ملاذا آمنا.
هوامش
الفصل الرابع
عن القدرة الحالية لأمريكا، مع بعض التأملات
المتفرقة
لم ألتق قط برجل - سواء في إنجلترا أو أمريكا - إلا وكان رأيه أن انفصالا لا ريب فيه واقع يوما بين البلدين: ولم تكن هناك حالة أظهرنا فيها قدرة أقل على التبصر مما أظهرناها في محاولة وصف ما نسميه نضج القارة أو قدرتها على نيل الاستقلال.
وإذ يرى الجميع هذا الرأي ولا تتباين آراؤهم سوى فيما يتعلق بالتوقيت، فدعونا نلق نظرة عامة على الأمور - لكي نزيح الأخطاء جانبا - ونحاول - إن أمكن - أن نبحث لتحديد التوقيت المناسب «بالضبط». غير أننا لسنا بحاجة إلى الذهاب بعيدا، إذ سرعان ما سيتوقف البحث؛ لأن «الوقت قد حان بالفعل». فالتوافق العام، وذلك التوحد الرائع لسائر الأمور، يثبت هذه الحقيقة.
لا تكمن قوتنا الكبرى في أعدادنا، وإنما في توحدنا معا؛ وإن كانت أعدادنا في الوقت الراهن كافية لدرأ قوة العالم أجمع. فالقارة تمتلك - في وقتنا هذا - أكبر جماعة من الرجال المسلحين المنضبطين تتفوق بهم على أي قوة أخرى على وجه الأرض؛ كما أنها وصلت لقدر من القوة تستطيع معه كل المستعمرات الأمريكية - عندما تتوحد - تحقيق الاستقلال، ولكن لا تستطيع معه أي مستعمرة منفردة أن تدعم نفسها بنفسها، ولو زادت القوة عن ذلك أو قلت، فستكون تبعات ذلك مهلكة. إن قواتنا البرية كافية بالفعل، أما فيما يخص الشئون البحرية، فلا يمكننا أن نغفل أن بريطانيا لن تسمح أبدا ببناء سفينة حربية أمريكية واحدة طالما ظلت القارة واقعة في قبضتها. لذا علينا ألا نظل نعمل في هذا المضمار كوكلاء شحن مائة عام أخرى من الآن؛ والحقيقة أنه يجب علينا أن نقلل من بيع الأخشاب، إذ إن الغابات في بلادنا آخذة في التناقص يوما بعد يوم، والأخشاب التي ستتبقى لنا في النهاية، ستكون في أماكن بعيدة صعبة المنال.
ولو ظلت القارة تكتظ بالسكان، فلا شك أن معاناتها في ظل الظروف الراهنة ستصبح لا تطاق. وكلما زادت أعداد البلدات الساحلية لدينا، زاد حجم ما يجب علينا أن ندافع عنه ويمكن أن يقع في أيدي الأعداء. إن أعدادنا الآن تتناسب جدا مع احتياجاتنا، حتى إنه لن يوجد رجل واحد عاطل عن العمل. وسيتيح لنا تقليص حجم التجارة بناء جيش، وضرورات وجود الجيش ستخلق تجارة جديدة.
إننا غير مدينين لأي جهة؛ وأيا كان ما سنتفق عليه بناء على هذا سيشكل تذكارا مجيدا لفضيلتنا. إننا بهذا سنترك للأجيال القادمة شكلا مستقرا للحكومة، ودستورا مستقلا يهون في سبيله أي ثمن. أما إنفاق الملايين من أجل إبطال بضعة قوانين شائنة خسيسة، والاكتفاء بإقصاء الوزارة الحالية، فهو أمر لا يستحق تكلفته، وهو بمنزلة استغلال قاس بشع لأجيالنا القادمة؛ إذ إننا بذلك سنترك لهم مهمة هائلة إنجازها مطلوب منهم في حين يحملون على كاهلهم دينا ثقيلا لا يستفيدون منه بشيء. وفكرة كهذه لا تليق برجال شرفاء، وهي السمة الحقيقية المميزة للسياسيين ذوي القلوب المتحجرة وأصحاب المناورات السياسية الحقيرة.
إن الدين الذي سنتحمله لا يستحق عناء التفكير فيه ما لم يمكننا إنجاز العمل المطلوب. ولا توجد أمة لا تستدين. والدين الوطني رباط وطني؛ وعندما يكون بلا فوائد، فإنه لا يسبب المتاعب بأي حال. إن بريطانيا ترزح تحت عبء ديون تزيد على مائة وأربعين مليون جنيه استرليني، تسدد عنها فائدة تزيد على أربعة ملايين جنيه. وعوضا عن هذا الدين فإنها تمتلك أسطولا بحريا ضخما؛ أما أمريكا فلا ديون عليها، وليس لديها أسطول، لكنها تستطيع، مقابل واحد على عشرين من قيمة الدين الوطني الإنجليزي، امتلاك أسطول بنفس الحجم. إن الأسطول الإنجليزي لا تزيد قيمته - في وقتنا الراهن - على ثلاثة ملايين ونصف مليون جنيه استرليني.
صدرت الطبعتان الأولى والثانية من هذا الكتيب دون العمليات الحسابية التالية، التي نقدمها الآن دليلا على أن تقديرنا الذي أسلفناه لقيمة الأسطول الإنجليزي تقدير صحيح ومنصف.
1
تكلفة بناء سفينة من كل فئة، وتجهيزها بالصواري، والعوارض، والأشرعة، والحبال، بالإضافة إلى ما يكفي ثمانية أشهر من مؤن البحر من لوازم الملاحين وأعمال النجارة، وفقا لحسابات السيد بيرشيت، سكرتير البحرية.
عدد المدافع على السفينة
جنيه استرليني
100
35553
90
29886
80
23638
70
17795
60
14197
50
10606
40
7558
30
5846
20
3710
ومن هنا يسهل علينا جمع قيمة - أو بالأحرى تكلفة - الأسطول البريطاني بالكامل، الذي كان في عام 1757 - عندما كان في قمة مجده - يتكون من السفن والمدافع الآتي بيانها:
السفن
المدافع
تكلفة الوحدة
التكلفة الإجمالية
6
100
35553
213318
12
90
29886
358632
12
80
23638
283656
43
70
17785
764755
35
60
14197
496895
40
50
10606
424240
45
40
7558
340110
58
20
3710
215180
مجموع 85 مركبا شراعيا أحادي الصاري، وقاذفة قنابل، وحراقة
2000
170000 ---
التكلفة
3266786
المبلغ المتبقي للمدافع
233214 ---
المجموع
3500000
لا يوجد بلد على سطح الأرض في وضع أفضل، أو أقدر على بناء أسطول باستخدام موارده الداخلية مثل أمريكا؛ فالقطران، والأخشاب، والحديد، والحبال جميعها منتجات طبيعية موجودة في أراضيها. لن نحتاج إلى جلب أي شيء من الخارج؛ في حين أن الهولنديين، الذين يجنون أرباحا هائلة من وراء تأجير سفنهم الحربية للإسبان والبرتغاليين، يضطرون لاستيراد معظم المواد التي يستخدمونها من الخارج. ينبغي علينا أن ننظر إلى مسألة بناء أسطول بحري باعتبارها مشروعا تجاريا، وباعتبارها الصناعة الطبيعية لهذا البلد. إنه أفضل استثمار ننفق فيه أموالنا. فقيمة الأسطول عند الانتهاء منه تساوي أكثر من تكلفة بنائه. ولعلها من النقاط الإيجابية في السياسة الوطنية أن تجتمع التجارة وحماية أراضينا معا. فدعونا نبني سفن الأسطول؛ وإذا لم نحتج إليها، يمكننا بيعها؛ وبهذه الطريقة نستبدل الذهب والفضة بعملتنا الورقية.
أما فيما يتعلق بتجهيز السفن بأطقم البحارة، فالناس عادة ما يخطئون في رأيهم بهذا الشأن؛ فليس من الضروري أن يتحول ربع تعداد الشعب إلى بحارة. إن سفينة القرصنة الرهيبة «كابتن ديث» صمدت في وجه أعنف اشتباك يمكن أن تخوضه سفينة على الإطلاق خلال الحرب الأخيرة، وكان على متنها أقل من عشرين بحارا، مع أن طاقمها الكامل يربو على مائتي فرد. إن بضعة بحارة متمكنين وهواة يستطيعون بسرعة تدريب عدد كاف من رجال القوات البرية النشطين على الأعمال التقليدية التي تؤدى على السفن. لذا فإننا لن نكون أبدا أكثر قدرة على البدء في الشئون البحرية مما نحن عليه الآن، حيث أشجار غاباتنا قائمة، ومصايد أسماكنا غير صالحة للمرور فيها، وبحارتنا ونجارو سفننا عاطلون عن العمل. لقد بنيت السفن الحربية التي تحمل سبعين وثمانين مدفعا منذ أربعين عاما مضت في نيو إنجلاند، فلماذا لا يحدث مثل هذا الآن؟ إن بناء السفن أعظم مفاخر أمريكا، وهي صناعة سوف تتفوق فيها كلما مر الزمان على العالم كله. فممالك الشرق العظمى معظم أراضيها لا تطل على بحار، ومن ثم بعيدة عن إمكانية منافسة أمريكا. وتعيش أفريقيا حياة بربرية؛ ولا توجد في أوروبا قوة تملك امتداد السواحل الذي نتمتع به ولا الموارد الداخلية التي نملكها من المواد الخام. ومع أن الطبيعة عادة تعطي نعمة وتمنع أخرى؛ فإنها في حالة أمريكا أعطت كلتا النعمتين. فإمبراطورية روسيا المترامية الأطراف تكاد تكون معزولة عن البحار: ومن هنا فإن غاباتها التي لا حدود لها، وما تملكه من قطران وحديد وحبال صارت مواد للتجارة ليس إلا.
وإذا أتينا لنقطة الأمن، فهل من الحكمة ألا يكون لدينا أسطول؟ إننا لسنا بالشعب ضئيل العدد الآن، كما كنا منذ ستين عاما مضت؛ ففي ذلك الحين كنا آمنين على ممتلكاتنا في الشوارع أو بالأحرى في الحقول، وكنا نغفو في اطمئنان دونما حاجة إلى أقفال أو مزاليج نثبتها على أبوابنا أو نوافذنا. غير أن الحال الآن تبدلت، وأساليبنا الدفاعية آن لها أن تتطور لتواكب الازدياد في حجم ممتلكاتنا. إن أي قرصان عادي، منذ اثني عشر شهرا مضت، كان في مقدوره مهاجمة ديلاوير، وإخضاع مدينة فيلادلفيا لجزية فورية، وجمع ما شاء من مال؛ والشيء ذاته كان من الممكن أن يقع في أماكن غيرها. بل إن أي شخص جريء من عينة ذلك القرصان، معه سفينة مزودة بأربعة عشر أو ستة عشر مدفعا كان يستطيع أن ينهب القارة بأكملها، ويحمل معه مالا يقدر بنصف مليون. هذه ظروف تستدعي انتباهنا وتوضح ضرورة بناء قوة حماية بحرية.
قد يقول البعض إننا بعد أن نتوصل إلى تسوية مع بريطانيا ستعمل هي على حمايتنا. فهل يمكن أن نكون من الحماقة بحيث نظن أنها ستحتفظ بأسطولها في موانينا لهذا الغرض؟ إن المنطق السليم يقول لنا إن القوة التي سعت جاهدة لإخضاعنا هي آخر ما يمكننا الاعتماد عليه في الدفاع عنا. فمن الممكن تنفيذ غزو بذريعة الصداقة بين البلدين؛ وبذلك نجد أنفسنا بعد أن قاومنا ببسالة زمنا طويلا، قد وقعنا في النهاية ضحية لخدعة حولتنا إلى رقيق مرة أخرى. ثم إذا كنا لن نسمح لسفن بريطانيا بالبقاء في موانينا، فإنني أتساءل، كيف لها إذن أن تحمينا؟ إن أسطولا يقبع على بعد ثلاثة أو أربعة آلاف ميل من سواحلنا لا يمكن أن يفيدنا كثيرا، وفي حالات الطوارئ المباغتة سيكون هذا الأسطول غير ذي نفع على الإطلاق. ومن هنا أقول إنه إذا تحتم علينا الدفاع عن أنفسنا من الآن فصاعدا، فلم لا يكون ذلك بأيدينا نحن؟
ومع أن قائمة السفن والبوارج الحربية الإنجليزية طويلة وهائلة، فإن نسبة لا تتجاوز العشر منها هي التي تكون جاهزة للخدمة والقتال في أي وقت، فهناك أعداد منها لم يعد لها وجود ومع ذلك تظل أسماؤها مدرجة بكل غطرسة في القائمة، وإن لم يتبق من السفينة غير لوح خشبي واحد، وما يصلح من تلك السفن للاستخدام ويمكن إرساله إلى منطقة واحدة في وقت معين لا يزيد على خمس ذلك العدد. إن جزر الهند الشرقية والغربية، والبحر المتوسط، وأفريقيا، وغيرها من أجزاء العالم التي تبسط بريطانيا سلطانها عليها تفرض عبئا ثقيلا على أسطولها البحري. وبدافع مزيج من التحيز والغفلة كونا فكرة زائفة فيما يتعلق بالأسطول البحري الإنجليزي، وتحدثنا كما لو كنا سنضطر إلى مواجهته كله دفعة واحدة؛ ولهذا السبب افترضنا أنه يجب علينا أن نمتلك أسطولا بنفس الحجم؛ وهو أمر لا ضرورة عملية عاجلة له، وإن كانت حفنة من مؤيدي استمرار احتلال إنجلترا لأمريكا المتخفين استغلته لإثنائنا عن البدء في بناء أسطولنا. وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة؛ إذ لو أن أمريكا لديها فقط جزء واحد من عشرين من القوة البحرية التي تمتلكها بريطانيا، لأمكنها أن تتفوق عليها بمراحل، لأننا طالما لا نملك مستعمرات بالخارج ولا نريد ذلك، فإن قوتنا بأكملها ستبقى مخصصة لحماية سواحلنا، وحينئذ، على المدى البعيد، سنكون متفوقين بنسبة اثنين إلى واحد على تلك السفن التي تبعد عنا ثلاثة أو أربعة آلاف ميل بحري عليها أن تقطعها لتصل إلينا وتهاجمنا، ثم تعود نفس المسافة للتزود بالمؤن والجند. ومع أن بريطانيا بواسطة أسطولها تسيطر على ممر تجارتنا مع أوروبا فإننا مع ذلك نملك تجارة لا تقل عن تلك حجما وهي تجارتنا مع جزر الهند الغربية، التي تقع بكاملها تحت رحمة القارة الأمريكية بحكم مجاورتها لها.
ويمكن إيجاد وسيلة للاحتفاظ بقوة بحرية في أوقات السلم، في حال رأينا أن الاحتفاظ بقوة بحرية دائمة ليس ضروريا. فإذا قدمنا منحا للتجار كي يبنوا ويستخدموا سفنا مزودة بعشرين أو ثلاثين أو أربعين أو خمسين مدفعا (على أن تكون تلك الأموال متناسبة مع قدر الخسارة التي سيتحملها التجار في حجم تجارتهم)، فإن خمسين أو ستين من تلك السفن، مع بعض سفن الحراسة المعينة بصفة دائمة، سوف تشكل أسطولا كافيا، وهذا دون أن نحمل أنفسنا ذلك العب الثقيل الذي تحمله إنجلترا التي تجأر فيها الأصوات بالشكوى من المعاناة مع أسطولها البحري، الذي يظل في زمن السلم قابعا بلا عمل على أرصفة المرافئ. إن الجمع بين مناقب التجارة والشئون الدفاعية معا لهو سياسة حصيفة؛ لأنه عندما تتحد قوتنا مع ثروتنا وتتعاونان معا، فلن نخشى أي عدو خارجي.
إن أرضنا زاخرة بأغلب المواد التي نحتاجها لأمور الدفاع. فمحصول القنب الذي تصنع منه الحبال ينمو بوفرة، بحيث لن نحتاج لاستيراد الحبال؛ وحديدنا متفوق على حديد سائر البلدان الأخرى؛ وأسلحتنا الصغيرة تعادل مثيلتها في أي مكان في العالم؛ ويمكننا بكل يسر صب مواسير المدافع؛ كما أننا ننتج كل يوم ملحا صخريا وبارود المدافع؛ ومعرفتنا تتعاظم كل ساعة؛ والعزيمة صفة موروثة فينا، والشجاعة لم تفارقنا قط. فما الذي نريده أكثر من هذا؟ لماذا نتردد؟ إننا لا يمكن أن ننتظر شيئا من بريطانيا سوى الخراب والدمار. فلو سمحنا لها بحكم أمريكا مرة أخرى، فسوف تستحيل هذه القارة أرضا غير جديرة بالعيش فيها. سوف تزداد مشاعر الغيرة باستمرار؛ وستظل ثورات العصيان المسلح تندلع؛ ومن الذي سيتقدم لقمعها؟ من الذي سيغامر بحياته ويضحي برجال بلاده من أجل إخضاع تمرد أجنبي؟ إن الخلاف بين بنسلفانيا وكونيكتيكت، على بعض الأراضي، يبين مدى ضآلة الحكومة البريطانية، ويثبت بالدليل القاطع أنه لا يمكن سوى لسلطة قارية أن تنظم شئونا قارية.
وهناك سبب آخر وراء كون الوقت الراهن أفضل من غيره، ألا وهو أنه كلما كان عددنا أقل كانت مساحة الأرض غير المأهولة بالسكان أكبر، التي بدلا من تركها فريسة للملك ليمنح منها ويهب لحاشيته التافهة ما يشاء، يمكن فيما بعد استغلالها ليس فحسب لسداد الدين الحالي، وإنما كدعم دائم للحكومة، ولا توجد أمة على وجه الأرض تملك ميزة كهذه.
إن طور الطفولة الذي تعيشه المستعمرات الآن - كما يسمونه - هو حجة لصالح الاستقلال وأبعد ما تكون عن أن تناهضه. فنحن نتمتع بعدد كبير كاف، ولو كنا أكثر من هذا، فلربما أصبحنا أقل اتحادا. وهناك أمر جدير بالملاحظة، وهو أنه كلما زاد تعداد سكان بلد ما، قل عدد جيشه. ففيما يتعلق بأعداد الجيوش العسكرية تفوق القدماء على المحدثين: والسبب واضح؛ فالتجارة تأتي نتيجة لتزايد أعداد السكان، والرجال يصيرون أكثر انشغالا بها حتى إنهم لا يلتفتون إلى أي شأن آخر. فالتجارة تضعف الروح، سواء أكانت روح الوطنية أم روح الدفاع العسكري. والتاريخ يخبرنا بأن أشجع الإنجازات كانت دوما تقع في طور طفولة الأمم. فإنجلترا فقدت روحها مع تزايد اتجاهها نحو التجارة، ومدينة لندن، مع ما تكتظ به من أعداد البشر، تبتلع الإهانات المتواصلة بصبر الجبناء. وكلما زاد ما يملكه الناس ويخشون خسارته، قل استعدادهم للمخاطرة. فالأثرياء عموما عبيد لمخاوفهم، وهم يذعنون لسلطة البلاط الملكي في مهانة كلب ذليل مداهن .
سن الشباب هو التوقيت الأنسب لغرس العادات الطيبة، وينطبق هذا على الأمم كما ينطبق على الأفراد. وقد يكون من العسير - إن لم يكن من المستحيل - جمع القارة في حكومة واحدة بعد نصف قرن من الآن. فالتنوع الواسع للمصالح، الذي يتسبب فيه ازدياد حجم التجارة وتعداد السكان، من شأنه أن يصنع ارتباكا. سوف تعادي المستعمرات بعضها بعضا، فمع قوة كل واحدة منها يمكن أن تزدري معاونة الأخرى: وبينما يتفاخر المتباهون والحمقى بمستعمراتهم الصغيرة المنفصلة، سوف ينتحب الحكماء وينوحون لأن الاتحاد لم يتشكل من قبل. لذا فإن «الوقت الحاضر» هو «الوقت المناسب» للاتحاد. فالحميمية التي ترعرعت في الطفولة البريئة، والصداقة التي صهرت في بوتقة المحن، هما الأكثر دواما وثباتا بين جميع المقومات الأخرى. إن اتحادنا الحالي يتميز بهاتين الصفتين: إننا شباب وقد ابتلينا بمحنة؛ لكن تآلفنا تغلب على محنتنا، وصنع مساحة بارزة جديرة بأن تذكرها الأجيال القادمة بكبرياء واعتزاز.
الوقت الراهن كذلك وقت مميز لا يمر بأي أمة على الإطلاق سوى مرة واحدة في عمرها، لأنه الوقت الذي تتجمع فيه الأمة لتشكل حكومتها. ومعظم الأمم تركت تلك الفرصة تنساب من بين يديها، وبهذا أرغمت على الخضوع لقوانين فرضها عليها غزاتها، بدلا من أن تضع هي قوانينها بنفسها. ففي البداية يكون لهم ملك، ثم يشكلون حكومة؛ بينما يجب أن تتشكل مواد ومواثيق الحكومة أولا، ثم ينتخب رجال يعهد إليهم بتنفيذها بعد ذلك، ولكن دعونا نتعلم الحكمة من أخطاء الأمم الأخرى، ونتشبث بالفرصة السانحة لنا الآن؛ «أن نبدأ تشكيل الحكومة من النقطة الصحيحة.»
عندما أخضع ويليام الفاتح إنجلترا لسلطانه، منحها القانون فوق سنان سيفه؛ وما لم نتفق جميعا على أن مقعد الحكومة في أمريكا يجب أن يشغل على أساس شرعي وبتفويض من الشعب، فسنظل عرضة لخطر أن يشغل هذا المقعد بربري متوحش يمتلك ثروة، ويعاملنا بنفس أسلوب ويليام الفاتح، ومن ثم، أين ستذهب حريتنا؟ وأين ستذهب ممتلكاتنا؟ وفيما يتعلق بالدين، فإني أعتبر أن الواجب الحتمي للحكومة أن تحمي سائر المؤمنين أصحاب الضمير، ولا أعرف شيئا آخر يتعين على الحكومة أن تنشغل به غير ذلك، أن تجعل الإنسان يتخلى عن ظلام روحه، وأنانية مبادئه، التي يتمسك بها البخلاء من جميع المذاهب بلا أدنى استعداد للتخلي عنها، وبذلك سوف يتحرر من مخاوفه. إن الشك هو رفيق النفوس الوضيعة، وآفة جميع المجتمعات الصالحة. أما عن نفسي فإنني أؤمن مخلصا وبصدق أن إرادة الله عز وجل شاءت أن يكون هناك تنوع في الآراء الدينية السائدة بيننا: فهذا يتيح ميدانا أعظم لطيبتنا بوصفنا مسيحيين. ولو كنا جميعا نتبع أسلوبا واحدا في التفكير، لصارت توجهاتنا الدينية بحاجة للاختبار؛ وبناء على هذا المبدأ التحرري، أعتبر الطوائف الدينية المختلفة الموجودة بيننا بمنزلة أطفال في أسرة واحدة، لا يختلفون إلا في الأسماء.
بعد صفحات قليلة، أطرح بضع أفكار حول ما أسميه «الميثاق القاري» (وأفترض هنا أنني أقدم تلميحات فقط، وليس خططا تفصيلية)، وهنا، أمنح نفسي حرية إعادة ذكر الموضوع، بملاحظة أنه يجب علينا فهم الميثاق باعتباره رابطا من الالتزام المقدس، على الجميع أن يرتبطوا به من أجل مؤازرة حق كل طرف مستقل سواء أكان هذا الحق حرية دينية أم حرية شخصية أم ملكية. إن صفقة قائمة على أساس وطيد وحسابات صحيحة تبني علاقة صداقة قوية ومستمرة.
في صفحة سابقة ذكرت كذلك ضرورة وجود تمثيل كبير ومتساو لأفراد الشعب؛ ولا يوجد شأن سياسي جدير باهتمامنا أكثر من هذا الشأن. قلة عدد الناخبين أو قلة عدد النواب كلاهما أمر على نفس الدرجة من الخطورة. ولكن إذا كان عدد النواب ليس قليلا فحسب وإنما لا يتسم بالمساواة أيضا، يصبح الخطر أعظم. وكمثال على ذلك أذكر ما يلي: عندما طرح التماس «مؤسسي الاتحاد» على مجلس نواب بنسلفانيا؛ لم يكن حاضرا سوى ثمانية وعشرين عضوا فقط، وصوت جميع الأعضاء الممثلين لمقاطعة باكس - وعددهم ثمانية - ضده، ولو فعل مثلهم سبعة من أعضاء مقاطعة تشيستر، لصار المتحكم في سائر الإقليم مقاطعتين فحسب، والإقليم عرضة دوما لهذا الخطر. وبالمثل ينبغي أن يكون هذا الضغط غير المبرر، الذي مارسه هذا المجلس خلال آخر جلساته من أجل كسب سيطرة غير مستحقة على ممثلي هذا الإقليم، بمنزلة تحذير لكافة أفراد الشعب من أن السلطة تتسرب من بين أيديهم. لقد وضعت مجموعة من التعليمات للممثلين، تعد من منطلق المنطق والأعمال عارا حتى على صبية المدارس، وبعد أن أقرها «قليلون»، استطاعت «قلة قليلة» دخول المجلس، وهناك صوتوا على القرارات «نيابة عن المستعمرة بأكملها»؛ في حين لو علمت المستعمرة بأكملها بالنية السيئة التي استخدم بها أعضاء المجلس بعض الإجراءات العامة الضرورية، لما ترددوا لحظة في اعتبارهم غير أهل لتلك الثقة.
إن الضرورة المباشرة تجعل كثيرا من الأمور ملائمة، لكنها لو ظلت تمارس فسوف تتحول إلى إجراءات ظالمة جائرة. كما أن النفعية والحق أمران مختلفان. فعندما استدعت المصائب التي حلت بأمريكا التشاور، لم تكن هناك وسيلة جاهزة - أو بالأحرى وسيلة مناسبة في ذلك الوقت - إلا تعيين أشخاص ينتمون إلى مجالس نيابية متعددة لهذا الغرض؛ وحافظت الحكمة التي تحلى بها هؤلاء على هذه القارة من الخراب. ولكن لما صار من غير المناسب الآن أن نظل دون «مجلس نواب» موحد، فإن كل من يتمنى بصدق نظاما صالحا، يجب عليه أن يقر بأن أسلوب اختيار أعضاء ذلك المجلس أمر يستحق الدراسة. وإنني أطرح الأمر على هيئة سؤال على هؤلاء الذين يدرسون الجنس البشري، أليس التمثيل النيابي والانتخاب سلطة هائلة يجب ألا تمتلكها نفس المجموعة من الناس؟ عندما نخطط لأجيالنا المقبلة، علينا أن نتذكر دوما أن الفضيلة ليست وراثية.
من أعدائنا كثيرا ما نستقي دروسا ممتازة، وكثيرا ما تدفعنا دهشتنا من أخطائهم إلى التفكير المنطقي، فالسيد كورنوول (أحد لوردات وزارة المالية) تعامل مع الالتماس الذي تقدم به مجلس نواب نيويورك بازدراء، لأن «ذلك المجلس»، على حد تعبيره، يتكون من ستة وعشرين عضوا فقط، وهو - في زعمه - عدد تافه لا يمكن أن يكون معبرا بصورة صحيحة عن المجموع. ونحن نشكره على صراحته العفوية غير المقصودة.
2
وفي الختام، مهما بدا الأمر غريبا في نظر البعض، وبغض النظر عن درجة عدم استعدادهم لتقبله، فإننا نستطيع تقديم العديد من الأسباب القوية والواضحة التي تبين أنه ما من شيء يمكنه أن يحقق الاستقرار لشئوننا الخاصة بسرعة كإعلان استقلال صريح وحاسم. وفيما يلي بعض هذه الأسباب:
أولا:
من عادة الأمم، عندما تندلع الحرب بين بلدين، أن تتقدم قوى أخرى غير ضالعة في النزاع لتلعب دور الوسيط، وتطرح بعض المقترحات المبدئية لإقرار السلام: ولكن لما كانت أمريكا تعتبر نفسها إقليما خاضعا لبريطانيا العظمى، فلن تتدخل أي قوة، مهما كانت مكانتها، لتعرض الوساطة. وهكذا فمن الممكن في وضعنا الراهن أن نظل في حالة صراع إلى الأبد.
ثانيا:
من غير المنطقي أن نفترض أن فرنسا أو إسبانيا سوف تقدمان لنا أي نوع من المساعدة، إذا كنا لا نهدف إلا لاستغلال تلك المساعدة في إصلاح العلاقات وتقوية الروابط بين بريطانيا وأمريكا؛ لأن هاتين القوتين سوف تعانيان من العواقب.
ثالثا:
لما كنا نحن أنفسنا نقر بأننا تابعون لبريطانيا، فلا بد أن الأمم الأجنبية تنظر إلينا على أننا متمردون. وهذه السابقة تشكل نوعا من الخطر يهدد سلامهم، لأن هذا يعني أن رعايا تلك الأمم يمكنهم حمل السلاح ضدها؛ ونحن من يستطيع حل ذلك التناقض العجيب فورا؛ أما الجمع بين المقاومة والتبعية فهو أمر يتطلب فكرا أرقى بكثير من مستوى الفهم العادي.
رابعا:
إذا صدر إعلان استقلال رسمي، وأرسل إلى ملوك الأمم الأخرى، شارحا ما تحملناه من بؤس وشقاء، والسبل السلمية التي اتبعناها للإصلاح دون جدوى؛ ومعلنا في الوقت ذاته أننا لما أصبحنا غير قادرين بعد اليوم على العيش في سعادة أو أمن تحت رحمة البلاط البريطاني الذي لا يعرف الرحمة، فإننا مضطرون اضطرارا لقطع جميع الروابط معها؛ وفي الوقت نفسه يطمئن هذا الإعلان جميع الممالك الأخرى إلى أننا سننزع مسالمتها، وأننا راغبون في إقامة علاقات تجارية معها: فلا بد أن هذا البيان سيعود على القارة بنتائج أفضل من إرسال سفينة محملة بالتوسلات إلى بريطانيا.
تحت مسمانا الحالي بوصفنا تابعين للتاج البريطاني، لا يمكن أن يستقبلنا أو يسمعنا أحد في الخارج؛ فعادات جميع البلاطات الملكية تقف ضدنا، وسوف تظل كذلك إلى أن ننضم إلى صفوف باقي الأمم بفضل الاستقلال.
قد تبدو تلك الإجراءات غريبة وعسيرة في البداية؛ ولكنها، كباقي الخطوات الأخرى التي اتخذناها بالفعل، سوف تصبح خلال مدة وجيزة مألوفة ومقبولة؛ وما لم يعلن الاستقلال، فستظل القارة تشعر وكأنها رجل مستمر في تأجيل القيام بعمل يكرهه يوما بعد يوم، مع أنه يعلم ضرورة إنجاز هذا العمل، لكنه يكره البدء فيه، ويتمنى لو أنه انتهى، وتؤرقه دائما خواطر تخبره بحتمية القيام به.
هوامش
ملحق
منذ صدور الطبعة الأولى من هذا الكتيب، أو بالأحرى، في ذات اليوم الذي صدرت فيه، نشر على الملأ خطاب الملك في هذه المدينة. ولو كانت روح النبوة هي التي توجه هذا العمل، لما اختارت مناسبة أوفق، أو وقتا أكثر إلحاحا. فالعقلية الدموية للخطاب أظهرت بجلاء ضرورة اتباع المبدأ الذي نادى به هذا الكتاب. لقد قرأ الناس كتابي بقصد الانتقام من خطاب الملك. أما الخطاب فبدلا من أن يبث الرعب فقد مهد الطريق أمام مبادئ الاستقلال الشجاعة.
إن الاحتفاء، وحتى الصمت - أيا كان الدافع الذي ينبعان منه - يتسمان بنزعة مؤلمة عندما يمنحان أدنى قدر من التكريم لسلوك خبيث وبغيض؛ لذا إذا سلمنا بهذا المبدأ، فستكون النتيجة الطبيعية هي أن خطاب الملك - باعتباره تحفة من الخسة المطلقة - يستحق اللعن من قبل الكونجرس والشعب. غير أنه لما كان السلام المحلي للأمم يعتمد بشدة على «عفة» ما يمكننا أن نسميه على نحو مناسب «الأخلاقيات الوطنية»، فكثيرا ما يكون تجاهل بعض الأمور بازدراء صامت أفضل من اللجوء إلى الوسائل الحديثة في التعبير عن الاستهجان. وربما يعود الفضل الأكبر في تلك الرقة المتعقلة إلى أن خطاب الملك لم يتعرض قبل الآن لرفض شعبي حاسم كالذي قوبل به هذه المرة. فالخطاب - لو جاز لنا أن نسميه خطابا - ليس أكثر من افتراء باطل وقح ومتعمد على الحقيقة والخير العام والوجود الإنساني ذاته؛ وهو أسلوب فظ ومتغطرس لتقديم قرابين بشرية على مذبح كبرياء الطغاة. غير أن هذه المذبحة الجماعية للإنسانية هي إحدى امتيازات الملوك، وعاقبة وجودهم المؤكدة؛ لأنه كما أن الطبيعة «لا» تعرفهم فإنهم أيضا «لا يعرفونها»، ومع أنهم مخلوقات من جنس البشر الذي ننتمي إليه، فإنهم «لا يعرفوننا» كذلك، فقد تحولوا إلى آلهة لمن صنعهم ووضعهم على عروشهم. غير أن الخطاب به سمة جيدة واحدة وهي أنه لم يحاول خداعنا، وما كان لنا أن ننخدع به، حتى لو شئنا هذا. إن الوحشية والطغيان ظاهران فيه بلا مواربة؛ وهو لا يترك لنا مساحة للشك أو الحيرة: وكل سطر فيه يقنعنا - منذ لحظة قراءتنا له - أن الهندي العاري البدائي الذي يجوب الأحراش بحثا عن فريسة أقل وحشية من ملك بريطانيا.
في كتابه المحتال المليء بالنحيب والمسمى زورا «كلمة من شعب إنجلترا إلى سكان أمريكا»، وصف لنا مؤلفه المزعوم السير جون دالريمبل - ربما بدافع من افتراض مزهو فارغ أن الناس هنا في أمريكا سوف يفزعون من عظمة الملك ووصفه (مع أن تلك كانت حماقة شديدة من جانبه) - الشخصية الحقيقية للملك الحالي؛ إذ يقول: «ولكن إذا كنتم تميلون إلى إسباغ الثناء على إدارة ما، وهو أمر لا يثير سخطنا» (يقصد ماركيز روكينجهام فيما يتعلق بإلغاء قانون الطوابع) «فمن الظلم والجور من جانبكم أن تحجبوا هذا الثناء عن هذا الملك الذي لا يسمح لأحد بفعل أي شيء سوى بإشارة منه.» إنه الانحياز الأعمى للملك! والوثنية بلا حجاب: وأي إنسان يستطيع سماع هذا القول واستيعابه دون أن يفقد هدوءه يكون قد خسر ادعاءه العقلانية وكفر بالإنسانية؛ ويجب اعتباره ليس فقط ممن تخلوا عن كرامة الإنسان وإنما ممن نزلوا بأنفسهم إلى ما دون مرتبة الحيوانات، وزحفوا في مهانة كالديدان في هذا العالم.
غير أن ما يقوله أو يفعله ملك إنجلترا لم يعد يهمنا كثيرا الآن؛ فلقد خرق بخبثه جميع الالتزامات الأخلاقية والإنسانية، وسحق بقدميه الطبيعة والضمير معا؛ وبروح ثابتة ومتأصلة من الغطرسة والفظاظة، اكتسب لنفسه بغضا عاما. ومن مصلحة أمريكا الآن أن تعول نفسها بنفسها. إنها تمتلك بالفعل أسرة كبيرة وشابة، وصار واجبها أن تعتني بها لا أن تهب ممتلكاتها لمساندة قوة صارت سبة في جبين الإنسانية والمسيحية؛ أنتم يا من تحملكم مناصبكم مسئولية مراقبة أخلاقيات الأمة، أيا كانت طائفتكم أو المسمى الذي تحملونه، وأنتم يا من تقفون حراسا على الحريات العامة، إذا كنتم تودون الحفاظ على وطنكم الأم غير مدنس بالفساد الأوروبي، فعليكم أن تتمنوا الانفصال سرا. ولكن مع ترك الجانب الأخلاقي للتدبر الشخصي، سوف أقصر ملاحظاتي الإضافية على النقطتين التاليتين:
أولا:
مصلحة أمريكا تكمن في الانفصال عن بريطانيا.
ثانيا:
أي الخطتين هي الأسهل والأكثر عملية: «المصالحة أم الاستقلال»؟ مع بعض التعليقات المتفرقة.
لدعم الملاحظة الأولى كان يمكنني - في حال رأيت ذلك مناسبا - أن أعرض رأي بعض أكثر الرجال حنكة ومقدرة وخبرة وبراعة في هذه القارة؛ الذين لم يفصحوا علانية بعد عن آرائهم في هذا الشأن. إنه وضع بديهي في واقع الأمر؛ إذ لا توجد أمة تعيش حالة من التبعية لجهة أجنبية، مقيدة في تجارتها، وذات سلطات تشريعية مقلصة ومغلولة إلى عنقها، يمكنها في يوم من الأيام أن تصل إلى أي وضع بارز بين الأمم. فأمريكا لا تعرف بعد ما هي الثروة؛ ومع أن التقدم الذي أحرزته لا نظير له في تاريخ أمم أخرى، فإنه تقدم لم يتجاوز بعد مرحلة الطفولة مقارنة بما كان يمكنها تحقيقه لو أنها امتلكت السلطات التشريعية بين أيديها، وكما ينبغي لها. فإنجلترا في زمننا هذا تشتهي بتباه ما لن يجديها نفعا لو أنها تمكنت من تحقيقه؛ وهذه القارة تتردد بشأن أمر سيكون فيه دمارها النهائي لو أهملته. إن التجارة وليس غزو أمريكا هي ما يمكن أن تنتفع به إنجلترا، وهي ما يمكن أن يستمر بقدر كبير لو كان البلدان مستقلين أحدهما عن الآخر، كفرنسا وإسبانيا مثلا؛ لأن أيهما لا يستطيع التوجه إلى سوق أفضل من أجل الحصول على العديد من السلع. ولكن استقلال هذا البلد عن بريطانيا أو عن أي بلد آخر هو الهدف الوحيد الجدير بأن نناضل من أجله الآن، وهو الهدف الذي سيصبح أكثر وضوحا وأكثر قوة مع كل يوم يمر، شأنه في ذلك شأن كل الحقائق التي تكشف عنها الضرورة.
أولا:
لأن الأمر سينتهي إلى ذلك عاجلا أو آجلا.
ثانيا:
لأنه كلما طال تأخيره أصبح تحقيقه أكثر صعوبة.
كثيرا ما كنت أتسلى وسط جماعات عامة أو خاصة بالتعليق الصامت على الأخطاء الخادعة الماكرة لأولئك الذين يتحدثون دون تدبر فيما يقولون. ومن بين الأقوال العديدة التي سمعتها، يبدو لي أن القول التالي هو الأكثر انتشارا بين الناس، وهو أنه لو حدث هذا الانفصال بعد أربعين أو خمسين عاما، بدلا من أن يحدث «الآن»، لصارت القارة آنذاك أكثر قدرة على التخلص من تبعيتها ونيل استقلالها. وأرد على هذا بالقول إن قدراتنا العسكرية، «في وقتنا هذا»، نابعة من الخبرة التي اكتسبناها خلال الحرب الأخيرة، وسوف تتلاشى كليا بعد أربعين أو خمسين عاما من الآن. فالقارة في ذلك الوقت، لن يتبقى لها جنرال أو حتى ضابط عسكري واحد؛ وسنكون نحن، أو أولئك الذين سيأتون من بعدنا، جاهلين بالشئون العسكرية كالهنود القدماء. وهذا الوضع وحده - إذا أوليناه عنايتنا - سوف يثبت دون أدنى شك أن الوقت الحالي هو أفضل الأوقات جميعا. وهكذا تصبح الحجة كالتالي: مع نهاية الحرب الأخيرة، صرنا نمتلك الخبرة، ولكننا نفتقر إلى الأعداد الكافية؛ وبعد أربعين أو خمسين عاما من الآن، سوف نمتلك الأعداد، لكن دون خبرة؛ لذا فإن النقطة الزمنية المناسبة لا بد أن تقع في لحظة معينة بين هذين الطرفين، إذ عندها يتبقى لنا ما يكفي من الخبرة وتتحقق لنا زيادة مناسبة في الأعداد: وتلك النقطة الزمنية هي الوقت الحاضر.
أرجو أن يغفر لي القارئ هذا الاستطراد، إذ إنه لا يندرج على نحو ملائم تحت النقطة التي بدأت بها، والتي أعود إليها مجددا من خلال الرأي التالي:
لو رممت العلاقات مع بريطانيا، وظلت هي السلطة الحاكمة المهيمنة على أمريكا (وهو ما يعني التخلي عن تلك النقطة تماما، حسبما تشير الأحوال الراهنة)، فسوف نحرم أنفسنا من ذات الوسيلة التي يمكننا بها تسديد ديوننا، أو ما قد نلجأ إلى استدانته. إن قيمة الأراضي الداخلية غير المأهولة بالسكان التي حرمت منها بعض الأقاليم سرا، نتيجة للتوسع الجائر لحدود كندا - مقدرة بسعر خمسة جنيهات استرلينية فقط لكل مائة فدان - تساوي مبلغا يتجاوز خمسة وعشرين مليونا من عملة بنسلفانيا؛ وتصل قيمتها الإيجارية بسعر بنس واحد للفدان إلى مليونين سنويا.
وعن طريق بيع تلك الأراضي يمكن تسديد الديون، دون تحميل أي جهة بالأعباء، وسوف تسهم القيمة الإيجارية المحتفظ بها لتلك الأراضي دوما في دعم النفقات الحكومية السنوية، والوفاء بها بالكامل مع مرور الوقت. ولا يهم طول المدة الزمنية التي سنظل فيها نسدد الديون، طالما أننا سنسددها عند بيع الأراضي، ولتنفيذ ذلك سيكون الكونجرس خلال تلك المدة هو الوصي على القارة.
وأنتقل الآن إلى النقطة الثانية، وهي: أي الخطتين هي الأسهل والأكثر عملية، «المصالحة أم الاستقلال»؟ مع بعض التعليقات المتفرقة.
إن من يتخذ الطبيعة دليلا هاديا لا يسهل دحض حجته، وعلى هذا الأساس، أجيب بوجه عام: «أنه لكون الاستقلال خطا واحدا بسيطا موجودا بالفعل داخل أنفسنا؛ وكون المصالحة أمرا مربكا ومعقدا على نحو مبالغ فيه، وسوف يتدخل فيه ملك غادر متقلب الأهواء، فإن الإجابة واضحة بلا شك».
إن الحالة الراهنة لأمريكا مفزعة بحق لكل إنسان قادر على التفكر والتدبر؛ فأمريكا دون قانون، ودون حكومة، ودون أي شكل للسلطة سوى ما هو قائم على الإذعان أو ممنوح بالتفضل. إنها متماسكة بواسطة شعور متماثل لدى الجميع على نحو لا مثيل له، لكنه مع ذلك عرضة للتغير، ويسعى كل عدو خفي لتبديده. إن وضعنا الراهن يتلخص في تشريع بلا قانون؛ وحكمة بلا خطة؛ ودستور بلا اسم؛ وعلى نحو مدهش وعجيب، استقلال تام يناضل من أجل التبعية. إنه نموذج غير مسبوق؛ فهي حالة لم يسبق لها مثيل في التاريخ؛ ومن ذا الذي يمكنه أن يعرف ما قد يحدث؟ ليس هناك أمان لممتلكات أحد في ظل النظام المتداعي الحالي. وعقول عامة الجماهير هائمة على غير هدى، لا ترى أمامها هدفا ثابتا تسعى نحوه، فهي تطارد سرابا. لا شيء مجرم؛ ولا يوجد شيء يسمى خيانة؛ لذا فإن كل إنسان يعتقد أنه حر في التصرف كما يحلو له. فما كان مؤيدو الملك ليجرءوا على الاجتماع معا بصورة استفزازية، لو كانوا يعلمون أن قوانين الدولة ستعاقبهم بالموت نتيجة تصرف كهذا. ولا بد من التمييز بين جنود إنجليز يؤخذون أسرى في معركة، وبين سكان في أمريكا يلقى القبض عليهم. فالفئة الأولى أسرى حرب، أما الثانية فخونة. ويجب أن تخسر الأولى حريتها، وتفقد الأخرى حياتها.
بالرغم من حكمتنا يوجد وهن واضح في بعض إجراءاتنا على نحو يغري مثيري الفتن. فالحزام القاري في حالة ارتخاء شديد. وإذا لم نفعل شيئا في الوقت المناسب، فسوف يفوت أوان القيام بأي شيء، وسوف نسقط في حالة لن تصلح معها لا «المصالحة» ولا «الاستقلال». إن الملك وحاشيته التافهة يمارسون لعبتهم القديمة في تقسيم القارة، وهم لا يعدمون متعاونين من بيننا منهمكين في نشر أكاذيب مضللة. والخطاب المتزلف الخادع الذي ظهر منذ بضعة أشهر على صفحات اثنتين من صحف نيويورك، وصحيفتين أخريين، لهو برهان على أن هناك رجالا يفتقرون إما إلى حسن التقدير وإما إلى النزاهة.
من السهل الاختباء في الجحور والأركان والتحدث عن المصالحة، ولكن هل يفكر مثل هؤلاء الناس بجدية في مدى صعوبة المهمة، ومدى الخطورة التي تنطوي عليها، لو أن القارة انقسمت؟ هل ينظرون إلى جميع الأحوال المختلفة لرجال يجب النظر إلى مواقفهم وظروفهم بعين الاعتبار؟ هل يضعون أنفسهم مكان أصحاب المعاناة الذين فقدوا «بالفعل كل ما يملكون»، ومكان الجندي الذي ترك وراء ظهره «كل شيء» من أجل الدفاع عن بلده؟ فإذا كان اعتدالهم غير المناسب أو الحصيف يلائم أوضاعهم الخاصة وحدهم، بصرف النظر عن الآخرين، فإن واقع الحال سوف يقنعهم بأنهم «يحسبون حسابات جزافية وهم لا يعلمون».
يقول البعض فلنرجع إلى الوضع الذي كنا عليه عام ثلاثة وستين: وأرد على هذا بأنه لم يعد بمقدور بريطانيا الآن الإذعان لهذا الطلب، كما أنها لن تعرضه بالطبع؛ ولكن لو عرضناه، بل ولو نال القبول أيضا، فإني في هذه الحالة أطرح سؤالا منطقيا: ما الوسيلة التي سترغم هذا البلاط الفاسد الغادر على الالتزام بتعهداته؟ إن برلمانا قادما، بل حتى البرلمان الحالي، يمكن أن يلغي هذا الالتزام ويبطله فيما بعد بحجة أنه أبرم بواسطة العنف، أو أنه هبة طائشة؛ وفي هذه الحالة، كيف سنعالج الأمر؟ إن الأمم لا تلجأ إلى القوانين؛ فالمدافع وحدها هي محاميو الملوك؛ وسيف الحرب - لا سيف العدالة - هو الذي يحسم مثل تلك القضايا. ولكي نعود إلى الوضع الذي كان قائما عام ثلاثة وستين، لا يكفي أن تعود القوانين وحدها إلى ما كانت عليه؛ وإنما يجب أن تعود ظروفنا وأحوالنا أيضا إلى ما كانت عليه؛ أي أن ترمم بلداتنا المحترقة والمدمرة أو يعاد بناؤها، وأن نعوض عن خسائرنا الشخصية، وأن تلغى ديوننا العامة (التي استدناها من أجل الدفاع عن أنفسنا)؛ وإلا فإن حالنا سيصبح أسوأ ملايين المرات مما كنا عليه في تلك الفترة المرغوبة. إن طلبا كهذا، لو استجيب له منذ عام مضى، لفاز بقلب وروح هذه القارة؛ لكن أوانه قد فات الآن؛ «لقد وصلنا إلى نقطة اللاعودة».
إضافة إلى هذا فإن حمل السلاح لا لشيء سوى إلغاء قانون مالي لهو أمر يبدو محظورا في الشريعة الإلهية، ومنفرا للمشاعر الإنسانية، تماما كحمل السلاح لفرض الإذعان لتلك الشريعة ذاتها. فالغاية في أي من الحالتين لا تبرر الوسيلة؛ لأن حياة البشر أغلى من أن نهدرها من أجل ذلك. إن العنف الذي تعرضنا له وهدد حياتنا، وتدمير ممتلكاتنا على يد قوة مسلحة، وغزو بلادنا بالحديد والنار هو ما يمكن أن يبرر لضمائرنا حمل السلاح؛ وفي اللحظة التي أصبح فيها هذا الوضع الدفاعي ضرورة حتمية، كان لا بد أن تتوقف جميع مظاهر الخضوع لبريطانيا؛ وكان لا بد من التفكير في إعلان استقلال أمريكا واستهلال عصر استقلالها وإعلان بدايته «مع أول رصاصة أطلقت ضدها». هذا هو الخط المستقيم الذي لم يرسمه الهوى، ولم يمده الطموح؛ وإنما رسمته سلسلة من الأحداث التي لم تكن المستعمرات هي من صنعتها.
وأختتم تلك الملاحظات بالتلميحات التالية التي أظنها تأتي بنية طيبة وفي الوقت المناسب. علينا أن نفكر في أن هناك ثلاثة سبل مختلفة يمكن بواسطتها تحقيق الاستقلال؛ وأن «واحدا» من تلك «الثلاثة» سيكون في يوم من الأيام مصير أمريكا، وتلك السبل هي: من خلال الصوت الشرعي للشعب في الكونجرس؛ أو عن طريق قوة عسكرية؛ أو عن طريق تمرد الغوغاء. وقد لا يحدث دائما أن يكون جنودنا مواطنين، أو تكون عامة الشعب مجموعة من العقلاء؛ فالفضيلة - كما ذكرت من قبل - ليست وراثية ولا أبدية. ولو تحقق الاستقلال من خلال السبيل الأول من السبل المذكورة، فستتاح لنا كل الفرص وكل التشجيع لصياغة أنبل وأنقى دستور على وجه الأرض. إن بمقدورنا الآن أن نعيد كتابة تاريخ العالم من جديد. فلم تكن البشرية في وضع مشابه للوضع الحالي منذ زمن النبي نوح. لقد حان الوقت لميلاد عالم جديد، ولتنال سلالة من البشر - ربما يماثل عددها عدد جميع سكان أوروبا - حظها من الحرية في غضون بضعة أشهر. سيكون الانتكاس أمرا مريعا؛ ومن وجهة النظر هذه، كم تبدو الاعتراضات الواهية السخيفة التي يرفعها بعض الضعفاء أو أصحاب المصالح تافهة وبائسة عند مقارنتها بقضية ستحدد مصير العالم.
ولو تجاهلنا الفترة الراهنة المواتية والمشجعة، ثم تحقق الاستقلال بعد ذلك بأي سبيل آخر، فعلينا أن نتحمل العواقب ونتهم أنفسنا، أو بالأحرى نتهم أصحاب النفوس الحقيرة والمتحيزة الذين دأبوا على معارضة هذا السبيل دون تفكر أو تدبر. هناك أسباب يمكن أن نسوقها لتأييد الاستقلال، وهي أسباب ينبغي على الرجال أن يفكروا فيها بينهم وبين أنفسهم لا أن تقال لهم على الملأ. فلا ينبغي أن نكون منشغلين الآن بالجدل حول نيل الاستقلال من عدمه، وإنما متلهفين لنيله على أساس راسخ وآمن ونبيل، وقلقين ومهمومين لأننا لم نبدأ بعد في العمل على ذلك. إن كل يوم يمضي يزيدنا قناعة بضرورته. وحتى أنصار الملك (إن كان بيننا حتى الآن أمثال هؤلاء) عليهم - من بين جميع الناس - أن يكونوا الأكثر إلحاحا في الترويج له؛ فلو أن التعيين في اللجان هو ما وقاهم الغضب الشعبي في البداية، فإن شكلا متعقلا جيد التنظيم للحكومة سيكون هو الوسيلة الوحيدة المؤكدة لكي يظلوا في أمان. لذا فإن كانوا لا يتمتعون بما يكفي من الفضيلة ليكونوا «أحرارا»، فعليهم أن يتسموا بما يكفي من الحصافة ليتمنوا الاستقلال.
باختصار، الاستقلال هو «الرباط» الوحيد الذي يمكن أن يجمع بيننا ويحافظ على وحدتنا. وبعدها سوف نرى هدفنا، وسوف نصم آذاننا بصورة مشروعة عن سماع مشاريع عدو غادر ومتوحش. وعندئذ أيضا سوف نكون في وضع ملائم للتعامل مع بريطانيا؛ لأن هناك أسبابا تدعونا للاعتقاد أن كبرياء ذلك البلاط الملكي سيكون أقل تضررا عند التعامل مع الولايات الأمريكية من أجل وضع بنود سلام عنه عند التعامل مع من يعتبرهم «رعايا متمردين» لوضع بنود تسوية. إن تأجيلنا للأمر هو ما يشجع بريطانيا على أن تأمل في الغزو، وتراجعنا لا يؤدي إلا إلى إطالة أمد الحرب. وكما أوقفنا تجارتنا للحصول على تعويض عن خسائرنا وما لحق بنا من أضرار - دون أن نحقق من وراء ذلك أي نتيجة تذكر - فلنجرب الآن الحل البديل، بتعويض تلك الخسائر والأضرار بأنفسنا بصورة مستقلة، ثم نعرض فتح باب التجارة من جديد. سيظل الجانب التجاري والعقلاني من إنجلترا مؤيدا لنا؛ لأن السلام مع التجارة أفضل من الحرب دون تجارة. وإذا لم يحظ هذا العرض بالقبول، فيمكن التقدم به إلى ممالك أخرى.
على هذه الأسس أرسي القضية. ولما لم يتقدم أحد بعد بعرض يفند به المبدأ الذي احتوته الطبعات السابقة من هذا الكتيب، فهذا دليل على أن المبدأ غير قابل للتفنيد، أو أن الحزب المؤيد له أكثر عددا وغلبة من أن يمكن معارضته. لذا، بدلا من أن يحدق بعضنا في بعض بشك أو فضول مرتاب؛ فليمدد كل منا يد الصداقة إلى جاره بود وإخلاص، ولنتحد معا لنرسم خطا يكون أشبه بعفو ندفن به كل إساءة سابقة وننساها. دعونا نمح من بيننا مسميات مثل «حر» و«ملكي»؛ ودعونا لا نسمح بأن نسمع سوى كلمات من قبيل «مواطن صالح»، و«صديق مخلص موطد العزم »، و«مؤيد فاضل لحقوق الإنسانية وللولايات الأمريكية الحرة والمستقلة».
وإلى ممثلي الجمعية الدينية الأهلية المسماة «كويكرز» (جمعية الأصدقاء)، أو إلى كثيرين منهم اهتموا بإذاعة المنشور الأخير الذي حمل عنوان: «خطاب موجه لعموم الشعب حول تجديد الحجة الأزلية ومبادئ طائفة الكويكرز، فيما يتعلق ب«الملك» و«الحكومة»، وبشأن «الفتن» المنتشرة الآن في تلك المنطقة وغيرها من مناطق أمريكا»، أقول:
إن كاتب هذه السطور هو واحد من قلة لا تتعرض للدين بسوء قط، سواء بالسخرية أو الاعتراض تحت أي مسمى. والناس كافة سيحاسبون على ما يدينون به أمام الله، وليس أمام بشر. لذا فإن هذه الرسالة ليست موجهة لكم بوصفكم جماعة دينية، وإنما بوصفكم هيئة سياسية تقحم نفسها في شئون تأمركم تعاليم الصمت المعلنة ضمن مبادئكم بعدم التدخل فيها. ولما كنتم قد وضعتم أنفسكم - دون سلطة ملائمة تخولكم ذلك - في موضع الممثل لسائر جماعة الكويكرز، فإن كاتب هذه السطور - لكي يتخذ منزلة مكافئة لمنزلتكم - يجد نفسه مرغما على أن يعتبر نفسه ممثلا لجميع من يصادقون على الكتابات والمبادئ التي استخدمتم حجتكم لتفنيدها: وقد اختار الكاتب هذا الوضع الاستثنائي الشاذ لعلكم تكتشفون من خلاله معنى انتحال الشخصيات الذي لا تستطيعون رؤيته في أنفسكم؛ فلا أنتم ولا كاتب هذه الكلمات يملك حق ادعاء «التمثيل السياسي» أو لقبا يخوله ذلك.
عندما يحيد الناس عن الصراط القويم لا عجب في أن يتعثروا ويسقطوا. ويتجلى بوضوح في الأسلوب الذي تعاملتم به مع حجتكم أن السياسة ليست السبيل الأمثل لكم؛ فمع أنها قد تبدو لكم منقحة بإتقان فإنها ليست أكثر من مزيج من الصالح والطالح وضعا معا على نحو يفتقر إلى الحكمة، والاستنتاج الذي خلصتم إليه منها هو استنتاج متكلف وجائر في آن واحد.
إننا نسلم لكم بما جاء في أول صفحتين من حجتكم (التي تقع إجمالا في أقل من أربع صفحات) ونتوقع منكم أدب المعاملة بالمثل، لأن حب السلام والرغبة فيه ليسا حكرا على أتباع الكويكرية، فتلك هي الأمنية الفطرية والدينية لجميع طوائف البشر. وعلى هذا الأساس فباعتبارنا أناسا يكدون لوضع دستور مستقل خاص بنا، فإننا نفوق سائر الباقين من البشر في أملنا وغايتنا ومرادنا. «إن خطتنا ترمي إلى تحقيق سلام يدوم إلى الأبد». لقد سئمنا النزاع مع بريطانيا، ولا نرى نهاية حقيقية لهذا النزاع سوى في انفصال نهائي عنها. إننا نتصرف باستقامة ونزاهة، لأننا في سبيل تحقيق سلام دائم مستمر نتحمل نوائب وأعباء الوقت الحاضر. إننا نسعى وسنظل نسعى بثبات نحو الانفصال وفك عرى علاقة ملأت أرضنا بالدماء بالفعل؛ وهي علاقة، إن بقي منها ولو اسمها، سوف تصبح السبب وراء وقوع أضرار مستقبلية فادحة لكلا البلدين.
إننا لا نقاتل من أجل انتقام أو فتح؛ ولا بدافع من كبرياء أو شهوة؛ ولا نهين العالم بأساطيلنا وجيوشنا، ولا ندمر الأرض طمعا في الغنائم. فنحن نتعرض للهجوم تحت ظلال كرماتنا؛ وبداخل منازلنا وعلى أراضينا، يستخدم العنف ضدنا. إننا نرى أعداءنا في صورة قاطعي طرق ولصوص منازل، ولما كنا لا نجد الحماية لأنفسنا في القانون المدني، فإننا مضطرون إلى معاقبتهم بالقانون العسكري، وأن نستخدم السيف في نفس الحالة التي استخدمتم أنتم فيها المشانق من قبل؛ ربما كنا نشعر بآلام ومعاناة المعذبين في كافة أرجاء هذه القارة، بقدر من الشفقة التي لم تعرف بعد طريقها إلى صدور بعضكم. ولكن احرصوا على ألا تخلطوا بين سبب حجتكم وأساسها. لا تسموا برودة الروح دينا؛ ولا تضعوا «المتعصب» في موضع «المسيحي».
وأنتم أيها الكهنة المتحيزون لمبادئكم المعلنة والمسلم بها؛ إذا كان حمل السلاح إثما، فلا بد أن البادئ بالعدوان أكثر إثما، مع الفارق الكبير بين الاعتداء المتعمد والدفاع المحتوم الذي لا سبيل إلى اجتنابه. لذا إذا كنتم تعظون حقا بضمائر حية، ولا تحاولون أن تجعلوا من دينكم مطية سياسية، فعليكم أن تقنعوا العالم بهذا بأن تعلنوا مبادئكم لأعدائنا، لأنهم «هم أيضا يحملون السلاح». وعليكم أن تقدموا لنا البرهان على صدقكم بنشر مبادئكم في دورية سانت جيمس ليعرفها كبار القادة في بوسطن، والأدميرالات والقباطنة الذين ينهبون ويدمرون سواحلنا كأنهم قراصنة، وجميع الأوغاد القتلة الذين يعملون بالسلطة المخولة لهم من قبل «الملك» الذي تعهدتم بخدمته. فلو كانت أرواحكم طاهرة مخلصة كروح باركلي لنصحتم ملككم بالتوبة؛ وأخبرتم «ذلك البائس» بخطاياه، وحذرتموه من الهلاك الأبدي.
1
وما كنتم لتوجهوا طعونكم المنحازة نحو المتضررين والمهانين وحدهم، وإنما كنتم ستصيحون بأعلى صوتكم، بوصفكم قساوسة مخلصين، دون أن تستثنوا أحدا. لا تقولوا إنكم مضطهدون، ولا تحاولوا جعلنا سبب هذا الاضطهاد الذي تجلبونه أنتم لأنفسكم؛ إذ إننا نشهد الناس جميعا أننا لا نحمل لكم ضغينة لكونكم كويكرز، وإنما لأنكم تتظاهرون بذلك دون وجه حق.
وبكل أسف يبدو لنا من خلال النزعة المحددة لبعض أجزاء حجتكم - وأجزاء أخرى من سلوككم - وكأن جميع الخطايا تجسدت وتجمعت في «خطيئة حمل السلاح»، وذلك فقط إذا كان الشعب من يحمله. ويبدو لنا أنكم خلطتم بين التحيز والضمير؛ لأن التوجه العام لتصرفاتكم يفتقر إلى الاتساق؛ ومن الصعب جدا علينا أن نقتنع أو نسلم بكثير من هواجسكم المصطنعة؛ لأننا نراها هواجس لنفس الرجال الذين يصرخون معترضين على الجشع في هذا العالم، ومع ذلك فإنهم في ذات اللحظة يقتفون أثره بخطى ثابتة كالزمن، وشهية متقدة كالموت.
إن الاقتباس الذي أوردتموه من الأقوال المأثورة في الصفحة الثالثة من حجتكم، والذي يقول إنه «عندما يرضى الرب عن سبل إنسان، فإنه يجعل حتى أعداءه يسالمونه»، هو اقتباس اختير بحماقة شديدة من جانبكم؛ لأنه بمنزلة برهان على أن سبل الملك (الذي تتحمسون لتأييده) لا ترضي الرب، وإلا لعم السلام خلال حكمه.
وأنتقل الآن إلى الجزء الأخير من حجتكم، الذي يبدو إزاءه كل ما سبق مقدمة ليس إلا، والذي تقولون فيه: «لقد كان رأينا ومبدأنا دائما منذ نهضنا لنشر نور يسوع المسيح، الذي يظهر في ضمائرنا حتى يومنا هذا، أن تنصيب الملوك والحكومات وخلعهم هو حق خالص لله وحده؛ ولأسباب لا يعلمها حقا إلا هو؛ وأنه ليس من شأننا أن تكون لنا يد أو حيلة في الأمر؛ وأننا يجب ألا ننشغل بما يقع خارج نطاق إدراكنا، وألا نتآمر أو ندبر الحيل من أجل هدم أو قلب نظام الحكم، وإنما علينا أن نتضرع من أجل الملك، ومن أجل سلامة أمتنا، ومن أجل الخير للناس كافة؛ وذلك لكي نحيا حياة مطمئنة ملؤها السكينة بكل تقوى وأمانة «في كنف الحكومة التي شاء الله أن يوليها علينا».» فإذا كانت تلك هي مبادئكم حقا، فلم لا تمتثلون لها؟ لماذا لا تتركون الرب يمارس ما تسمونه حقه؟ إن تلك المبادئ ذاتها تأمركم بأن تنتظروا بصبر وتواضع نتيجة ما ستسفر عنه إرادة العامة، وأن تتلقوا هذه النتيجة باعتبارها مشيئة الرب فيكم. لذا ما الذي دعاكم لأن تعرضوا علينا «حجتكم السياسية» إذا كنتم تؤمنون حقا بما جاء فيها؟ إن نشر تلك الحجة يثبت أنكم إما لا تؤمنون بما تقولون وإما تفتقرون إلى الفضيلة الكافية لتعملوا بما تؤمنون.
إن مبادئ الكويكرية تنزع مباشرة إلى جعل الإنسان خاضعا ساكنا مسالما لأي حكومة «تولى عليه». وإذا كان تنصيب الملوك والحكومات وخلعهم حقا يختص به الله وحده، فما من شك أنه لن يسمح لنا بأن نسلبه ذلك الحق: وهكذا فإن مبدأكم نفسه يؤدي بكم إلى قبول أي شيء حدث من قبل، أو يمكن أن يحدث، للملوك باعتباره من صنع الله. لذا فإن أوليفر كرومويل يتقدم لكم بالشكر؛ فهو إذن لم يقتل الملك تشارلز وإنما قتلته مشيئة الله؛ وعندما يلقى مقلده الحالي المتغطرس المتباهي نفس مصيره قبل أوانه، فسيكون على مؤلفي وناشري هذه الحجة أن يتقبلوا تلك الحقيقة راغمي الأنوف. إن الملوك لا تخلعهم عن عروشهم معجزات، كما أن تغيير الحكومات لا يحدث بأي وسيلة سوى وسائل عادية وبشرية؛ كتلك التي نستخدمها الآن. حتى شتات اليهود، مع أنه تحقيق لنبوءة لمخلصنا، فإنه لم يحدث إلا بقوة السلاح. لذا إذا كنتم ترفضون أن تكونوا الوسيلة من جانب، فعليكم ألا تتوسطوا من جانب آخر؛ وعليكم الانتظار في صمت؛ وما لم تستطيعوا أن تأتونا بسلطان إلهي تبرهنون به على أن الرب القدير، الذي خلق هذا العالم الجديد واختار له أبعد موضع ممكن - شرقا وغربا - عن جميع بقاع العالم القديم، لا يرضى عن استقلال ذلك العالم عن بلاط بريطانيا الفاسد المنبوذ، أقول إنكم إن لم تستطيعوا أن تأتوا بسلطان كهذا، فكيف يمكنكم - استنادا إلى مبادئكم - أن تبرروا إثارة الناس وتحريضهم على «التوحد بقوة لرفض كل تلك الكتابات والإجراءات التي تدل على رغبة وعزم على قطع أواصر الصلة الهانئة التي جمعتنا حتى يومنا هذا بمملكة بريطانيا العظمى، وعلى التخلي عن خضوعنا الصائب والحتمي للملك، وأولئك الذين ولاهم السلطة الشرعية ويعملون تحت وصايته». ويا لها من صفعة! فأولئك الذين تخلوا بسكينة واستسلام في الفقرة السابقة مباشرة عن مهمة تنظيم وتغيير وخلع الملوك والحكومات وتركوا الأمر لمشيئة الله وحده، ينبذون الآن مبادئهم ويتقدمون لنيل نصيبهم من المشاركة في الأمر. فهل يمكن بأي حال أن يؤدي المبدأ المنصوص عليه إلى الاستنتاج الذي توصلنا إليه هنا على نحو منطقي ومنصف؟ إن التناقض أوضح من أن تخطئه العين؛ والسخافة أعظم من ألا تثير الضحك؛ ولا يمكن أن يصدر هذا إلا من أناس أظلمت مفاهيمهم بفعل الروح المشاكسة المنغلقة لحزب سياسي أصابه القنوط؛ إذ لا يمكن اعتباركم تتحدثون بلسان سائر جماعة الكويكرز وما أنتم سوى فرقة ضئيلة متعصبة منها.
إلى هنا تنتهي مراجعتي لحجتكم (التي لا أدعو أي إنسان لمقتها - كما فعلتم أنتم - وإنما أدعو لقراءتها والحكم عليها بإنصاف)؛ وأضيف إليها التعقيب التالي: «إن تتويج الملوك وخلعهم عن عروشهم» يعني بالتأكيد أن نتخذ ملكا من رجل عادي لم يكن كذلك، أو أن نخلع ملكا متوجا بالفعل عن عرشه. وأنشدكم الله أن تخبروني ما علاقة هذا بقضيتنا الحالية؟ إننا لا نريد أن ننصب أو أن نخلع ملكا، وكل ما نريده هو ألا تكون لنا أي صلة بالملوك. وهكذا فإن حجتكم أيا كان المنظور الذي نراها منه لا تحقق لكم شيئا سوى تلويث رأيكم وجلب العار لحكمكم، ولأسباب أخرى كثيرة كان من الأفضل نبذ تلك الحجة لا نشرها.
أولا:
لأنها تنزع إلى الانتقاص من قدر الدين والحط من شأنه، كما أنه من الخطر الشديد على المجتمع جعل الدين طرفا في النزاعات السياسية .
ثانيا:
لأنها تظهر جماعة من الناس على أنهم معنيون بها ومتفقون مع ما جاء فيها، مع أن أعدادا كبيرة منهم تتبرأ من نشر الحجج السياسية.
ثالثا:
لأنها تنزع إلى إفساد التناغم القاري والصداقة التي تجمع أهل القارة والتي مددتم أنتم أنفسكم أيديكم من قبل لإقامتها وترسيخها من خلال تبرعاتكم السخية والخيرية؛ التي يعد الحفاظ عليها أعظم نتيجة نسعى جميعا لتحقيقها.
وإلى هنا أودعكم بلا أدنى شعور بالغضب أو السخط. وأتمنى مخلصا أن تنعموا دائما بصفتكم بشرا ومسيحيين بكامل حقوقكم المدنية والدينية غير منقوصة؛ وأن تكونوا بدوركم أداة تكفل تلك الحقوق للآخرين؛ غير أنني أتمنى أيضا أن «يتبرأ كل فرد من سكان أمريكا» من القدوة السيئة التي قدمتموها على نحو يفتقر إلى الحكمة بخلطكم الدين بالسياسة.
هوامش
صفحه نامشخص