وجاءت سمكة فشدت خيط سنارته، لكنها أكلت الطعم وتفادت الشص. واستأنف حديثه وهو يضع طعما جديدا في الشص، قائلا: «مضى على هذه الحرب زمن طويل.» كنت أعرف بعض المعلومات عن نشوب حرب مع اليابان - وكنت شاهدتها في الأفلام - لكنني لم أكن أحيط إلا بأقل القليل عن الحرب. وهز رأسه، قائلا: «مات الكثيرون في تلك الحرب. كانت تلك الحرب زمنا عصيبا جدا. غرقت سفن كثيرة. وانتصر الجيش الياباني في معارك كثيرة. وكان الشعب الياباني بالغ السعادة، مثل كرة القدم، عندما تفوز تشعر بالسعادة. وعندما تخسر تحزن. كنت أعود كثيرا إلى البيت، فأرى زوجتي كيمي وابني الصغير ميشيا في نجاساكي، كبر بسرعة، أصبح غلاما، وكنا أسرة سعيدة جدا.» «ولكن الحرب استمرت زمنا طويلا. جاء الكثير من الأمريكيين. سفن كثيرة، طائرات كثيرة، قنابل كثيرة. لم تعد الحرب الآن في صالح اليابان . وقت بالغ السوء. دخلنا معارك بحرية كثيرة، وجاءت الطائرات الأمريكية. وسقطت القنابل على سفينتي. اشتعلت النار وصعد الدخان. دخان أسود. واحترق رجال كثيرون. ومات رجال كثيرون. وقفز رجال كثيرون من السفينة في البحر. لكنني بقيت. فأنا طبيب. مكثت مع مرضاي. وجاءت الطائرات من جديد. وألقت المزيد من القنابل الكثيرة. كنت متأكدا أنني لا شك سوف أموت. لكنني لم أمت. نظرت حولي في السفينة. كل المرضى ماتوا. كل البحارة ماتوا. كنت الحي الوحيد على ظهر السفينة، ولكن المحرك لا يزال يعمل. والسفينة تسير وحدها. كانت تسير الآن إلى أي مكان تريده. لا أستطيع أن أدير عجلة القيادة. لا أستطيع أن أفعل شيئا. ولكنني أستمع إلى الراديو. يقول الأمريكيون في الراديو، إن قنبلة كبيرة ألقيت على نجاساكي، قنبلة ذرية. مات الكثيرون، حزنت حزنا شديدا. أعتقد أن كيمي ماتت، وميشيا مات. وأمي تعيش هناك أيضا، وكل أسرتي. أعتقد أنهم جميعا ماتوا.
وسرعان ما قال الراديو إن اليابان استسلمت. واستبد بي الحزن حتى أردت أن أموت.» وظل يركز على صيد السمك برهة ثم استأنف قصته، قائلا: «وسرعان ما توقف محرك السفينة. ولكن السفينة لم تغرق. وهبت ريح شديدة، عاصفة شديدة. وقلت في نفسي إنني ميت الآن ولا شك. ولكن البحر حمل السفينة وأتى بي إلى هنا، إلى هذه الجزيرة. رست السفينة على الشاطئ، لكنني لم أكن قد مت.
وسرعان ما وجدت الطعام. ووجدت الماء أيضا. وعشت مثل الشحاذين فترة طويلة. كنت أشعر في أعماقي أني شخص سيئ، وأقول في نفسي: لقد مات كل أصدقائي، ومات أفراد أسرتي جميعا، وأنا حي لم أكن أريد أن أعيش. ولكن سرعان ما قابلت السعالي، كانت تلك القردة تشفق علي. هذا مكان جميل جدا، مكان يسوده السلام. لا حرب هنا، لا أشرار. قلت لنفسي، يا كنسوكي أنت رجل محظوظ جدا لأنك حي ربما تستطيع البقاء هنا.» «أخذت أشياء كثيرة من السفينة. أخذت الأغذية، وأخذت الملابس والملاءات. أخذت الأواني وأخذت الزجاجات. وأخذت السكين. وأخذت الأدوية. وجدت أشياء كثيرة، وأدوات كثيرة أيضا. أخذت كل شيء وجدته. وعندما انتهى كنسوكي، لم يكن قد بقي في السفينة شيء يذكر، وأؤكد لك، ووجدت الكهف. وخبأت كل شيء في الكهف. وسرعان ما هبت عاصفة رهيبة، وتحطمت السفينة على الصخور، وسرعان ما غاصت في البحر.» «وجاء الجنود الأمريكيون ذات يوم. فاختبأت. لم أكن أريد أن أستسلم، فهو ليس شيئا مشرفا. كنت خائفا جدا أيضا. واختبأت في الغابة مع السعالي. وأشعل الأمريكيون النار على الشاطئ. وكانوا يضحكون بالليل. كنت أسمعهم. كانوا يقولون إن كل من في نجاساكي ماتوا. وكانوا سعداء جدا بذلك. ويضحكون. وعندها تأكدت أنني سوف أبقى في هذه الجزيرة. لماذا أعود إلى الوطن؟ وسرعان ما رحل الأمريكيون. كانت سفينتي قد غرقت من قبل. فلم يستطيعوا العثور عليها. وسفينتي لا تزال هنا، تحت الرمال الآن، أصبحت الآن جزءا من الجزيرة.»
وتذكرت هيكل السفينة الذي علاه الصدأ وشاهدته في أول يوم لي في الجزيرة! لقد بدأت أمور كثيرة تتضح لي الآن. وفجأة ابتلعت سمكة الطعم من سنارتي، فكادت تنتزع القصبة كلها من يدي. وانحنى كنسوكي ليساعدني. وقضينا عدة دقائق ونحن نرفع السمكة من الماء إلى السطح، ولكننا نجحنا معا في حملها إلى القارب. وجلسنا ونحن نشعر بالإرهاق بعدها، والسمكة تتلوى متواثبة في قاع القارب، عند أقدامنا. كانت هائلة الحجم، أكبر حتى من أكبر سمكة رأيتها في حياتي، وهي سمكة الكراكي التي صادها أبي في مياه الخزان، في الوطن. وأخمد كنسوكي حركتها بسرعة، بضربة حادة خلف عنقها بمقبض سكينه، قائلا: «سمكة جيدة، بل سمكة ممتازة، أنت صياد سمك ماهر يا ميكا. نعمل جيدا معا، ربما استطعنا صيد المزيد الآن.»
ولكن ساعات طويلة مضت قبل أن نصيد سمكة أخرى، وإن لم تكن تشبه هذه. وحكى لي كنسوكي عن حياته وحيدا على الجزيرة، كيف تعلم أساليب البقاء، وكيف يعيش من خير الأرض. وقال إنه تعلم معظم ما تعلمه من مراقبة السعالي وما تأكله، وما لا تأكله. وتعلم تسلق الأشجار مثلها، وتعلم أن يفهم لغتها، وأن يراعي إشارات تحذيرها، مثل البريق في العينين وحك الجسم بقلق شديد. واستطاع ببطء أن ينشئ رابطة ثقة معها، وأن يصبح واحدا منها.
وبحلول موعد عودتنا إلى البيت في ذلك المساء، ونحن نحمل ثلاث سمكات كبيرة في قاع القارب - وأظن أنها كانت من سمك التونة - كان قد انتهى من قصته. كان يتحدث وهو يضرب المجداف في الماء. «بعد الأمريكيين، لم يأت رجال آخرون إلى جزيرتي. عشت وحدي سنوات كثيرة. أنا لم أنس كيمي، لم أنس ميشيا، ولكنني أحيا، وبعد ذلك ربما بسنوات أتى الرجال. رجال بالغو السوء، رجال قتلة، معهم بنادق. وهم يصيدون الحيوان. ويطلقون الرصاص، كنت أغني للسعالي صديقتي، فكانت تأتي إلي حين أغني، وهي خائفة جدا. كانت تأتي وتختبئ جميعا في كهفي. ونختبئ معا فلا يستطيع القتلة أن يعثروا علينا. ولكنهم يطلقون النار في الغابة على قرود الجيبون، وهو الاسم الذي قلته لي. كانوا يطلقون النار على الأمهات، ويأخذون الأطفال. ما الذي يدعوهم إلى ذلك؟ وكنت غاضبا جدا. كنت أعتقد أن كل الناس قتلة. كنت أكره جميع الناس، فيما أظن. لم أكن أريد أن أرى الناس مرة أخرى.
وحدث ذات يوم أن أردت صيد سمكة كبيرة لتدخينها، فذهبت للصيد في هذا القارب. وهبت الريح في الاتجاه المعاكس فابتعدت عن الشط. كان البحر يجذبني بقوة شديدة. حاولت العودة إلى جزيرتي لكنني لم أستطع. فأنا عجوز، وذراعاي ليستا قويتين، وعندما أتى الليل كنت لا أزال بعيدا. وشعرت بخوف شديد، فجعلت أغني؛ فالغناء يمنحني الشجاعة، وسمعت صرخة، وأبصرت ضوءا، وظننت أنني أحلم، ثم سمعت أغنية أخرى في البحر، في الظلام، وأتيت مسرعا قدر طاقتي، فوجدتك ووجدت ستلا والكرة. كنت شبه ميت يا ميكاسان، وكانت ستلا كلبة شبه ميتة.» إذن كان كنسوكي هو الذي انتشلني من البحر، كنسوكي هو الذي أنقذني. لم يجل ذلك بخاطري قط.
وعاد يقول: «وفي الصباح أعادنا البحر إلى جزيرتي. كنت سعيدا جدا لأنك لم تمت، لكنني كنت غاضبا جدا أيضا. فأنا أردت أن أكون وحدي. لم أكن أريد أن أرى الناس. إذ كان جميع الناس في نظري قتلة. لم أكن أريدك في جزيرتي. حملتك. تركتك على الشاطئ. كنت أترك لك ماء حتى لا تموت. لكنك أشعلت النار. وأنا لا أريد أن يأتي الناس. لا أريد الناس أن يأتوا فيجدوني هنا على جزيرتي، وربما يأتون، وربما يطلقون النار فيقتلون السعالي، ويقتلون قرود الجيبون. وربما يجدونني، ويأخذونني معهم أيضا. كنت غاضبا جدا، فأطفأت النار، ولم أكن أريد أن أتكلم معك، ولم أكن أريد أن أراك، فرسمت خط الحدود الفاصل في الرمل.
وهبت عاصفة كبيرة، أكبر عاصفة رأيتها في حياتي، وامتلأ البحر بعد العاصفة بقناديل البحر البيضاء، وأنا أعرف قناديل البحر هذه، بالغة السوء، إذا لمستك تموت في الحال. أعرف ذلك. أقول لك لا تسبح، فهو خطر جدا. وسرعان ما أرى أنك أشعلت نارا كبيرة على قمة التل، واعتقدت أنك شخص شرير جدا. كنت غاضبا جدا هذه المرة، وكنت أنت غاضبا جدا أيضا. فسبحت في البحر. ولدغتك قناديل البحر. وقلت من المؤكد أنك مت. ولكنك قوي جدا، فعشت. أتيت بك إلى الكهف. عندي خل أصنعه من النبق، والخل يقتل السم. أنت حي يا ميكا، لكنك كنت مريضا جدا زمنا طويلا. أصبحت الآن قويا، وأصبحنا الآن أصدقاء. بيننا صداقة متينة.»
هذا إذن ما حدث؛ القصة كلها، وتوقف عن التجديف برهة وتبسم لي من جديد، قائلا: «أنت مثل ابني الآن، ونحن سعداء؛ فنحن نرسم، ونصيد السمك، ونحن سعيدان، نمكث معا. لقد أصبحت الآن أسرتي، يا ميكاسان. صحيح؟»
صفحه نامشخص