كانت الشمس الساطعة شديدة الحرارة. ولم أكن قد أحسست بحرارتها اللافحة حتى تلك اللحظة. وألقيت نظري على الأفق كله. وأمعنت النظر حتى أرى إن كان هناك شراع ما يلوح على البعد، لكنني لم أشاهد شيئا. ثم قلت في نفسي: فلنفرض أنني شاهدت شراعا ما، ماذا يمكنني أن أفعل؟ لم أكن أستطيع إشعال نار، فليست معي أعواد ثقاب. كنت أعرف أن إنسان الكهوف كان يشعل النار بحك العصي بعضها بالبعض، لكنني لم أجرب ذلك من قبل، ونظرت حولي الآن في كل اتجاه. البحر. البحر. البحر. لا شيء سوى البحر من جميع الاتجاهات. كنت في جزيرة. وأنا وحدي هنا.
لم يكن يبدو أن الجزيرة يزيد طولها على ثلاثة كيلو مترات أو أربعة، لا أكثر. وكان شكلها يشبه قليلا حبة فول سوداني طويلة، وإن كانت أعرض في جانب منها من الجانب الآخر. ورأيت على كل جانب منها شاطئا يمتد كأنه شريط أبيض لامع، وفي آخرها الآخر، وجوانبه أشد انحدارا وتنمو عليها غابات أشد كثافة، لكنه لا يبلغ ارتفاع التل الذي أقف فوقه، وكانت الجزيرة كلها تبدو مغطاة تماما بالغابات باستثناء القمة الجرداء لكل من هذين التلين. وحسبما استطعت أن أرى، لم أجد أي دليل على أية حياة بشرية. وأنا أذكر الآن - حتى أثناء وقوفي هناك في أول صباح أقضية في ذلك المكان، وقد غمرتني المخاوف من عواقب وقفي الرهيب - أنني قلت في نفسي ما أروع تلك الجزيرة؛ فهي كالزمردة الخضراء في إطار أبيض، والبحر يحيط بها من كل مكان، بلون أزرق حريري متلألئ. ومن الغريب أنني لم أشعر إطلاقا بالاكتئاب، وربما كان الجمال الفذ لذلك المكان هو الذي أتاني بالتسرية والراحة.
ومن الغريب أيضا أنني أحسست، على العكس من ذلك، بالزهو! كنت على قيد الحياة! وكذلك كانت ستلا أرتوا! لقد نجونا!
وجلست في ظل صخرة كبيرة، وقامت قردة الجيبون بتشكيل جوقة إنشاد جديدة من العواء والنعيب في الغابة، وجعلت جماعة من الطير ذات أصوات جشاء تردد صياحا كالصليل من خميلة الأشجار تحت موقعنا ثم طارت فعبرت الجزيرة لتحط فوق الأشجار القائمة على جانب التل المقابل.
وقلت لستلا: «سنكون بخير! أمي وأبي سوف يعودان إلينا لا بد أن يعودا، بل من المؤكد أن يعودا، سوف تشفى والدتي ويعودان إلينا، لن تتركنا هنا، سوف تعثر علينا وسوف ترين. ليس علينا إلا أن نواصل ترقبنا لهما، وأن نظل على قيد الحياة. الماء! سوف نحتاج إلى الماء. ألا تحتاج إليه هذه القردة؟ كل ما علينا هو أن نحاول العثور عليه، لا أكثر. ولا بد أن يكون هنا أغذية أيضا؛ فواكه أو بندق، أو أي شيء. ومهما يكن ما تأكله القردة فسوف نأكله .»
وساعدني التعبير بصوت عال عن أفكاري لستلا، وأعانني على إخماد الذعر الذي كان يدهمني الآن في موجات، وأما أهم ما ساعدني على تحمل تلك الساعات الأولى في الجزيرة، فكان صحبة ستلا لي.
بدا لي من المعقول ألا أغوص في أعماق الغابة فورا بحثا عن الماء، والحق أن خوفي كان يمنعني على أية حال، بل أن أستكشف منطقة الشاطئ أولا، فربما عثرت على جدول أو نهر يصب في البحر، وإذا صادفني بعض الحظ فربما وجدت شيئا أستطيع أن آكله أيضا.
وانطلقت مستبشرا، هابطا الركام الصخري وثبا كأنني من الماعز الجبلي. وقال لي عقلي إننا نستطيع أن نعيش حيث يعيش القرود. وجعلت أقول ذلك لنفسي. وسرعان ما اكتشفت أن الطريق الذي يتوسط الأشجار لم تكن فيه أية نباتات تؤكل. شاهدت فعلا فواكه من نوع ما، أو ما بدا لي أنه فواكه على أية حال. كانت هناك أشجار جوز الهند أيضا، لكنه كان من المستحيل تسلقها. كان طول بعضها يزيد على ثلاثين مترا، والبعض الآخر يزيد على ستين. لم أر في حياتي قط مثل هذه الأشجار العملاقة.
كان الخميلة المتشابكة الأغصان تمثل المأوى المنشود هربا من قيظ النهار، على الأقل، ومع ذلك فقد غدوت أشعر بالعطش الشديد، وكذلك غدت ستلا. كانت تمشي بجواري بخطى خافتة طول الطريق، وقد أخرجت لسانها. كانت ترمقني بنظرات الألم كلما التقت عيوننا، لكنني لم أكن أستطيع التسرية أو التخفيف عنها.
وعدنا إلى شاطئنا من جديد ثم انطلقنا نطوف بالجزيرة، ملتزمين قدر الطاقة بحافة الغابة، حتى نسير في الظل. لكننا أيضا لم نجد أي جداول. ورأيت من جديد فواكه كثيرة، لكنها كانت في أشجار بالغة الارتفاع، كما كانت جذوعها ملساء ناعمة من المحال تسلقها. وعثرت على كثير من ثمار جوز الهند على الأرض، ولكنها كانت دائما مكسورة ومفتوحة وخاوية.
صفحه نامشخص