ورشفت والدتي رشفة من فنجان الشاي وأومأت برأسها ببطء. ثم قالت: «لا بأس.» ولاحظت أنها تبتسم، ثم أضافت: «ولم لا؟ عليك بها إذن. اشترها! اشتر السفينة.»
وقال والدي: «لقد اشتريتها بالفعل.»
لا شك أنه كان جنونا. كانا يعرفان ذلك، بل كنت أعرفه أنا، ولكن ذلك لم يكن مهما. وحين أتذكر ما حدث آنذاك أقول إنه كان، ولا بد، لونا من الإلهام الذي دفعه إليه اليأس.
كان الجميع يحذروننا من ذلك. وجاءت جدتي لزيارتنا وقضت معنا فترة في السفينة. وقالت إن الأمر يدعو للسخرية، ويدل على التهور وانعدام الإحساس بالمسئولية. كانت تتحدث عن البلايا والمحن التي تنتظرنا: جبال الجليد الطافية، والأعاصير، والقراصنة، والحيتان، وناقلات النفط العملاقة، والأمواج العاتية، وتنتقل من أهوال إلى أهوال، حتى تخيفني وبذلك تخيف أمي وأبي حتى يتخليا عن الفكرة. ولا شك أنها نجحت في تخويفي، لكنني لم أظهر خوفي قط. لم تفهم جدتي أننا نحن الثلاثة أصبحنا نرتبط برباط واحد من الجنون. لقد صممنا على الرحيل ولن يفلح شيء أو شخص في إثنائنا عن عزمنا. كنا نفعل ما يفعله الناس في القصص الخيالية: كنا نريد الانطلاق سعيا وراء المغامرة.
سارت الأمور في البداية وفق التخطيط الذي وضعه والدي، فيما عدا أن التدريب استغرق وقتا أطول بكثير، فسرعان ما عرفنا أن الإبحار في سفينة أو يخت طوله أربعة عشر مترا ليس مجرد إبحار في زورق أكبر. كان القائم بتعليمنا بحارا عجوزا ذا شارب كث يعمل في «نادي اليخت»، واسمه بيل باركر (وكنا نسميه بارناكل بيل، من وراء ظهره، وتعني بيل «اللزقة»). وكان قد أبحر مرتين حول كيب هورن، في أقصى جنوب أمريكا الجنوبية، وعبر المحيط الأطلسي مرتين وحده، وعبر القنال الإنجليزي «مرات يزيد عددها على عدد الوجبات الساخنة التي تناولتها في حياتك يا بني.»
والحق، أن أيا منا لم يكن يحبه كثيرا. كان صاحب عمل لا يرحم. وكان يعاملني ويعامل ستلا أرتوا بنفس القدر من الاحتقار، إذ كان يرى أن الأطفال والكلاب مجرد مصدر للمضايقة، وإذا وجد أي منهما على ظهر سفينة أصبح عبئا على البحارة. ولذلك تحاشيت اللقاء به قدر طاقتي، وكذلك كانت ستلا أرتوا تتحاشاه.
ويقتضي الإنصاف أن أقول إن بارناكل بيل كان يجيد صنعته. وعندما انتهى من تعليمنا، وحصلت والدتي على شهادتها ، شعرنا أننا نستطيع الإبحار في بيجي سو إلى أي مكان في العالم. كان قد غرس فينا احترام البحر وخشيته، وهو شعور صحي، ولكننا كنا نشعر في نفس الوقت بالثقة في قدرتنا على «التعامل» مع أي شيء تقريبا يأتي به البحر.
ومع ذلك، فلقد مررت بلحظات أحسست فيها برعب يجمد الأطراف. وكان والدي يشاطرني الإحساس بالرعب في صمت. وتعلمت أنك لا تستطيع التظاهر بالاطمئنان حين تدهمك موجة خضراء عالية طولها سبعة أمتار، وكنا نهبط في منخفضات مائية بلغ من عمقها أن أحسسنا أنه من المحال الخروج منها. لكننا كنا نخرج منها، وكلما نجحنا في التغلب على خوفنا، وركوب الأمواج العالية، ازدادت ثقتنا بأنفسنا وبالسفينة من حولنا.
وأما والدتي فلم تبد قط أدق ذرة من ذرات الخوف. والفضل يرجع لها وللسفينة بيجي سو معا في تغلبنا على أسوأ ما مر بنا من لحظات. كانت تصاب بدوار البحر من حين لآخر، لكننا لم نصب به قط. وكانت هذه مزية لنا.
كنا نعيش بالقرب من بعضنا البعض، ملتصقين تقريبا، وسرعان ما اكتشفت أن الآباء أكثر من مجرد آباء، إذ أصبح والدي صديقا لي، بل ملاحا زميلا لي، وغدا كلمنا يعتمد على صاحبه. وأما والدتي فالحق - وأنا أعترف به - أنني لم أكن أعرف أنها تتمتع بهذه المقدرة. كنت أعرف دائما أنها شجاعة، وأنها كانت دائما تصر على المحاولة حتى تنجح في فعل ما تريد، ولكنها واصلت الليل بالنهار في دراسة كتبها وخرائطها حتى أتقنت كل شيء، ولم تتوقف لحظة واحدة. صحيح أنها كانت تتسم ببعض الاستبداد إذ ما تهاونا في الحفاظ على السفينة بأكمل صورة ممكنة، ولكنني لم آبه كثيرا لذلك، ولم يأبه والدي هو الآخر، وإن كنا تظاهرنا بعكس ذلك. كانت هي ربان السفينة. وكانت الخطة أن تطوف بنا حول العالم وتعيدنا. كانت ثقتنا مطلقة فيها، وكنا فخورين بها. كانت باختصار نابغة. ولا بد أن أقول أيضا إن غلام السفينة وضابطها الأول كانا من النوابغ أيضا في تشغيل الروافع، وإدارة الدفة، وكانا ماهرين في إعداد الفاصوليا المعلبة في مطبخ السفينة، وهكذا كنا فريقا متكاملا رائعا.
صفحه نامشخص