انطلق في ثاني يوم همام إلى الفندق الشرقي في أول النهار، فسأل مستفهما عن غانم، فأجيب أنه قدم من السفر، وأنه على أهبة الخروج، فجعل همام يتمشى على الرصيف حتى خرج، فصافحه وسلم عليه سلام الأحباء المشتاقين، ثم سأل غانم هماما عن ابنه سعيد، فأجابه همام: إنه في صحة جيدة، ويزورني من حين إلى حين.
قال غانم: ما أكتمك الحقيقة، فهذا الولد قد أتعب سري وحملني النكد، فلا شك أنه إذا استمر على سلوكه المذموم قصر أجلي وأماتني كمدا وغما، فقد بدد ثروته، وفي نفسه أن يبدد ثروتي، فوالله لن أترك له قرشا واحدا من أموالي يتمتع به بعد مماتي.
قال همام: للشباب حقوق يستوفيها، ويجب على الوالد أن يكون واسع الأناة بصيرا حكيما في تربية الأبناء، فلا يصح حرمانه إياهم من ميراثهم لمخالفتهم رأيه وطريقته.
قال غانم: إن سعيدا أسرف إلى درجة لم يسبقه إليها سابق، فلست أرجو الخير منه، ولذلك صممت على حرمانه من الميراث، وأن أجعل جميع الأملاك والأرزاق لسعدى ابنتي، بحيث تبلغ ثروتها مبلغا جسيما فتتزوج برجل حسيب شريف عظيم المقام، والخاطبون كثيرون يهتمون رضاها والزواج بها.
قال همام: كيف صحتها؟
قال غانم: اعتراها من بضعة شهور داء الجدري، فشفيت منه بعناية الله، غير أنه تخلف في وجهها تجاويف سوداء بقدر حبة العدس، فترى وجهها أحمر اللون.
قال همام: إن احمرار اللون لا شيء يذكر، والحمد لله على سلامتها، إن السلامة غنيمة.
قال غانم: على أن سعدى ابنتي الوحيدة، فتراها دائما مكدرة، وقلت لها: إن آثار الجدري لا تمنع الراغبين على التماس الزواج بها، ولا سيما حين يعلمون أن لها خالة في بلاد الشام توفيت فخلفت لها ثروة وافرة، فضلا عن ثروتها الموروثة عن أمها.
قال همام: وهل أحضرتها معك؟
قال غانم: أحضرتها وجعلتها في الدير عند الراهبات لتستأنس بهن، وقد أشفقت أن أجعلها معي في الفندق فتضجر وتسأم الوحدة، ولا سيما أني مضطرب الفكر في دعوى لي في المحاكم، أتت عليها سنوات كثيرة فما انتهت، وقد كابدت التعب الكثير فيها حتى أصبحت ألوم نفسي على أني أقمتها، وتناجيت بأن أتنازل عن حقي، وأبرئ ذمة خصمي من الدين المعقود لي، ورأيت ذلك خيرا من شكايته إلى المحاكم واحتمال هذا العذاب، ولانشغال بالي في هذه الدعوى لا يمكنني الانتباه إلى ابنتي، فجعلتها عند الراهبات ابتغاء أنسها وتسليتها.
صفحه نامشخص