وقد كان هذا الرجل غنيا واسع الثروة، حصلها بالتجارة في السودان، وأحرز فيها صيتا عظيما وشهرة فائقة، واستمر هناك حتى انقطعت الأسباب فآب إلى مصر، وأقام في إحدى مدنها التجارية.
وكان بخيلا شديد الحرص على متاع الدنيا مقترا على نفسه، وفي قلبه قسوة، وفي طباعه جفوة، فلا تأخذه رحمة على فقير، ولا يجير المستجير، وسنه تبلغ الستين، وكان في قامته طول، وفي جسمه هزال، غير أن بنيته كانت شديدة.
تقدم هذا الرجل في دخوله نحو همام وجعل - كما تقدم القول - يعتذر عن تأخره لبعض الأمور العارضة، وأنه تكدر من ذلك، وحمل على التأخير قسرا عنه لا برضاه واختياره.
ثم إنه التفت يسأل عن ابنه، فلما لم يجده جعل يستقبح سيره، ويعنف على غيبته، قائلا: لي عذر يشفع بي إن أبطأت، فما العذر الذي يقدمه سعيد عن تأخره عن الوقت الموقوت؟!
وبينما هو يمشي وقع نظره على المرأة التي سبقت الإشارة إليها؛ فانقبض وجهه، وانقلبت سحنته، وبدت علامات الكدر في عينه، فلم تمهله المرأة أن تقدمت إليه ودموعها تنسكب، وقالت: حبيبي أنعم الله أوقاتي برؤياك ... لو تعلم مقدار شوقي إليك بعد غيبة سبع سنوات خلتها دهورا، أطال الزمان علي فنسيتني، وغيرت صروف الدهر أحوالي وصورتي فما عرفتني؟
ثم إنها قبضت على كفه، وجعلت تضغطها، وهو في أثناء ذلك يتأخر عنها كمن يبغي الفرار، وحار في أمره كيف يصنع، وانحبس لسانه فلم ينطق بكلمة، وكان فؤاد ينظر مندهشا تارة إليه وأخرى إلى شقيقته، وخاله يراقب حركات الجميع مبهوتا معربدا يخشى أن يطول الوقوف فيتأخرون عن تناول طعامهم على تضوره جوعا، ولبث هكذا واجما حتى انطلق لسان غانم، فقال مجاوبا شقيقته: لا جرم أني نسيتك بعد طول الفراق وخصوصا أني لم أكن منتظرا مشاهدتك، ولا خطر في بالي قدومك هنا.
ثم إنه التفت إلى صاحبه يعتذر عن هذا التثقيل الذي جاء في غير أوانه، والتمس إمهاله ربع ساعة من الزمن ليصرف المرأة عنه وأن يحادثها على انفراد.
فقال همام واجما: اقتضى رأيك ذلك، فلا بأس أن نأكل طعام المساء سحورا، فانظر في أمر قريبتك، بينما أنا مع فؤاد نروح حتى تكون قد فرغت من شغلك.
فلما خلا المكان لغانم نظر إلى شقيقته شزرا، واسمها كريمة، وكانت علامة الغيظ بادية على جبينه المقطب، كمن قد جرد من الإنسانية، فلم تعطفه على أخته أواصر القربى، وكأن لم يكن بينهما تعارف البتة، ودار بينهما ما سيأتي من الحديث بعد هذا.
الفصل الثاني
صفحه نامشخص