وكان أكثر ما قاد أفكارهم إلي إثبات الحركة الكرية مدار النجوم الأبدية الظهور التي تري مستديرة تجول حول مركز واحد بعينه هو القطب. وذلك أن تلك النقطة من الكرة السماوية واجب أن تكون /H11/ القطب باضطرار: وما كان من النجوم أقرب إلي النقطة يدور في دوائر صغار، وما كان منها أبعد من النقطة يدور في دوائر عظام بقدر القرب والبعد حتي ينتهي البعد إلي ما يغيب. وما يغيب منها مما هو أقرب إلي الأبدية الظهور فهو أقل مكثا في الغيبة، وما هو أبعد فهو أكثر مكثا بقدر القرب والبعد. فهذا وشبهه فقط كان أول ما سدد آرائهم وأثبت في أفكارهم أن حركة السماء كرية. B ومن بعد ذلك فإن النظر الفكري قاد إلي فهم سائر ما يتبع ذلك من قبل أن جميع ما يري فيها من الأمور الظاهرة يدل علي خلاف ما عليه آراء المخالفين.
وذلك أنا نهب أن إنسانا قال إن حركة النجوم بالاستقامة إلي ما لا نهاية له، كما قد ظن بعض الناس، /T39/ فبأي الوجوه إذا يمكن أن نري كل واحد منها في كل يوم طالعا علينا من مطلع واحد؟ وكيف أمكن أن رجعت إلي مطالعها وحركتها بالاستقامة إلي ما لانهاية له؟ وكيف، إن كانت ترجع بالاستقامة، لا تري راجعة؟ وكيف لا يغيرها البعد فينقص من نورها وعظمها قليلا قليلا ثم تغرب بل قد تري خلاف ذلك أنها تعظم عند غروبها ثم تستتر قليلا قليلا كأنها تنقطع ببسيط الأرض.
وما قد قيل أيضا من أنها تسرج (¬24) من الأرض ثم بعد ذلك تطفأ فيها، فإنه أبعد شيء من الواجب. /H12/ وأن نحن سلمنا أن يكون هذا النظام الجليل الذي في عظم أقدار النجوم وعددها وأبعادها ومواضعها وأزمانها كان عبثا وباطلا؛ وأن يكون طبيعة بعض نواحي الأرض موقدة وبعضها مطفئة، بل الموضع الواحد لبعض الناس موقد ولبعضهم مطفئ؛ وأن تكون نجوم ما بأعيانها لبعض الناس موقدة أو مطفأة، ولبعضهم لم توقد بعدا ولم تطفأ: فإن سلمنا هذا علي أنه ضحكة وسخرية، فما عسي أن يقول أهل هذا الرأي في النجوم الأبدية الظهور التي لا تطلع ولاتغرب؟ ولأي الأسباب لا تكون النجوم الموقدة المطفأة تطلع وتغرب في كل موضع والظاهرة التي لا تطلع ولا تغرب ولا تكون ظاهرة أبدا في كل موضع فوق الأرض؟ فإنه (¬25) ليس لقائل أن يقول إن نجوما بأعيانها توقد وتطفأ عند بعض الناس دائما ولاتعرض لها ولا واحد من هذين عند بعض الناس. إذ كان قد يوجد عيانا أن نجوما ما بأعيانها في <بعض المواضع> تطلع وتغرب وفي بعضها لا تطلع ولا تغرب.
وجملة، أقول أن أي الأشكال ادعاه مدع في الحركات السماوية غير الكري فبالاضطرار أن تكون الأبعاد التي من الأرض إلي المواضع العلوية مختلفة حيث ما كانت الأرض موضوعة (¬26) وكيف ما كانت. ولذلك كان ينبغي أن يري عظم أقدار النجوم وأبعاد بعضها من بعض /H13/ مختلفة في الموضع الواحد في كل دورة، لأنها تكون مرة في بعد أكثر ومرة في بعد أقل. وليس نري شيأ من ذلك. والذي نري من الزيادة في عظمها إذا كانت عند الآفاق فليس أنما نراها كذلك لقربها وقلة بعدها عند الآفاق، ولكن لأن بخار الرطوبة التي تحيط بالأرض يصير فيما بين البصر وبينها فنري كذلك، كما أن ما نلقي في الماء يري أعظم وكلما رسب إلي أسفل كان أزيد في عظمه.
وقد يدل أيضا علي إثبات الشكل الكري أنه لا يمكن اتفاق القياسات بالآلات إلا علي هذا الوجه وبهذا الشكل فقط. وإن الحركة السماوية غير عسرة بل هي أسلس الحركات وأسهلها وأسهل الأشكال حركة من /T40/ البسيطات الدائرة ومن المجسمات الكرة؛ وإن الأشكال المختلفة التي (¬27) أحاطتها (¬28) متساوية ما هو منها أكثر زوايا فهو أعظم قدرا ولذلك وجب أن (¬29) الدائرة أعظم السطوح والكرة أعظم المجسمات والسماء أعظم مما سواها (¬30) من الأجسام.
صفحه ۳