لا لا، إنها لا تستطيع أن تفعل ذلك؛ لأنها تعلم حق العلم أنها لي، وأنني صاحب الشأن فيها من دون الناس جميعا، فقد اشتريتها بدم حياتي وبجميع دموعي وآلامي، وكابدت في سبيلها من نكبات الدهر وأرزائه ما يخرج احتماله عن طوق البشر، فجعت حتى أشرفت على الموت، وعريت حتى حبست نفسي عن الخروج من غرفتي إلا في ذمام الليل وحمايته، ونمت في الليالي القرة الباردة في ممر الهواء الجاري بلا غطاء ولا دثار، وخرجت تحت جنح الظلام أفتش في صناديق القمامة عن لقمة متروكة أو عظمة مطروحة أسد بها رمقي، وبعت الخبز الأبيض بالخبز الأسود لأستطيع أن أجد لقمة لغدائي، وأخرى لعشائي، وما زالت أرقع قميصي حتى صار القميص الرقاع، وذهب القميص بأجمعه، بل ركبت في سبيلها ما هو أعظم من ذلك فقد قتلت أخي، ومثلت بالرجل الذي أحسن إلي في حياته وبعد مماته، وحدثت نفسي بسرقة ماله، بل مددت يدي إليه، فأصبحت بذلك من المجرمين.
إنها لا تستطيع أن تنتزع يدها من يدي ، ولا أن تفصل حياتها من حياتي، فقد خلقت لي كما خلقت لها، وها هو ذا اسمي محفور بجانب اسمها على جذوع أشجار حديقتها، وها هي ذي شعرات رأسها منسوجة في الخاتم الذي ألبسه منذ عامين، وها هي ذي الأرض والسماء، والبحيرة والفلك، والشمس والقمر، والأشجار والأعشاب، والطيور والأزهار، تشهد بحبنا وغرامنا، ومواقف آمالنا وأحلامنا، وأيماننا التي أقسمناها ألا يفرق بيننا إلا الموت، فإن كانت نفسها قد حدثتها بمقاطعتي، واتخاذ سبيل في الحياة غير سبيلي فقد قضت علي وعلى نفسها في آن واحد؛ لأن الحياة الواحدة لا يمكن أن تنقسم إلى حياتين تعيش كل منهما مستقلة عن الأخرى.
ثم تأوه آهة طويلة وقال: من لي بمن أبيعه نصف حياتي على أن يكشف لي الحقيقة التي أجهلها؟ ولقد كان جديرا بي أن أقف في طريقهما عندما حاولا الفرار مني وآبي عليهما أن ينصرفا إلا بعد أن يعترفا لي بحقيقة أمرهما، ويمزقا عن وجهيهما هذا الستار الذي أسبلاه عليهما، فإن أبيا قتلتهما غير ظالم ولا آثم، فليس من العدل ولا من الرحمة أن يذهبا إلى خلوتهما لينعما فيها بما يشاءان أن ينعما به ويتركاني في هذا المكان وحدي أعالج ما أعالج من الهموم والآلام.
ثم قام يتحامل على نفسه حتى خرج من باب الحديقة ومشى يترنح في مشيته ترنح الشارب الثمل، فما أبعد إلا قليلا حتى سمع صوتا شديدا يخفق وراءه، فالتفت فإذا «إدوار» خارج من باب الحديقة ممتطيا صهوة جواد أصهب، فاختبأ «استيفن» وراء ربوة على الطريق حتى دنا منه، فخرج إليه وأمسك بعنان جواده فذعر «إدوار» إذ رآه، ولكنه تماسك وتجلد، وقال له: ماذا تريد يا «استيفن»؟ قال: أريد أن أسألك عن سبب اختلافك إلى هذا البيت، وعن الشأن الذي لك فيه، وما أعرف لك فيه شأنا قبل اليوم، قال: لا أستطيع أن أجيبك على سؤالك هذا وأنت آخذ بعنان جوادي لا تتركه، فدعه وسلني ما تريد، فترك «استيفن» العنان إلا أنه وقف في وجه الجواد، فقال له «إدوار»: لو غيرك سألني هذا السؤال بهذه اللهجة الجافية الخشنة التي تخاطبني بها لما كان له جواب عندي سوى أن أقول له: إني حر مطلق أتصرف في شئون نفسي كيف أشاء، فأزور ما أزور من المنازل، وأترك ما أترك منها دون أن أعرف لإنسان في الوجود حقا في مراقبتي أو مساءلتي عما أفعل، ولكن إكراما للصداقة التي بيني وبينك أستطيع أن أجيبك عن سؤالك هذا جوابا موجزا فأقول لك: إني أختلف إلى بيت الشيخ «مولر» لأني خطيب ابنته، وسأبني بها بعد شهر واحد ولو شئت لحضرت حفلة عرسنا، بل أنا أدعوك إلى ذلك.
فارتعدت شفتا «استيفن» وشعر بالموت يتسرب إلى قلبه قليلا قليلا، وقال له بصوت خافت ضعيف: أتعني ماجدولين؟ قال: نعم، وليس لمولر ابنة غيرها، فأطرق «استيفن» هنيهة ثم رفع رأسه وقال له: ولكنك تعلم يا «إدوار» أني أحبها وأنها كل حظي في هذه الحياة، وأن انتزاعها من يدي إنما هو بمثابة انتزاع حياتي من بين جنبي، فهل يهون عليك وأنا صديقك ورفيق صباك وشريكك الدائم في سراء الحياة وضرائها أن تقتلني؟ قال: أنا أعلم أنك تحب هذه الفتاة، وأنك استملتها في بعض أيام حياتك الماضية بعض الاستمالة، حتى كادت تسقط في أحبولة الشقاء التي نصبتها لها، لولا أن تداركها أبوها فاستنقذها من يدك، وطردك من بيته طردا قبيحا، وحماها ذلك المستقبل المظلم الذي كنت تهيئه لها، فقاطعه «استيفن» وقال له: ولكنك لم تجبني عن سؤالي الذي سألتكه، قال: وما سؤالك؟ قال سألتك: هل يهون عليك قتلي وأنت أخي وصديقي، ورفيق طفولتي وصباي؟ قال: إني ما أردت قتلك، بل أردت حياتك، فقد تركت لك السبيل بعملي هذا إلى الرجوع إلى نفسك، والتفكير في شأن حاضرك ومستقبلك، فلعلك إن روأت في أمرك قليلا علمت أن خيرا لك من هذه الحياة المضطربة المبعثرة التي تقضيها بين أحلام خائبة وآمال كاذبة الرجوع إلى أهلك والانضواء إليهم، والكون تحت أجنحتهم، والإذعان لهم فيما يريدون لك من الخير في تزويجك من تلك الفتاة الثرية التي اختاروها لك ، ولا يذهب عليك أن زواجك من فتاة موسرة تظلل بوارف نعمتها ضاحي فقرك خير لك من القعود مقعد الذل والمتربة بجانب فتاة فقيرة تضم شقاءها إلى شقائك فتعيا بحملهما معا، فها أنت ذا ترى أنني قد أردت لك الخير فيما فعلت، وأسديت إليك نعمة إن جهلتها اليوم فستعرفها غدا، وستهدأ عما قليل هذه العاصفة الثائرة في رأسك فتعرف لي مكان تلك اليد التي اتخذتها عندك وتشكرها لي شكرا جزيلا.
فما أتى «إدوار» على آخر كلماته حتى طار الغضب في رأس «استيفن»، وبرزت من مكمنها تلك السورة التي كانت رابضة وراء سكونه، فانقض عليه ولببه وهزه هزا شديدا حتى كاد يقتلعه من سرجه، وأنشأ يقول له: الآن عرفت مكان الخديعة التي خدعتم بها تلك الفتاة المسكينة أيها القوم الأشرار، ومن أي باب دخلتم إلى قلبها فعبثتم به، وإلى عقلها فطرتم بصوابه، فقد علمتم ما تضمره لي بين جوانحها من الحب والإخلاص، وأنها لا تبتغي بسعادتي بدلا من أغراض الحياة ومآربها، فألقيتم في روعها أنها علة ما ألاقيه في هذه الحياة من بؤس وشقاء، وألا سبيل لي إلى أن أنال في حياتي حظا من سعادة العيش وهنائه إلا إذا أيأستني من نفسها وانتزعت يدها من يدي، وقطعت ما كان موصولا من الود بيني وبينها، فصدقت حديثكم، وأزعجها هذا المصير الذي خيلتم لها أنني سأصير إليه بسببها، فأذعنت لرأيكم، واستقادت لكم، وفعلت ما اقترحتم عليها، رحمة بي وإشفاقا علي، وكذلك استطعتم أن تستثمروا ضعفها وتستغلوه لأنفسكم، وما بكم من رحمة بي ولا بها، ولكن هكذا أراد ذلك الشيخ الجشع المأفون أن يستمتع بنعمة المال الذي يعبده ويدين به، فباعك ابنته بيع الإماء في سوق الرقيق، وهكذا أردت أن تتمتع بشهوتك البهيمية التي لا تفهم من شئون الحياة شأنا غيرها، ولا يعنيك من زواجك من مثل هذه الفتاة أمر سواها، فمثلك من يعجز عن إدراك السريرة نفسها وما تضمره بين جوانحها من نبل وشرف، وكل ما تستطيع أن تفهمه منها أنها فتاة وضيئة حسناء ، تشبه في بهائها ورونقها رونق أولئك الفتيات الجميلات اللواتي طالما خدعتهن عن أنفسهن، وقضيت لياليك في مقاصيرهن، ثم ما لبثت أن نفضت يدك منهن، وتركتهن يندبن حياتهن وآمالهن، ولو استطعت أن تسلك إلى المتعة بهذه الفتاة تلك السبيل التي سلكتها إلى المتعة بأولئك الفتيات لفعلت، ولما جشمت نفسك مشقة الزواج منها، ولأغنتك ليلة واحدة تقضيها في مخدعها عن أن تحبس نفسك عليها الدهر كله، ومن كان هذا همه من حياته فويل لزوجته منه، وويل له منها، وويل لهما من شقائهما الدائم الطويل.
فقال له إدوار: إن كنت تريد أن تقول إنها أرغمت على زواجها إرغاما، أو خدعت فيه خديعة، فأنت مخطئ في ظنك؛ لأنها قد نسيت كل ماضيها، خيره وشره، ولم يبق بين يديها إلا حبها لخطيبها وإخلاصها إليه، وتعليل نفسها باليوم الذي تسعد فيه بجانبه.
فاستطير «استيفن» غضبا وقال: كذبت أيها الرجل الساقط، إنها أشرف مما تظن، وانفض عليه يريد الفتك به، فأمسك «إدوار» بيديه وقال له بنغمة المستعطف المسترحم: أتريد أن تقتلني يا «استيفن»؟ فاستخذى «استيفن» وتضاءل، وتراءى له طيف ذلك الود القديم الذي كان بينه وبينه، ونظر إليه بعينين مغرورقتين بالدموع وقال له: لا يا «إدوار»، لا أستطيع أن أقتلك لأنك صديقي، ولقد وفقت مرة في حياتي أن أسفك بضع قطرات من دمي فداء عنك فلا أندم على معروفي قط، ولا أسترد يدي التي اتخذتها عند الله فيك أبدا.
ثم ألقى برأسه على قربوس السرج وأخذ يد «إدوار» بين يديه يبللها بدموعه وظل يناشده ويقول: لأنني لا أدعوك يا «إدوار» باسم الصداقة التي رضعنا ثديها منذ طفولتنا معا كما يتقاسم الأخوان ثدي أمهما، ولا باسم المدرسة التي أظلتنا سماؤها وأقلتنا أرضها خمسة أعوام كاملة آنس بك فيها وتأنس بي، وأعينك على أمرك وتعينني على أمري، ولا باسم ذلك الشهيد المسكين «أوجين» الذي كان كريما عليك وعلي، وكان يرعى لك ودك ويحفظ عهدك، حتى مات وهو يعتقد أنه قد تركني من بعده في كلاءة أخ كريم، وصديق حميم ، ولا باسم اليمين التي أقسمتها لي ليلة سفرك من «جوتنج» ألا يهدأ لك في حياتك روع، ولا يثلج لك صدر، حتى أنال أمنيتي من حياتي، بل أدعوك باسم الرحمة والشفقة؛ لأنك محسن كريم ولأني بائس مسكين، وليس للبائس المسكين من سبيل في حياته غير رحمة المحسن الكريم.
فلم يعبأ «إدوار» بذلك كله وتغفله وهمز جواده فطار به ملء فروجه، فركض «استيفن» وراءه فلم يدركه، وكان قد أعياه الجهد فسقط في مكانه وهو يقول: «لا بد أن يكون ما قاله صحيحا.»
صفحه نامشخص