ثم ركب عجلته في صباح أحد الأيام وسافر وقلبه يخفق فرحا وسرورا حتى وصل إلى ضاحية القرية، فترك العجلة مكانها، وأمر السائق أن ينتظره حتى يعود، ونزل يمشي على قدميه ويقلب نظره في تلك المعاهد التي قضى فيها أيام سعادته الأولى، وأشرق على قلبه من سمائها أول شعاع من أشعة الحب، فرأى الغابة التي كان يهيم فيها وحده في الليالي المقمرة مناجيا نفسه بحبه وغرامه، مصورا لها أعذب الآمال وأحلاها، ومر بالنهر الذي اقتحمه منذ عامين لاستنقاذ ذلك الرجل الذي كان مشرفا على الغرق؛ حتى كاد يغرق معه لولا معونة الله وعنايته، ووقف على ضفة البحيرة التي كان يتنزه فيها هو وماجدولين ساعة الأصيل ويقضيان الساعات الطوال بين سمائها ومائها.
ثم أشرف على بيت الشيخ «مولر» فلاحت له أعالي أشجار الزيزفون التي كان يجلس تحتها هو وماجدولين كما كان يراها في ذلك العهد، ورأى من خلال أوراقها غرفته العالية التي كان يسكنها، فعادت إلى ذهنه تلك الأيام الماضية التي قضاها في هذه المواطن، فرأي صبحها ومساءها، وليلها ونهارها، وبكورها وأصائلها، وكل ما مر له فيها من سرور وحزن، ورجاء ويأس، وصحة ومرض، ورخاء وشدة، حتى خيل إليه أنه لا يزال مقيما في ذلك المنزل حتى اليوم، وأنه إنما خرج الساعة من غرفته لقضاء بعض حاجاته وها هو ذا عائد إليها.
ولم يزل يهيم في أمثال هذه التصورات حتى وصل إلى باب الحديقة فوقف على عتبته وقال: ها هو ذا الباب الذي خرجت منه بالأمس طريدا شريدا لا أملك من أمر نفسي ولا أمر مستقبلي شيئا، وها أنا ذا أدخله اليوم آمنا مطمئنا كما أدخل بيتي، وأزور أهله وقومه كما أزور أهلي وقومي، لا أخشى عينا ولا رقيبا، ولا أتقي غائلة من غوائل الدهر، ولا رزيئة من رزاياه، فما أعجب تقلبت الأيام، وأغرب ما تأتي به الأقدار!
ثم مشى في الحديقة يقلب نظرة في أشجارها وأغراسها، وجداولها وطرقاتها، ويقول في نفسه: لقد بقي كل شيء على ما هو عليه، فها هي ذي ثغرة الحائط الغربي لا تزال باقية كما هي، وها هي ذي الصخرة العاتية السوداء ملقاة في مكانها تحت الجدار كما تركتها، وها هي ذي أعشاش الطيور فوق قمة شجرة السنديان تختلف إليها عصافيرها غادية رائحة كعهدي بها، ثم التفت إلى يمينه وقال: وها هو ذا الجذع الذي حفرنا عليه اسمينا أنا وماجدولين، ثم مشى إليه فرأى الكتابة لا تزال على حالها كأنما قد حفرت بالأمس، فاغرورقت عيناه بالدموع، وجثا بين يدي الجذع وأهوى بفمه إليه فلثمه، كأنما يشكر له تلك اليد التي أسداها إليه في احتفاظه بتلك الذكرى القديمة التي أودعه إياها، وهبت على وجهه في تلك الساعات نسمة مرت قبل مرورها عليه بأزهار الحديقة وأعشابها، فحملت إلى رأسه تلك المجموعة العطرية التي طالما استروحها في هذا المكان نفسه مع ماجدولين، ولا يحمل الذكرى القديمة مثل الأريج العطر! فهاج وجده وحنينه، وأخذ يعانق الهواء ويضمه إليه كما يضم حبيبا ملقى بين ذراعيه.
ولم يزل سائرا حتى وصل إلى رأس الطريق الموصل إلى مكان المقعد الذي كان يجلس عليه هو وماجدولين تحت أشجار الزيزفون، ولم يبق بينه وبينه إلا خطوات قليلة، فاشتد تأثره، وخفق قلبه خفقانا شديدا، وحدثته نفسه أن ماجدولين جالسة هناك الساعة وحدها تبكي وتنتحب، وتندب آمالها وأحلامها، وتفكر في انقطاع كتبه عنها، فأشفق عليها أن يباغتها بالخبر مباغتة فيقتلها، فأخذ يهيئ في نفسه طريقة إلقائه، ثم مال برأسه قليلا فرأى طرف المقعد، ورأى ذيل ثوب حريري أبيض منسدلا عليه، فاستطير فرحا وسرورا وقال: ها هي ذي جالسة كما كنت أتوقع أن أراها، فثبت اللهم قدمي وقدمها في ذلك الموقف الجلل العظيم.
ثم انعطف فما وقع نظره على المقعد حتى جمد واصفر، ووقفت دورة الدم في عروقه، وتعلقت أنفاسه بين لحييه فما تصعد ولا تهبط! فقد رأى ماجدولين جالسة بجانب فتى غريب تبسم له ويبسم لها، وقد أخذ يدها بين يديه وألقى رأسه على صدرها، وحنا عليها حنو المحب على حبيبه، فظل يقول في نفسه: ما هذا الذي أرى؟ إنني لا أفهم من كل ذلك شيئا، إنها ماجدولين بعينها! فمن هو هذا الإنسان الجالس إليها؟ أليس هو صديقي «إدوار»؟ نعم هو بعينه! فما مجيئه هنا في هذه القرية؟ وما وجوده في هذا البيت؟ وما جلوسه بجانبها هذه الجلسة الغريبة؟
ثم شد بيده على قلبه كأنما يحاول أن يحبسه عن الفرار، ومشى يقتلع قدميه اقتلاعا كأنما هو شبح من الأشباح الهائمة في ظلام الليل حتى دنا منهما، ففزعا إذ رأياه، ووثبا على أقدامهما وثبة واحدة، ثم ما لبثا أن اختلف شأنهما، فأخذ «إدوار» بطرف شاربه يعبث به ويقلب عينيه في السماء كأنه منجم يفتش عن النجم السابع والسبعين بعد المائة والخمسة والعشرين مليونا كما يصنع المنجمون، وأطرقت ماجدولين إلى الأرض فسكنت في إطراقها سكونا عميقا لا تتخلله حركة ولا نأمة، فظل «استيفن» يردد نظره بينهما باهتا مشدوها لا يقول لهما شيئا، ولا يفهم من موقفهما أمرا، ثم مشى خطوة إلى ماجدولين، وقد أخذ الذهول مأخذه من عقله فنسي المنظر الذي رآه منذ لحظة، وأنشأ يخاطبها باسما منطلقا ويقول لها: لقد انقضت أيام شقائنا يا ماجدولين، ولقد أصبحت - والحمد لله - صاحب ثروة، ولا أقول إنها عظيمة ولكنها كافية لسعادتنا وهنائنا، فجئت إليك أتنجز وعدك، وأخطبك إلى أبيك، ثم أذهب بك إلى «جوتنج» لأريك البيت الجديد الذي ابتعته لك منذ عهد قريب، وسترين حين ترينه أنه على الهيئة التي تمنينا أن يكون عليها ليلة ركبنا زورق البحيرة وتحدثنا عن آمالنا وأمانينا، فارتعدت ماجدولين وامتقع لونها وقالت بصوت ضعيف خافت كأنها تهمس في نفسها ببعض الأحاديث: «إني أهنئك بصلاح حالك يا سيدي!»
فعجب «استيفن» لذلك واستطير عقله وقال في نفسه: ما هذا الذي أسمع؟ إنها تهنئني بصلاح حالي كأنها ترى أن لي حالا خاصة بي مستقلة عن حالها، فليت شعري ما بالها! وما هذا السكون المخيم عليها؟! وما هذا الوجه الغريب الذي تلقاني به؟! لقد كنت أخشى أن أقتلها فرحا وسرورا فإذا هي تقتلني هما وكمدا.
ثم نسي هذا المنظر الأخير كما نسي الأول، فأخرج من جيبه خاتم الخطبة ومشى إليها خطوة أخرى ليقدمه إليها، فما وقع نظره على أصبعها حتى تراجع خائفا مذعورا، فقد رأى فيه خاتما غير ذلك الخاتم الذي نسجته من شعره، وكانت تحدثه عنه في رسائلها كثيرا وتقول له: إنه لا يفارق أصبعها لحظة واحدة، فاشتد خفوق قلبه واضطرابه، وظل يدور بعينيه حائرا ملتاعا لا يعلم أخيالا يرى أم حقيقة؟ وازدحمت الدموع في عينيه تتبادر إلى السقوط، فمد يده إلى ماجدولين ضارعا وقال لها: ألا تستطيعين يا سيدتي أن تقولي لي كلمة واحدة، فإني أشعر أني على وشك الجنون؟ فرفعت رأسها ونظرت إليه كأنها تريد أن تقول له شيئا، ثم عادت إلى إطراقها وسكونها، وهنا تقدم نحوه «إدوار» ووضع يده على كتفه وقال له: حسبك هذا يا «استيفن» فإنك تقتل السيدة قتلا، فانتبه «استيفن» إليه وكأنه لم يكن رآه قبل هذه اللحظة، فصعد نظره فيه وصوبه وقال له: إنني لم أكن أتوقع أن أراك هنا في هذا المكان يا «إدوار»! فقال له: سواء أتوقعت أم لم تتوقع، فقد كان يجب عليك أن تستأذن قبل الدخول، ولم يكن يجمل بك وأنت في هذه السن المتقدمة أن تنسى أول درس يتلقاه التلميذ في مدرسته في أدب الزيارة والاستئذان.
فانتفض «استيفن» انتفاضة شديدة، وعلت جبينه سحابة بيضاء لم تزل تتسع وتستفيض حتى لبست وجهه كله فصار كأنه البرد الناصع، واسترخت يداه كما يكسر الطائر جناحيه للوقوع، وشعر بتخاذل أطرافه، فتراجع إلى شجرة وراءه فاستند إليها، ثم نظر إلى «إدوار» نظرة يقطر منها الدم، وقال له تلك الكلمة التي قالها يوليوس قيصر حينما طعن من خلفه، فالتفت فرأى أن الذي طعنه هو صديقه وصفيه بروتس: «حتى أنت يا بروتس؟!» وصمت لحظة حتى رجعت إليه نفسه ثم التفت إلى ماجدولين وقال لها بصوت خافت متهدج تتطاير معه أجزاء نفسه: أصحيح ما يقول هذا الرجل يا ماجدولين؟ وهل ترين كما يرى أنني أخطأت في دخولي عليك بغير استئذان؟ وهل تعتقدين أن له شأنا عندك يسمح له بأن يتولى أمر مؤاخذتي بالنيابة عنك؟ فاعترض «إدوار» بينهما ومد يده إليها وقال لها: هيا بنا يا سيدتي فقد طال جلوسنا في هذا المكان حتى مللناه، فأعطته يدها وتبعته صامتة مطرقة حتى دخلا البيت وتركاه في مكانه ينظر إليهما وهما يبتعدان عنه شيئا فشيئا حتى اختفيا وسمع خفق الباب وراءهما، فظل شاخصا إلى الباب الذي دخلاه لا يتحرك ولا يطرف، ولا تنبعث له جارحة، ولا ينبض له عرق، ومرت به على ذلك ساعة، ثم أخذ يحدث نفسه ويقول: إن «إدوار» يخاطبني بلهجة الآمر الناهي كأن له شأنا في هذا البيت فوق شأني، فلا بد أن يكون له هذا الشأن الذي يزعمه، ولا بد أن يكون قد استمده من ماجدولين نفسها، فقد رأته بعينها وهو يحتقرني ويزدريني، بل يسبني ويشتمني فلم تقل له شيئا، لا! بل إنها وافقته على أكثر من ذلك، فقد مد يده إليها ودعاها للدخول معه إلى المنزل وهي تعلم أنه لا يريد بذلك إلا طردي وإذلالي، فتبعته طائعة مذعنة، ولم تلتفت إلي ساعة انصرافها التفاتة واحدة تعتذر بها عن عملها هذا، وها قد مضت ساعة بعد ذهابها ولم تعد إلي لترى ماذا حل بي من بعدها، فليت شعري ما دهاني عندها؟ وما هذا الذي بينها وبين «إدوار»؟ إنني أخشى أن يكون خطيبها، وأن يكون هذا الخاتم الذي في يدها خاتم الخطبة الذي أهداه إليها، وأن تكون تلك الجلسة التي رأيته يجلسها بجانبها جلسة غرام يتشاكيان فيها الحب ويتباثانه، فإن كان ما ظننته حقا، فهي فتاة مجرمة خائنة؛ لأنها وعدتني بالانتظار حتى ييسر الله لي سبيل الرزق فلم تف بوعدها، بل أقسمت لي الأيمان التي لا فسحة فيها على الوفاء حتى الموت فلم تبر بيمينها.
صفحه نامشخص