لا تعتب علي يا صديقي، إن قلت لك: إن لي في الحياة رأيا غير رأيك وغير ما يراه الناس جميعا.
إنني لا أعرف سعادة في الحياة غير سعادة النفس، ولا أفهم من المال إلا أنه وسيلة من وسائل تلك السعادة، فإن تمت بدونه فلا حاجة إليه، وإن جاءت بقليله فلا حاجة إلى كثيره.
ماذا ينفعني من المال وماذا يغني عني يوم أقلب طرفي حولي فلا أرى بجانبي ذلك الإنسان الذي أحبه وأوثره، وأرى في مكانه إنسانا آخر لا شأن لي معه، ولا صلة لقلبي بقلبه؟ فكأنني وأنا خال به خال بنفسي، منقطع عن العالم وما فيه.
إن الرجل الذي يتزوج المرأة لمالها إنما هو لص خائن؛ لأنه إنما يأخذ ما يأخذ من مالها باسم الحب وهو لا يحبها، وعاجز أخرق؛ لأنه قعد عن السعي بنفسه لنفسه، فوكل أمره إلى امرأة ضعيفة تقوته وتمونه، وساقط المروءة متبذل؛ لأنه يأجر جسمه للنساء، كما تأجر البغي نفسها للرجال، ليستفيد من وراء ذلك قوته.
نعم إنني بائس فقير، كما تقول، ولكنني أسعى لنفسي سعي المجد الدءوب، وقد بدأت أنجح في مسعاي منذ الأمس، فقد حصلت على وظيفة صغيرة ستكون كبيرة فيما بعد، واستأجرت لي غرفة بسيطة فأصبحت ذا مسكن خاص، وسينتهي بؤسي وشقائي، وأنال السعادة التي أرجوها، وسيكون أعظم ما أغتبط به في مستقبل حياتي أنني أنا الذي صغت إكليل سعادتي بيدي.
أحييك يا «إدوار»، وأرجو ألا تعتب علي فيما قلت لك، ولعلك تفي بوعدك لي، فأراك في «جوتنج» في عهد قريب. (41) غرفة استيفن
سكن استيفن بعد حصوله على وظيفته الجديدة في غرفة صغيرة طولها عشر أقدام وعرضها سبع، ووضع فيها سريرا من خشب ومنضدة عارية يكتب عليها ليلا ويأكل عليها نهارا، وكرسيين مختلفي الحجم والشكل، يجلس على أكبرهما وأصلحهما شأنا، ويضع حقيبة ملابسه على الآخر، ومنصبا للطبخ، وجرة للماء، وبعض آنية أخرى، وكان بغرفته كوة تشرف على سطوح منازل قديمة مهجورة لا يسكنها أحد، فلما أشرف منها ورأى ذلك المنظر الموحش اشمأزت نفسه قليلا، ثم قال: لا بأس، فذلك خير لي من أن يطلع على خلتي أحد، ثم لمح على البعد دوحة عظيمة مورقة في بعض المنازل القاصية فقال: تلك هي الروضة التي أفتح عليها نظري كل صباح، وهل يتمتع صاحبها الذي يملكها ويتعهدها منها بأكثر من ذلك؟ ثم رأى على مقربة منه كنيسة صغيرة فقال في نفسه: أرجو أن تساعدني دقات ساعتها على معرفة المواقيت، ثم ما لبث أن سمع رنينها فأخذ يعدها فرحا مبتهجا وهو يقول: لن أشتري ساعة بعد اليوم.
وكذلك اغتبط «استيفن» بمسكنه الجديد على صغره وحقارة شأنه اغتباطا عظيما؛ لأنه أول مسكن نزل فيه عند نفسه، وابتاع أثاثه وأدواته من ماله، وظل يقول في نفسه: في المسكن الخاص يستطيع المرء أن يكون حرا في قيامه وقعوده، وجلوسه واضطجاعه، ونومه على الهيئة التي يريدها، لا يتكلف ولا يتعمل، ولا يجامل الناس ولا يرائيهم، ولا يضع نفسه في القالب الذي يصنعونه له، فيرفع يده في الهواء بغتة دون أن يخاف وقوعها على وجه أحد، ويستعين بتقليب يديه وتحريك رأسه على النظر والتفكير دون أن يسميه أحد مجنونا أو مختبلا، ويمد قدميه في الناحية التي يريدها لا يخشى محاسبا يحاسبه على الأدب أو يلاحيه في قواعده وأصوله؛ أي إنه يكون فيه على الصورة التي خلقه الله عليها، لا يزيد على ذلك ولا ينتقص شيئا.
وكان لا بد له من أن يعيش عيش الإقلال والتقتير، فلم يلاق في ذلك عناء عظيما؛ لأنه كان قنوعا مجتزئا، فقسم دخله بين نفقات طعامه وشرابه وملبسه وأجرة مسكنه ووفاء ما عليه من دين الأثاث الذي ابتاعه، وعاش عيشة هادئة ساكنة لا يكدرها عليه مكدر؛ لأنها كانت مملوءة أملا ورجاء. (42) الطارق الجديد
جلس «استيفن» في غرفته غداة يوم من أيام الآحاد، وهي الأيام التي يشعر فيها بالراحة من عناء الدرس ونصبه، فسمع خفق نعل ثقيلة على السلم يختلف صوتها عن صوت نعل جارته العجوز التي كانت تختلف إليه من حين إلى حين لتملأ له جرة الماء من البئر، فدهش، وتسمع فإذا القادم يصيح باسمه صياحا عاليا، فخيل إليه أنه يعرف صاحب هذا الصوت، فابتدر الباب ففتحه فإذا صديقه «إدوار» فابتهج بمرآه وعانقه عناقا طويلا، وقال له: لقد وفيت بوعدك أيها الصديق، فلك الشكر على ذلك، ولقد كنت أترقب حضورك ترقب المقرور أشعة الشمس، والظامئ ديمة القطر.
صفحه نامشخص