إنما نقبل ما نقبل ونرفض ما نرفض للحق وحده، حسبما نعتقد وكلام ابن خلدون أقرب للعقل، ولئن كانت الأحاديث المروية عن المهدي قد ضعفها ابن خلدون لسندها، فهناك وجه آخر لتضعيفها، وهو عدم ملاءمتها للعقل إذ كيف يعقل إمام معصوم يخرج في زمان قد حدد، وأنه يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما، بل إن الواقع أيضا ينافي ذلك، حتى إن من نجح من دعاة المهدية، وأسس دولة لم يحقق عدلا ولم يرفع ظلما، بل كان الثائرون والمثور عليهم على دين واحد وسياسة واحدة، كما بينا ذلك.
وقد نظم الصوفية - كما قال ابن خلدون - مملكة باطنية على نظام المملكة الظاهرية، ولقبوا أصحابها ألقابا منهم الأوتاد والأبدال والنقباء والنجباء وعلى رأسهم القطب، وهم يرتقون في المناصب كما يرتقي الموظفون، وهذا القطب يعلم ما كان وما يكون وقد سئل أحمد ابن تيمية: «هل في الوجود طائفة من أولياء الله يقال لها: الأوتاد وأخرى يقال لها: الأبدال وغيرها يقال لها: النقباء، وخلافها يقال لها : النجباء، ورئيس على الكل يقال له: القطب الغوث الفرد الجامع؟ فقال: إن إطلاق هذه الأسماء من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، بل ذلك كله كذب وضلال لا أصل في كتاب الله، ولا سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولا قاله أحد من سلف الأمة، ولا من الشيوخ الكبار المتقدمين الذين يصلحون للاقتداء بهم، والله تعالى يقول:
قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ، ويقول:
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ، ويقول:
قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء .
وقد قال الوهابيون بقول ابن تيمية هذا، وقد أقام بعض الصوفية مراسيم كمراسيم الدولة الظاهرية، وقالوا: إنه تجب لصحة القطب أن يبايع في دولة الباطن، كما يبايع الخليفة في دولة الظاهر، وقد قال ابن الجوزي: إن أحاديث البدال كلها موضوعة، وهؤلاء الأبدال الذين يزعمون أنهم أربعون كلما مات منهم رجل أبدل الله مكانه رجلا، وقد ربطوا هذه الأخبار عن الأقطاب والأبدال وغيرهم بأخبار الخضر، إذ كان يعلم علم الباطن على حين موسى - عليه السلام - كان يعلم علم الظاهر، وزعموا أنه حي مستتر في كل زمان!
وأخيرا نقرأ في الدولة العثمانية نظام الفتوة وتعاون بعضهم مع بعض وفرقة البكطاشية والنقشبندية، ونحو ذلك من نظم سرية وتعاليم خفية، فنسمع منها صدى لأنظمة الإسماعيلية ودعواتهم، بل ربما كانت صدى لتأثير المبادئ الإسماعيلية في أوروبا فهناك ما يشبه تعاليمهم في نظم الأديرة والجمعيات، بل ربما كان للقرامطة تأثير بين في نظم الرهبنة اليسوعية، وربما تكشف الأيام عن ذلك.
وقد كان من مبادئ القرامطة فرض ضرائب على الفقراء؛ لتوزع على المرضى والمحتاجين منهم عند الضرورة وهو شيء يشبه عمل النقابات الحديثة، وكم نقل الصليبيون في حروبهم مع المسلمين من أنظمة، فلعل منها النظام الإسماعيلي والديمقراطي الذي ساد الجمعيات الأوروبية.
من هذا نرى كيف لعبت المهدوية في تاريخ الإسلام، وإصابته مع الأسف بمصيبتين كبيرتين:
صفحه نامشخص