8
أحد سكان راشيا الوادي قد اشتهر بحربه ضد إبراهيم باشا المصري وإبلائه بالمواقع الكثيرة، ولا سيما في الوعرة إلى أن دخل في خدمته، ثم أقامه نجيب باشا والي دمشق رئيس الخيالة (سر سواري)، ووكل إليه تدبير شئون وادي التيم، فجمع سلاح المسيحيين في تلك البلاد وأعطاه إلى قومه الدروز لتقويتهم على هؤلاء، فاغتنم فرصة تقربه من والي الشام ونفوذ كلمته في وادي التيم وحوران على أثر حروبه فيهما ونيل الزعامة على أبناء جنسه ومذهبه الذين انقادوا لأمره، فجمع على أثر حوادث دير القمر وبعبدا المارة الذكر كثيرا من دروز وادي التيم ولبنان وحوران وفرسان الأكراد والعربان وخمسمائة من عسكر الحكومة العثمانية وغيرهم من مناصريهم، وزحف بهم وهم يربون على خمسة عشر ألفا بين فرسان ومشاة إلى زحلة وبينهم بعض بني القنطار الذين نكل بهم الزحليون. وكانوا قد أوغروا صدر العريان على الزحليين واستثاروه لمحاربتهم، فلما علم الزحليون حرج موقفهم لبعدهم عن لبنان وعدم تمكن أهليه من نجدتهم بسرعة فضلا عن وقوع بلدتهم منفردة تحدق بها الدروز والعرب والشيعيون (المتاولة) واستياء اللبنانيين منهم لعدم مساعدتهم إياهم في حرب العامية، عقدوا اجتماعات قرروا فيها أن يتخذوا الأمراء الحرفوشيين ظهرائهم. ففاوضوا الأمراء خنجرا
9
وأخوته وأبناء عمه وكانوا زعماء قومهم ورؤساء عشائرهم فرضوا بالانضمام إليهم ومعاضدتهم على الدروز، وكان السر ريتشرد وود قنصل دولة إنكلترة في دمشق الشهير في حوادث إخراج الدولة المصرية من سورية قد حصل للحرفوشيين أمرا من نجيب باشا والي الشام أن يساعدوا الزحليين أصدقاءه، وشرع الزحليون من فورهم يقيمون المتاريس ويحصنون المضايق والمشارف ويوفرون ذخائرهم الحربية وحاجاتهم المعاشية خشية أن يحاصرهم الدروز، فأقاموا كثيرا من المتاريس والمرامي والخنادق حول بلدتهم، وحصونها وجمعوا كثيرا من الأسلحة؛ لأن المصريين أخذوا معظم أسلحتهم، وملئوا قبو دير النبي إلياس الطوق بالرصاص والبارود، فراسلهم الدروز أن يجمعوا سلاحهم ويسلموه للعريان فلم يغتروا بما عرضوه عليهم من التأمين، إذا سلموهم سلاحهم بل أوجسوا من خيانتهم.
ويوم الأربعاء في 22 ت1 سنة 1841 جاء زحلة الأمير خنجر الحرفوشي وأبناء عمه برجالهم، وبينهم المعلوفيون والمسيحيون من بلاد بعلبك بقيادة شبلي وإلياس هاشم المعلوف المشهورين ببسالتهما، والشيعيون (المتاولة) بقيادة حسن حمية من طاريا وسليمان الحاج سليمان من بدنايل، فكان مجموعهم نحو ستمائة فارس، وكانت تدق أمامهم الطبول، فاستقبلهم الزحليون وانضموا إلى عسكرهم وتعاهدوا على التعاضد والتحالف، فكان المقاتلون في زحلة نحو ألف وخمسمائة، فجمعوا قواهم ودربوا حملة إعلامهم وفرسانهم واتفقوا قلبا وقالبا على الثبات في مواقف القتال مهما كان عدد الدروز كثيرا. وكان في زحلة محمد علي حميه من طاريا، الذي قتل أحد الأمراء الحرفوشيين منذ بضع سنوات، والتجأ إليها فتوسط الزحليون أمره واسترضوا الأمير خنجرا عليه فقابله وقبله بين المحاربين. ولما استوثقوا بعددهم وعددهم زحفوا بقيادة الأمير وبعض أعيانهم، وكان حامل علم العسكر البعلبكي فارس الديراني من قصر نبا وحامل أعلام الزحليين طنوس جبور المعلوف الملقب بأبي عفيفة وأبو عيطا إبراهيم النمير، وأبو لولو خليل الجريجيري، وعبد النور الششم، وخليل الطباع، فتركوا حامية المدينة في المتاريس من الأبطال المدربين في الرمي وساروا بالباقين لملاقاة الدروز، فانتشب القتال يوم السبت في 25 ت1 في شتوره وجلالا بظاهرة زحلة، ففر الدروز إلى قمل وجرح شبلي العريان
10
هناك برصاصة في بلعومه، وأخوه علي برصاصة في فخذه فوقف القتال، ولم يترجح النصر لفريق من الاثنين بل كان يتراوح بينهما؛ لأن عسكر الدروز كثير وبأس الزحليين شديد على قلتهم، ومع ذلك قتل من عسكر الدروز أكثر من سبعين عدا المجاريح، ولم يقتل من الزحليين إلا ثلاثة وهم طنوس أبو طقة وابنا عمه أسعد ويوسف وجرح أربعة وقتل من عسكر بعلبك ابن قره بولاد المسيحي، بينما كانوا مطاردين الدروز إلى جسر بر إلياس عند فرارهم فوصل العريان جريحا إلى بر إلياس وقطع آذان القتلى، وأرسلها مع ابن عمه خزاعي العريان، وبعض الفرسان إلى لبنان ووادي التيم وحوران مستصرخا قومه ومستقدما قواتهم لنجدته، فجاءته النجدة بالخيل والرجل.
ويوم الأربعاء في 29 تشرين الأول ذهبت طليعة إلى تل شيحا تستشرف الدروز، فرأى أحدها محمد سويدان من بدنايل أشباحا كثيرة، فأسرع إلى الأمير خنجر مذعورا وهو يقول له: «يا مولاي الدروز مثل الضباب وقد ملئوا السهل بالخيل والرجل.» فركب الأمير برجاله إلى أن وصل إلى باب السوق فلاقاه أحدهم، وقال له: إن ما رآه محمد سويدان هو عجال (مواشي) بر إلياس فانثنى الأمير على محمد وأطلق عليه بندقيته، فوقع مضرجا بدمه وتكدر وأراد الانصراف من زحلة، فطيب أعيانها خاطره وأحضروا له النارجيلة؛ لأنه كان مولعا بها فسري عنه.
ويوم السبت التالي في أول تشرين الثاني؛ أي بعد ثلاثة أيام كانت حجافل الدروز الجرراة، التي تبلغ نحو خمسة وعشرين ألفا تخفق أعلامها في السهل هاجمة على زحلة، وكانت الطلائع على تل شيحا، فجاء كل من أبي قبلان لحود ثابت البحمدوني وإبراهيم حيدر الحاج سليمان راكضين إلى الأمير ينادون قائلين: وصل الدروز إلى قرب مرج عرجموش (الفيضة)، فركب الأمير خنجر من فوره يحدق به الفرسان والمشاة، فوضعوا ثلاثمائة في الخندق عند البيادر الذي أصلحوه، وكان باقيا من زمن إبراهيم باشا وحرضوهم على الثبات واتخذوا للحصار بيت البردويل قرب سيدة الزلزلة وبيتي مراد المعلوف وعبد الله العزر في حارة سيدة النجاة، وانقسم المهاجمون الزحليون فرقتين؛ إحداهما من ظهر تل شيحا، والثانية من سفحه فالتقوا بالدروز عند بيادر حوش الأمراء، فاصطلت نيران القتال والتحم الفريقان، واستحر النزال وبيعت الأرواح، وكان الأمير خنجر قد ربط في نقطة طريق المعلقة ليقطع على الدروز خط الهجوم، فلما رأى اشتداد العراك وتطاحن الأبطال وكثرة الدروز تقهقر برجاله إلى عين الفلفلة في منقلب ظهر الحمار فوق المعلقة إلى جهة زحلة ، فتأثرته فرقة من الدروز وأعملت السلاح في أقفية رجاله، فقتلت كثيرا منهم وقتل الأمير يوسف الحرفوشي عند عين الفلفلة وأصيب ابن عمه الأمير منصور برصاصة،
11
صفحه نامشخص