وعاد إلى زحلة بفشل متأثرا، فلما رأى السكان ازدياد ظلم الوكلاء وعدم سماع الأمير شكاويهم رفعوا دعواهم إلى شريف باشا حاكم دمشق نزيل بيروت إذ ذاك، فجاء زحلة ومعه حنا بك البحري، فقص عليهما الخوري بولس سنكي حادثته مع الأمير، فتذاكرا وجزما بإبطال رسم الذبحية المذكور، وفاوضا الأمير بشيرا، فاقتنع بإبطاله وبعث إلى كل من الطيبي الذكر أغابيوس الرياشي مطران بيروت ولبنان الكاثوليكي والخوري إبراهيم الكعدي الأرثوذكسي والخوري موسى أبي كرم الماروني كاهني قصبة بسكنته في لبنان أن يحضرا إلى زحلة مع بعض خاصته، ويفضا هذه المعضلة التي أقلقته، فجاءوا زحلة ونزلوا في دير النبي إلياس الطوق الشويري؛ لأن السيد شاهيات كان إذ ذاك في عين تراز يدبر شئون مدرستها البطريركية. فحاسبوا الوكلاء فإذا أموال طائلة باقية ضمنهم ورأوا ظلمهم للسكان، فأخبروا الأمير فعزلهم وأرسل عوضهم من قبله وكيلا لفض مشاكل زحلة الشيخ وردان الخازن فنزل في المعلقة.
وفيها أمر إبراهيم باشا أولاد الأمير بشير وأعيان لبنان أن يلبسوا الطرابيش عوض العمائم، فعم استعمالها ولبسها بعض الزحليين مثل غيرهم، وكانت تعرف بطرابيش الدلح، وهي أشبه بجراب مسترسل على قذال (قفا) الرأس.
وفي هذه السنة سيم الشماس مخايل عطا الزحلي (المطران غريغوريوس) كاهنا باسمه من يد السيد باسيليوس شاهيات، وصار نائبا بطريركيا في دمشق وما يليها. (6) إخراج الدولة المصرية من سورية
ولقد كانت أيام إبراهيم باشا المصري في سورية أوقات سرور وهناء تخللها حروب ومناوشات، ولا سيما في عهدها الأخير، وكان لهذا الوزير محاسن وهفوات، فمن محاسنه تعميم الزراعة، وتنشيط الصناعة، وترويج التجارة، وتقرير حق التملك، ومنع الرشوة والتدليس، وإنشاء الدواوين، وكثيرا ما كان يرسل مأموريه إلى داخل البلاد للحض على تحسين الزراعة، وعدم إهمال الأراضي الفسيحة التي كانت مواتا، وعمم زراعة التوت، وأدخل زراعة الأرز والنيل، وأدخل دودة القرمز، وحفر المعادن والفحم الحجري، وأدخل المرسلين الإفرنج، وبدأت النهضة العلمية منذ ذلك الحين. ومن هفواته التي يتناقلها الشيوخ أنه بقر بطن جنديه؛
7
لأنه اشترى لبنا من امرأة ولم يعطها ثمنه فرفعت دعواها إليه، فقال لها: إنني سأقتله فإن رأيت أثرا للبن أعطيك ثمنه وإلا أقتلك، ولما رأى اللبن في معدة القتيل نقدها ثمنه، وله كثير أمثال هذه الحادثة.
ومن أهمها أنه أمر بجمع سلاح النصارى اللبنانيين، وأرسل مأمورا لذلك إلى زحلة، فضايق سكانها كل المضايقة، وجمع كل الأسلحة بقساوة وتهديد لم يشاهد الأهلون نظيرهما بعد أن تحرروا من الاستعباد القنطاري، وذاقوا لذة الحرية والاستقلال الشخصي، ورأوا انعطاف وزير إليهم، فخسروا أموالا طائلة ليس بقيمة الأسلحة الثمينة فقط؛ بل بقيم أسورة البنادق والسيوف المجوهرة (المسقطة) والخناجر المفضضة التي كانوا يتغالون باقتنائها، وكان بنو عطا يبالغون بإتقان عملها والتفوق برونقها ولا سيما لمواطنيهم.
وكان الزحليون فوق كل ذلك قد جشموا النفقات الباهظة بوجود العسكر المصري في بلدتهم وتجنيد الأهلين، حتى إن كثيرا منهم كانوا يستأجرون عوضهم رجالا يذهبون للقتال وينفقون على الجميع، فضلا عن تسخير الناس لحفر المعادن والدواب لنقل الذخائر والمؤن، فكثر الطمع بهم لسرعة نجاح بلدتهم، وحسبت في سعة كبيرة من العيش وذات أموال وافرة.
ومع كل ما أبدى الزحليون للعسكر المصري من المؤانسة والخدمة، وتحملوا لأجلهم من النفقات والأثقال لم يسلموا من تحاملهم عليهم حتى إنهم سنة 1840 لما عزمت الدولة باتفاق الدول على إخراجهم من سورية، نووا وهم في المعلقة أن ينهبوا زحلة ويحرقوها، لولا سليمان باشا القائد الفرنسي وحنا بك البحري وبطرس كرامة الذين منعوهم بإشارة إبراهيم باشا وتوسط بعض الأعيان.
وما جمع إبراهيم باشا أسلحة المسيحيين الذين لم يقاوموه ولا حاربوه؛ بل قدموا له أسلحتهم وتجندوا متطوعين وبينهم الزحليون حتى رأى مقاومة الدروز والعرب في حوران ووادي التيم وعصيانهم عليه، فاضطر مكرها أن يعيد الأسلحة إلى المسيحيين لينجدوه على الدروز الذين أرسل جنوده لمحاربتهم في حوران، فتحصنوا في اللجأ وعاثوا بوادي التيم واضطرب حبل الأمن، فكان ذلك من أهم أسباب العداء بين الطائفتين المسيحية والدرزية، فتوطدت بينهم الشحناء وكثرت النزغات. وكان حرب الأمير بشير الكبير وسعيد بك جنبلاط أول جذوة من هذه النار التي زادت الآن ضراما. فذهب المسيحيون متجندين مع العساكر المصرية وحضروا المواقع الكبيرة التي نشبت بينها وبين الدروز في حوران ووادي التيم ولا سيما وادي بكة. فأبلى اللبنانيون وبينهم الزحليون وكانت الثورات تتوالى والخصام يزداد اتساعا وعوامل الحقد تسكن القلوب فتحركها على جر الويل وإهراق الدماء.
صفحه نامشخص