مقدمة
لما كنت مولعا بإحياء آثار مسقط رأسي «زحلة» المحبوبة منذ الصغر، كنت أنتهز الفرصة لجمع كل ما يتعلق بآثارها وأخبارها، حتى توفقت إلى أخذ امتياز «جريدة زحلة الفتاة» في ك1 سنة 1910، ولم أشأ أن ينشر العدد الأول منها إلا مزدانا «بتاريخ هذه المدينة»، فسعيت في ابتياعه من حضرة مؤلفه ونشره على صفحات الجريدة، ثم جمعه بكتاب على حدة يبقى أثرا مذكورا لوطني ومواطني. فأرجو بعد كل هذا أن تحوز خدمتي القبول لدى المواطنين الكرام، الذين أهدي إليهم هذا التاريخ في أول السنة الحالية (سنة 1911)، وحسبي فخرا خدمة وطني بإخلاص.
إبراهيم نقولا الراعي
زحلة في 1 ك2 سنة 1911
تمهيد
وضع كثير من المتقدمين تواريخ عامة، وجرد الآخرون تواريخ خاصة للناس والمدن ونحوها، فحفظوا بذلك ذكر من تقدمهم، إلى أن كان عصر انحطاط بلادنا منذ بضعة قرون؛ فقلت العناية بهذا الفن الذي هو من أنفع الفنون وأجزلها فائدة للآتين. حتى لقد كادت معرفة التواريخ تتلاشى ذكرا وتعفو أثرا من بيننا. فتنبهت منذ أميطت عني التمائم إلى ضرورة وضع تواريخ لكثير من مدننا التي أوشكت أن تطمس أخبارها، ولأسرنا (عيالنا) التي قلما يوثق بأخبارها، فوقفت كثيرا من أوقاتي وأرصدت ما يلزم من الأوراق القديمة والمخطوطات للبحث والتنقيب، غير مدخر وسعا في هذا السبيل، ولا متوان ضجرا من سؤال الشيوخ والحفظة والمراجعة. وقلما وقفت على مخطوطة أو ورقة إلا وراجعتها بتدقيق، مستنسخا كل ما له علاقة منها بموضوعي. فاجتمع لدي تعاليق كثيرة في تضاعيف مجلدات وافرة، ولن أزال متحديا هذه الخطة إلى هذه الساعة، فوجدت أمامي مادة غزيرة. وكثيرا ما كنت أعارض الأقوال والمخطوطات، وأمحصها على قدر الطاقة تبسطا في البحث وتحقيقا في العمل. وهذه خطة من كان في عصر مثل عصرنا الحاضر، قد انقطعت فيه أسباب العناية بأسلافنا وبلداننا، وانصرفت فيه أفكارنا إلى استقراء ما عند الإفرنج من التواريخ والأنباء التي لا علاقة لها بموطننا ولا بقومنا، حتى إذا رأى أحدنا كتابا لأحد المستشرقين من الفرنجة يبحث عنا أعرض عن مطالعته ونبذه ظهريا؛ لفشو مرض استضعاف أنفسنا بيننا، واحتقار بلادنا ونحو ذلك مما يعد عيبا فينا وعارا علينا:
وماذا الذي تدريه عند أجانب
إذا كنت في أحوال دارك جاهلا
هذا ولما جئت زحلة واتخذتها لي موطنا منذ بضع عشرة سنة، شرعت أبحث عن تأريخها وشئون سكانها وقدم عمرانها، فراجعت ما وصلت إليه يدي من الأوراق القديمة والسجلات والمخطوطات التي أشارت إليها، مثل تاريخ القس روفائيل كرامة الحمصي، والقس حنانيا المنير الزوقي، وهما من الرهبنة الحناوية الشهيرة، وتاريخهما في حوادث القرن الثامن عشر للميلاد، وتعاليق بعض أساقفة مدينة زحلة في يومياتهم الخاصة، وكذلك بعض الكهنة الذين ولعوا بكتابة ما يجري أمامهم من الحوادث. أخصهم الطيبو الذكر الأسقفان باسيليوس شاهيات وأغناطيوس ملوك والخوري فيلبس النمير؛ فضلا عن التواريخ الأخر المطبوعة أو المخطوطة، مثل تاريخ الأمير حيدر الشهابي الشملاني وطنوس الشدياق الحدثي وتشرشل بك الإنكليزي والكردينال لاڤيجري الفرنسي، وبعض كتب رحالة الفرنجة في القرنين الماضيين، ونكبات الشام وملاحم جبل لبنان لإسكندر بك أبكاريوس الأرمني، وتاريخ إبراهيم باشا له وحوادث سنة 1841م فصاعدا للخوري أرسانيوس الفاخوري، ونحو ذلك من المراجع الكثيرة التي جمعت منها ما جمعت، إلى أن ذكر لي أحد أصدقائي «تاريخ زحلة» للطيب الذكر وطنينا المطران غريغوريوس عطا الزحلي. فبادرت إلى طلبه من مؤلفه لما كان حيا، فتكرم علي بنسخة مختصرة منه بخط الخوري روفائيل أبي مراد
1
صفحه نامشخص