من بعلبك مركبة من كلمتي «يو» الإله الكلداني، ومعناه الفينيقي نور، قيل إنها أخت البعل، وكان لها هيكل على شاطئ بحيرة اليمونة. وأونين ومعناه أبو البعل أو أنها محرفة عن هذه فقط، فقالوا في «أونين» يونين، إلى غير ذلك من الأدلة. وحبذا لو قام بين ظهرانينا من المؤرخين المحققين الواسعي الاطلاع على اللغات القديمة، من يمحص أسماء المدن والقرى ويحلل معانيها، فإنها كالطبقات الصخرية في علم الجيولوجية، ترشد إلى حقائق راهنة، وتؤيد العلم الصحيح.
وإن شئت أن ترى في أصل كلمة «علين»
28
رأيا آخر أدل على أن المدينة سميت باسم هيكل زحل، فراجع العبادات القديمة، تجد كلمة «عليون» أي أيل، والعلي من معبودات الآراميين والفينيقيين، ويسمى أيضا بعل وكرون وأدونيس وتموز. وهو أبو السماء والأرض وخليفة أيون الأشوري، هلك في محاربة الوحوش الضارية، وشاعت عبادته عند المصريين واليونانيين والرومانيين، ولا سيما في مدينة جبيل ومشارفها في لبنان، حتى سمي نهر إبراهيم باسم «أدونيس». وتحريف عليون إلى كلمة علين جاء عن تقديم الواو على الياء في لهجة العامة، فقالوا «علوين»، ثم أدغموا تخفيفا في اللفظ على عادتهم، فصارت الكلمة علين. ومما يؤيد هذا الرأي أن من سلالة عليون هذا «داجون» المعبود الفلسطيني (قضاة 16 : 23)، المسمى أيضا سيتون مخترع استعمال القمح، وهذا الاسم ظاهر تحريفه في عين الدوق
29
التي هي أحد أحياء المدينة اليوم، واقعة على رابية في الضفة الشمالية إلى الجهة الغربية، مشهورة بطيب هوائها وعذوبة مائها، حتى توصف سكناها للمرضى. ومن أظهر كل ذلك أن الرومان يسمون عليون ساترن؛ أي زحل، فلعلهم شيدوا له معبدا في علين هذه، وسميت المدينة باسمه. وقبالة زحلة إلى الشرق في مدخل وادي يحفوفه، بعد أن يترك القطار موقف (محطة) رياق قرية ماسة، إلى يمين الداخل على تلة، وهناك هيكل لزحل كما مر آنفا؛ فضلا عن أن لأيل - أحد أولاد عليون - بنتين عنت وتنيت، وهي عشتروت؛ أي الزهرة، ومنها أخذ اسم عيتنيت في آخر منعطف البقاع كما مر، إلى غير ذلك مما يملأ تفصيله كتابا برمته.
هذا ما رأيته في تسمية المدينة وأرباضها، مما يدل على قدمها، بقي أن ما فيها من المغاور في الصخور قرب نزل (لوكندة) الصحة إلى غربيها، التي يسميها العامة الطوق، وبها سمي دير النبي إلياس يدل على سكن الإنسان قديما فيها، في طور الظران؛ أي الطور الحجري؛ لأن لبنان كان فيها أناس يسكنون مغاوره الكثيرة الطبيعية، وذكر يشوع بن نون (13 : 4) مغاور الصيدونيين، والمراد بها مغاور نيحا «من الشوف في لبنان الآن» وعدلون. وكذلك اسم الصفه ربما كان عبرانيا؛ لأن «صفه» العبرانية بمعنى استشرف ونظر، فلعل هذا الاسم كان لمحل على رابية عالية كثيرة الأحادير على ضفة النهر الجنوبية تسمى الآن سور المشيرفة (تصغير المشرفة)، وصفا سميم وبعل شميم بمعنى عبدة السماء ورب السماء، من العبادات الفينيقية، وهو زفس عند اليونان، فعرب بالمشيرفة وبقي اسمه القديم لحضيضه، وهناك قبالة نزل الصحة غرفة منقورة في الصخر مربعة تدل على أنها كانت هيكلا صغيرا ونحوه. وفوقها مغاور قديمة منحوتة في الصخور، كانت مدافن للموتى ذات حنايا وأضرحة منقورة في الصخر، وهي مقابل المغاور المسماة بالطوق. وفي المدينة كثير منها ولا سيما في صخر، هو كالنطاق لتلة المشيرفة التي هي أكمة خرماء «لها جانب لا يمكن الصعود فيه»، وقد ظهرت مؤخرا فيه مغارة قديمة شاهدتها، ووصفتها في جريدة المهذب وهاك الآن ما عرفته عنها بالتفصيل: إن في ذلك النطاق الصخري في سفح المشيرفة مغاور كثيرة قريبا بعضها من بعض، كما يظهر للمتأمل على علو أكثر من ألف وأربعمائة متر عن البحر، وعلى بعد نصف ساعة عن المدينة، ولم يحتفر منها إلا مغارة اهتدى محتفرها إلى معرفتها بكثرة الأرانب التي كانت قد اتخذتها مخزة «المخزة بيت الأرنب»، فانتبه بعد مراقبتها مرارا إلى أن ثم مغارة اتخذتها الأرانب مأوى لها، فاحتفر الفتحة الصخرية التي تبلغ نحو ثلاثة أمتار، وهي مدخل إلى باب المغارة الحجري وغلقه أيضا من حجر، وطوله نحو ثمانين سنتيمترا بعرض سبعين، والغلق الحجري مركز على نجرانين؛ أي محورين حديديين في أعلاه وأسفله لفتحه وإغلاقه بسهولة، وهو ضخم أبيض اللون قد نزع من محله، وفيه ثقب مستطيل يدل على أنه اتخذ لوضع شيء فيه، إحكاما لسده وتوثيقا لإغلاقه، وفي جانب الباب المقابل لمحل المحورين ثقب يقابله. وفي داخل المغارة ثمانية نواويس منقورة في أرض المغارة الصخرية، اثنان منها على جانبي الداخل وخمسة في وسطها متناسبة الوضع وناووس في أقصاها. وهناك نواتئ صخرية تمثل رفوفا وجدت عليها سرج من فخار منقوش، مستديرة أو بيضية الشكل مستطيلته، ولكل منها ثقبان؛ أحدهما في مستدق طرفه، والثاني في وسطه . وقياس كل قبر منها نحو ثمانية أشبار طولا وأكثر من اثنين عرضا ونحو شبرين عمقا. وعلو سمك (سقف) المغارة عن سطح النواويس نحو ثمانين سنتيمترا فقط، بحيث لا يستطيع الداخل أن ينتصب. وطول هذه المغارة من الشرق إلى الغرب نحو عشرين شبرا في عرض مثلها، وهي منحوتة في صخر أبيض رخو، يعرف بالحجر السكري، ولها حنايا (قناطر) فوق القبور كلها منحوتة، ووجد في هذه النواويس عظام نخرة بعضها كبير والآخر صغير، وفوق الباب وجدت كوة غير نافذة. ولو تقصى الباحثون في حفر هذا النطاق وغيره، لعثروا على أشياء كثيرة ترشد المؤرخ إلى حالة المدينة القديمة.
وإذا صعدت من هذا النطاق إلى علو خمسين مترا، وعلى بعد ربع ساعة، وصلت إلى تلة المشيرفة،
30
وهي تصغير المشرفة بمعنى المطلة على ما حولها، وفي طلع هذه الأكمة (المكان الذي يشرف منها على ما حولها)، التي تعلو ألف وخمسمائة متر عن سطح البحر، ونحو خمسمائة عن حضيض وادي البردوني آثار أبنية قديمة ضخمة الحجارة، كما يروي المعمرون من سكان زحلة، وكانت مضفورة؛ أي مبنية بحجارة بلا كلس ولا طين، فهدمت أطلالها ودحرجت حجارتها إلى الوادي، واتخذت لبعض الأبنية منذ القديم. ولعل من بقاياها تاجي عمودين منقوشين أمام دير الطوق حتى الآن. وكانت هناك نواويس منفردة على شكل أجران مستطيلة، ولها أغطية مسنمة «بشكل جملون». وهناك آبار مستديرة منقورة في الصخور، ولها محل منقور حول فوهاتها لوضع أغطيتها، وبالحقيقة أن تسمية هذه الرابية بالمشيرفة جاءت اسما على مسمى؛ لأن الواقف على طلعها يشرف على جبل صنين والكنيسة، وجبل الشوف المتصل بجبل عامل (بلاد بشارة)، وجبل الشيخ «حرمون»، والجبل الشرقي «أنتيلبنان»، إلى أن يستشرف أطلال بعلبك الشهيرة، وينتقل إلى جبل المنيطرة حتى ينتهي النظر في صنين حيث ابتدأ، فكأن الواقف عليها هو في مركز دائرة والأفق حوله كالحلقة المفرغة، لا يدري أين طرفاها، فضلا عما يراه من القرى في سفوح هذه الجبال، وفي سهل البقاعين وبعلبك ووادي التيم، وقلما يجد الرائي مثل هذه المناظر الجامعة بين السهول والجبال والأودية والتلال والمنبسطات والرعان والأنهر والينابيع، والخضرة التي لا تخلو منها السهول . فهل نسلم أن هذا المحل مع مناعته ووقوعه في مدخل البقاع بين جبلي صنين والكنيسة كان خلوا من هيكل قديم حول معقلا حربيا قوضت أركانه؟ كلا لا يقتنع العقل بخلوه من بناء عظيم لحسن موقعه وحصانته.
صفحه نامشخص