عزت العابد
قال لي مصطفى ظافر يوما: هل لك في زيارة عزت بك العابد؟ (لم ينل إذ ذاك رتبة الوزارة) فقد رأيته يثني عليك أجمل الثناء، وقال لي إنه يحب أن يعرفك ذاتا كما عرفك اسما.
قلت: هذه فرصة لا تضيع، وما بي غنى عن معرفة أولئك الذين أحاطوا بسلطان العثمانيين، وأضحوا سورا بينه وبين رعيته.
قال: إذن فانهض معي لنزوره. فخرجنا، فلما انتهينا إلى يلديز ولجنا الباب الكبير الذي يدخل منه إلى القصر، وأخذ يسير بي إلى أن انتهينا إلى دائرة عزت. فإذا هو رجل ربعة القامة نحيف الجسم، أسود اللحية باسم الوجه، فتلقى مصطفى ظافر بالترحاب وتقدمت نحوه فسماني له صاحبي، فصافحني وأجلسني بمقربة منه، ثم أراد أن يتمثل ببيت من الشعر فلم يحضره، وجعل لسانه يتلجلج ولا ينطق به، فاختار ترك الإنشاد ورضي بالحديث.
قال: قضى مرضي ألا يهنأ لي عيش بأنس ولا بشيء من نعم الحياة. وقد أمر مولانا السلطان أن تخصص لي باخرة صغيرة أتنزه عليها في الخليج. فإذا جاء ميعاد النزهة أرسل - أعزه الله - يخبرني بالميعاد، فأنهض إلى باخرتي وأرود بها البوسفور، ثم أعود فأدخل إلى حضرته، فأتملى بتقبيل أذياله وأنصرف بعد ذلك إلى بيتي. غير أن نزهتي هذه لا تسرني كثيرا؛ فقد أظل بالباخرة وحيدا لا أجد من أحادثه، فرأيت أن أخاطب بعض الأحبة أن يزوروني ساعة خروجي لأستصحبهم معي وأخلص من ملل الوحدة. وقد خرجت الآن مع عبد الجليل أفندي، فانشرح فؤادي وطابت نفسي. ويا ليتكما تذهبان معي يوما، هنالك ما يفجر ينابيع الشعر في فؤاد ولي الدين.
قال مصطفى ظافر: إن ولي الدين لا يحب أن يبرح منزله إلا مكرها، وإذا تركت الأمر له فلا تنتظر زيارته إلا نادرا، ولكنني سأحتال في استصحابه يوما لنشاركك في هذه النزهة.
هكذا قضينا نحو ساعة في حديث لا فائدة فيه، والسبب في ذلك أن مكاننا كان مكان خوف، وعلى عزت جواسيس وعلى غيره أيضا جواسيس، وأنا لم أشأ أن أبادئه بذكر شيء تجنبا لما عساه يأتي من جراء كلامي، ولكيلا يحسب العابد أني أذم أبا الهدى تحببا إليه فيتهمني في قلبه بالنفاق وسوء الأخلاق. غير أننا لما أردنا الخروج أمسك عزت بيدي وخاطب مصطفى ظافر قائلا: أرجو أن تأتي مساء يوم مع ولي الدين إلى منزلي لنتعشى معا. فضمن صاحبي له ذلك، وفي مساء يوم من الأيام زارني مصطفى ظافر ومعه ورقة من العابد يدعوه بها إلى العشاء، ويرجوه ألا يألو جهدا في أخذي معه، فذهبنا. فإذا بيت مدخله مفروش بالرخام الملون، فاخر الأثاث حسن الترتيب، فسار بي رفيقي حتى ولجنا حجرة واسعة ليس بها أحد، وإلى يسار الداخل حجرة أخرى سمعنا بها أصوات أناس يتكلمون، فخرج منها رجل وإذا هو عزت، فما وقعت عينه علينا إلا بادر نحوي آخذا بيميني، ثم قال: تعال أقاسمك ما رزقنا الله. هذا جعل للشعراء. أما رفيقك فهو تقي وابن تقي، دعه وحده في مراقبته. فتبسمت وأنشدت قول الصفي الحلي:
يرنون بالألحاظ شزرا كلما
صبغت أشعتها أكف سقاتها
فأخذ عزت بيدي ودخل بي إلى الغرفة التي سمعنا منها حديثه مع أصحابه. فإذا رجلان أحدهما عبد الجليل أفندي أحد الموظفين بإدارة الريجي، والثاني لا أعرفه، وفي أحد أركان المكان مائدة عليها ما لذ وطاب من العرق الشامي وأنواع الأطعمة (المزة)، فناولنا عزت كأسا وقال لي: قل فيها شعرا ثم اشربها.
صفحه نامشخص