أبو الهدى بالآستانة وبمصر
رجل نشأ في «خان شيخون» - وهو اسم قرية من قرى حلب - مجهول النسب والحسب، فقيرا من المال والعلم، لا نصير له إلا عقل ما تجلى شعاعه على داجية معضلة إلا أنارها، وسيم المحيا طلقه، فتي العزيمة ماضيها، طموح النفس إلى كل سؤدد، صبور على المكاره، إذا نال جشع وإذا حرم شبع، لطيف ظريف، لا يمل مجلسه، شمائله أندى من الزهر، وهيبته أعظم من هيبة السبع، إذا تقاعس تحالم، وإذا قدر بطش غير راحم، يبدي على صفحته ما يريد ويكن في ضميره ما يريد، لا يخذله تلون ولا تلجلج، لجام نفسه بيده يصرفها كيف يشاء وأنى يشاء. ذاك هو أبو الهدى المعروف عند العثمانيين والمصريين.
ادعى النسب وربط أسلافه ببيوتات وبطون كثيرة؛ فهو رفاعي خالدي قرشي هاشمي علوي، ثم غساني تبعي، ثم عالم فقيه نحوي لغوي أديب مؤرخ متصوف فيلسوف، فلكي طبيب عراف، ولي شاعر كاتب سياسي إداري مالي عسكري بحري بري، ثم هو مستبد جاسوس، وحر دستوري، فاسق تقي، مبذر ممسك ، جبان شجاع، قوي ضعيف، حبيب عدو، خائن وفي، يتقلب في هذه النعوت والصفات ما بين غمضة عين وانتباهتها، ولولا خوف الهجر لقلنا إنه كل يوم في شأن.
أحرز أشرف الألقاب فقيل له «صاحب السماحة والسيادة»، وكني بأجمل الكنى، فدعي «مستشار الملك، حامي العثمانيين، سيد العرب»، ولكن غلبت سورة الحق على كل هذه الأباطيل، وسمي «أبا الضلال»، فبقي له هذا الاسم صفة حتى لقي به ربه.
وليس ببعيد أن يكون أبو الهدى ولد مطبوعا على الخير راغبا في المعالي، فسلك الطريق إليها كما أراد وكما أراه عقله. ولعله كان يظل مقيما على الإنصاف لو وجد منهم الإنصاف. ولكن كثر مزاحموه وجم حاسدوه، فاضطر إلى محاربتهم غيرة على أربه وحفظا لحياته؛ وهو في دهائه ووفرة تجاربه عالم بأن نعم الملوك تتكنفها النقم، فنازل أعداءه منازلة لا مشفق ولا آمن، وأيقن أنه إن غفل عنهم برهة دبروا له من المكايد ما يذهب بعزه ويقصيه عن سلطانه، فجعل كلما أتاه منهم شر أرسل عليهم مثله، دقة بدقة، وما تشمر لحربه إلا كبار الرجال من أهل الحظوة عند السلطان، فما زال بهم حتى بزهم واحدا واحدا، وبقي مكانه كالطود الراسخ لا تزعزع قواعده الصروف ولا تترقى إليه الهمم.
استمال فريقا من الرجال، منهم الأمراء وأهل الثروة وذوو الحكم في البلاد، فأظهر لهم الود واستعمل قدرتهم في أغراضه. ووفد عليه العلماء والشعراء والكتاب يستعينون به على قضاء حوائجهم، فأخذ بناصرهم وأكرم وفادتهم وأدنى منه مجلسهم، فكان منهم من يؤلفون الأسفار ويعزونها إليه، ومنهم من ينظمون الأشعار ويروونها عنه، فتناقلت الألسن ما بدا من فضله المتزود به، وسهت الأفكار عن نقصه الكمين فيه. على أني لا أقول نقصه، ومن أين لنا أنه كان ناقصا؟ وهل يقدم أكثر الناس على المكاره إلا مضطرين، وإن كان منهم من يتشهاها ويستهتر بها؟ على أن ضرورات الحياة أشقت أبا الهدى من حيث أسعدته، وحطته من حيث رفعته، فعاش، وهو حبيب الناس، عدوهم، وألف الحيل لما رأى حياته ونشبه لا يسلمان إلا بها ، وقلت ثقته بالناس، وقلت رغبته في مصافاتهم؛ فعاش وأشد الناس ملازمة له أشدهم خوفا منه.
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له ما من صداقته بد
أتى على أبي الهدى حين من الدهر يفزع اسمه الولاة على مقاعد ولاياتهم، ويرهب الوزراء بل الصدور وهم على أرائك حكومتهم؛ ينفذ إلى أحدهم وصاة في أمر لا يجرؤ عليه غيره ولا تجيزه قوانين الدولة ولا يرضى به عبد الحميد؛ فلا يستطيع أحد أن يظهر له مخالفة ولا أن يضمر في نفسه مماطلة، وكم أمر السلطان أمرا وأبطله أبو الهدى، وكم شكا الرجال كثرة ما يقترح لهم فما أفادهم ذلك ولا ضره، وكان عبد الحميد يقول: «عجبت لهؤلاء الخونة الذين يحسدون شيخي وليس فيهم من يليق به أن يكون من خدامه. يكتب لي الواحد منهم كتابا يطلب من فيه بدرة مال أو رتبة لا تكاد تذكر؛ وهو مع ذلك يتعسف الحيل ولا يهتدي إليها سبيلا. أما أبو الهدى فإن سألني سألني عن ثقة وظرف، ولا يتدنى بقدره إلى طلب ما يكون مشاعا يمكن أن ينازعه فيه غيره، بل يطلب مني ما يفتخر الشريف بنيله؛ فهو الأمير وأولئك هم الصعاليك.»
وما زال أبو الهدى مجدا في طلب خصومه؛ وهو كلما أدرك واحدا جلد به الأرض وداسه بقدميه، فلا يقوم بعدها أبدا؛ حتى سخر الله له عزت العابد، فثبت أمامه وناوأه في وجهه، فكانا ككفتي الميزان؛ إذا رجح أحدهما خف صاحبه، اشتدت وطأة كل منهما على الآخر، وضاعت بينهما مصالح الأمة والدولة. وانقسم عامة الناس إلى حزبين: أحدهما هدائي وثانيهما عزتي، فما يبرم هذا أمرا إلا ينقضه ذاك، ولا يفتح ذاك بابا إلا يغلقه هذا. ولما رأى الناس من العابد ثبات قدمه في مصاولة أبي الهدى جنحوا إليه بآمالهم، ولاذوا بركنه عند فزعهم، وسر بذلك عبد الحميد، فاتخذ كلا من المتفاضلين رقيبا على مفاضله، ورأى سائر أعداء أبي الهدى ألا يختلفوا في محاربته، فاتحدوا عليه ورضوا بعزت العابد زعيما، فساروا تحت رايته وعملوا برأيه حتى كادوا يغلبون الصيادي ويزيحونه من طريقهم.
صفحه نامشخص