وكان الناس يستشعرون بتجدد في أحوال المعية كلها، كما وقع ذلك التجدد في تغيير رجالها. فباتوا يتوقعون يومه بصبر اضطراري ونظر اختياري، حتى آذن صبحه بابتسام. وإني لذاكر في هذا الفصل قبل الدخول في بيان شيء صورة التقرير الذي سيره السير أفلن بارنج «هو اللورد كرومر» إلى طيب الذكر ماركيز «سالسبوري» ليكون توطئة لما سيتلوه من الكلام.
صورة التقرير منقولا تعريبه عن مجموعة المقطم الشهير
مصر القاهرة، في 9 فبراير سنة 1892
مولاي
كانت عادتي قبل سنة 1891 أن أبعث إلى فخامتكم أو إلى أسلافكم بتقرير سنوي في مالية الحكومة المصرية. ولكني في السنة الماضية كتبت أول مرة تقريرين، أحدهما في المالية المصرية فقط ، والآخر في تقدم الإصلاح الإداري الذي تم بوجه الإجمال في القطر المصري مدة السنين اليسيرة الماضية. وقد قصدت في هذا التقرير الذي أتشرف بعرضه على فخامتكم أن أوضح، بالإيجاز، النتائج التي أدركتها مصر، سواء كانت في المالية أو في الإدارة العمومية بعد تقريري الماضي في 29 مارس سنة 1891.
المغفور له الخديوي السابق.
أهم الحوادث السياسية التي حدثت بعد كتابة تقريري الماضي في 29 مارس سنة 1891 وفاة سمو الخديوي السابق رحمه الله، وذلك في 7 يناير سنة 1892 بعد أن مرض أياما قلالا.
وقد كان رحمه الله في مقام عظيم المصاعب طول أيام اشتغاله بالسياسة؛ فإنه ارتقى سرير الخديوية في شهر أغسطس سنة 1879 وهو يومئذ ابن سبع وعشرين سنة. كانت البلاد قد أمست على شفا الدمار بسبب الإسراف والتبذير في المالية وسوء الإدارة العمومية، وكان نظام الجيش قد اختل اختلالا عظيما بسبب الحوادث التي جرت قبل تنازل إسماعيل باشا؛ فثار الجيش وتمرد بعد ارتقائه رحمه الله بزمان قصير، واقتضت الأحوال مجيء جيش أجنبي لرد النظام. ولم أكن أنا بمصر في الثورة العرابية، ولكني كثيرا ما سمعت الثقات الأكفاء يتكلمون عن تصرف الخديوي المرحوم في تلك الشدة، ويطنبون في مدحه إطنابا عظيما. ولم يزل مركزه بعد الاحتلال البريطاني محفوفا بمصاعب عظيمة، وإن كانت مختلفة عن المصاعب الأولى في نوعها؛ فإن سموه امتاز بكونه مصلحا معتدلا، وكان خبيرا بأحوال بلاده، يعلم حق العلم بأن إصلاحها يجب، بحكم الضرورة، أن يتم تدريجيا، وكان يدري جيدا أنه لا بد من استخدام عدد يسير من الأوروبيين المنتخبين مدة من الزمن، وذلك مع شدة رغبته في ترقية أبناء وطنه إلى المناصب التي يكونون فيها محل الاعتماد وتلقى عليهم العهدة والمسئولية. أما الخدمة التي خدمها الموظفون الأوروبيون في الحكومة المصرية للقطر المصري، فالناس كلهم يعترفون لهم الآن بهم، وهم أقل كرها لوجودهم عندهم، وأقل حذرا وتخوفا منهم بالنسبة إلى ما كانوا عليه قبلا.
فاقتضى في غضون ذلك أن يكون هناك شيء كثير من حسن السياسة والتمييز لإجراء معظم الإصلاح على يد الأوروبيين بلا إساءة إلى أهالي البلاد ولا مس حاساتهم. وحسن السياسة هو ما اشتهر به الخديوي المغفور له وفاق فيه، فكان من جهة يشد أزر مشيريه الأوروبيين ويؤيدهم تأييدا لولاه لما جاءت مساعيهم في تحسين أحوال البلاد بنتيجة تذكر، ومن جهة لا ينسى أن النظامات الأوروبية الشوروية والإدارية يجب إن تغير في الصورة والجوهر، وتكيف بحيث تصير صالحة لحاجات الأمم الشرقية.
وكان رحمه الله يعلم أيضا أن أعظم المخاطر التي يجب اجتنابها هي الإسراف والتبذير في المالية، والاستبداد في الحكومة؛ فلذلك جعل علم الزمان الماضي نصب عينيه، فكان في معيشته العمومية أول من يكره غيره الإسراف والتبذير ويؤيد سلطة القانون، كما كان أيضا في معيشته الخصوصية التي هي حرية بأن يقتدى بها من كل الوجوه.
صفحه نامشخص