حكى أبو الفدا في تاريخه قال: «بينا الخليفة المنصور يطوف بالكعبة ليلا إذ سمع قائلا يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع. فخرج المنصور إلى ناحية من المسجد ودعا القائل وسأله عن قوله، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن أمنتني أنبأتك بالأمور على جليتها وأصولها. فأمنه، فقال: إن الذي دخله الطمع حتى حال بين الحق وأهله هو أنت يا أمير المؤمنين. فقال المنصور: ويحك، وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي والحلو والحامض عندي ؟ فقال الرجل: لأن الله استرعاك المسلمين وأموالهم فجعلت بينك وبينهم حجابا من الجص والآجر، وأبوابا من الحديد، وحجابا معهم الأسلحة، وأمرتهم ألا يدخل عليك إلا فلان وفلان، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف ولا الجائع والعاري ولا الضعيف والفقير. وما أحد إلا وله من هذا الأمر حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك تجبي الأموال فلا تعطيها، وتجمعها ولا تقسمها قالوا: هذا قد خان الله تعالى، فما لنا لا نخونه وقد سخر لنا نفسه؟ فاتفقوا على أن لا يصل إليك من أخبار الناس إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا أقصوه ونفوه حتى تسقط منزلته ويصغر قدره. فلما انتشر ذلك عنك وعنهم عظمهم الناس وهابوهم، فكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا ليتقووا بهم على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا به ظلم من دونهم، فامتلأت بلاد الله بالطمع ظلما وفسادا، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل. فإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إليك، فإن أراد رفع قصة إليك وجدك قد منعت من ذلك وجعلت رجلا ينظر في المظالم. فلا يزال المظلوم يختلف إليه وهو يدافعه خوفا من بطانتك، فإذا صرخ بين يديك ضرب ضربا شديدا؛ ليكون نكالا لغيره، وأنت تنظر ولا تنكر، فما بقاء الإسلام على هذا.
فإن قلت: إنما تجمع المال لولدك، فقد أراك الله في الطفل يسقط من بطن أمه وما له في الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة، فما يزال الله يلطف بذلك الطفل حتى يعظم رغبة الناس إليه. ولست الذي يعطي، وإنما الله - عز وجل - يعطي من يشاء بغير حساب. وإن قلت: إنما أجمع المال لتسديد الملك وتقويته، فقد أراك الله في بني أمية؛ ما أغنى عنهم ما جمعوه من الذهب والفضة وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع حين أراد الله ما أراد. وإن قلت: إنما أجمعه لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها، فوالله ما فوق الذي أنت فيه منزلة إلا منزلة ما تنال إلا بخلاف ما أنت عليه.»
فلم يكن بد في مثل هذا النظام من تعظيم شريعة الله والإكثار من الهديد بها تذكيرا للملوك وتهويلا كما فعل الأعرابي المذكور مع المنصور، وكما فعل بهرام بن بهرام في حكاية اليوم حيث يقول: «أيها الملك، إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة والقيام لله بطاعته والتصرف تحت أمره ونهيه.» وإلا قل عدلهم وانتفى صلاحهم وكثر جورهم، وهار بناء ملكهم؛ إذ ليس لهم زاجر سواها؛ لأنهم غير مسئولين فيما عهد إليهم من أمور العبد إلا لله وحده. هذا على فرض أن يكون الملك حليما عادلا فكيف به إذا كان جبارا عاتيا كتيمور الذي كان كلما فتح مملكة أو مدينة يبني من رءوس أهلها هرما. •••
قالوا: ولهذا النظام أيضا أثر لا يحمد في الأخلاق إذ تنحط معه الهمم وتضعف العزائم، وتذل النفوس بما يكثر من الظلم فيسود الرياء ويفشو الكذب؛ لأن الذين يغلب فيهم الظلم يغلب عليهم الرياء حتى يصير فيهم ملكة طبيعية فيقل الصدق؛ لأن القوم الذين يغلب فيهم الرياء هم قوم لا يصدقون ولا يصدقون، فيختل نظام الملك ويسوء حال الرعية وتفقد، على مر الزمان، استقلالها في عالم الوجود. قال أبقراط في كتاب الأهوية والمياه والمساكن: «لذلك كان أهل آسيا أقل نجدة للحروب من أهل أوروبا؛ لأن أعظم قسم منها تحكمه ملوك، وحيثما كان الناس عبيدا لسواهم فهم لا يهتمون بأن يتمرنوا على السلاح، بل أن يتخلصوا من التجند؛ لأن الخطر غير موزع على السواء. فالرعايا يذهبون للحرب متحملين مشقاتها ويموتون عن سادتهم بعيدين عن أولادهم ونسائهم وأصدقائهم، وسادتهم هم الذين يجنون ثمرة أتعابهم لمد شوكتهم، وأما هم فلا ينالهم غير اقتحام الأهوال والموت. ومما يؤيد ذلك أن جميع الذين في آسيا من اليونان والبرابرة ممن لا سادة لهم، بل هم يتولون الحكم فيهم وعليهم بشرائعهم، ويشتغلون لأنفسهم هم بين سكانها أنجدهم للحروب وأقدمهم على الخطر؛ لأنهم هم الذين يجنون ثمرة بسالتهم ويتحملون عار جبنهم.»
لذلك قالوا: إن الحاكم ينبغي أن يكون مقيدا بسنن تضعها الأمة وأن يكون مسئولا لها بها. وهذا النظام له فوائد جمة؛ أولا أن الحاكم لا يكون معه مطلق التصرف؛ فأحكامه في الأمر والنهي لا تجري إلا إذا كانت مطابقة لوضع السنن المقررة، والتي يحافظ عليها رجال من مشارب مختلفة وآراء متباينة تعهد الأمة إليهم بها، ثم لما كانت احتياجات الأمة تختلف باختلاف أحوالها كان هذا النظام موجبا من هؤلاء الرجال للنظر في هذه السنن لتعديلها من وقت إلى آخر، بحيث تكون موافقة للحال، ويكون ذلك بالاشتراك مع الأمة التي يطلعون على آرائها ومناويها، ويفهمون مقاصدها ومغازيها؛ إذ لا يكون معه حجر على الأفكار.
وهذا الأمر من طبعه أن يثير حربا في الآراء والمذاهب تكون نارها بردا وسلاما على الأمة؛ لأن المضادة التي تنشأ حينئذ تكون نتيجتها إعطاء الأشياء حقها من التمحيص قبل إقرارها، والوقوف فيها عند حد الاعتدال، وإلا إن لم تكن المضادة في الآراء لم يمكن تمحيصها بنار الانتقاد ولا الاعتدال بها؛ إذ تنفرد بها النفوس ويقوى بها التشيع. والنفس إذا خامرها تشيع كان ذلك التشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد، فتجمح إلى ركوب متن الإفراط أو تسقط في مهواة التفريط. ولا يخفى ما لذلك النظام من الأثر في تحسين أحوال الأمة وعلومها وصنائعها؛ لما ينمو فيها من فضائل الحرية القانونية المؤسسة على معرفة الإنسان نفسه، وما يجب له وما يجب عليه في العمران، فتنطبع على الإقدام والقيام بالأعمال الجليلة؛ إذ تنهض منها الهمم وتشتد العزائم، فتمتد شوكتها في الأقطار ويتسع نطاق ملكها.
قال أبقراط أيضا: «ولهذا السبب كان أهل أوروبا أشد نجدة للحروب من أهل آسيا؛ لأنهم لا تحكمهم ملوك نظيرهم، فالخاضعون للحكم الملكي يفقدون الشجاعة ضرورة؛ لأن نفوسهم مستعبدة، فلا يهمهم التعرض للخطر لمد شوكة غيرهم، وإنما تحكمهم شرائعهم؛ لذلك هم إذا رأوا الخطر محدقا بهم أقدموا عليه بجسارة؛ لأن النصر عائده عليهم.» •••
وذهب فريق إلى أن هذا الحكم إنما هو الحكم الملكي المقيد، وقال غيره: بل هذا النظام يشم منه رائحة الاستبداد، وهو محفوف بالمخاطر؛ لأن الملك وإن كانت الأمة تقاسمه الحكم بمن تستنيبهم منها لديه لمراقبة أعماله والذود عن حقوقها، إلا أنه لم يخل من بطانة وعمال يهمهم التقرب له أكثر من القيام بمصالح الأمة، فربما عاونوه على استمالة نوابها إليه إما لذهول هؤلاء عن المقاصد التي ندبوا لها أو لخوف حرمانهم من المناصب بما للملك وخاصته من السطوة والنفوذ، فانقلبت نيابتهم فيها شرا وهدايتهم لها تضليلا وساءت بهم مصيرا. ثم لما كان هذا النظام يخول الملوك حق الولاية بالسلالة كان لا يمتنع أن يتولى منهم من يكون خامل الذكر فاقد الحزم، فتتلاعب به أغراض عماله وتتجاذبه أهواؤهم وهو فاقد الرشد لا يميز غث الأمور من سمينها، فيتطرق الخلل إلى أمور المملكة من وجوه شتى حتى تصبح:
كريشة في مهب الريح طائرة
لا تستقر على حال من القلق
صفحه نامشخص