ا.ه.
المقالة الرابعة
الاجتماع البشري أو العمران
1
الغاية من الاجتماع البشري، ويسمى العمران أيضا، التعاون على المعاش والاعتمال في تحصيله من وجوهه واكتساب أسبابه. وذهبت طائفة من الحكماء إلى أن الاجتماع نتيجة الفكر والروية وقصرته على الإنسان، وقال قوم: بل هو طبيعي في الحيوان؛ لما يعهد من اجتماع النمل والنحل والجراد والقرود، كما سنبين ذلك فيما يأتي. وإنما بلغ الغاية في الإنسان؛ لأنه أقومها تكوينا وأبعدها فكرا وأقواها روية. وأجمعوا على أنه ضروري للبشر وإلا لم يكمل وجودهم ولم تتم حياتهم؛ لأن الإنسان مضطر لدفع شرور كثيرة عنه مثل الجوع والعطش والبرد والتعب، وعدوان بعضه على بعض وعدوان الحيوانات الأخر التي تساكنه أرضه وتنازعه الحياة فيها، ولمقاومة قواسر أخرى طبيعية كثيرة. ومحتاج كذلك إلى مواد وآلات يتقي بها هذه الشرور كالقوت والكساء والمساكن والأسلحة، وغير ذلك مما يقتضي أعمالا كثيرة، فإن كان منفردا، فهو لا يستطيع القيام بها جميعا؛ لأن كل عمل منها يستغرق فيه حياة كاملة، وقد لا تفي بجزء منه، فهو لا بد له من الاجتماع وتقاسم الأعمال حتى يتم له التعاون بحيث يكون منه الزارع والصانع والجندي والوازع والمخترع والحكيم، وحتى ينتظم وجوده ويحسن حاله.
ولهذا شبه الحكماء العمران بجسم حي كسائر الأجسام الحية مركب من أعضاء مختلفة تعمل لغاية واحدة، وهي سلامة بعضها وسلامة الكل. ووصفه بعضهم وصفا طبيعيا نظيرها كما سيأتي، ولو اقتصر الإنسان على الحياة منفردا ما استطاع أن يتغذى بغير الأثمار أو يكتسي بغير أوراق الشجر يخصفها عليه أو يأوي إلى كهوف الأرض، ولما أمكن له إقامة القصور الشاهقة، وبناء المدن الحصينة، واتخاذ الملابس الحسنة الفاخرة، وطبخ الأطعمة الجيدة اللذيذة، واصطناع الأسلحة المنيعة، ولكان أشبه بالحيوانات العجم، ولما نما إلى هذا الحد، ولكانت حياته أشبه بحياة الكريات الحية المؤلف منها الجسم الحي إذا كانت منفردة. فهو لم يستطع النهوض بهذه الأعمال إلا مجتمعا؛ فحياته الاجتماعية إذن ضرورية لحفظه ولراحته ورفاهيته؛ ولهذا نما فيه هذا الميل للاجتماع إلى حد بليغ جدا حتى وصفه الحكماء بقولهم: الإنسان مدني بالطبع؛ أي: لا بد له من الاجتماع الذي هو المدينة في اصطلاحهم كما يقول ابن خلدون.
ولكي يتم له ذلك لا بد له من سنن تكفله ولا بد من العدل في هذه السنن؛ أي: مراعاة مصالح الجمهور المتبادلة، ولا بد من احترامها كذلك وإلا انفصمت عروة الاجتماع وتداعت دعائمه. لكن لما كان الإنسان كثيرا ما لا يسلك من نفسه الطرق المثلى المؤدية إلى ذلك؛ إما عن عتو وغرور أو عن جهل وذهول، كان لا بد له من إقامة قوة يناط بها المحافظة على المقرر من السنن، والاقتصاص ممن يحيد عن جادتها وإلا آل به الحال إلى الفوضى؛ أي: لا بد له من وازع يكون منه؛ إذ لا يمكن أن يكون من سواه، يدفع عدوان بعضه عن بعض ويهتم بإصلاح شئونه. وقد أشار أرسطو إلى ذلك كله في دائرته المسماة في عرف السياسيين بالدائرة السياسية حيث قال: «العالم بستان سياجه الدولة، والدولة سلطان تحيا به السنة، والسنة سياسة يسوسها الملك، والملك نظام يعضده الجند، والجند أعوان يكفلهم المال، والمال رزق تجمعه الرعية، والرعية عبيد يكنفهم العدل، والعدل مألوف وبه قوام العالم.»
واختلفوا في حقيقة هذه السنن، فذهب قوم إلى أنها الشرع المفروض من عند الله؛ وإلا لم يكن لها وقع في القلوب ولا نهي عن المنكر. وقال غيرهم: بل هي الشرع على الإطلاق؛ وإلا لما اقتضى أن تتم العمارة للبشر قبل الأنبياء ولا لأمم غير تابعة لهم. قال ابن خلدون: «وتزيد الفلاسفة على هذا البرهان، حيث يحاولون إثبات النبوة بالدليل العقلي، وأنها خاصة طبيعية للإنسان، فيقررون هذا البرهان إلى غايته، وأنه لا بد للبشر من الحكم الوازع، ثم يقولون: وذلك الحكم يكون بشرع مفروض من عند الله يأتي به واحد من البشر، وإنه لا بد أن يكون متميزا عنهم بما أودع فيه من خواص هدايته؛ ليقع التسليم له والقبول منه؛ حتى يتم الحكم فيهم وعليهم من غير إنكار ولا تزيف. وهذه القضية للحكماء غير برهانية كما تراه؛ إذ الوجود وحياة البشر قد تتم من دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه، أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على جادته. فأهل الكتاب المتبعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لهم كتاب، فإنهم أكثر أهل الأرض؛ ومع ذلك فقد كانت لهم الدول والآثار فضلا عن الحياة، وكذلك هي لهم لهذا العهد في الأقاليم المنحرفة في الشمال والجنوب، بخلاف حياة البشر فوضى دون وازع لهم البتة فإنه يمتنع؛ وبهذا يتبين لك غلطهم في وجوب النبوات وأنه ليس بعقلي، وإنما مدركه الشرع كما هو مذهب السلف من الأمة.»
وذهب فريق إلى أن السنن التي اصطلح عليها الإنسان في بادئ اجتماعه إنما هي سنن العوائد، وهي أحكام تكليفية مرعية في المعاملات والمعايش إنما الحكومة لا تشدد في المحافظة عليها، وهي تحصل للناس بالتربية والمحاكاة وتنشأ فيهم عن سليقة، وهي أسبق كل السنن. وذهب سبنسر إلى أنها أصلها جميعا؛ لأنها هي المرعية وحدها عند بعض الأجيال من البشر المنغمسين في التوحش كأهل أستراليا وطسمانيا والإسكيمو، وغيرهم ممن ليس لهم نظامات سياسية ولا دينية، أو هي فيهم أثر من عين. قالوا: وقد كان زمام هذه النظامات السياسية والدينية أولا في يد سلطان واحد ولم ينفصلا إلا بعد حين؛ أي: بعد أن بلغ الإنسان درجة عالية في العمران كما تدل أحوال كثير من أجيال البشر اليوم، وكما يعلم من تاريخ الأمم العظيمة والملل الشهيرة. وذهب المحققون إلى أن السنن ينبغي أن تكون تابعة للإنسان لا متبوعة به؛ أي: أن تكون متغيرة لا ثابتة ومقيدة لا مطلقة حتى تكون نافعة له لا سببا مانعا لارتقائه، وإلا لما قدر الإنسان أن يخطو خطوة عما يفرضه له نظام معلوم، ولبقي في كل عصر وفي كل جيل كما كان في العصر الأول والجيل الأول من اجتماعه؛ لأن كل جيل له سنن لا تصلح لسواه، فإن لم تتغير هي لم يتغير هو. والحق أن أحوال الأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، كما يقول ابن خلدون: إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال، إلا أن هذا التبدل في الأحوال والعوائد والنحل بتبدل الإعصار ومرور الأيام يذهل عنه الكثير من الناس؛ إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة، فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة. •••
واختلفوا في طبيعة الحكم الوازع فقال قوم: هو الحكم الملكي المطلق، ورأسه الملك، وقد أشار أنوشروان إلى ذلك حيث قال: «ورأس الكل افتقاد الملك حال رعيته بنفسه، واقتداره على تأديبها حتى يملكها ولا تملكه.» وقال غيرهم: «بل هذا النظام مفسد للعدل الذي هو أس العمران بما يولي الملك من السلطان المطلق على عماله وعلى رعيته؛ إذ لا يكون لأعماله منتقد ولا لأحكامه معدل، فيعدل إلى الاستبداد في أمور الرعية ويستخدمها لأغراضه الخصوصية. وإذ تستحس الرعية منه بذلك تدين له خاضعة خادعة، ويسود عليها مخضوعا له مخدوعا، فيتقرب له أصحاب الأغراض بالكذب في موضع الصدق وبالإطراء في موضع التنديد؛ لأن الناس متطلعون إلى الدنيا من جاه أو ثروة والنفوس مولعة بحب الثناء. ويسلك معه على هذا المنهاج عماله وتباعه وسائر بطانته، فيحجبون عنه صحيح الأخبار متزلفين إليه بما يزيدهم فيه استئثارا، وفي أحوال الرعية استبدادا.»
صفحه نامشخص