ثم نجد في القرون الوسطى ملوكا ليسوا من الآلهة، ولكنهم يحكمون كما لو كانوا منها، وكان النظام الإقطاعي يؤيدهم في حكمهم المطلق الذي لم يكن يحد منه سوى قوة الأمراء والنبلاء، وكثيرا ما نقرأ عن «الحق الإلهي للملوك» في الثورات التي قامت بها إنجلترا وفرنسا وإيطاليا، وهذا الحق هو التراث الفرعوني الإمبراطوري من مصر وروما.
فلما ظهرت الطبقات المتوسطة، المؤلفة من الصناعيين والتجاريين والزراعيين، وحطمت النظم الإقطاعية، وألغت الرق الزراعي، وهدمت العروش التي كان يزعم متبوئوها هذا الحق الإلهي، شرعت الديمقراطية في الظهور، شرعت في الظهور على أيدي رجال الطبقات المتوسطة، وكانت الدائرة محدودة والمعنى مقصورا على هذه الطبقات، أما العمال فلم يكن لهم من الشأن ما يبرزهم إلى الوجود السياسي.
ولكن منذ منتصف القرن الماضي شرع العمال في أوروبا يحسون الوجدان السياسي ويطالبون بالتمثيل النيابي، ومنذ ذلك الوقت والدائرة تتسع رويدا رويدا إلى الشعب كله. •••
وهذا الذي قلت ينطوي على معنى أكبر مما تفيده كلمة الديمقراطية ... فإن الديمقراطية نظام في المجتمع قبل أن تكون نظاما في الحكم، بل هي نظام في الحكم؛ لأنها نتيجة لنظام معين في المجتمع؛ ذلك أن النظام الإقطاعي لا يمكن أن يهيئ للحكم الديمقراطي.
بل كذلك نظام الزراعة الإقطاعي أو شبه الإقطاعي الذي ما زلنا في كثير من الأمم العربية لا يمكن أن يهيئ للحكم الديمقراطي؛ إذ كيف نطالب الفلاحين في قراهم النائية، في فقرهم المدقع، في اعتمادهم الأعمى على مالك الأرض الثري، وأخيرا في جهلهم التام بشئون الشعب ، وأميتهم الكاملة في المعاني السياسية والاقتصادية، كيف نطالبهم بأن يكون لهم رأي في نظام الحكم وبرامج السياسة ومقدار الضرائب وحقوق الصحافة وحرية الخطابة؟
إن هذا محال، وقد كان محالا في أوروبا إلى أن نقلت الفلاحين من مزارعهم إلى المصانع أو إلى أن منحت فلاحيها حقوق عمال المصانع مثل تأليف النقابات؛ ذلك أن عمال المصانع يتكتلون، وقد عاشوا في المدن، وتعلموا، وطمحوا، فصاروا يطالبون التمثيل السياسي وصار لهم نواب في البرلمانات، وأصبحت كلمة الديمقراطية كلمة حية تروح وتغدو على ألسنتهم، فتكسب الغافل تنبها، والذليل كرامة، والذاهل وجدانا.
ونحن نعرف مثلا أن الملك فؤاد ألغى الدستور في 1930، فلم نثر عليه، بل إنه وجد من ساستنا وصحفيينا من عاونه على ارتكاب هذه الجريمة العظمى، لسبب واحد، هو أن الوجدان السياسي لم يكن عاما في الأمة، ولو كان عاما قويا لشنق الملك فؤاد وجميع من عاونه من الوزراء والساسة والصحفيين على إلغاء الدستور.
ولا أنكر هنا يد الاستعمار المدمرة التي كانت تعين المستبدين على تحطيمنا وتفتيت قوانا في مشاغبات ومصارعات داخلية حتى لا نستطيع مواجهة مشكلتنا الكبرى وهي الاستعمار، ولكن قوة الاستعمار كانت تضعف إزاء الوجدان السياسي في الأمة ... لو أنه كان موجودا. •••
وثم مثال آخر، فإن مجلس الشيوخ الذي كان مؤلفا من الباشوات والبكوات وأعوانهم رفض منح الفلاحين حق تأليف النقابات، وكذلك فعل مع الخدم.
ولم يثر عليه أحد للسبب نفسه، وهو أن الوجدان السياسي بين الفلاحين والخدم كان معدوما أو كالمعدوم؛ إذ كانوا في فقرهم وأميتهم بعيدين عن العناية أو الاهتمام بحقوقهم السياسية.
صفحه نامشخص