ما بعد الحداثة: مقدمة قصيرة جدا
ما بعد الحداثة: مقدمة قصيرة جدا
ژانرها
شكل 4-3: لوحة «سفينة إس إس أمستردام أمام مدينة روتردام»، (1966) للفنان مالكوم مورلي. (أهي مجرد سفينة كبيرة، أم تعبير عن طبيعة الفن؟)
المذهب التصوري
نستطيع الآن أن ندرك تأثير تلك الأفكار إذا ضربنا مثلا عليها، وهو تفسير بول كراوزر ما بعد الحداثي النموذجي للوحة مالكوم مورلي الزيتية العملاقة التي تصور بطاقة بريدية تحمل صورة السفينة إس إس أمستردام أمام مدينة روتردام (1966).
شكل 4-4: لوحة «فندق هولاند» للرسام ريتشارد إستيس. (هل يؤدي جمال اللوحة الشكلي الذي يتجاوز الحدود إلى اعتبارها عملا حداثيا منتكسا؟)
اختار مورلي بطاقة بريدية، ثم عكسها وعرضها على شاشة، وغطى صورتها بشبكة ثم نقلها مقلوبة بمقياس رسم كبير للغاية يضم حتى الهوامش البيضاء للبطاقة البريدية. يزعم كراوزر أن هذا العمل «فوق الواقعي» هو «ممارسة نقدية تلقي الضوء على الفن باعتباره نشاطا «ثقافيا رفيعا» وتخيب تلك التوقعات واضعة إياها في موضع الشك .» (تخيب اللوحة بالفعل أي توقعات بتعقيد فني رفيع المستوى.) فهي «تخاطب ... الخطاب المشرع الذي يبرر الفن وفقا له على أنه سبيل للرقي والتقدم.» أي إنها تثير بعض الشكوك التي تحمل طابع فوكو، رغم أن المقصد الحقيقي من فعل «المخاطبة» هنا يظل غامضا، كما هو الحال في معظم استخدامات ما بعد الحداثة لهذا المصطلح. إن «الرقي والتقدم» هما بالتأكيد من الأنواع «الخاطئة» من القيم التي ينبغي توقعها في هذا السياق. لكن ذلك النقد قد يظل واهيا رغم ذلك، فلا أحد سيعتقد على أي حال أن سفينة مورلي تدعم قيم الرقي والتقدم. يواصل كراوزر نقده مضيفا: «في حالة مورلي، يبدو البعد النقدي وكأنه مرسوم داخل اللوحة إذا جاز التعبير.» لكن عبارة «إذا جاز التعبير» الماكرة هنا تخفي نوعا من الاستحالة: فمن الواضح أن ما يطرح «النقد» في الواقع هو «تعليق الناقد» لا اللوحة ذاتها. ثم يمضي زاعما أن «ما [نجده في هذه اللوحة] ليس نوعا من «نقيض الفن» الخارجي، بقدر ما هو نوع من الفن الذي يستوعب داخله معضلات وضعه الثقافي الاجتماعي ويبديها للعيان.» ويضيف كراوزر أن أعمال فنانين مثل أودري فلاك وتشاك كلوز ودواين هانسون تعكس بعدا مماثلا، لكن أعمال الواقعية التصورية لفنانين مثل جون سالت وريتشارد إستيس، التي تتشابه ظاهريا مع هذه الأعمال، ليست سوى «أعمال فنية مبدعة» و«تكوينات مبهرة جماليا»؛ أي إنه يعني - على ما يبدو - أن هذين الفنانين ينتجان لوحات ممتعة بأسلوب تقليدي نوعا ما (وكانت بالفعل كذلك نظرا لمزاياها وبراعتها الشكلية العظيمة).
يزعم كراوزر أن تركيز هذين الفنانين على تلك السمات أدى - على نحو يدعو للأسى - إلى «إعادة مصادرة أعمال مورلي وغيره من المجددين ضمن الخطاب المشرع» الذي يحيط بتلك القيم. ويستهجن كراوزر «محاكاتهما المبهرجة للواقع» و«جاذبيتهما التسويقية الساحقة»، ومن ثم انجذابهما نحو «التحيزات التقليدية»؛ ومن ثم، فإن عمل إستيس في محاكياته لشكل الصور الفوتوغرافية لا يحقق سوى «إشباع الطلب على الابتكار والتوجهات اللاتقليدية غير المتوقعة الذي خلفته الحداثة»؛ إذ ينظر إلى تقدير السمات «الجمالية » أو «الفنية البارعة» على أنه نشاط رجعي من الناحية السياسية؛ لأنه يتيح لنا الدفاع عن «متعة» جمالية حداثية إلى حد ما في التركيب الشكلي الذي يرفضه كراوزر بوضوح. بالطبع، يهاجم كراوزر - مثل كثير من أتباع ما بعد الحداثة - الفنانين عندما تعكس أعمالهم تلك السمات الحداثية، التي لا تتصف ب «التقدمية»؛ لأنها لا تنتقد «الخطابات المشرعة» مثل خطابات الحداثة. لكن ماذا عن «الخطاب المشرع» الذي يتبناه كراوزر نفسه؟ هل من الممكن أن نفسر أعمال إستيس على أنها نقد تقدمي لهذا الخطاب؟ لكن أعمال أولئك الفنانين لا تضيع في الواقع وقتا كبيرا في نقد أشكال الفن الأخرى صراحة أو ضمنا.
وهكذا، يرى كراوزر أن مورلي «فنان يلعب دورا محوريا في استيعاب التحول من الحداثة إلى ما بعد الحداثة»، فهو (وينضم إليه في ذلك - على نحو مثير للدهشة - الرسام والنحات كيفير) يتمتع بالفضائل المعادية للحداثة؛ ألا وهي ابتكار «شكل جديد من أشكال الفن»، و«تجسيد شكل من الشكوكية حيال إمكانية تقديم فن راق.» من ثم، «ومن خلال استيعاب هذه الشكوكية داخليا وتحويلها إلى فكرة رئيسية داخل الممارسة الفنية، تضفي النزعة فوق الواقعية «النقدية» على الفن بعدا «تفكيكيا»»؛ ومن ثم، يصنف هذا الفن دون شك ضمن فنون ما بعد الحداثة، ويستند هذا الحكم إلى «طبيعته المتشككة».
إن أولئك الذين قدموا فنا تصوريا اعتبروا بلا جدال الحماة المخلصين لمعتقد ما بعد الحداثة التنظيري، رغم أن فكرهم غالبا ما يعوزه الإتقان حسب المعايير العقلانية الطبيعية، ورغم أن «النظرية» قد تحرم الفنان في كثير من الأحيان من سعة الخيال وتمنعه من إبداء إيحاءات مجازية. في وسع المرء تقييم تلك الأعمال الفنية بسرعة نسبية، لكن لن يسعه الهرب (بسرعة كبيرة) من الهراء النظري الذي يوظفه الناقد الراغب في إعطاء «ثقل» لهذا العمل وإضفاء أهمية عليه. إن لوحة مورلي تنسب إلى فكر ما بعد الحداثة، وساعدت بالتأكيد في إثارة هذا النوع من الفكر من واقع ما لديها من وعي ذاتي بنظرية الفن؛ فليس المهم العمل في حد ذاته، بل العمليات التصورية التي تكمن وراءه. ففي أثناء ذلك، ابتعد العمل عن الأنشطة المعتادة لدى المؤسسات الفنية، التي من بينها أنشطة بيع المعروضات. على سبيل المثال، كان معرض روبرت باري في صالة عرض آرت آند بروجيكت في أمستردام عام 1969 خاليا من المعروضات، واقتصر المعرض على لافتة وضعها الفنان على مدخل الصالة كتب عليها: «المعرض مغلق طوال مدة العرض!»
إحدى النتائج المترتبة على هذا الفن التصوري هي فقدان الإحساس بالتعقيد الفني؛ إذ غالبا ما نبذ أولئك الفنانون الوصف التفصيلي الثري الناتج عن المحاكاة التقليدية، بالإضافة إلى العلاقات الشكلية الجذابة المميزة للفن الحداثي. وقد يؤدي هذا الاتجاه المعادي للحداثة إلى ضحالة متعمدة، كما في الكثير من الأعمال الفنية التبسيطية، في الموسيقى والرسم كذلك.
يزعم مايكل فريد أن عملا تبسيطيا حرفيا مجردا لا يمكن أن يثير اهتمام المشاهد إلا في حالة عرضه عرضا مسرحيا في صالة عرض فني؛ وهو ما يؤدي إلى مقارنته بالنموذج الحداثي، الذي يتضمن استغراق المشاهد في التكوين الشكلي والتعقيد الذي يتسم به العمل، وهي مقارنة ليست لصالحه بكل تأكيد؛ فأحد النموذجين يتطلب تفاعلا، بينما يتطلب الآخر تأملا للعلاقات الداخلية. يرى فريد أن الفنانين التبسيطين ليسوا سوى فنانين حرفيين يعتمدون على وعينا الذاتي كمشاهدين بعناصر العمل الفني، بينما في الأسلوب الداخلي الحداثي، ننسى أنفسنا مع استغراقنا في العمل الفني؛ ومن ثم يقع هذا «الأداء المسرحي» على طرف النقيض من الحداثة. باختصار فج، نحن نستمتع باستكشاف العلاقات الداخلية في عمل نحتي للفنان أنتوني كارو، لكن عملا للفنان روبرت موريس عبارة عن كومة من اللباد لا يتيح مثل هذه الفرصة، بل «يطرح أسئلة متشككة» عوضا عن ذلك.
صفحه نامشخص