ما بعد الحداثة: مقدمة قصيرة جدا
ما بعد الحداثة: مقدمة قصيرة جدا
ژانرها
1 - نشأة ما بعد الحداثة
2 - طرق جديدة لرؤية العالم
3 - السياسة والهوية
4 - ثقافة ما بعد الحداثة
5 - «حالة ما بعد الحداثة»
مراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
1 - نشأة ما بعد الحداثة
2 - طرق جديدة لرؤية العالم
صفحه نامشخص
3 - السياسة والهوية
4 - ثقافة ما بعد الحداثة
5 - «حالة ما بعد الحداثة»
مراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
ما بعد الحداثة
ما بعد الحداثة
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
صفحه نامشخص
كريستوفر باتلر
ترجمة
نيڤين عبد الرؤوف
مراجعة
هبة عبد المولى أحمد
الفصل الأول
نشأة ما بعد الحداثة
أثار التكوين الطوبي المستطيل الشكل، الذي قدمه الفنان كارل أندريه تحت عنوان «تساوي 8» (1966)، استياء الكثير عند عرضه في معرض تيت الفني في لندن، عام 1976. ينتمي هذا العمل الفني بجدارة إلى عالم ما بعد الحداثة، ورغم الموضع الذي يحتله حاليا في معرض تيت للأعمال الفنية الحديثة، فإنه لا يتوافق مع الكثير من مبادئ فن النحت الحديث؛ فهو ليس بالعمل المعقد أو المعبر على المستوى التركيبي، ولا يتمتع بجاذبية خاصة تدفع للنظر إليه، وبالتأكيد يبعث سريعا على الملل، فضلا عن سهولة صنع عمل مماثل له. وبما أن «تساوي 8» يخلو من أي سمات تجعله مثيرا للاهتمام في حد ذاته (باستثناء متصوفي الأرقام من أتباع المدرسة الفيثاغورية)؛ فإنه يدفعنا إلى طرح أسئلة حول سياقه بدلا من محتواه، مثل: «ما الهدف منه؟» أو «لماذا يعرض في متحف؟» إذ أصبح من الضروري طرح نظرية ما حول هذا العمل الفني لتعويض الفراغ الناتج عن كونه لا يثير الاهتمام، وهو ما يعكس أيضا سمة نموذجية إلى حد ما من سمات ما بعد الحداثة. قد يبعث العمل على طرح أسئلة من قبيل: «هل هذا فن حقا، أم مجرد كومة من الطوب تتظاهر بكونها فنا؟» لكن هذا السؤال لا يعكس الكثير من المنطق في حقبة ما بعد الحداثة؛ حيث من المقبول عموما أن المعرض «كمؤسسة» - لا أي جهة أخرى - هو ما جعل هذا العمل «عملا فنيا» قائما بالفعل؛ فالفنون المرئية ليست سوى ما يعرضه لنا أمناء المتاحف، سواء أكانت أعمالا لبيكاسو أم أبقارا مقطعة شرائح، بينما تقع على عاتقنا مسئولية مواكبة الأفكار المحيطة بتلك الأعمال.
يود العديد من فناني ما بعد الحداثة (وبالطبع حلفاؤهم من مديري المتاحف) أن ننشغل بتلك الآراء المتعلقة بالأفكار التي قد تحيط بهذا الفن «التبسيطي». إن بساطة كومة الطوب هي سمة تصميمية مقصودة، فهي تتحدى الخصائص المعبرة شعوريا التي ميزت الفن السابق (الحداثي) وتنكرها. فمثل تمثال «المبولة» الشهير أو عجلة الدراجة الموضوعة فوق كرسي صغير للفنان دوشامب، يختبر هذا العمل ردود فعلنا الفكرية وتقبلنا للأعمال التي تعرضها المعارض الفنية على جمهورها. ويعكس بعض نقاط التحول الأساسية، التي تضيف بعض الافتراضات حول الفن التي تنكر طبيعته إلى حد كبير. يقول أندريه: «إن ما أحاول إيجاده هو مجموعات من الجزيئات، والقواعد التي تجمعها بأبسط طريقة.» ويزعم أن وحدات الطوب المتساوية التي قدمها «تتمتع بطابع شيوعي؛ لأن شكلها مفهوم لجميع الناس على حد سواء.»
لكن هذا العمل النحتي - رغم التفسيرات التي قد تراه مقبولا اجتماعيا وثقافيا - لا يكاد يضاهي في متعته تمثال «القبلة» لرودين، أو الأعمال التجريدية الأكثر تعقيدا بمراحل لنحاتين أمثال أنتوني كارو. إن طليعية أندريه النظرية - التي تتحدى ردود فعلنا الفكرية - تلمح إلى أن المتع المستقاة من الأعمال الفنية السابقة هي متع مشكوك فيها نوعا ما؛ إذ إن النزعة التطهرية و«الدعوة إلى التساؤل»، وإشعار الجمهور بالذنب أو بالاضطراب، كلها سمات ترتبط ارتباطا وثيقا عبر أعمال مثل هذه. وهي اتجاهات تميز كثيرا من الفن ما بعد الحداثي، وغالبا ما تتضمن بعدا سياسيا. ويواصل العمل الفني الحائز على جائزة تيرنر عام 2001 للفنان مارتن كريد مسيرة هذا الاتجاه، فهو عبارة عن غرفة فارغة؛ حيث تضيء مصابيح كهربائية ثم تنطفئ.
صفحه نامشخص
سأتحدث فيما يلي عن الفنانين، والزعماء الفكريين، والنقاد الأكاديميين، والفلاسفة، وأساتذة العلوم الاجتماعية المنتمين للفكر ما بعد الحداثي، كما لو كانوا جميعا أعضاء في حزب سياسي مشاكس «بلا تنظيم محكم». وهو إجمالا حزب عالمي و«تقدمي»، ينتمي لليسار لا لليمين، ويميل إلى تصنيف كل شيء - بدءا من اللوحات التجريدية إلى العلاقات الشخصية - كمواقف سياسية. لا يتبع الحزب عقيدة موحدة على وجه التحديد، بل إن من قدموا أبرز المساهمات الفكرية لبياناته الرسمية في بعض الأحيان ينكرون عضويتهم به في سخط، رغم ذلك فإن هذا الحزب ما بعد الحداثي يؤمن عادة أن عصره قد أتى. هو حزب متيقن من عدم تيقنه، وكثيرا ما يزعم أنه تجاوز الأوهام الراسخة لدى الآخرين، وأدرك الطبيعة «الحقيقية» للمؤسسات السياسية والثقافية التي تحيط بنا. في هذا الإطار، يتبع ما بعد الحداثيون خطى ماركس، ويزعمون أنهم يتمتعون بإدراك مميز للحالة الفذة المسيطرة على المجتمع المعاصر، الواقع في أسر ما يطلقون عليه «الوضع ما بعد الحداثي».
من ثم، لا يدعم بعد الحداثيين ببساطة المذاهب الجمالية، أو الحركات الطليعية مثل التبسيطية أو التصورية (التي انبثقت عنها أعمال مثل التكوين الطوبي الذي قدمه أندريه)، بل لديهم طريقة مميزة لرؤية العالم ككل، ويستخدمون مجموعة من الأفكار الفلسفية التي لا تكتفي بدعم الحالة الجمالية ل «ما بعد الحداثة»، بل تحلل أيضا الحالة الثقافية ل «ما بعد الحداثة» في عصر الرأسمالية المتأخرة. من المفترض أن هذه الحالة تؤثر فينا جميعا، لا عبر الفن الطليعي فحسب، بل على مستوى أكثر جذرية عبر تأثير ذلك النمو الهائل في وسائل الاتصال المعتمدة على الأجهزة الإلكترونية التي أطلق عليها مارشال ماكلوهان في ستينيات القرن العشرين «القرية الإلكترونية». ورغم ذلك، فإننا داخل «مجتمع المعلومات» الجديد الذي نعيش فيه، لا يمكننا - لدواعي المفارقة - الوثوق في معظم المعلومات، لكونها إسهاما في عملية التلاعب الهادفة إلى تلميع صورة أهل السلطة أكثر من كونها دعما للمعرفة؛ لذا، يتسم الاتجاه ما بعد الحداثي بكونه اتجاها تشككيا يتاخم حدود جنون الارتياب (كما نرى - على سبيل المثال - في روايات نظرية المؤامرة لتوماس بنشن ودون ديليلو وأفلام أوليفر ستون).
شكل 1-1: منظر داخلي من فندق ويستن بونافينتشر للمعماري بورتمان. «حيز ما بعد حداثي متعدد الأبعاد».
يرى فريدريك جيمسون - أحد كبار المعلقين الماركسيين على ما بعد الحداثة - أن فندق ويستن بونافينتشر، للمصمم المعماري جون بورتمان في لوس أنجلوس، هو بالكامل أحد دلائل هذه الحالة؛ إذ تتضافر التعقيدات الاستثنائية لمداخل الفندق، وتطلعه نحو أن يصير «عالما متكاملا، أو ضربا من المدن المصغرة»، ومصاعده المتحركة دوما تجعل منه «طفرة» تقود إلى «حيز ما بعد حداثي متعدد الأبعاد»، يتجاوز قدرات الجسم البشري على تحديد موقعه، وإيجاد مكان خاص به في عالم يمكن رسم خريطة له. إن هذا «الارتباك الساحق» - على حد قول جيمسون - يشكل معضلة، وهو «رمز يضاهي عجز عقولنا عن رسم خريطة لشبكة الاتصالات اللامركزية الكونية الهائلة المتعددة الجنسيات التي نوجد داخلها كأفراد.» وقد انتاب الكثير منا شعور مماثل داخل مركز بربيكان في لندن.
إن هذه النظرة التي تشبه وضعنا ب «التيه في فندق ضخم» توضح الطبيعة الحضرية لمذهب ما بعد الحداثة؛ حيث نشأ مناخ فكري جديد جالبا معه إدراكا جديدا. لكن تلك الأفكار والاتجاهات لطالما ظلت إلى حد كبير محل جدل، وفيما يلي سأقاوم شكوكية ما بعد الحداثة معتمدا على بعض شكوكي الخاصة. وبالتأكيد، سأنكر كون آرائها السياسية والفلسفية وأساليبها الفنية تكاد تتمتع بقدر الهيمنة الذي يوحي به التصريح الواثق عن بزوغ حقبة جديدة «ما بعد حداثية».
مع ذلك، يتضح الآن أنه حتى إذا اقتصر تناولنا على الأفكار السائدة داخل الحركة الطليعية الفنية منذ عام 1945، يمكننا استشعار ابتعادها عن نظيرتها في الحقبة الحداثية؛ إذ يوجد اختلاف كبير بين أعمال جيمس جويس وآلان روب جرييه، وبين أعمال إيجور سترافينسكي وكارلهاينز شتوكهاوزن، وبين أعمال هنري ماتيس وروبرت راوشينبرج، وبين أعمال جان رينوار وجان لوك جودار، وبين أعمال جايكوب إيبستاين وكارل أندريه، وبين أعمال ميس فان دير روه وروبرت فينتوري. إن ما نستنتجه من هذه المقارنة بين الحداثة وما بعد الحداثة في الفنون يعتمد إلى حد كبير على القيم التي يعتنقها المرء؛ إذ لا يمكن تحديد مسار تطور وحيد ها هنا.
ترجع العديد من تلك الاختلافات إلى حساسية الفنانين للتغيرات الحادثة في المناخ الفكري. فمع حلول منتصف ستينيات القرن العشرين، بدأ نقاد مثل سوزان سونتاج وإيهاب حسن في الإشارة إلى بعض الخصائص التي تميز ما نطلق عليه الآن «ما بعد الحداثة » في كل من أوروبا والولايات المتحدة؛ إذ زعما أن أعمال أتباع ما بعد الحداثة تعكس عن عمد مستوى أقل من الوحدة، ودرجة أقل وضوحا من «الإتقان»، وطابعا أكثر هزلية أو فوضوية، واهتماما بفهم الجمهور يزيد عن الاهتمام بالمتع المستمدة من الوحدة أو الصقل الفني، وميلا أقل إلى مراعاة تماسك النص، وبالطبع تمردا أكبر على التفسيرات المحددة، مقارنة بالكثير من الأشكال الفنية السابقة. وسوف نتناول عددا من الأمثلة على ذلك فيما بعد.
نشأة النظرية
في وقت لاحق نوعا ما على الفترة التي شهدت اشتهار الفنانين السابقي الذكر، حدث تطور إضافي في حركة ما بعد الحداثة؛ ألا وهو «نشأة النظرية» بين أوساط المثقفين والأكاديميين؛ إذ طور العاملون في جميع المجالات وعيا ذاتيا نقديا مفرطا. فوجه بعد الحداثيين اللوم إلى الحداثيين (وإلى قرائهم أو مشاهديهم أو مستمعيهم الإنسانيين الليبراليين «السذج» حسب افتراضهم) على إيمانهم بأن عملا فنيا قد يروق بطريقة ما إلى البشرية جمعاء؛ مما يعني كونه خاليا من الملابسات السياسية الباعثة على الانقسام.
إن صعود فنانين تجديديين عظماء في فترة ما بعد الحرب - أمثال شتوكهاوزن، وبوليز، وروب جرييه، وبيكيت، وكوفر، وراوشنبرج، وبويس - تلاه (ودعمه وفسره كما يزعم كثيرون)؛ نمو هائل في تأثير عدد ضخم من المثقفين الفرنسيين، نخص منهم بالذكر المنظر الاجتماعي الماركسي لويس ألتوسير، والناقد الثقافي رولان بارت، والفيلسوف جاك دريدا، والمؤرخ ميشيل فوكو، وقد بدءوا جميعا عملهم في الواقع عبر تأمل مضامين الحداثة، ونادرا ما جمعت أيا منهم علاقة ممتدة حقا بالحركة الطليعية المعاصرة. كان ألتوسير مهتما ببريخت، بينما ركز بارت على فلوبير وبروست، أما دريدا فقد اهتم بنيتشه وهايدجر ومالرميه، في حين انشغل فوكو بنيتشه وباتاي. ومع منتصف السبعينيات من القرن العشرين، أصبح من الصعب معرفة ما الأهم لدى أتباع ما بعد الحداثة، أهي صياغة شكل محدد من أشكال التجارب (الصادمة) داخل إطار الفن، أم فرص عرض التفسيرات السياسية والفلسفية الجديدة التي يتيحها هذا الشكل المحدد. قد يزعم كثيرون الآن أن بعد الحداثيين المخلصين لاتجاههم طالما «فضلوا» (على نحو كارثي) المضامين التفسيرية على التجسيد الفني الممتع والتعقيد الشكلي الذي اعتاد الكثير من الناس تقديره في الفن الحداثي.
صفحه نامشخص
انتقل هذا الإطار الفكري الجديد والمفزع من فرنسا إلى إنجلترا وألمانيا والولايات المتحدة في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين. وباندلاع ثورات الطلبة عام 1968، كان التفكير الفلسفي الأكثر تطورا قد ابتعد عن الوجودية الفردية ذات الحس الأخلاقي القوي التي ميزت حقبة ما بعد الحرب مباشرة (والتي كان سارتر وكامو أشهر ممثليها) نحو مواقف أكثر تشككا ومعادية للمذهب الإنساني. وجدت تلك المعتقدات الجديدة منبرا لها فيما أصبح معروفا بالنظرية التفكيكية وما بعد البنيوية، التي سنناقشها فيما يلي. كذلك لم يعد «الروائيون الجدد» في فرنسا مهتمين بحالات القلق العام والعبثية ذات الطابع الفلسفي والشعوري، ولا ملتزمين بالمتطلبات المتشابهة للروايات التي تتبع أسلوب السرد التقليدي، مثل «الغثيان» لسارتر أو «الطاعون» و«الغريب» لكامو، بل تحولوا إلى أسلوب أكثر برودة بمراحل، يعج بالمتناقضات، ويعادي السرد كما نلاحظ في نصوص آلان روب-جرييه، وفيليب سوليرز، وغيرهم ممن لم يبدوا اهتماما كبيرا بالشخصية الفردية، أو بالتشويق والجاذبية التي تميز السرد المتماسك، على قدر اهتمامهم بالتلاعب بلغة الكتابة التي يستخدمونها.
في الواقع، تضرب هذه الأفكار الجديدة بجذورها خارج الفنون، رغم أنها ألهمت عددا من الأعمال الأدبية وهيمنت على تفسير تلك الأعمال في الدوائر الأكاديمية. تمحور اهتمام بارت حول تطبيق النماذج اللغوية على تفسير النص، بينما اتخذت أعمال دريدا الفلسفية في البداية شكل تحليلات نقدية لعلم اللغة، أما فوكو فقد انصب تركيزه على التاريخ والعلوم الاجتماعية. كذلك استرشدوا جميعا بدرجات متفاوتة بقراءة ثانية أو إحياء لأعمال ماركس (الذي كانت هيمنته في أماكن مثل الاتحاد السوفييتي - قبل عام 1989 - تفسر بخفة نسبيا على أنها نابعة من «اشتراكية بيروقراطية» أسيئ تطبيقها)؛ إذ كان معظم المثقفين الفرنسيين الذين أوحوا بنظريات ما بعد الحداثة يتبعون نموذجا ماركسيا بوجه عام.
ومن ثم، اعتمدت مبادئ ما بعد الحداثة اعتمادا هائلا على الفكر الاجتماعي والسياسي والفلسفي، الذي ألقى بذوره في الحركة الطليعية الفنية (لا سيما في الفنون المرئية) وفي أقسام الدراسات الإنسانية في جامعات أوروبا والولايات المتحدة باعتباره «نظرية». وتتميز حقبة ما بعد الحداثة بالهيمنة الاستثنائية لأعمال الأكاديميين على أعمال الفنانين.
إلا أن هذا الفكر لم يتفق مع تعريف «النظرية» حسب قواعد فلسفة العلوم (حيث تختبر النظريات ومن ثم يثبت صحتها أو خطؤها) أو الفلسفة الأنجلو أمريكية التجريبية بوجه عام، بل نزع أكثر إلى كونه نوعا تشككيا من الخطاب يتمركز حول ذاته، ويطوع مفاهيم عامة مستوحاة من الفلسفة التقليدية لتلائم أعمالا أدبية أو اجتماعية أو غيرها من الأعمال التي دمغت نتيجة ذلك بطابع ما بعد حداثي.
مشاكل في الترجمة؟
من ثم، انصب تركيز الكثير من المناصرين الأكاديميين لنظرية ما بعد الحداثة في إنجلترا والولايات المتحدة على ترجمة المعاني الداخلية للفكر الأوروبي؛ مما أدى إلى ظهور عدد من القضايا الثقافية المنزوعة من سياقها على نحو مثير للاهتمام وأسفر عن ابتعاد تام عن الأعراف السابقة. على سبيل المثال، ورثت نظرية ما بعد الحداثة اهتماما بوظائف اللغة من النظرية البنيوية، لكن عندما بدأ جاك دريدا يهتم بمشكلة الإشارة (عندما تشير اللغة إلى واقع غير لغوي خارجي)، رجع إلى أعمال عالم اللغويات فرديناند دو سوسر. خاض دريدا (في كتابه الذي يحمل عنوان «عن علم الكتابة») صراعا مع أفكار دو سوسر غير مدرك على ما يبدو لحقيقة أن الكثير من المشكلات التي أثارت اهتمامه - والموقف (المتزعزع للغاية) الذي توصل إليه - قد تناولها الفيلسوف لودفيج فيتجنشتاين تناولا أفضل بمراحل، وحللها تحليلا أدق في رأي العديد من أعضاء المجتمع الفلسفي (حتى في فرنسا). لكن دريدا لا يذكر فيتجنشتاين في أعماله المبكرة؛ ومن ثم عانى الكثير من منظري الأدب التابعين لمنهج دريدا من جهل خطير بتاريخ المشاكل الفلسفية، ولم يدركوا بعضا من حلولها النموذجية التي يطرحها الاتجاه الفلسفي الأنجلو أمريكي. وقد أدى هذا إلى انقسام فكري، وعدم فهم مشترك، وانشقاقات في كثير من أقسام الجامعات ما زالت قائمة حتى اليوم.
اعتمد بعد الحداثيين - الذين أبدوا حماسا مبررا للمذاهب السياسية والأخلاقية «المحررة» - في الوقت نفسه اعتمادا بالغا على الهيبة الاستثنائية لأولئك المثقفين الجدد الجهابذة، ممن تمتعوا بتأثير دعمه إلى حد كبير اعتمادهم المفرط على لغة اصطلاحية مستحدثة أضفت على مناقشاتهم صبغة هائلة من الصعوبة والعمق، وسببت صعوبات جمة لمفسري نظرياتهم. وهو ما يتضح في كلمات الفيلسوف الأمريكي جون سيرل:
وصف لي ميشيل فوكو أسلوب دريدا في إحدى المرات بأنه يتسم ب «غموض إرهابي»؛ فالنص مكتوب بأسلوب شديد الغموض إلى حد يجعلك عاجزا عن تحديد الموضوع بالضبط (لذا وصف ب «الغموض»)، وعندما تنتقد ذلك، يجيبك دريدا قائلا: «لقد أخطأت فهمي، أنت أحمق» (لذا وصف ب «الإرهابي»).
مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس»، عدد 27 أكتوبر 1983
إن أساليب الحديث والكتابة التي تتسم غالبا بالغموض - بل والإبهام - لدى أولئك المثقفين، كانت في بعض الأحيان تهدف كذلك إلى التعبير عن تحد لذلك الوضوح «الديكارتي» في عرض الموضوعات الذي زعموا نشأته من اتكال مشبوه على قناعات «برجوازية» تتعلق بنظام العالم. يناقش رولان بارت الأدب الفرنسي في القرن السابع عشر قائلا:
صفحه نامشخص
لقد وجد بالتأكيد أسلوب عالمي محدد من الكتابة، ساد بين رجال النخبة الأوروبيين ممن تمتعوا بنفس نمط الحياة الموسر، لكن هذه الميزة التواصلية العظيمة القيمة للغة الفرنسية اقتصرت على أعضاء تلك الطبقة ليس إلا، فلم تمتد قط خارجها؛ أي لم تصل مطلقا إلى قلب الجماهير.
رولان بارت، «الأعمال الكاملة»، المجلد الأول (1942-1965)
فضل ما بعد الحداثيين تلاعبا بألفاظ ذات إيحاءات على منطق بطيء التطور ومشبوه سياسيا؛ مما أسفر عن نشأة نظرية أدبية أكثر منها فلسفية، نادرا ما توصلت إلى استنتاجات واضحة أو قابلة للاختبار في إطار تجريبي، لا لشيء إلا لصعوبة التأكد من معناها. أدى ذلك إلى تحمل أتباع أساتذة هذه النظرية لعبء مقبول من جانبهم؛ ألا وهو تقديم الترجمة التفسيرية للنظرية والدفاع عنها؛ إذ كتب الأساتذة الفرنسيون بأسلوب طليعي راسخ يعادي الوضوح المميز لتراثهم القومي. وقد كانت آلاف الأصداء والاقتباسات - والتفسيرات الخاطئة المتوقعة - المستقاة من كتاباتهم الغامضة هي ما شكلت العقلية الجمعية المدعية والمشوشة غالبا لدى أنصار ما بعد الحداثة.
نقدم هنا مثالا على جملة تتجاوز بمراحل مفهوم اللانموذجية، وقد فازت بالمركز الثاني في مسابقة الكتابة الرديئة التي أعلنت عنها مجلة «فيلوسفي آند ليترتشر» العلمية. ربما تتضح الجملة للقارئ مع نهاية هذا الكتاب وربما لا، وهي مقتبسة من كتاب هومي بابا «موقع الثقافة» (1994) الذي كثيرا ما يشار إليه:
إذا كان من الممكن - لفترة زمنية قصيرة - إحصاء حيل الرغبة لأغراض تتعلق بالانضباط، فسرعان ما قد ينظر إلى تكرار الذنب، والتبرير، والنظريات العلمية الزائفة، والخرافة، والسلطات غير الشرعية والتصنيف الكاذب؛ على أنه جهد يائس من أجل الوصول عادة إلى «تطبيع» الاضطراب الكائن في خطاب الانشقاق الذي ينتهك المزاعم التنويرية العقلانية المرتبطة بصياغته الواضحة.
لذا، نلاحظ تناقضا وتوترا قويا بين ما بعد الحداثة المستقاة من المثقفين الفرنسيين، وبين الفكر الفلسفي الليبرالي الأنجلو أمريكي السائد في هذه الحقبة؛ إذ يتسم الاتجاه الأخير بتشككه البالغ - في إطار ما بعد أورويلي - في اللغة الاصطلاحية، والتركيب الفخم، و«الأيديولوجية» المستقاة من الفكر الماركسي. وفي فترة الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين، كان هذا الاتجاه شديد التمسك بمناهج مختلفة للغاية، ولا سيما بفكرة أن على الفلسفة استخدام «لغة عادية» يفهمها الجميع، وأن تهدف إلى تقديم أعلى درجة من الوضوح حتى إن كانت متخصصة. وهكذا استخدمت الأعمال الفلسفية النموذجية المكتوبة بالإنجليزية - بدءا من «مفهوم العقل» (1949) لجيلبرت رايل، وانتهاء ب «نظرية العدالة» (1971) لجون راولز - تلك المناهج التماسا لمنهج توافقي وتعاوني في الأساس، وطلبا لمزيد من التوضيح والتصحيح التدريجي من قبل جموع المشتغلين بالفلسفة (التي قد تستجيب لها السلطة الأصلية جيدا بالتأكيد، كما فعل راولز في كتابه اللاحق «الليبرالية السياسية»، 1993). تأثر ذلك الاتجاه الفكري في هذا المجال تأثرا كبيرا بنموذج التعاون العلمي مثلما تأثر بالمناهج السقراطية. لكن أفكار ما بعد الحداثة - على الرغم من انتماءاتها الماركسية وطموحاتها السياسية - لم تعتزم قط التلاؤم مع أي إطار تعاوني وتوافقي من هذا النوع؛ إذ آمن الكثير من أتباع ما بعد الحداثة أن هذا المنهج سيؤدي ببساطة إلى إعادة إنتاج رؤية برجوازية للعالم، وبأنه يهدف إلى تحقيق قبول عالمي غير مبرر. إن ما بعد الحداثة الفرنسية تبدو من ناحية الوريث الشرعي للحركة السريالية التي حاولت كذلك تعطيل الطرق «الطبيعية» المفترضة لرؤية الأشياء.
في رأي الكثير من أتباع ما بعد الحداثة، يكمن الخطر - والهدف كذلك - من دمج حوارات فلسفية ونظرية في ثنايا لغة أدبية منمقة في أن يصبح النص بهذه الطريقة مفتوحا لشتى صور التفسيرات. يوجد - كما سنرى لاحقا - لاعقلانية متوغلة في قلب ما بعد الحداثة - نوع من فقدان الأمل في وظائف المنطق العامة المستقاة من عصر التنوير - لا نجدها في أي من المناهج الفكرية الأخرى في أواخر القرن العشرين (على سبيل المثال، فيما يتعلق بتأثير علم الإدراك على اللغويات أو استخدام النماذج الداروينية لتفسير التطور العقلي). غالبا ما يروج الناشرون الكتب التي تحمل آراء ما بعد حداثية، لا على أساس ما تطرحه من فرضيات أو نقاشات محفزة، بل بسبب «استخدامها للنظرية»، وبسبب «آرائها المستبصرة»، و«مداخلاتها»، والأسئلة التي «تعالجها» (لا الإجابات التي تقدمها).
فيما يلي نعرض بعض الفروق العامة بين فلسفة وأخلاقيات ما بعد الحداثة وما تتضمنه من جماليات وتطبيقات لعلم الاجتماع السياسي. تختلف مقاييس الانتماء لما بعد الحداثة اختلافا كبيرا في المجالات الثلاثة كافة؛ إذ إن مصطلح «ما بعد حداثي» في حد ذاته يجذب الانتباه إلى حقبة تاريخية وتضمينات أيديولوجية في آن واحد. إن زعم كون أي عمل فني أو عقلية مفكر أو ممارسة اجتماعية تجسد مبادئ ما بعد الحداثة، أو تشخص بدقة «الحالة الاجتماعية للمذهب ما بعد الحداثي»؛ ستعتمد إذن على المعايير المتنوعة للغاية التي تسيطر على أذهان معظم المعلقين على هذا الموضوع، وأنا منهم. إلا أنني آمل أن أقدم فيما يلي رؤية عامة توافقية لما بعد الحداثة.
سوف أقدم الأفكار الأهم من بين مجموعة الأفكار الضخمة المرتبطة بالموضوع، لكني لن أستطيع - في المساحة المتاحة لي - أن أبدي عناية كبيرة بالاختلافات المثيرة للاهتمام بينها. وسأركز على ما يبدو لي معبرا عن أطول أفكار ما بعد الحداثة عمرا وأكثرها قابلية للتطبيق، لا سيما تلك التي قد تساعدنا في تمييز الفن المبتكر والممارسات الثقافية السائدة منذ منتصف الستينيات واستيعابها.
علينا توقع اعتبار الكثير من أفكار ما بعد الحداثة مؤثرة ومثيرة للغاية، وتحتل مكانة رئيسية في بعض الأعمال الفنية التجريبية الجيدة، لكنها في أفضل حالاتها مشوشة وفي أسوأها غير صادقة؛ وهو أمر عادي؛ إذ إن الأفكار الرئيسية الرائدة في العديد من العصور الثقافية عرضة لهذا النقد نفسه. فما إن تكتشف تلك الأفكار حتى يعاد تفسيرها (مثل فكرة الخيال في الحركة الرومانسية)، أو تئول إلى الزوال (مثل فكرة التنويم المغناطيسي في الطب). نجد هذه السمة في جميع الحركات الفكرية المتطرفة، ومن بينها ما بعد الحداثة. لا أحد الآن يلتزم تماما بالرؤية الرومانسية للخيال، مع أن وظائف الخيال لا تزال أحد الموضوعات المحورية والدائمة، كذلك يختلف التنويم المغناطيسي في القرن الثامن عشر اختلافا كبيرا عن الشكل الذي صار عليه في القرن العشرين. بوجه عام، أدت نشأة الأفكار المتطرفة (وكذلك الأحزاب السياسية المتطرفة) في القرن العشرين إلى حالة تحرر من الوهم تلتها عملية تعديل، وهو ما يبدو بالفعل المصير الذي واجهته ما بعد الحداثة، في الفترة من ستينيات إلى تسعينيات القرن العشرين. وفي النهاية، فقد استمرت زمنا يعادل فترة الحداثة العليا في الحقبة السابقة على الحرب، التي تعتبر ما بعد الحداثة - في أعين مناصريها - بديلها التقدمي على المستوى السياسي، بينما يرى معارضوها أنها نزعها الأخير.
صفحه نامشخص
الفصل الثاني
طرق جديدة لرؤية العالم
مقاومة الادعاءات الكبرى
يعتمد جزء كبير من نظرية ما بعد الحداثة على الالتزام بموقف متشكك، وتلعب مساهمة الفيلسوف جان فرنسوا ليوتار في هذا الإطار دورا محوريا؛ إذ زعم في كتابه «حالة ما بعد الحداثة» (الذي نشر بالفرنسية عام 1979، وبالإنجليزية عام 1984) أننا نعيش الآن في حقبة تمر فيها «النصوص السردية الرئيسية» المشرعة بأزمة وتشهد تراجعا. تضم الفلسفات الكبرى، مثل الكانطية والهيجلية والماركسية، تلك النصوص السردية أو تشير إليها ضمنا؛ إذ تزعم هذه الفلسفات أن التاريخ تقدمي، وأن المعرفة ستحررنا، وأن وحدة خفية تجمع بين جميع أشكال المعرفة. يهاجم ليوتار سرديتين رئيسيتين : السردية التي تدفع بالتحرر التدريجي للبشرية - بدءا من الخلاص المسيحي إلى اليوتوبيا الماركسية - والسردية التي تتناول انتصار العلم. يرى ليوتار أن تلك المعتقدات قد «فقدت مصداقيتها» منذ الحرب العالمية الثانية: «باختصار شديد، أعرف «ما بعد الحداثة» باعتبارها تشككا موجها إلى الادعاءات الكبرى.»
تهدف تلك الادعاءات الكبرى عادة إلى إضفاء شكل من الشرعية أو السلطة على الممارسات الثقافية. (ومن ثم، فإن إضفاء الشرعية على النظريات الفرويدية أو الماركسية ينبع من زعمها - الذي لم يعد مقبولا على نطاق واسع حاليا - أنها قائمة على مبادئ أو ادعاءات علمية كبرى.) مثال آخر على هذا هو التاريخ المدرسي الذي يروي قصة كتابة «دستور الولايات المتحدة» وإجراءات سن القوانين اللاحقة على أيدي الآباء المؤسسين. إن هذه الحكاية التاريخية الكبرى، بما تحتويه من «مبادئ مؤسسة» دستورية، ما زالت إلى حد كبير مصدر قلق مستمر في الخلافات الدائرة حاليا في الولايات المتحدة حول حدود حرية التعبير، والحق في الإجهاض، وحق المواطنين الأمريكيين العاديين في حمل السلاح. ومثال بسيط آخر على الادعاءات الكبرى هو الإيمان الماركسي بالدور المميز والحتمي للطبقة العاملة (البروليتاريا) - عند تحالفها مع الحزب - في إشعال الثورة ثم في تأسيس المدينة الفاضلة التي من المفترض أن تعقب ذلك، عندما «تتلاشى الدولة». منذ عام 1945، طورت حكومات الكثير من الأراضي المستعمرة سابقا على نحو مماثل ادعاءات سياسية طامحة إلى الهيمنة حول تاريخ الكفاح القومي. من الصعب تجنب تلك الادعاءات، وستجدها لدى جميع الدول القومية تقريبا.
على الرغم من وجود أسباب ليبرالية ومنطقية تبرر معارضة تلك «الادعاءات الكبرى» (لأنها لا تسمح بأي خلاف حول معناها، وغالبا ما تؤدي إلى قمع شمولي)، فإن مصداقية زعم ليوتار بتراجع الادعاءات الكبرى في أواخر القرن العشرين تعتمد في النهاية على احتكام إلى الحالة الثقافية السائدة لدى أقلية مثقفة. أما الزعم العام «من منظور علم الاجتماع» بتراجع تلك الادعاءات في عصرنا فيبدو واهيا إلى حد كبير - حتى بعد انهيار الماركسية التي ترعاها الدولة في الغرب - بما أن الامتثال إلى معتقدات قومية ودينية شمولية واسعة النطاق يؤدي حاليا إلى كثير من القمع والعنف والحرب في أيرلندا الشمالية وصربيا والشرق الأوسط وغيرها من الأماكن. (لكن ما بعد الحداثيين لا يحظون عادة بمعرفة واسعة بالممارسات السائدة حاليا في العلم والدين.) فمن الواضح لأي من قراء الصحف أن الرجال والنساء ما زالوا إلى حد ما مستعدين لقتل بعضهم البعض باسم الادعاءات الكبرى كل يوم، كما يتضح في الفتوى الصادرة ضد سلمان رشدي على سبيل المثال. في الواقع، إن الدافع وراء الثقة الشديدة التي يبديها ما بعد الحداثيين في تحليلهم العدائي للمجتمعات الأوروبية والأمريكية من حولهم في سبعينيات القرن العشرين قد يرجع بالفعل إلى أن تلك المجتمعات لم تمزقها النزاعات بين أيديولوجيات متناقضة. وربما كان التفكير في المزاعم المتعارضة بين الإسلام واليهودية في الشرق الأوسط، أو بين الماركسية والعملية الديمقراطية في أوروبا الشرقية، يقودهم إلى استنتاجات مختلفة. لكن التشكك حيال الارتباط بالادعاءات الكبرى الذي روج له ليوتار، وتردد صداه لدى دريدا وكثير غيرهما من أتباع ما بعد الحداثة، تمتع بجاذبية كبيرة لدى جيل تربى في الديمقراطيات الغربية؛ إذ تمتع أبناء هذا الجيل بتحرر نسبي من النظام اللاهوتي عبر الوجودية، وتأثروا بالمقاومة ضد الرأسمالية والتحالف العسكري الصناعي عام 1968، وتشككوا في الادعاءات «الاستعمارية» الأمريكية، وأهم من ذلك ربما شعروا بالحاجة إلى الهرب من العبارات الأيديولوجية المانوية المبتذلة ذات التأثير المميت التي سادت خلال الحرب الباردة.
بناء على ذلك، أصبح موقف بعد الحداثيين المبدئي هو التشكك في الادعاءات بوجود أي نوع من التفسير الجامع الشامل. فلم يكن ليوتار هو وحده من رأى أن مهمة المثقفين هي «المقاومة»، حتى إن كانت في وجه «إجماع» «أصبح باليا ومشكوكا في قيمته». استجاب ما بعد الحداثيين إلى هذه الرؤية، مدفوعين جزئيا بسبب جيد؛ ألا وهو التمكن من الانحياز إلى جانب من لا «يتلاءمون» مع الأطر العامة - أي التابعين والمهمشين - ضد من يتمتعون بسلطة نشر الادعاءات الكبرى؛ ومن ثم، كان العديد من مثقفي ما بعد الحداثة يعتبرون أنفسهم روادا ومعارضين شجعانا. وكان هذا مؤشرا على بداية عصر تعددي ؛ حيث إنه - كما سنرى لاحقا - تعتبر نقاشات العلماء والمؤرخين كذلك مجرد ادعاءات شبه مكتملة تتنافس مع جميع الادعاءات الأخرى لحيازة القبول. لا يملك ما بعد الحداثيين رؤية فريدة وموثوقا بها تتناسب مع العالم، ولا توافقا محددا مع الواقع؛ فتلك الأمور لا تزيد عن كونها صورة أخرى من صور الحكايات الخيالية.
بما أن معارضة تلك الادعاءات (ولا سيما الأنواع الشمولية أو الاستبدادية) هي بالطبع قضية ليبرالية تقليدية بمعنى الكلمة، فقد انشغل الكثير من كتابات ما بعد الحداثة البارزة بالتعبير عن هذا النوع من الشك لأغراض ليبرالية في الأساس، كما في أعمال إدوارد سعيد على سبيل المثال، الذي حاول في كتابه «الاستشراق» (1978) توضيح التأثيرات المشوهة الناتجة عن إسقاط ادعاء الإمبريالية الغربية الكبرى على المجتمعات الشرقية؛ إذ كان الإمبريالي يعتبر نفسه ممثلا لنظام عقلاني منظم، سلمي، ملتزم بالقانون، بينما يعرف الشرقيين باعتبارهم نقيض هذا (كما يتضح، على سبيل المثال، في «حالة الاضطراب» التي يكتشفها فورستر في روايته «ممر إلى الهند»)، ويثق بأن تمثيله «لهم» - أي نصه السردي عن «الاستشراق» - سيسود؛ ومن ثم، فرضت الرؤية الإمبريالية الرئيسية حول التطور التدريجي على ممارسة شرقية محلية - بل «منحرفة» - ليس إلا. في هذا الإطار يسير سعيد على خطى فوكو، ومذهب اليوهيمرية لدى الإغريق ولدى نيتشه، في الاعتقاد بأن تلك الادعاءات السياسية الكبرى هي على أحسن تقدير محاولات تتعمد الغموض لإبقاء بعض الفئات الاجتماعية في موقع السلطة وحرمان الآخرين منها. يلاحظ سعيد أنه عندما مارس فلوبير الجنس مع محظية مصرية - تدعى كوتشوك هانم - كتب إلى لويز كوليه قائلا: «المرأة الشرقية ليست سوى آلة، فهي لا تفرق بين رجل وآخر.» ومن خلال تلك الكلمات (وفي رواياته اللاحقة)، قدم فلوبير «نموذجا بالغ التأثير للمرأة الشرقية». لكن داخل نص فلوبير السردي المؤثر، «لا تتحدث (كوتشوك) عن نفسها أبدا، ولا تعبر عن مشاعرها أو وجودها أو تاريخها.» في وسعنا الآن أن نتخيل مدى الاختلاف الأكيد للرواية التي أوردتها للأحداث، لكن إطاري السرد - لدى كل من فلوبير وكوتشوك هانم - على ما يبدو غير متكافئين حضاريا، ومن هنا ينبع استنتاج ما بعد حداثي نموذجي يدفع باستحالة إيجاد الحقيقة الشاملة وبأن النسبية هي قدرنا.
التفكيكية
إن الثقة التي عبر بها ما بعد الحداثيين عن تلك المزاعم تأثرت إلى حد هائل بقراءة أعمال جاك دريدا الفلسفية، الذي تعكس كتاباته الغزيرة الشكل الأشد تعقيدا من هذا الموقف «التفكيكي».
صفحه نامشخص
يعتمد النقاش المحوري في التفكيكية على مبدأ النسبية؛ أي الرأي القائل بأن الحقيقة في حد ذاتها نسبية؛ إذ تبنى دوما حسب وجهات النظر المختلفة والنظم الفكرية المعدة للشخص الذي يبدي رأيه. من الصعب إذن الزعم بأن التفكيكيين يلتزمون بأي شيء في وضوح الأطروحات الفلسفية. في الواقع، إن محاولة تعريف التفكيكية تتحدى أحد مبادئها الرئيسية؛ وهي إنكار إمكانية الوصول إلى تعريفات حقيقية أو نهائية؛ لأنه حتى أكثر التعريفات المرشحة معقولية سوف تستدعي دوما تلاعبا تعريفيا إضافيا باللغة. يرى أتباع المدرسة التفكيكية أن علاقة اللغة بالواقع هي علاقة مجهولة ولا يعتمد عليها، بما أن جميع الأنظمة اللغوية ليست إلا بنى ثقافية لا يعول عليها بطبيعتها.
رغم ذلك التزم دريدا وأتباعه على ما يبدو برأي تاريخي واضح نسبيا؛ وهو أن الفلسفة والأدب في التراث الغربي قد افترضا كذبا لفترة أطول من اللازم أن العلاقة بين اللغة والعالم كانت - على عكس زعم التفكيكين - علاقة راسخة ويعتمد عليها (بل علاقة يكفلها الإله في بعض الأديان أيضا). إن تلك الثقة الزائفة «المتمركزة حول العقل» في اللغة باعتبارها مرآة الطبيعة تنبع من توهم أن معنى أي كلمة يستمد جذوره من بنية الواقع ذاته؛ ومن ثم يؤدي إلى مثول حقيقة تلك البنية مباشرة في الذهن، ويصب هذا كله في «حضور ميتافيزيقي» زائف. ذلك هو ادعاء دريدا الكبير، الذي افترض على ما يبدو افتراضا خاطئا تماما يقضي بأن التراث الفلسفي الميتافيزيقي الغربي يخلو من أي تساؤل حول توافق اللغة مع العالم، رغم أن الفلسفة الاسمية طالما كانت على طرف النقيض من الفلسفة الجوهرية. (في الواقع، حاول فيتجنشتاين - محاولة معروفة - إيجاد علاقة ثابتة تماما وجديرة بالثقة بين اللغة والعالم في كتابه «الأطروحة الفلسفية المنطقية» (1922)، ثم تبرأ تماما من موقف الكتاب لصالح نظرية تتمحور حول ألاعيب لغوية قريبة نسبيا مما عرضناه، وذلك في كتابه «تحقيقات فلسفية» الذي نشر بعد موته عام 1953.)
رغم ذلك، حظيت شكوكية دريدا بجاذبية سياسية كبيرة، باعتبارها وصفا متمردا لثقافة أصبحت تعتمد أكثر فأكثر على تلك الادعاءات الزاعمة بوجود «توافق جيد» في العلم وفي التكنولوجيا الرأسمالية السائدة بلا منازع، التي من المفترض أن تتدفق من العلم وتبرره. وقد أتاحت لأتباعه مهاجمة من يؤمنون بأن الفلسفة أو العلم أو الرواية تقدم بالفعل تصويرا دقيقا للعالم، أو أن السرد التاريخي قد يتسم بالدقة.
اتهم أتباع دريدا أهل الأدب على وجه الخصوص بالثقة الساذجة فيما يطلق عليه لدواعي المفارقة «النصوص الواقعية الكلاسيكية»؛ فأولئك الأشخاص فشلوا ببساطة في إدراك طبيعة اللغة التي استقوا منها ثقتهم الزائفة.
على سبيل المثال، عند قراءة رواية جورج إليوت «ميدل مارش» (1882)، قد يتشكل لدينا اعتقاد وهمي (لم يخطر على بال جورج إليوت في الواقع) بأن الكاتبة تفتح لنا ببساطة نافذة على الواقع، وأن الخطاب الذي تستخدمه صالح تماما لوصف العالم الحقيقي. إن اعتمادنا على سرد إليوت ولغتها يضعنا في موقع مهيمن بل في موقع الإله، ولا سيما إذا اعتمدنا على التعميمات التي تطرحها؛ ومن ثم، نظن أننا نعرف الحقيقة عن دوروثيا بروك، بينما ما نعرفه حقا هو وصف إليوت لها. وعلى أي حال، ماذا سيحدث عندما نصادف مجازا لغويا؟ هل نعتبره «حقيقيا» أيضا؟ على سبيل المثال، عندما شعرت دوروثيا بالحيرة والضيق من خيبة أملها في زوجها كازابون، رأت أن حياتها: «قد أصبحت على ما يبدو مسرحية تنكرية حيث يرتدي الممثلون أزياء غامضة.» إن هذا المجاز اللغوي أو الاستعارة - بصرف النظر عن مشاكل تفسيرها - لن تصلح إلا في ثقافة لديها القدرة على إدراك ماهية المسرحيات التنكرية ووظائفها بطريقة معينة. إن وصف دوروثيا يصلح فحسب ضمن سياق الخطاب المدرك لماهية المسرحيات التنكرية والسائد ضمن مجموعة معينة من الناس؛ ومن ثم يرتبط به.
إذن يرغب أتباع مدرسة ما بعد الحداثة التفكيكية في إبراز الانحراف الذي سيصيب علاقة كانت محل ثقة سابقا، مثل العلاقة بين اللغة والعالم. وكأنهم يقولون: «إنها ليست سوى استعارة مضللة تضليلا منهجيا عن مسرحية تنكرية.» رغم ذلك، من الواضح منطقيا أننا لن نستطيع توضيح «الانحراف» الدائم الذي يصيب اللغة دون أن تكون لدينا «في الوقت نفسه» ثقة خفية ومتناقضة في اللغة؛ إذ كيف يمكننا - من دون مفهوم يقيني إلى حد ما عن الحقيقة - إظهار كون تعبير لغوي معين قد «انحرف» أو سقط في فخ التناقض؟ إنه لغز تعجيزي لأعداء التفكيكية، ومعضلة طويلة الأمد لدى من يعتنقون مبادئها.
لماذا إذن يرغب التفكيكيون في التشكيك في اعتمادنا على أدباء مثل إليوت، وفي جزء كبير من التراث الفلسفي السابق كذلك؟
أنظمة الرموز
أصر أتباع دريدا على أن جميع الكلمات لا بد أن تفسر فقط من منظور علاقتها بالأنظمة السابقة التي تشارك فيها؛ ومن ثم، أصبحنا جميعا على أفضل وجه خاضعين لمبدأ النسبية، وأسرى لأنظمة مفاهيمية (غير قابلة للقياس). لا يسعنا سوى «معرفة» ما سمحوا «هم» لنا بمعرفته. وأيا كان ما نقوله، فنحن أسرى نظام لغوي لا علاقة له بالواقع الخارجي على النحو الذي نتوقعه؛ لأن كل مصطلح ضمن كل نظام يشير كذلك إلى وجود (أو «أثر» على حد قول دريدا) مصطلحات أخرى غائبة ضمن النظام أو يعتمد على وجود تلك المصطلحات أو «أثرها». على سبيل المثال، تضم اللغة الإنجليزية مجموعة من الكلمات تعبر عن درجات من الغضب، بدءا من كلمة «منزعج» وانتهاء ب «يستشيط غضبا». ولدى اللغة الفرنسية مجموعة كلمات مختلفة خاصة بها للتعبير عن هذا الشعور البشري. تعتمد جميع الكلمات داخل كل مجموعة لغوية بعضها على بعض من أجل تقسيم نطاق «الغضب» لخدمة الناطقين بتلك اللغات. لكن كلا النظامين - الإنجليزي أو الفرنسي - على الرغم من اختلافهما الواضح لن يستطيعا بضمير مستريح زعم أنهما قدما في النهاية الرمز الذي يعبر عن «حقيقة» حالات الغضب في العالم. ولا يسع إليوت أن تزعم نجاحها في التعبير رمزيا في النهاية عن حقيقة خيبة أمل دوروثيا. وهكذا، يرى أتباع دريدا أن اللغة تقتصر على تحديد الاختلافات الجلية بين المفاهيم؛ أي إنها تكتفي في الواقع ب «إرجاء» - أو تنحية - شركائها داخل النظام لبعض الوقت؛ وعليه، تحدد مفاهيمنا - في رأي أتباع دريدا - «اختلافا وإرجاء» (ديفرانس)؛ أي ترجئ المعنى مثلما توضح اختلافه (يتلاعب المصطلح الفرنسي الجديد الذي ابتكره دريدا (ديفرانس) بالكلمتين «اختلاف» و«إرجاء»)؛ فالمعني ينسل إلى الأبد من كلمة إلى أخرى داخل التسلسل اللغوي.
ينطلق دريدا من هذا الشكل المهيب من أشكال النسبية المفاهيمية كي يقترح مناهج تصلح لنقد جميع النظم المفاهيمية حالما ننظر إليها بهذه الطريقة، مقدما مساهمة رئيسية في الاتجاه ما بعد الحداثي لا تعتمد إلى حد كبير على «دقة» موقفه الفلسفي أو خصائصه الفلسفية الأخرى؛ فهو يعتبر أن جميع الأنظمة المفاهيمية عرضة ل «تكوين هرمي» زائف ومشوه. ولا يقتصر الأمر على كون معرفتنا بالعالم ليست على نفس الدرجة من المباشرة كما يروق لنا أن نعتقد - فهي محملة بالمجازات وتتناسب كليا مع نطاق أنظمتنا المفاهيمية ومداها - بل إننا جميعا نضع ثقة مفرطة في أساليب عمل التصنيفات المركزية داخل تلك الأنظمة كي تنظم تجربتنا في الحياة. على سبيل المثال، تعتمد جورج إليوت بوضوح في الفقرة التي أشرت إليها على الفرق الواضح بين «المظهر» و«الحقيقة»، وبين الحالة التي يتصرف فيها الناس «على طبيعتهم» وتلك التي «يؤدون فيها دورا» ليس إلا (كما في المسرحية التنكرية أو في حالة ارتداء زي تنكري).
صفحه نامشخص
نحن نميل إلى «أن نفضل» أو أن نعتمد على ما يطلق عليه دريدا «دلالات متسامية» خاصة، مثل «الإله»، و«الواقع»، و«فكرة الإنسان» كي ننظم خطابنا. إن المتضادات المفاهيمية التي نميل إلى استخدامها كي تؤدي هذا الدور التنظيمي - مثل الحديث مقابل الكتابة، الروح مقابل الجسد، المعنى الحرفي مقابل المعنى المجازي، الطبيعي مقابل الثقافي، الذكورة مقابل الأنوثة - تدفعنا إلى فهم العديد من العلاقات الأساسية فهما خاطئا، أو على الأقل فهما راسخا متصلبا أكثر من اللازم. نحن نميل على وجه التحديد إلى وضع أحد تلك المصطلحات في مرتبة أعلى من الآخر؛ فمثلا ينظر إلى «المرأة» على أنها أدنى منزلة من «الرجل» (و«الشرق» أدنى منزلة من «الغرب»)، لكن إذا تبنينا إطارا مفاهيميا أكثر نسبية، فسندرك أن هذه المصطلحات تعتمد «حقا» بعضها على بعض في تعريفها. بالتأكيد، كان لدى أتباع دريدا هوس فرويدي تام بفكرة أن المتناقضات الظاهرة يحتاج في الحقيقة بعضها إلى بعض، ودائما ما يشير كل منها ضمنا إلى الآخر؛ فالمرء لا يرى نفسه عقلانيا، وإمبرياليا يسعى إلى تحقيق العدل (مثل شخصية روني فيلدنج في رواية فورستر) «إذا» لم يكن الآخر في الوقت نفسه يرى إنسانا شرقيا مضطربا، مراوغا، وماكرا (مثل شخصية عزيز). إن الجانب التحرري والإبداعي في هذا النوع من تفكيك المتضادات يعمل على النحو التالي: عندما ننظر إلى أنظمة معينة كهذه الأنظمة - التي تدعي تقديم وصف دقيق للعالم - سيصبح في وسعنا إدراك أن المفاهيم التي «يميزها» النظام أو يجعلها محورية، والتدرجات الهرمية التي يستخدمها لترتيبها، أبعد ما تكون عن النسق «الصحيح» القاطع، وتتمتع باستقلال أكبر بمراحل مما كنا نعتقد.
في الواقع، يرى أتباع دريدا أن الكشف عن الاعتماد المتبادل الخفي لدى تلك الأنظمة سيؤدي إلى «تفكيكها»؛ إذ يمكن هدمها أو عكسها - لتعطي معنى متناقضا في أغلب الأحيان - وهكذا تصبح الحقيقة «في الواقع» نوعا من الوهم، وتصبح القراءة دائما شكلا من أشكال إساءة القراءة، وأهم من ذلك يصبح الفهم في جميع الأحوال نوعا من سوء الفهم؛ لأنه فهم غير مباشر دوما، وسيظل أبدا شكلا من أشكال التفسير الجزئي، غالبا ما يستخدم المعنى المجازي بينما يظن أنه يستخدم المعنى الحرفي. إن هذا الاستخدام الرئيسي للتفكيكية بهدف هدم ثقتنا في الأفكار المبتذلة السياسية والأخلاقية والمنطقية هو الأكثر ثورية وتمييزا لما بعد الحداثة.
يدفع هذا الزعم النسبي أننا حالما نرى أنظمتنا المفاهيمية بهذه الطريقة، سندرك أيضا أن العالم وأنظمته الاجتماعية وهويته الإنسانية ليست عطايا مهداة، تضمنها بطريقة ما لغة تتوافق مع الواقع، لكنها مفاهيم نخلقها «نحن» في اللغة، على نحو لا يمكن تبريره أبدا عبر الزعم بأن تلك هي «حقيقة» الأمور. فنحن لا نعيش داخل الواقع بل داخل تصوراتنا له (وهو ما يلخصه أتباع دريدا في الملحوظة الجانبية المشهورة التالية: «لا يوجد شيء خارج النص» باستثناء المزيد من النصوص التي نستخدمها في محاولة وصف أو تحليل ما تدعي النصوص الإشارة إليه).
نستمد من هذا كله الثقة اللازمة للتحرر من الامتثال لأي نظام «معطى»، وكي نؤمن بأن طريقة رؤيتنا للعالم لا يمكن تغييرها فحسب بل يجب تغييرها. قد يصل التفكيكيون والليبراليون والماركسيون إلى شكل من أشكال التحالف ها هنا، فيما يتعلق بإنكار استطاعة أي أيديولوجية مهيمنة أو لغة إمبريالية، تعميمية، كانطية، ما بعد تنويرية؛ وصف حقيقة الأشياء حقا.
التلاعب بالنص
حققت التفكيكية (ولا سيما كما مارسها النقاد الأدبيون) تأثيرها الثقافي الأقوى عندما رفضت أن تسمح لنشاط فكري أو نص أدبي أو تفسير لهذا النص بالخضوع للتنظيم عبر أي تسلسل هرمي تقليدي من المفاهيم، ولا سيما تلك التي قدمنا نماذج لها أعلاه. تمكنت التفكيكية من خلال اضطلاعها بتلك المهام من الإخلال بتنظيم النص، والطعن في صحة ما اعتبره البعض مجرد تحديدات «اعتباطية» لمعناه؛ لأن مفهوم «الاختلاف والإرجاء» - أو الاعتماد شبه الخفي لمفهوم ما على بقية المفاهيم المرتبطة به - هو مفهوم غير محدود. وهكذا يمكننا التجول عبر صفحات القاموس، سالكين المسارات المتفرعة من كلمة واحدة. إن فكرة المجال اللغوي المتداخل تداخلا حيويا وغير المحدود على الأرجح ساعدت في تكوين تحالف بين النظرية التفكيكية والاتجاهات التجريبية لدى الكثير من كتاب ما بعد الحداثة الطليعيين؛ إذ تأثر «الروائيون الجدد» في فرنسا وعدد من الكتاب التجريبيين الأمريكيين - أمثال والتر أبيش، ودونالد بارثلماي، وروبرت كوفر، وراي فيديرمان - بتلك الأفكار؛ ومن ثم، أصبحت اللغة وتقاليد النصوص (والصور والموسيقى) أمورا يمكن التلاعب بها؛ إذ لم يلتزم أولئك الكتاب بمناقشات أو أساليب سردية محدودة، فهم ليسوا سوى «ناشرين» للمعنى.
أعرف يا شباب ما الذي ستقولونه لاحقا. ماذا عن التمثيل؟ حقا ماذا عنه؟ التمثيل الدقيق والسليم للواقع! إلصاق الكلمات بالأشياء! إلصاق المعنى بالكلمات! (عبر/تعبير/معبر)، الاستخدام الدقيق لعلم الكتابة من أجل التفرقة بين التحدث والكتابة وبين الصياح والتمتمة!
نعم، أعرف رأيكم في الكتابة وأن هذا السؤال بالنسبة إليكم هو سؤال مهم (محوري)، لكننا قد ناقشنا ذلك كله من قبل وناقشنا أسلوبي على نحو ما (بل على النحو المنطقي إذا كان ذلك يرضيكم). أنا لا أبالي البتة ب «نظام الأشياء» لأني لا أحكي، لا أسرد، لا أتلو بترتيب كي أخلق نظاما، بل العكس!
على العكس، ما أفعله يتعلق بمشكلة القراءة أو الاستماع، ولا يتعلق بالكتابة! أنا أتحدث إلى الحواس ولا أحاول أن يبدو كلامي منطقيا بأي شكل من الأشكال. إن مجالي هو الهراء، مجالي هو ما فوق القص! بعبارة أخرى أنا أشق طريقي نحو استحالة القراءة، نحو القراءة الحرة، نحو القراءة الهذيانية، بطريقة ما أفضل القراءة بوصفها انتهاكا صارخا للسلام، كأن يقبض عليك متلبسا بالجريمة: بالجرم المشهود! أنا لا أضيع وقتي في التفاهات!
لكن حسنا، سأتوقف عن هذا الكلام الفارغ (مسافة مفردة، مسافة مزدوجة، مسافة ثلاثية) وجميع هذا اللغو المطبعي. في الحقيقة، الأمر يصيبني بالاشمئزاز بقدر ما يصيبك، لكن في بعض الأحيان يصبح التحدث عن تلك الأشياء (أو حتى الكتابة عنها) أمرا ضروريا، لا لسبب سوى أن نتمكن من تحديد المشكلة بدقة.
صفحه نامشخص
حسنا، لكن قد يسأل سائل: ماذا سيحدث للغة؟
ماذا سيحدث للمعنى؟
سؤال جيد! (مقطع مقتبس من رواية راي فيديرمان «خذه أو اتركه: رواية» (1976). يظهر تلاعب الأدب ما بعد الحداثي بالنظرية في أفضل حالاته عندما يحمل أيضا حسا كوميديا (
Fiction Collective, New York ).)
موت المؤلف
يظل العنصر الأهم هو أن يتصرف القارئ أو المستمع أو المشاهد المشارك في التعبير عن هذا التلاعب اللغوي أو تفسيره بمعزل عن أي من النوايا المفترضة لدى المؤلف. إن الاهتمام بالمؤلف سيؤدي إلى منح امتياز للطرف الخطأ؛ إذ إن اعتبار المؤلف مصدرا لمعنى النص، أو صاحب سلطة تحديد معناه، يضرب مثالا واضحا على التفضيل (المتركز حول العقل) لمجموعة بعينها من المعاني. فلماذا لا تتولد تلك المعاني من القارئ بقدر ما تتولد من المؤلف؟ ومن ثم، لا ينبغي الوثوق في غرض المؤلف (أو غرض التاريخ) بقدر يفوق الوثوق في مذهب الواقعية؛ ومن ثم، نشأ مفهوم جديد للنص باعتباره «تلاعبا حرا بالرموز داخل اللغة». إن هذا الإعلان عن «موت المؤلف» - ولا سيما من جانب بارت وفوكو - يعكس أيضا الميزة السياسية؛ وهي القضاء على المؤلف باعتباره المالك الرأسمالي البرجوازي الذي يسوق معانيه.
أو حسب قول بارت:
نحن ندرك الآن أن النص ليس مجرد سلسلة من الكلمات تعبر عن معنى «لاهوتي» واحد (أي «رسالة المؤلف/الإله») لكنه فضاء متعدد الأبعاد؛ حيث تمتزج مجموعة متنوعة من الكتابات - لا يوجد بينها نص أصلي - وتتصادم ... إن الأدب يتمكن من خلال رفضه تخصيص معنى نهائي «خفي» إلى النص (وإلى العالم باعتباره نصا) من تحرير ما قد يطلق عليه نشاط معاد للاهوتية، وهو نشاط ثوري حقا بما أن رفض تحديد المعنى يعني في النهاية رفض الإله والأقنوم المرتبط به؛ ألا وهو المنطق، والعلم، والقانون.
رولان بارت، «موت المؤلف»، من كتاب «الصورة-الموسيقى-النص»، (1977)
وهكذا تحرر النص - الذي تكون في الحقيقة على يد القارئ - وطبقت عليه قواعد الديمقراطية كي يلهو به الخيال كما يشاء. وأصبحت المعاني ملكية خاصة لمن يفسرها، له مطلق الحرية في التلاعب بها تلاعبا تفكيكيا؛ إذ كان يعتقد أن محاولة تحديد معنى نص أو أي نظام سميوطيقي لأغراض معينة خطأ فلسفي ورجعية سياسية على حد سواء؛ ومن ثم، أصبحت جميع النصوص الآن حرة في الغوص - بصحبة معانيها العامة أو الأدبية أو اللغوية - في بحر «التناص»؛ حيث لم تعد الفروق المقبولة بينها في السابق مهمة إلا فيما ندر، وينبغي النظر إليها إجمالا على أنها أشكال بلاغية متناثرة هزلية (تشبه إلى حد ما محاضرات دريدا نفسه، التي أصبحت عبارة عن حوارات ذاتية طويلة وحرة تفتقد التركيز والنظام). وأصبح ينظر إلى السعي من أجل إيجاد التأكيدات اللفظية على أنه تصرف رجعي في مضامينه، كالحال مع الإجماع الملفق حول النظام السياسي القائم.
صفحه نامشخص
المجاز
إن مصداقية هذه النظرة التي ترى النصوص أشكالا من التلاعب البلاغي (القابل للتفكيك) - بصرف النظر عن مدى صدق نيتها - تستمد دعما كبيرا من الأطروحة الموروثة من نيتشه ومن قراءة أعمال أفلاطون، التي تزعم أن ما يبدو حرفيا في ثنايا اللغة (بما فيها الأجزاء الأكثر «واقعية» من روايات جورج إليوت) هو في الحقيقة مجازي. من الممكن قراءة الفلسفة والتاريخ (وهما مجالان لم يعد أي منهما يتميز بكونه خطابا حرفيا أو صادقا) وكأنهما أعمال أدبية والعكس صحيح. لا حاجة لنا بعد الآن إلى الإيمان بما هو حرفي (باعتباره شكلا ما من أشكال اللغة يشير إلى الواقع على نحو لا التباس فيه)؛ لأن كل ما يمكن اعتباره حرفيا قد يتضح كونه مجازيا عند تحليله بدقة أكبر.
لاقت هذه النظرة إلى اللغة بوجه عام قبولا متناميا لدى الكثير من علماء اللغويات، لا سيما تحت قيادة جورج لاكوف ومارك جونسون المثيرة للجدل، فهما يقران بتأثير دريدا على رؤيتهما التي تقضي بخضوع اللغة اليومية بأكملها لتنظيم المجاز، حتى إنهما يميلان كذلك إلى الدفع بأن النظرة «الموضوعية» فلسفيا للعالم هي نظرة واهية. حاولت تلك الفرضيات اللغوية إظهار أن عمليات التفكير اليومية لدينا تعتمد في الواقع على أنظمة مفاهيمية متشابكة قائمة على المجازات، التي لا يمكن اختزالها بأي صورة من الصور إلى لغة «أكثر حرفية»؛ ومن ثم من غير المرجح للغاية أن تتوافق توافقا بسيطا أو منهجيا بعضها مع بعض.
كانت الآثار الأخلاقية والسياسية التي ترتبت على هذا النوع من التحليل هي ما أثارت اهتمام بعد الحداثيين بوجه عام؛ فقد أكد التفكيكيون على أن جميع أنظمة التفكير، بمجرد أن نعتبرها مجازية، تؤدي لا محالة إلى تناقضات أو مفارقات أو مآزق أو «حالات ارتباك» حسب تعبير دريدا (وهو مصطلح بلاغي يعني سؤالا ارتيابيا). يرجع ذلك إلى اعتقاد أتباع دريدا أن الخصائص المجازية داخل أي نظام لغوي ستضمن دوما فشل اللغة فعليا في التحكم في الموضوع الذي تدعي توضيحه (أو السيطرة عليه).
جذبت تلك المناقشات عددا ضخما للغاية من النقاد الأدبيين في السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن العشرين، وحتى الآن؛ إذ إن هذا النوع من التفكيكية يعكس استراتيجية طليعية، متشككة، كاشفة للتناقض، في وسعها تقويض أسس أي نص وهدمه وتعريته، وتجاوزه، و«عكس تأثيره». وعلاوة على ذلك، فإنها تعبر عن تضمينات سياسية مثيرة، بما أنها أظهرت تفوق «رؤية التفكيكيين الثاقبة» التي مكنتهم من إدراك «جهل» النص غير المتعمد بالتناقضات التي يرمز لها. إن تفكيك قصيدة أو نص أو حوار يعني إبراز تشكيكه (فعليا) بشأن الفلسفة التي (يبدو أنه) يؤكد عليها أو المتناقضات الهرمية التي يعتمد عليها صراحة. ويأتي تأثير التفكيكية الأقوى عندما تعكس التناقضات التي كشفت عنها بهذه الطريقة أهمية أخلاقية أو سياسية.
فيما يلي مثال تقريبي على إحدى المعالجات التفكيكية، استنادا إلى جزء من قصيدة كتبها الشاعر تنيسون في شبابه عن:
إيزابيل المبجلة، الملكة المتوجة،
زهرة الشجاعة الأنثوية العظيمة،
الزوجة الكاملة والمرأة الوديعة الصافية.
2
صفحه نامشخص
بقرار بديهي يصدر
من عقل بارع حاد الذكاء
تميز الخطأ من الجرم، وتملك حكمة الصمت؛
قوانين الزواج منقوشة بخيوط من ذهب
على صفحة قلبها الأبيض؛
حيث الحب ما زال يشتعل، مانحا الضوء
لقراءة تلك القوانين، بصوت خفيض جدا
تنساب كلماتها الناعمة مثل ضوء القمر الفضي،
وبنبرة هادئة تقدم المشورة وقت المحن،
تتسلل إلى العقل والقلب بخفة، دون لمحها،
صفحه نامشخص
وتحقق مرادها برقتها البالغة،
متجاوزة جميع تحصينات الكبرياء المتشكك؛
تملك شجاعة الصمود والطاعة،
تكره لغة النميمة وتكره التسلط،
إيزابيل المتوجة، لقد ظلت طوال حياتها الهادئة،
ملكة الزواج والزوجة كاملة الأوصاف.
إن الهدف من القصيدة هو المدح - باستخدام لغة دينية ممجوجة - لكن الموضوعات التي اختارها تنيسون لتعزيز تلك الاستراتيجيات قد تعتبر مستهجنة ضمن سياقنا التاريخي الحالي. فسيزعم التفكيكيون أن عدم ملاءمة تلك المواضيع لإدراكنا للواقع (أو بالأحرى عدم ملاءمتها مع عرف المجتمع وسياساته) تنبع من حقيقة أنها تعتمد فعليا على الخيال؛ أي على علاقة مضطربة بين الحرفي والمجازي في القصيدة. وإذا نظرنا بدقة إلى القصيدة، فسنجد أنها تكشف في ثناياها عن ارتباك حيال الميزات التي تروج لها؛ ومن ثم، سوف تنهار القصيدة.
إن الهيمنة المستهجنة بشدة، التي يفرضها الرجال على النساء (التي أصبحت مقبولة بالنسبة إلى الرجال على الأقل)، تتخفى تحت الادعاء بأن النساء في مقدروهن حقا «السيطرة» على الرجال، لكن بطرق مقبولة أخلاقيا فقط. تتمتع النساء بالفضيلة، بينما يتمتع الرجال بالقوة. لكن الفضيلة - ولا سيما النوع الغريب المنكر للذات الذي يمتدحه تنيسون - ليست قوة على الإطلاق؛ فهي مسموح بظهورها في سياق مجازي فحسب (لا في سياق واقعي فعلي، مثل الزواج) حيث النساء مغلوبات على أمرهن، ومن هنا يأتي الاقتران غير الملائم بين «الزوجة الكاملة والمرأة الوديعة الصافية». وعلاوة على ذلك، لا تستطيع إيزابيل استخدام ذكائها إلا «بديهيا»، عند التفريق بين الخطأ والجرم (مما يدعم التناقض القديم الذي يزعم أن النساء يعتمدن على الحدس بينما يعتمد الرجال على العقل). أما إذا خذلها حدسها، فإنها تحمل معها «وصايا الزواج» التي تشبه وصايا النبي موسى لتكون بمنزلة مفكرة تذكرها بمهامها، وهي فوق ذلك «منقوشة» على «صفحة قلبها الأبيض» النقية والفارغة. فحتى قلبها أبيض اللون فارغ بلا دماء، إنها بالفعل «صفحة بيضاء» صالحة لإسقاط الخيالات الذكورية. وحتى الحب الذي تشعر به تقتصر مهمته على توليد «الضوء لقراءة تلك القوانين». أما أسلحتها الوحيدة لمواجهة «الحزن»، فهي الدماثة والشجاعة التي تخفف الطاعة من حدتها إلى حد كبير. لا تسعى إيزابيل إلى «التسلط» لكنها في الوقت نفسه أشبه بإلهة؛ إذ لا ضرر من نوع من العبادة لا يتحدى الاختلافات الجنسية تحديا مباشرا. لدواعي المفارقة، تضع قصيدة تنيسون إيزابيل في مرتبة أدنى بينما تكيل لها المديح؛ مما يساهم في تفكيكها.
عندما تزعم التفكيكية أن اللغة قد تؤدي إلى تضليلنا على هذا النحو، وأن «الواقع» لا يمكن أبدا ترويضه تماما أو على نحو مقنع، فإنها ترفض قبول احتمالية وجود أي «واقعية» تدعمها أدلة في النصوص التي تهاجمها. ذلك الهجوم على الواقعية يلعب - دون ريب - دورا محوريا في جميع أشكال النشاط ما بعد الحداثي. لكن عندما ترفض ما بعد الحداثة الاندماج في أي نظام قائم، أو تقديم أي توضيح لواحد من تلك النظم إلا عبر أسلوب مراوغ أو هزلي، فإن عليها كذلك إنكار إمكانية اقتراح نظام خاص بها، دون أن تتنكر لفرضياتها الرئيسية. من هنا، ينبع الاتهام الذي كثيرا ما يوجه إلى أتباع ما بعد الحداثة التفكيكيين، الذي يزعم أنهم مجرد متشككين عاجزين عن اتباع أي التزامات سياسية أو أخلاقية. وغالبا ما يورط التفكيكيون أنفسهم - حسب افتراضاتهم - في حالة دائمة من نكص الصفات؛ إذ تبدو الكثير من الأعمال النقدية التفكيكية الآن (مثل كتاب «الناقوس» لجيوفري هارتمان، وكثير من أعمال بول دو مان وهيليس ميلر) منغمسة داخل ذاتها ومنشغلة بها، ولا تلتزم في النهاية بأي مفاهيم ذات أهمية.
إن تلك الأمثلة الأقوى حجة على التفسير التفكيكي تبرز فعليا وعلى نحو تلقائي هذا النكوص الهزلي الذي يهدف إلى دعم أطروحة لم تتعرض للنقد، على الأقل في الوقت الحالي. لن يستطيع التفكيكيون المخلصون الهرب أبدا من الاتهام الذي يزعم أن عملهم على أحسن تقدير شكل من النقد البراجماتي لمعتقداتنا، وأنه في النهاية لا يخرج عن نفس الاتجاه الفلسفي القديم الذي يلفت الانتباه، لا إلى حقيقة أن المرء إذا ناقض نفسه فإنه لم يقل شيئا ذا معنى (فذلك بالنسبة إلى التفكيكيين زعم مرتبط أكثر من اللازم بمنطق واقعي تقليدي ينطق بالحقيقة)، بل إلى أن المرء إذا ناقض نفسه، فإنه يفتح الباب أمام شتى أنواع سبل الاستقصاء المثيرة للاهتمام. وفي نهاية المطاف - حسب رؤيتهم - سنفعل كلنا حتما نفس الشيء، ورد الفعل الوحيد المحتمل على ذلك هو أن نقوم بحركة أخرى في اللعبة، لا أن نستبعد بجرأة شديدة بعض الحركات باعتبارها غير شرعية ليس إلا. إن التفكيكية التقليدية ليست نظرية قابلة للاختبار أكثر من كونها «مشروعا» مستمرا.
صفحه نامشخص
الشكوكية والأيديولوجية
إن التفكيكية - على قدر تعمقها الأكاديمي وانشغالها بذاتها في معظم الأحيان - دعمت توجها عاما نحو المبادئ النسبية في ثقافة ما بعد الحداثة؛ إذ تركت أتباع ما بعد الحداثة غير مهتمين إلى حد كبير بالتأكيد والإثبات التجريبي في العلوم. وغالبا ما اعتبروا ذلك منهجا ملوثا جراء ارتباطه بالتحالف الصناعي العسكري وباستخدام العقلانية التكنولوجية الجامدة من أجل تحقيق السيطرة الاجتماعية ... إلى آخره. ويبدو كذلك أن أتباع ليوتار ودريدا نزعوا إلى الإيمان ب «القصص» بدلا من النظريات القابلة للاختبار. إن أتباع ما بعد الحداثة - بعدما تخلوا عن إيمانهم بكل من الفلسفة والتاريخ والعلم التقليدي («الواقعي») تحت تأثير الفكر الفرنسي - تحولوا أكثر فأكثر إلى واضعي نظريات تفسر آليات العمل (الخادعة) داخل «الثقافة»؛ ومن ثم فإن معظم الأمثلة التي أعرضها هنا على تطبيق الأفكار السياسية والفلسفية لما بعد الحداثة مستقاة من الفنون.
ينظر فكر ما بعد الحداثة إلى الثقافة باعتبارها تضم عددا من القصص المتنافسة على الدوام، التي لا يعتمد تأثيرها على مخاطبتها لمعيار حكم مستقل، بل على مخاطبتها للمجتمعات التي تدور بها، مثل الإشاعات في أيرلندا الشمالية. توضح شيلا بن حبيب أنه من منظور أتباع ليوتار:
انتهى عهد الضمانات الغيبية للحقيقة، فلا مكان لقابلية القياس وسط الصراع الأليم بين ألاعيب اللغة، ولا لمعايير تحدد حقيقة تتجاوز النقاشات المحلية، بل لا يوجد سوى الصراع اللانهائي بين ادعاءات محلية تتنافس فيما بينها على حيازة الشرعية.
شيلا بن حبيب، «تحديد موضع الذات»، (1992)
من ثم، تنغمس ما بعد الحداثة في نظرية معرفية انتقادية إلى حد بعيد، تعادي أي مذهب سياسي أو فلسفي شامل، وتعارض بشدة تلك «الأيديولوجيات المهيمنة» التي تساعد في الحفاظ على الوضع القائم.
رغم ذلك، دمج الكثير من أتباع ما بعد الحداثة أسلوب دريدا النقدي ضمن أيديولوجية هدامة ذات إطار بناء؛ إذ رأوا أن إبراز إخلاص بعض الأفراد غير المتعمد لموقف متناقض (مثل موقف تنيسون) يشبه إلى حد كبير ما انشغل به ماركس وفرويد؛ إذ ادعى ماركس أن العمال يعيشون في حالة من «الوعي الزائف»، فهم يقبلون النظرية البرجوازية التي تزعم أنهم يقدمون جهدهم «طوعا» إلى السوق كأفراد مستقلين، لكنهم في الحقيقة أسرى نظم محددة اقتصاديا تعادي طبقتهم. كان المنظرون الماركسيون في تلك الحقبة يعرفون ذلك يقينا (بعيدا تماما عن مصطلحات فلسفة دريدا) باسم «علاقات القوة الحقيقية». وبالمثل، قد يزعم أتباع المدرسة الفرويدية أن الصراع بين الأنا العليا (التي تلتزم بالمعتقدات المقبولة اجتماعيا) ورغبات اللاوعي السرية أو المكبوتة (حيال التعبير الجنسي على سبيل المثال) سيؤدي حتما إلى تناقضات داخلية، يمكن قراءتها من منظور دريدا. وهكذا، لدواعي المفارقة، ربط العديد من أتباع ما بعد الحداثة أنفسهم بأيديولوجيتين محل جدل شديد وذواتي طبيعة شمولية لا محالة، من القرن التاسع عشر، في خضم تركيزهم على مفهوم التناقض الخفي.
بالطبع، يمكننا إبراز تلك التناقضات الداخلية الهادمة للأيديولوجية دون أن نزعم في الوقت نفسه أن لدينا حلا بديلا وشاملا لمشكلات المجتمع. وفي وسع المرء تحليل المتناقضات كي يشير إلى وجود توتر اجتماعي دون أن يطرح ضمنيا حلا ماركسيا أو فرويديا عاما؛ وذلك عبر دعم الأطروحة التي عرضناها آنفا، التي تزعم أننا حال نظرنا إلى جميع الأنظمة اللغوية سنجدها تحتوي على تناقضات؛ لأنها في الأساس أنظمة مجازية. وكما هو متوقع، أعجب النقاد الأدبيون والثقافيون بهذا الجانب من حركة ما بعد الحداثة أيما إعجاب؛ إذ في وسعهم الانكباب على دراسة أي نوع من المواد، وليس فقط تلك النصوص - ولا سيما القصائد، أو الحقب التاريخية، مثل الحقبة الرومانسية - التي تتجلي تناقضاتها للعيان. وكان من السهل تطبيق الأساليب التفكيكية في الفلسفة على المناهج الهادمة للمجاز والملاحقة للتناقضات في النظرية الأدبية، التي غالبا ما يعطي لها أولئك النقاد أهمية زائفة ومدعاة؛ ففي أعمال دو مان وهيليس ميلير وغيرهما من أتباع دريدا المتمركزين في جامعة ييل، نجد اهتماما كبيرا ومفعما بالحيوية ب «فن الجدال» المحبط للذات في الأعمال الأدبية وغيرها من الأعمال، ولا سيما عبر تحليل مجازاتها الخفية، على النحو الموضح أعلاه؛ ومن ثم، كان ينظر إلى الأعمال الأدبية على أنها تعاني عجزا حتميا نابعا من المعاني الضمنية المتناقضة داخل المجاز؛ مما أسفر عن أهم ما في الموضوع؛ وهو تجريدها من أي علاقة جادة بالتاريخ ومن أي مزاعم مؤكدة حول قضايا الحقيقة التجريبية. وبهذه الطريقة، أدت الفلسفة الكامنة خلف التفكيكية إلى توسع هائل في الاهتمام بالنظرية الأدبية، التي أضحت قضاياها تهيمن على مدارس كاملة في النقد الأدبي.
إن أفضل دفاع تجاه هذا النوع من النقد ، وأفضل طريقة لإبراز كون المرء مطلعا على آخر المستجدات ومنها هذا الاتجاه - سواء عند كتابة الفلسفة أو وضع النظريات، أو الإبداع الفني - هي أن تتمتع بالتأكيد بقدر كبير من الوعي الذاتي فيما يتعلق بموقفك، وأن تجمع المتطلبات المناسبة المرتبطة به. إن هذا «الانعكاس» الواعي بالذات - الذي كان أحد أعراضه اللجوء المتكرر إلى اللغة الاصطلاحية - كان البعض يعتبره الخاصية المميزة للفلسفة في ظل وضع ما بعد الحداثة. وهكذا، نلاحظ في كم كبير من أعمال ما بعد الحداثة نقدا ذاتيا أو نكوصا انعكاسيا مكتوبا بالحرف في ثنايا «النص». وهو ما يتضح في أفلام جودار، التي تعتبر وفقا للمنظر الماركسي فريدريك جيمسون:
أفلاما ما بعد حداثية صميمة، من حيث تصورها لذاتها باعتبارها نصا خالصا، أو عملية إنتاج صور غير ذات محتوى حقيقي، وهي - من هذا المنظور - شكل خارجي محض أو سطحية مجردة. إن هذه القناعة هي التي تفسر الانعكاس المميز لأفلام جودار، وتصميمها على استخدام الصور استخداما معاديا لذاتها كي تدمر الوضع الملزم أو الثابت لأي تصور.
صفحه نامشخص
فريدريك جيمسون، كما استشهد به هانز بيرتينز في كتابه «فكرة ما بعد الحداثة»، (1994)
إن هذا الإدراك ما بعد الحداثي ل «العمل الفني كنص» - وإن كان فيلما أو لوحة أو عرض أزياء - يعتبر أي إنتاج ثقافي بارز متصلا بجميع الاستخدامات الأخرى للغة الطبيعية؛ ومن ثم تجنب أي تفضيل «جمالي» للعمل الفني المستقل وتنظيمه المتكامل؛ إذ كان يعتبر ذلك أحد الأخطاء الحداثية النموذجية. وزعم في سياق بديل أن العمل الفني تجمعه صلة بجميع النصوص الأخرى؛ لذا، فرضت تفكيكية ما بعد الحداثة تطابقا جديدا بين الخطاب الفلسفي (وهو مجال اختصاصي للغاية، يعود مرة تلو الأخرى إلى نفس المشكلات، ويقتلع جذور التناقض) وخطاب العمل الفني، وبالتأكيد جميع الخطابات الأخرى داخل المجتمع.
بالنظر إلى القيود القاسية المفروضة على احتمالية بلوغ الوحدة المميزة للحجة المتماسكة، والشك الكبير الذي تصاعد حيال ما يمكن اعتباره اعتمادا خفيا لدى أي عمل أو نص على النصوص السابقة له، أصبح من المعتقد أن أي نص - بدءا من الفلسفة وحتى الصحف - يتضمن تكرارا استحواذيا أو «تناصا». وكما هو الحال في الفلسفة - التي طالما انشغلت منذ عصر أفلاطون بنفس المشكلات القديمة - ستعيد الرواية حتما إنتاج نفس المواقف والأفكار السابقة وأساليب الوصف التقليدية إلى آخره، فليست رواية جويس «يوليسيس» - باعتبارها عملا حداثيا غير مباشر عن قصد - هي الرواية الوحيدة التي استطاعت تحقيق هذا؛ فحسب تعبير إمبرتو إيكو - وهو منظر ما بعد حداثي بارز - في روايته ما بعد الحداثية «اسم الوردة» التي حققت رواجا مذهلا: «تتحدث الكتب دوما عن كتب أخرى، وكل قصة تحكي قصة رويت بالفعل.» تفرغ هذه الرؤية في نهاية المطاف إلى نوع من المثالية النصية؛ لأن جميع النصوص ينظر إليها باعتبارها تشير على الدوام إلى نصوص أخرى، «عوضا عن الإشارة إلى أي واقع خارجي.» ولن يستطيع أي نص في النهاية أن يثبت على الإطلاق أي شيء عن العالم خارجه، ولن يصل أبدا إلى نقطة سكون، بل يكتفي فقط - حسب مصطلح دريدا - بنشر تنويعات مستندة على أفكار أو مفاهيم قائمة بالفعل.
إعادة كتابة التاريخ
كما أكدت سابقا، أسفر هذا الحراك كله عن زج الواقعية بجميع أنواعها في قفص الاتهام؛ فمحاولة تقديم أي شكل من أشكال الواقعية كانت تئول في النهاية إلى خطأ فلسفي؛ ومن ثم تصبح محاولة كتابة التاريخ من وجهة النظر التجريبية أو الوضعية المهيمنة حتى الآن محكوما عليها بالفشل. ومن جديد، يميل فكر ما بعد الحداثة - عبر تحليل كل شيء باعتباره نصا وبلاغة - إلى دفع المجالات الفكرية التي ما زالت مستقلة حتى الآن نحو الأدب، فالتاريخ ليس سوى سرد آخر، لا تتميز تراكيبه النموذجية عن التراكيب الروائية، ويرزح تحت أسر أساطيره ومجازاته وقوالبه النمطية الخاصة غير المحققة (التي غالبا ما تستخدم بلا وعي). أما مصادره - مهما بدت حيادية أو قائمة على أدلة - فليست في النهاية سوى سلسة أخرى مترابطة من النصوص القابلة للتفسير بعدة طرق، وحتى تفسيراته السببية في وسعنا إثبات كونها مستقاة من حبكات خيالية معروفة، تكررها تلك التفسيرات بالتبعية.
إن وجهة النظر هذه حول كتابة التاريخ هي أحد الاختبارات الأساسية التي تواجه فكر ما بعد الحداثة؛ نظرا لتأثيرها على جميع أجزاء ثقافتنا. فإذا فشل التاريخ بدوره - تحت مجهر ما بعد الحداثة - في تجسيد المعايير «الوضعية» أو «الواقعية» المهيمنة في السابق أثناء كتابته؛ فإن الأدب - الأكثر ابتعادا عن التاريخ - لن يستطيع بدوره طرح أي مزاعم واقعية قوية. إن الادعاء ما بعد الحداثي الأساسي هنا يدفع بأن مفهوم إعادة التشكيل «الموضوعي» وفقا للأدلة ليس سوى خرافة؛ إذ لا يستطيع المؤرخون إخبارنا ببساطة عن الأحوال الماضية، أو الحالية؛ إذ إنه - على حد قول آلان مانزلو - «ينبع المعنى بأسره من ممارسات متنقلة - أسسها المجتمع وحدد معناها - ذات تأثير كبير على الواقع يمكنها بالفعل من غلق أي سبيل مباشر إلى معرفته.» ومن ثم، يصبح التاريخ في الأصل مجرد حكاية أخرى تحظى بقبول اجتماعي نسبي، وتنافس من أجل حيازة انتباهنا وموافقتنا، ومجرد طريقة أخرى لوصف الأحداث، يعتمد بقاؤها من عدمه على عملية من النقاش والجدل. وعلاوة على ذلك، فإن بنى التاريخ وتفسيراته السببية المفصلة جمعت في الأساس على نحو يشبه القصص الروائية. يوضح هايدن وايت ذلك قائلا:
إن الادعاءات التاريخية ... هي روايات شفهية، تضم محتويات مختلقة بقدر ما هي مكتشفة، ولدى صياغاتها قواسم مشتركة مع نظيراتها في الأدب أكثر مما بينها وبين نظيراتها في العلوم.
هايدن وايت، «النص التاريخي كنتاج أدبي» من كتاب «مدارات الخطاب»، (1978)
تحكي جميع كتب التاريخ قصة، قد يؤدي أبسط ما بها من أدلة أو حقائق - مثل القول بأن «نابليون كان قصيرا» أو أن «أنف كليوباترا كان جميلا وذا طول مثالي» - إلى تفسيرات لا نهائية محل خلاف بطبيعتها، وتشكل بدورها مزاعم تدعي الحقيقة مثل: «ومن ثم، كان نابليون يعوض عن قصره بالعدوانية، وكانت لكليوباترا جاذبية لا تقاوم!» وستحتل تلك الأحكام بدورها مكانا في ادعاءات تقليدية أكبر، غالبا ما تفسر فيها انتصارات نابليون - على سبيل المثال - باعتبارها تجليات لشخصيته لا للظروف الاقتصادية الكامنة وراء الأحداث، أو تصبح جاذبية كليوباترا الجنسية المذهلة هي الدافع وراء هروب أنطونيو من معركة أكتيوم ، كما اعتقد شكسبير على ما يبدو مقتديا ببلوتارخ. لا يهم هنا إن كان راوي القصة مؤرخا عظيما أو ويليام شكسبير، فكلاهما يركزان على شكل أو نوع سردي عند إخبارنا بقصتهما، سيستعيرانه من تقاليد رواية القصة المتاحة في ذلك الوقت. تعرض بعض كتب التاريخ المتأثرة بأفكار ما بعد الحداثة - مثل كتاب سيمون شاما «المواطنون: تاريخ الثورة الفرنسية»، (1989) وكتاب أورلاندو فيجيز «مأساة شعب: الثورة الروسية 1891-1921»، (1996) - هذه الوظيفة السردية عرضا واضحا تماما؛ فنحن نتبع إحدى القصص، لكن ليس بوسع أي مؤرخ كان زعم أن هذه القصة هي «القصة الوحيدة»، حتى وإن كان ذلك ما يهدف إليه. وبصرف النظر عن أي عامل آخر، فإن العلاقة بين «المختلق» أو «المجمع» وبين «المكتشف» أو «الظاهر» ستظل دوما محل خلاف وخاضعة للتفسير. ينطبق هذا قطعا على الحالات المعقدة التي تثير لدينا أكبر قدر من الاهتمام، فالادعاءات البسيطة للغاية - التي توضح أن العلاقة بين الواقع والقصة المسرودة قد «لا تقبل الجدل» في بعض الأحيان - لن تساعدنا كثيرا في تطوير فهمنا للممارسات الثقافية التي تحكم كتابة نوع التاريخ ذي الأهمية في هذا العالم، كالذي يدعم فهمنا لعلاقة الكتابة التاريخية الأمريكية بالمعتقدات السائدة حول الحرب الباردة، أو بتاريخ الخلاف والمعارضة لدى اليسار، أو بما إذا كان آل روزنبرج مذنبين، أو بما أدى إلى إطلاق الرصاص على كينيدي في تكساس. وقد أسهب المؤرخون النسويون في توضيح الانتقاء الثقافي (من هذا المنظور) الملحوظ لدى معظم الروايات التاريخية.
وعلاوة على ذلك - وعلى أبسط المستويات - سيستخدم الروائي والمؤرخ لغة تعج بالمجازات أو الاستعارات، التي ستبين لنا كذلك مدى بعد التاريخ عن الاهتمام بالحقائق الحرفية المجردة. إن القضية هنا لا تقتصر على العلاقات السببية داخل الحبكة التاريخية فحسب، بل تمتد لتشمل جميع المسارات التقليدية وغير التقليدية نسبيا في اللغة التي ورثناها.
صفحه نامشخص
وانطلاقا من هذه النقطة - حسب رؤية ما بعد الحداثة - من المتوقع أن تلقى بعض خصائص التاريخ الأخرى مصيرا مماثلا؛ فبالتأكيد إذا كانت احتمالية وجود تاريخ واقعي في حد ذاتها احتمالية مرفوضة، وإذا كانت الحقائق ستعتبر على الدوام مجرد أمور تربطها علاقة نسبية مع المسلمات النظرية التي تشكلها والتفسيرات التي تطرح بناء عليها، وإذا كانت الأدلة سينظر لها دوما في إطار علاقتها بعملية بناء السياق المناسب لها، فحتى التناول الشديد الجدية للأدلة التاريخية أو «المصادر الأولية» الذي يبدو بعيدا عن السرد سيحمل حتما مسلمات سردية؛ ومن ثم، سيتخذ التاريخ في الأساس شكلا أسطوريا يكشف عن ذاته متجليا في الأدب ويقدم البنية المفاهيمية الأساسية للتاريخ. وإذا سلمنا بأن استخدام تلك البنى التأويلية الأساسية أمرا حتميا، فإن نسبية ما بعد الحداثة تصبح هي القاعدة؛ إذ من الواضح أن تلك البنى المتبارية المستقاة من الأسطورة ينافس بعضها بعضا. وإذا أنكرنا وجود طريق مباشر لمعرفة الماضي، فإننا لا نملك سوى قصص متنافسة، أضفى عليها المؤرخون ترابطا منطقيا بطرق مختلفة؛ ومن ثم يصير الماضي ليس أكثر مما يحاول المؤرخون - الذين نعتمد عليهم لأسباب ثقافية متنوعة - زعمه. وعلاوة على ذلك - وفقا للكثير من أتباع ما بعد الحداثة - فإن البنى السردية التي يفضلها المؤرخون ستحمل حتما تضمينات أيديولوجية أو فلسفية قد تثير استهجانا؛ كأن تعكس مثلا اعتقادا برجوازيا مستحدثا للغاية بأهمية العامل البشري المستقل عوضا عن النظم الاقتصادية الكامنة، كما يتضح في الأمثلة التي استشهدنا بها سابقا.
لكن ماذا إذن عن تمييزنا لما هو حقيقي، وموثوق به، وتحتمل صحته عندما نقرأ التاريخ؟ حتى أتباع الفلسفة التجديدية المنتمين انتماء واعيا إلى الفكر ما بعد الحداثي يحاولون مساعدتنا في تشكيل معتقدات «أفضل» حيال ما يظنون أنه حدث بالفعل. ويوجد بالفعل ما قد نطلق عليه بوجه عام سردا يقدم وصفا ملائما، كذلك من الممكن تحقيق قدر كبير من التوافق بين اللغة والواقع؛ فلا أحد تقريبا يؤيد طمس ما يسلم بكونه دليلا، وفي الواقع، ليس للمؤرخين مطلق الحرية في اختلاق الأشياء، وهو ما أثبته الجدل المثار حول «منكري الهولوكوست». ولكن، لا يتمتع الروائيون الواقعيون بدورهم عندئذ بحرية كبيرة في اختلاق الحوادث، فلا بد لهم من معرفة الكثير مما يعرفه المؤرخ، وأكثر من ذلك. إن نسبية ما بعد الحداثة لا تعني بالضرورة أن «كل شيء مسموح به»، أو أن الأدب والروايات المبنية على أشخاص وأحداث تاريخية لا تختلف عن التاريخ. لكن ما تقصده حقا هو تنبيهنا إلى أن نراعي قدرا أكبر من الوعي المتشكك ونتخذ موقفا أكثر نسبية - وأكثر يقظة - تجاه الافتراضات النظرية التي تدعم الادعاءات التي يطرحها جميع المؤرخين، سواء كانوا يعتبرون أنفسهم تجريبيين أم تفكيكيين أم «تاريخيين جدد ينتمون إلى ما بعد الحداثة».
ينطبق ذلك بالقدر نفسه على مؤرخي ما بعد الحداثة مثلما ينطبق على المؤرخين التقليديين؛ على سبيل المثال (كما ورد في كتاب ريتشارد إيفانز «دفاع عن التاريخ»، انظر مراجع الكتاب)، عندما هاجمت ديان بوركيس وصف كيث توماس للساحرات باعتبارهن في أغلب الأحيان نساء متسولات لا حول لهن ولا قوة، زعمت أنه يكرر ببساطة «أسطورة تمكين»؛ حيث «تستند هوية الرجال التاريخية إلى انعدام حيلة النساء وصمتهن.» رد ريتشارد إيفانز - داعما توماس - عليها زاعما أن «النساء الفقيرات العجزة غير المتزوجات اتهمن غالبا بممارسة السحر؛ لأنهن - على العكس تماما من التزام الصمت - كن يلعن أولئك الرجال الذين رفضوا إعطاءهن الصدقات.» يبدو هنا وكأن مزاعم توماس التجريبية تصادمت ببساطة مع قاعدة السرد التاريخي المحورية المنافسة التي تتبناها بوركيس، والتي تقضي بوجوب استخدام السرد التاريخي من أجل دعم المفاهيم الحديثة حول تمكين المرأة.
إن تطابقا دقيقا بين السرد وبين «الماضي» أمر مستحيل؛ إذ يمكننا وصف «نفس» الحدث بطرق كثيرة ومختلفة، فضلا عن أن مدخلنا إلى الأدلة دائما ما يكون عبر وسيط، ولا يوجد شيء واضح ببساطة؛ فلطالما وجدت أجزاء مفقودة وفجوات وتحيزات ينبغي التعامل معها. مع ذلك، ما زال بإمكان الادعاءات التوافق مع الأدلة «المفسرة»، وما زال في وسع الأدلة الجديدة إسقاط تلك الادعاءات. وعلاوة على ذلك، لا تلائم جميع أشكال السرد الأدبي الأحداث والحقب التاريخية بنفس الدرجة؛ فكما يوضح مانزلو، لن تحظى انتفاضة جيتو وارسو التي وقعت عام 1944 بسرد ملائم - ومن ثم بتفسير جيد - إذا اعتبرت رواية غرامية أو مسرحية هزلية أو تراجيدية. إن أفضل ما نستطيع تحقيقه هو النقاش حول طبيعة الأحداث السابقة ومعناها، ويزعم ما بعد الحداثيين (وآخرون كثر) أنه ينبغي إبقاء هذا النقاش صريحا ودقيقا قدر الإمكان؛ فالعاقبة المترتبة على عدم مراعاة الانتباه هي احتمال ظهور «رواية رسمية» تتحول إلى الرواية الحقيقية والنهائية حول الماضي في أعيننا؛ ومن ثم، قد تتمكن كذلك من تكوين جزء من «أيديولوجية مهيمنة» غير عادلة - نظرا لتشوهها الواضح - داخل المجتمع المتلقي لها، كما حدث على ما يبدو لكل من الطرفين الأمريكي والسوفييتي أثناء فترة الحرب الباردة. في هذا الإطار، لا يختلف المؤرخون التفكيكيون عن بقية المؤرخين إلا في الميل إلى إبداء القلق علنا حيال صعوبات وظيفتهم، أثناء الكتابة.
الهجوم على العلم
عبر أتباع ما بعد الحداثة عن أشد مواقفهم السياسية تطرفا (وأكثر الإشكاليات المرتبطة بهم وضوحا) عندما هاجموا مزاعم العلم الموضوعية؛ فمن الواضح أن العلماء يعتبرون أنفسهم مشاركين في وضع نظرية موحدة أو «حكاية كبرى» حول الموضوع الذي يدرسونه، ويعتقدون أنهم يحاولون إكمال صورة تصف ما يحدث حقا «في الواقع» (رغم أن هذه الصيغة تعتمد أيضا على نموذج مجازي مضلل على نحو واضح). فهل يمكننا التقاط «صورة» لثقب أسود أو المسافة النونية الرباعية الأبعاد؟
وهكذا أصبحت مزاعم العلم موضع شك. لكن من يقدر الآن حقا على إنكار «الادعاء الكبير» للتطور، باستثناء من يرزحون تحت سيطرة ادعاء رئيسي أقل معقولية بمراحل مثل نظرية الخلق؟ ومن يرغب في إنكار صحة مبادئ الفيزياء الأساسية؟ الإجابة هي «عدد من أتباع ما بعد الحداثة»، بناء على أسباب سياسية من بينها أن منطق التفكير العلمي الهرمي بطبيعته منطق خاضع مرفوض. فلننظر - على سبيل المثال - إلى الادعاء (العبثي) الذي طرحه برونو لاتور حول كون نظرية النسبية لأينشتاين «إسهاما في علم اجتماع التفويض» بما أنها تتضمن تخيل كاتب البحث العلمي - أي أينشتاين - أنه أرسل مراقبين لتسجيل قياسات موقوتة للأحداث، التي تعرضها النظرية بعد ذلك باعتبارها ترتبط فيما بينها بعلاقة نسبية؛ إذ يرى لاتور على ما يبدو أن في وسع المفاهيم الاجتماعية شرح القواعد العلمية الأساسية.
إن العلماء - حسبما يعتقد معظمنا - هم العالمون حقا بحقيقة الأشياء؛ فهم من يكشفون طبيعة الطبيعة، ومعرفتهم بالقوانين السببية تمكننا من التوصل إلى اختراعات تحدث فارقا، مثل الرقاقات الإلكترونية الفائقة الصغر، فضلا عن أن قواعدهم المعيارية فيما يتعلق بالأدلة والتدقيق والإجماع العام - التي تتحكم في النهاية في النماذج أو الأطر المفاهيمية التي يستعينون بها في عملهم - هي (أو ينبغي أن تكون) أفضل ما نعرفه (أفضل بكثير - على سبيل المثال - من تلك المعايير السائدة بين علماء الاقتصاد). تلك باختصار هي معايير الحصول على جائزة نوبل.
لكن من أتباع ما بعد الحداثة لا يعجبهم هذا المشهد؛ فقد هاجموا المزاعم الرئيسية التي يطرحها العلماء عادة حول: (1)
قدرتهم على تقديم وصف وتحليل موضوعي وصادق - ومن ثم صالح للتطبيق الشامل - للواقع الفيزيائي المحيط بنا. (2)
صفحه نامشخص
اعتبارهم أن التحقيق العلمي الذي يقومون به مسعى نزيه لاكتشاف حقائق حول عالم الواقع، يمكن تطبيقها تطبيقا عالميا؛ أي إنها صحيحة في كل مكان، ومستقلة تماما عن أي قيود ثقافية محلية، ومستقلة على وجه التحديد عن أي من الدوافع الأيديولوجية أو الأخلاقية الخفية نوعا ما، التي ربما أوحت إليهم باكتشافاتهم.
يرى أتباع ما بعد الحداثة - النسبيين إلى حد كبير - أن العلماء لا يسعهم التمتع بتلك الامتيازات؛ فهم لا يروجون إلا ل «قصة واحدة بين قصص كثيرة»، فضلا عن أن حججهم لا يمكن الاستدلال عليها؛ فهم لا «يكتشفون» طبيعة الواقع بقدر ما «يصوغونها»؛ ومن ثم فإن عملهم معرض لشتى أنواع التحيزات والمجازات الخفية التي شهدنا كيف كشف عنها التحليل ما بعد الحداثي في الفلسفة واللغة العادية المألوفة. كذلك ينبغي ألا تكتفي الأسئلة الرئيسية المطروحة حول العلم بالتركيز على مزاعمه المبالغ فيها (والمتمركزة حول اللغة) بامتلاك الحقيقة، بل ينبغي أن تركز أيضا على الأسئلة السياسية التي تثيرها مكانته وتطبيقه المؤسسي، اللذان تشكلهما المخططات الأيديولوجية لدى النخب المهيمنة. تعكس هذه الرؤية صورة متطرفة من النسبية التي واجهناها من قبل؛ إذ إن الهجوم على العلم لا ينصب فقط على التفسيرات الفلسفية للعالم - التي طالما ظلت محل نزاع - بل يشمل كذلك التحليلات المثبتة تجريبيا حول طبيعة العالم (سواء في مجال الطب وتطوير الكمبيوتر أو في علم الطيران وصناعة القنابل) التي نجحت في إثبات «صحتها» على ما يبدو.
سنحتاج عند دراسة هذا الهجوم ما بعد الحداثي إلى مراعاة الفصل قدر الإمكان بين القضية المعرفية والقضية الأيديولوجية لدواعي الوضوح. وبالطبع، فإن النقطة التي يرغب من أتباع ما بعد الحداثة التفكيكيون وأتباعهم في إثباتها هي أن هاتين القضيتين - من منظورهم - لا يمكن الفصل بينهما على الإطلاق. لكني أرفض ببساطة افتراض كونهم على حق؛ فمن الواضح تماما وقطعا أن «دوافع» الاكتشاف العلمي وعواقبه عرضة للنقد السياسي والأخلاقي، وهو أمر ليس بجديد، فالكثير ممن عملوا في مشروع صنع القنبلة الذرية - لا سيما روبرت أوبنهايمر - كانوا يدركون ذلك تمام الإدراك. أما ميكانيكا الكم والهندسة الوراثية ومعلوماتنا العلمية حول المناخ العالمي، فتربطها بالتأكيد علاقات مختلفة إلى حد مثير للاهتمام مع تمويل الأهداف العسكرية والسياسية الغربية ومساعي تحقيقها. لكننا نستطيع قبول تلك الأحكام السياقية دون أن نزعم بناء عليها فشل أنشطة العلماء الرئيسية، بطريقة أو أخرى، في الوصول إلى أكثر طريقة مضمونة في وسعنا استخدامها لتحليل الطبيعة. يوجد قطعا شيء عجيب للغاية في الاعتقاد بأن أنشطة العلماء أثناء البحث - على سبيل المثال - عن قوانين سببية أو نظرية موحدة، أو عند التساؤل عما إذا كانت الذرات تذعن حقا لقوانين ميكانيكا الكم؛ هي بطريقة ما أنشطة «برجوازية بطبيعتها»، أو «ذات توجه أوروبي»، أو «ذكورية»، أو حتى «مشبعة بالروح العسكرية».
يرجع هذا - على الأقل جزئيا - إلى أن حقائق العلم تبدو في واقع الأمر حقائق قاطعة لدى الاشتراكيين، والأفريقيين، والنسويين، والعلماء دعاة السلام على حد سواء (رغم أن بعض الأفراد في تلك الفئات ينكرون ذلك)، على عكس حقائق السياسة أو الدين؛ إذ لا يقبل العلماء التجريبيون سوى الحقائق التي تتسم بإمكانية التطبيق الشامل، مثل أن الأسبرين يجدي في جميع الحالات، فتلك إحدى الحقائق التي لا يقبلون النظر إليها من منظور نسبي (سياسيا أو ثقافيا). وعلى الرغم من أن في وسع أي عالم ذكر حالات أدى فيها الضغط السياسي إلى أبحاث علمية عديمة الفائدة (مثلما حدث عندما فرض الاتحاد السوفييتي وجهة نظره الرسمية في علم وراثة النباتات، والتي عرفت باسم الليسينكووية)، وأخرى مفيدة (كما حدث في أثناء دراسة مرض الإيدز)؛ فإن نتائج تلك الأبحاث ستظل على المدى الطويل محصورة ضمن جماعة العلماء فحسب إذا التزموا بالاختبارات المعتادة، المنفصلة عن أي سياق سياسي.
يقوض أستاذا الفيزياء، آلان سوكال وجان بريكمو، مزاعم نقاد علم ما بعد الحداثة؛ حيث يشيرون إلى أنهم غالبا ما يبدون فشلا ذريعا في فهم مزاعم العلم التجريبية وطرق تطبيق المصطلحات النظرية الرئيسية، وكثيرا ما يستبدلونها - عندما يطبقون أنماط الفكر العلمية على العالم السياسي - بعدد كبير من المجازات المضللة والغامضة والمتحيزة. يترتب على ذلك - حسب كلمات سوكال وبريكمو - «غموض وحيرة، ولغة مبهمة عن قصد، وتفكير مشوش، وإساءة استخدام للمفاهيم العلمية.» على سبيل المثال، يزعم جان بودريار أن في حرب الخليج «أصبح فضاء الحدث فضاء فوقيا ذا انكسارات ضوئية متعددة، وأصبح «مجال الحرب دون شك نطاقا لا إقليديا».» يعلق سوكال وبريكمو على هذا زاعمين أن مفهوم «الفضاء الفوقي» المطروح هنا «لا يوجد ببساطة في الفيزياء أو الرياضيات»، وأنه لا جدوى من التساؤل عن ماهية مجال الحرب الإقليدي، فضلا عن وضع نظرية تفسر نوع الفضاء الذي «اختلقه» بودريار توا عن طريق فهمه الخاطئ للمصطلحات العلمية وسوء استخدامه لها.
إذن أحد ردود العلماء على أتباع ما بعد الحداثة تسلم بأنهم قد يبدون اهتماما ذا قيمة حقيقية في مجالات علم الاجتماع وتسييس العلم، لكنهم ببساطة لا يفهمون آليات عملها الفعلية وطبيعة الحقائق التي تحاول تلك المجالات إثباتها فهما جيدا. يتشابه هذا الرد اللاذع مع مأخذ الفلاسفة المنتمين للاتجاه الأنجلو أمريكي على بعد الحداثيين، الذي يزعم عدم فهمهم كذلك لآليات عمل الفلسفة المتمركزة حول اللغة وإنجازاتها، وأن هذا قد يرجع إلى أن معظم منظري ما بعد الحداثة المرموقين لا يهتمون كثيرا على ما يبدو بإجراء حوار بناء مع أحد باستثناء بعضهم البعض؛ إذ إن تلهفهم على اتخاذ المواقف التي تبدو «مقبولة اجتماعيا وثقافيا» قد أدى بهم غالبا إلى التعبير عن أوصاف غاية في الغرابة وقائمة على معلومات خاطئة - إن لم تكن متحيزة اجتماعيا وثقافيا - لما يقوم به العلماء. تتمحور كتب سوكال وغيره حول هذه الفكرة الرئيسية (لا سيما بعدما اكتشف سوكال عام 1994 تقريرا ملفقا حول نشاطه العلمي - يعج بالأخطاء العلمية الفادحة والاستنتاجات المتناقضة - منشورا في مجلة ما بعد حداثية تدعى «سوشال تيكست»).
إن الكثير من هجمات أتباع ما بعد الحداثة على العلم - التي تحاول إظهار السمات السياسية المتأصلة في النشاط العلمي الغربي التجريبي - ليست مبنية على معلومات خاطئة فحسب، بل تتسم بنوع غريب من إساءة الفهم؛ إذ تكتفي عادة بفرض مجازات أو مقارنات على الاكتشافات العلمية حتى تبدو كأنها - تحت تأثير التحليل التفكيكي الموضح أعلاه - تتضمن تصريحا أو موقفا سياسيا ما غير ذي صلة تماما وفعليا بالحقائق التي تحاول تلك الاكتشافات إثباتها.
نذكر هنا - على سبيل المثال - مقال عالمة الأجناس البشرية إيميلي مارتن «البويضة والحيوان المنوي» الذي كثيرا ما يشار إليه، والذي يزعم أن «صورة البويضة والحيوان المنوي المستخدمة في التقارير الشائعة والعلمية على حد سواء عن علم الأحياء التناسلي؛ تعتمد على قوالب نمطية تلعب دورا حيويا في تعريفاتنا الثقافية للذكر والأنثى.» «لا تشير تلك القوالب النمطية إلى أن العمليات البيولوجية لدى النساء تقل في قيمتها عن مثيلتها لدى الرجال فحسب، بل تشير كذلك إلى كون النساء أدنى قيمة من الرجال.» يؤكد ذلك النوع من الأدبيات على مفهوم البويضة الأنثوية «السلبية» و«البريئة والخجولة» في مقابل الحيوان المنوي الذكوري «المسيطر» و«النشط»، وبالتأكيد تستخدم بعض تقارير المقررات الدراسية هذا التشبيه المتحيز بالفعل. لا تنتهي القضية عند هذا الحد، بل يتصور النقاد ما بعد الحداثيين أن هؤلاء العلماء الذكوريين - نتيجة لافتراضاتهم الذاتية التي أفسدتها التأثيرات السياسية - قد أخطئوا فهم القواعد العلمية التي تحدد العلاقة بين البويضة والحيوان المنوي؛ حيث يسود الآن الاعتقاد بأن البويضة (الأنثوية) هي التي تنشط و«تقبض على الحيوان المنوي (الذكوري)» (الذي سبح مسافة طويلة قبل حدوث ذلك). لكن، ترى هل تسببت الافتراضات الأيديولوجية الذكورية حول تفوق الذكر وعدوانيته في تعطيل هذه الرؤية الجديدة أو الحيلولة دون ظهورها بالفعل؟ هل يعقل - عند وصف النشاط العلمي - أن نزعم أن مثل تلك الافتراضات قد تؤدي إلى مثل هذا النوع من التعطيل؟ (لا يعني ذلك إنكار أن الانشغال بالذكر قد أسفر بالتأكيد عن تعطيل دراسة علم وظائف الأعضاء الأنثوي دراسة دقيقة.)
يعكس هذا المثال قضيتين؛ تتمحور القضية الأولى حول الارتباطات المجازية بين الأوصاف المتنوعة للبويضة والحيوان المنوي وبين قوالب النوع الاجتماعي النمطية. على سبيل المثال، يبني سكوت جيلبرت على هذه الارتباطات ليكتب (بأسلوب مبتذل) عن «التخصيب كنوع من الاغتصاب الجماعي العسكري؛ فالبويضة هي العاهرة التي تجذب الجنود مثل المغناطيس»، وهلم جرا. لكن هذا الارتباط في جميع الأحوال ليس سوى مبالغة فجة؛ فمثل تلك التعبيرات لا تظهر في الواقع في الدراسات العلمية الجادة حول هذا الموضوع. فضلا عن أن هذا التفسير المجازي بالكامل - الذي يتوافق تماما رغم ذلك مع اهتمامات أتباع ما بعد الحداثة - يبدو في رأيي تافها وسخيفا نسبيا، وبلا أفق؛ لأن أي شخص يرغب في تعميم أي من الرؤيتين حول العلاقات بين الحيوان المنوي والبويضة، كي يبرر أو يفسر طبيعة أي تفاعلات أوسع نطاقا بين الذكر والأنثى، سيطرح بالتأكيد قاعدة تبسيطية مضحكة مثل: «لطالما كان الوضع هكذا منذ مرحلة البويضة والحيوان المنوي!» إن مثل هذا الزعم يغفل إلى حد كبير القضية المتعلقة بإمكانية تعديل العلاقات الأنثوية الذكورية، فضلا عن طرحه استنتاجا ضمنيا آخر أكثر ضررا بمراحل حول العلم يدعي أنه أخفق في مراعاة الموضوعية في هذه الحالة، وأن الاكتشاف «الجديد» صحح التحيز الذكوري في الأبحاث العلمية. لكن من الكذب البين الزعم بأن العلماء الذكور ظلوا يتجاهلون دور البويضة الأنثوية الفعال إلى أن استحثهم النسويون على الاعتراف به، كما يوضح بول جروس. فقد أشار عالم الأحياء جست عام 1919 (الذي استشهد كذلك ببحث علمي صادر عام 1878) أن البويضة «تقبض على» الحيوان المنوي أو «تبتلعه»، ويضيف جروس أن وجهة النظر تلك كانت شائعة في المقررات الدراسية منذ عشرينيات القرن العشرين فصاعدا.
تخضع مجادلات ما بعد الحداثة المتطرفة تلك لهجوم شديد حاليا، لكنها غيرت إلى حد كبير الطريقة التي ينظر بها إلى المجالات العلمية في الثقافة الأوروبية والأمريكية، لتصبح أكثر تشككا وتسييسا.
صفحه نامشخص
غني عن القول بالطبع أن التاريخ وكتابة الروايات وصناعة الأفلام والعلم وإعداد التقارير الإخبارية «الواقعية»، استمرت على نفس النهج في عصر نظرية ما بعد الحداثة؛ إذ تمتعت بمستوى عال من القبول العام؛ ومن ثم لا بد أن الكثير ممن جذبتهم النظرية والفن ما بعد الحداثي قد وجدوا أنفسهم عالقين بين عالمين معرفيين متناقضين.
إن هذه المعركة بين أتباع ما بعد الحداثة وغيرهم في مجالات الفلسفة والنظرية وبين التاريخ والعلم، تتمحور في الأساس حول مزاعم التوحيد في مواجهة الأقوال المتناقضة، والتضاد بين البناء التعاوني والتفكيك الفردي. إلا أن كلا من الجانبين يحتاج الآخر؛ إذ عارض بعد الحداثيين بناء على أسس تحررية جميع التفسيرات الشمولية (حتى وإن أعادوا الاعتراف بها على نحو مستتر عن طريق الترويج لنقاشات تتعاطف مع تلك التي طرحها فرويد وماركس)، وكان لنقدهم السلبي المعارض ما بعد الحداثي - كما سنرى لاحقا - تأثير تحرري هائل في كثير من جوانبه، لا سيما على النساء والأقليات الثقافية والكثير من الاتجاهات الفنية الطليعية. الأقرب إلى الواقع أن أفكار فنان ما قد ينظر إليها بوصفها ضربا من «العبث»، لكن الأمر لا ينطبق على أفكار المؤرخين والعلماء، وبالتأكيد المحامين، الذين لا يسعهم مطلقا تطبيق شكوكية ما بعد الحداثة على قانون الإثبات، أو على فكرة أن المحاكم أنشئت بطريقة أو بأخرى كي تحدد حقيقة أو أرجحية روايتين مختلفتين لما حدث بالفعل.
طبقت أساليب ما بعد الحداثة النقدية تطبيقا أكثر نجاحا بمراحل على المشكلات الاجتماعية والأخلاقية؛ إذ أدت - على سبيل المثال - إلى «هدم» «الادعاء الكبير» لسلطة الرجال ومقاومة النساء لهيمنتها. وسأنتقل الآن إلى تلك القضايا السياسية والأخلاقية.
الفصل الثالث
السياسة والهوية
بالفعل، كان في وسعي أن أصبح قاضيا، لكني لم أتعلم اللغة اللاتينية قط، لم أتعلمها قط بالقدر اللازم لممارسة القضاء، ببساطة لم أتعلمها بالقدر الكافي لاجتياز اختبار القضاة القاسي؛ إذ تعرف تلك الاختبارات بقسوتها. كان الناس يخرجون مترنحين من لجنة الاختبار قائلين: «يا إلهي، يا له من اختبار قاس!» وهكذا أصبحت عامل منجم.
بيتر كوك، مسرحية «ما وراء الحافة» (1961)
تهتم أهم نقاشات ما بعد الحداثة الأخلاقية بالعلاقة بين الخطاب والسلطة. يعني مصطلح «خطاب» هنا مجموعة من العبارات المتداخلة الداعم بعضها بعضا، التي تطورت على مر التاريخ، وتستخدم لتعريف موضوع ما ووصفه؛ أي ببساطة شديدة، الخطاب هو اللغة المستخدمة في المجالات الفكرية الرئيسية، والتي تتجسد - على سبيل المثال - في «الممارسات الخطابية» في القانون والطب والتقييم الجمالي وغيرها. إن تلك الخطابات - حسبما يستخدمها المحامون والأطباء وغيرهم - لا تقبل ضمنيا بوجود نظرية مهيمنة كي ترشدها فحسب (وهي التي قد تتخذ - على سبيل المثال - شكل نموذج تحليلي كالذي يستخدمه أولئك المشتغلون بالعلوم التقليدية)، بل تتضمن كذلك أنشطة تثير جدلا سياسيا، لا لكونها تعرف الناس وتصفهم وصفا قاطعا - كأن تحدد من «المهاجر» أو من «طالب اللجوء السياسي» أو «المجرم» أو «المجنون» أو «الإرهابي» - لكن لأن تلك الخطابات تعبر في الوقت ذاته عن «سلطة» مستخدميها السياسية.
السجين :
لست مذنبا يا سيدي، والرب يحكم علي.
صفحه نامشخص
القاضي :
إنه لا يحكم عليك، أنا من يحكم عليك. إنك مذنب. السجن ستة أشهر.
قوة الكلمات
حسب رؤية ما بعد الحداثة، تفرض جميع الاستخدامات المنهجية والمنطقية للغة شكلا معينا من أشكال السلطة؛ فعلى سبيل المثال، قد تصدق ما يقوله لك جراح شاب، وبناء على ذلك تسمح له بتخديرك وشق جسدك ومساعدتك على الشفاء. تعبر لعبة الخطاب اللغوية عن سلطة أولئك المخولين باستخدامه داخل جماعة اجتماعية ما وتقرها، كالحال داخل المستشفيات والمحاكم ولجان الممتحنين وأساتذة الجامعة مثلي الذين يكتبون كتابا كهذا. وقد تستخدم كذلك لإخضاع أو استبعاد أو تهميش من هم خارج تلك الجماعات، مثل الساحرات والمنومين المغناطيسيين والمعالجين الروحيين ومثليي الجنس والمتعاطفين مع الشيوعيين والمعارضين الفوضويين. وفيما يلي نستعرض أحد الارتباطات المتعددة بالأفكار الفلسفية الرئيسية المعروضة فيما سبق.
قدم ميشيل فوكو أعظم التحليلات تأثيرا لهذه العلاقة بين الخطاب والسلطة عبر دراساته لتاريخ الممارسات في القانون وعلم العقوبات والطب؛ فمن الواضح إلى حد كبير أن تلك الخطابات السلطوية مصممة لاستبعاد الناس والتحكم بهم، مثل أولئك المشخصين بالمرض أو الجنون الإجرامي. وينظر فوكو إلى قرارات الاستبعاد تلك من منظور ماركسي تقليدي فيقول:
إن الشكل القضائي العام الذي يمنح لنظام ما حقوقا متساوية من حيث المبدأ لم يلق دعما من تلك الآليات الطبيعية اليومية المقبولة، ومن تلك الأنظمة السلطوية المصغرة غير المتناسقة وغير العادلة بطبيعتها، التي نطلق عليها «أنظمة الانضباط»؛ مثل الاختبارات، والمستشفيات، والسجون، والقوانين التنظيمية في ورش العمل، والمدارس، والجيش.
ميشيل فوكو، «الانضباط والعقاب: ميلاد السجن» (1977)
يضع فوكو نفسه في موقع الضحية، محللا السلطة من أسفل لأعلى، ولا يقتصر تحليله على اعتبارها فرضا لمصالح الطبقة الأعلى؛ إذ يحاول إثبات أن إرادة ممارسة السلطة تهزم المساواتية الإنسانية في جميع الحالات. ويشير ضمنيا إلى أنه حتى الاعتماد التنويري على المبادئ العامة والمنطق هو اعتماد استبدادي دوما منذ البداية؛ لأن الاحتكام إلى «منطق» سليم دوما هو في حد ذاته نظاما سلطويا، وسيتسبب دوما في استبعاد ما يراه هامشيا، وذلك ببساطة من خلال اعتباره أمرا لا عقلانيا. يرى فوكو أن تلك الأمور اللاعقلانية المزعومة تتضمن ما يتعلق بالرغبات، والمشاعر، والغريزة الجنسية، والفن.
يعادي فوكو التقدمية بشدة، فهو مؤرخ معاد للرؤية التقدمية للتاريخ إذ يؤرخ نشأة القمع. وفي هذا الإطار، يبحث فوكو عما يطلق عليه «الهيكل المعرفي»؛ أي الافتراضات اللاشعورية غالبا المرتبطة بالنظام الفكري الذي يشكل أساس الأوضاع التاريخية لدى مجتمعات بعينها. يعرف ذلك باسم الأوضاع «التاريخية البديهية» في حقبة ما، التي «تحدد نطاق التجربة الكلي في أي مجال معرفي»، وتعرف نمط كينونة الموضوعات في هذا المجال، و«تمنح تصورات الفرد وملاحظاته اليومية سلطات نظرية». كما أنها تحدد الأوضاع التي قد يصبح الخطاب في ظلها «حقيقيا»؛ ومن ثم تظهر الحاجة إلى التنقيب في التاريخ بحثا عن هذه الأوضاع، ومن هنا ينبع ما يطلق عليه فوكو «أركيولوجيا» المعرفة (أو التنقيب في الهيكل المعرفي). تكمن تلك الأوضاع دون مستوى الإدراك، ولا تبدو جلية دوما؛ ومن ثم يصبح الهيكل المعرفي نوعا من اللاوعي المعرفي الذي يميز عصرا ما.
يطرح فوكو نقدا يساريا لهذه الأوضاع كافة كي يوضح الأشياء والأفراد التي تستبعدها وطريقة استبعادها. تتفاعل السلطة والمعرفة على مستوى جذري، كالحال - على سبيل المثال - عندما يتبنى الأفراد «العقلانيون» المدربون طبيا تعريفا لأنفسهم يتناقض مع تعريف الأفراد «غير العقلانيين» لأنفسهم، فإنهم يشرعون - بعدما أصدروا هذا الحكم التعريفي - في احتجازهم في مستشفيات الأمراض العقلية. يستخدم كل من المتحيزين جنسيا والعنصريين والإمبرياليين أساليب متشابهة؛ إذ يجعلون خطابهم «السوي» خطابا مهيمنا، وفي خضم تلك العملية، يمكنهم بالفعل ابتداع أو استحداث مفهوم «المنحرف»، أو ما يطلق عليه الكثير من أتباع ما بعد الحداثة «الآخر». يساعد خطابهم في الواقع على «تشكيل» الهويات التابعة لدى من يستبعدون من المشاركة فيه.
صفحه نامشخص
يقدم فوكو مثليي الجنس والنساء والمختلين عقليا ذوي الميول الإجرامية وغير المنتمين للعرق الأبيض والسجناء باعتبارهم أمثلة نموذجية على «الآخر». وبالفعل يبدو هذا العداء والكراهية واضحين تماما في المدارس والجيوش وفي أسلوب الحكم الإمبريالي؛ ومن ثم كان الفكر ما بعد الحداثي مصدر الإلهام في كثير من الكتابات التي صيغت حول طبيعة «المواطن في العصر ما بعد الاستعماري». تتميز ما بعد الحداثة هنا بأن التحليل الذي تقدمه يعتمد على أساس لغوي، كما لاحظنا من قبل عند استعراض أفكار دريدا وبارت. وهكذا يتحول الناس إلى رموز، ويصبحون جزءا من لعبة اللغة، ومن هنا ينبع - على سبيل المثال - مقال لورا مولفاي «المتعة البصرية والسينما الروائية» الذي كثيرا ما يستشهد به ويعاد طبعه، والذي يطرح تعميما مهيبا مفرط الثقة كما يتضح أدناه:
هكذا، تلعب المرأة في الثقافة الأبوية دور الدال على الآخر الذكر، وتخضع لنظام رمزي يستطيع فيه الرجل تحقيق خيالاته وإطلاق العنان لوساوسه من خلال السلطة اللغوية، وذلك عن طريق فرض هذه الخيالات والوساوس على الصورة الصامتة للمرأة التي ما زالت مكبلة في موضعها باعتبارها حاملة للمعنى لا صانعة له.
مجلة «سكرين»، مجلد 16، العدد 3، صادرة عن دار «أوتم» عام 1975
وهكذا يتضح أننا نخلق كيانات الأفراد (مثلما ننشئ الجامعات والعملة الأوروبية الموحدة «اليورو») عبر اللغة ليس إلا. لكن أتباع ما بعد الحداثة يتخذون ذلك أساسا لطرح نقطة أشمل وأهم؛ وهي أن «الخطاب» - من هذا المنظور - يشبه لغة تتبع قواعد دريدا، فهو ليس ملكا للأفراد المسيطرين، بل يتجاوزهم، ولا يقتصر فحسب على السياقات الرسمية الجلية، كالحال داخل المحاكم، بل ينتشر في جميع أرجاء المجتمع من أعلاه إلى أسفله، من الأحكام القضائية إلى المجلات العلمية والإعلانات التليفزيونية وأغاني البوب، والصحف اليومية الجادة. وكلما زادت هيمنة خطاب ما داخل إحدى الجماعات أو أحد المجتمعات، فإنه يبدو «طبيعيا» أكثر ويزيد ميله إلى الاحتكام إلى نظم الطبيعة لتبرير ذاته. قد تبدو «الطبيعة» ككل مرآة للقدرات التنظيمية للإله أو للنظام الخفي الذي اكتشفه العلماء، أو قد تتضمن «سلالات منبوذة» أو نساء أو مجانين ممن نعتبرهم حسب فطرتهم - أي بحكم طبيعتهم - أكثر حيوانية وأقل عقلانية مقارنة بنا، إلى آخر ذلك. نحن نستوعب تلك النماذج الدونية التي غالبا - كما أشار دريدا وفوكو - ما تشكل جزءا لا يتجزأ من لغتنا، دون أن ندرك دوما أن تلك هي حقيقتها؛ ومن ثم نتقبلها دون وعي، وكأنها حقائق تصف الطبيعة لا سمات ذات دوافع نفسية وسياسية تميز حديثنا عنها.
على سبيل المثال، ينبع مفهوم المصحة العقلية - حسب وصف فوكو - من أنواع الخطاب التي يستخدمها الأطباء، ويعكس الهياكل السلطوية داخل المجتمع البرجوازي المحيط به. وهو عبارة عن عالم مصغر يعكس العلاقات بين العائلة، والانتهاك، والجنون. على الجانب الآخر (أو بالأحرى على جانب اليسار)، يفضل فوكو «الحماقة» ويعادي المنطق البرجوازي. وعلى الرغم من أن تاريخ المصحات العقلية الذي قدمه لا يعتمد البتة على أسس تجريبية راسخة حسب المفترض، فإن وجهة النظر السياسية التي رغب في طرحها حول السلطة والقوة كانت واضحة. وكما هو الحال مع الكثير من كتاب الستينيات (مثل المحلل النفسي آر دي لانج في كتابه «النفس المنقسمة»، أو كين كيسي في روايته «أحدهم طار فوق عش الوقواق») يصور فوكو المجانين في دور ضحايا المجتمع، ويؤكد على فشل هذا المجتمع في إدراك أنهم بدورهم أفراد تعساء إلى أقصى حد. ويطرح تحليلا مماثلا (وتعميما مفرطا كذلك) حول السجون، التي تعكس حسب المفترض الطبيعة «التقييدية» للمجتمع المحيط بها. يعاني المجتمع - في نسخة فوكو الكافكاوية المنقحة من رواية أورويل «1984» - من «المراقبة الكلية الشاملة»؛ فنحن جميعا خاضعون سرا للمراقبة والتحكم. لكن هذه النظرية تدعي أن الأشكال المعتادة من السيطرة الاجتماعية - مثل الالتزام بروتين ما والخضوع للإشراف - لا تختلف عن تلك المستخدمة في السجون، رغم ما بين «المجتمع» و«السجن» من اختلاف.
لقد عرضت فيما سبق بعض الأمثلة الواضحة على إساءة استخدام السلطة. تسيء تلك الأمثلة إلى بديهياتنا التنويرية حول العدالة الشاملة وحق الفرد في الاستقلال الذاتي، لكن من بين عيوب فوكو الكثيرة إخفاقه في تقديم أي تحليل للسلطة من منظور «أخلاقي» عموما؛ فهو يرغب في «المقاومة» عوضا عن الاستسلام، لكنه لا يذكر بوضوح دافعه لذلك. فمن وجهة نظره، تبدو «السلطة» نوعا من القوة الكهربائية، تلازم جميع الأنشطة البشرية على نحو حتمي، مثل الجاذبية. وعلى الرغم من أن فكر فوكو يفترض مقدما تحليلا يساريا - وماركسيا دون شك - فإنه يتجنب التعليقات السياسية الصريحة والنظريات الأخلاقية؛ ومن ثم يكتفي في النهاية - رغم كونه «مقاوما» من الطراز الأول - بالتوصية ببعض الإصلاحات المحلية الضيقة النطاق، مثلما فعل ليوتار إلى حد ما. يعلق تيري إيجلتون على ذلك قائلا:
يعترض فوكو على أنظمة معينة من السلطة لا لأسباب أخلاقية ... بل لأنها ببساطة أنظمة - وفقا لوجهة نظر تحررية غامضة - قمعية في حد ذاتها.
تيري إيجلتون، «أوهام ما بعد الحداثة» (1996)
على القدر نفسه من الأهمية، لم يتطرق فوكو - عند دراسته لوظائف الخطاب - إلى كيفية عمله فعليا بين الأفراد؛ ومن ثم قلل من أهمية الاستقلال الفردي والمسئولية الفردية. فبينما نعلم جميعا أن علينا التشكك في كلمات أنجلو بطل مسرحية شكسبير «الصاع بالصاع» عندما يقول لإيزابيلا: «لست أنا من يدين أخاك بل القانون»، يرى أتباع فوكو أن الفرد ليس المسئول الأكبر عن ارتكاب الفظائع، بل تقع المسئولية على عاتق خطاب السلطة المتدفق على لسانه. ومن ثم، يطرح فوكو نسخة معقدة قائمة على اللغة من العداء الماركسي للطبقات؛ إذ يعتمد على معتقدات تؤمن بالشر الفطري الكامن في وضع الفرد الطبقي أو المهني - الذي ينظر إليه على أنه «خطاب» - بصرف النظر عن الجانب الأخلاقي لسلوكه الفردي.
لاحظ قراء هذا الكتاب بالتأكيد إحجام السياسيين عن تقبل المسئولية الفردية لأفعالهم - أو حتى لأفعال مرءوسيهم - كما كانوا يفعلون في السابق، بالإضافة إلى ميلهم للتعبير عن آراء شديدة التحيز بزعم أنها آراء تعتنقها «أعداد كبيرة من الناس» - قد يكونون مهاجرين جددا أو طالبين للجوء السياسي، أو جيرانا لمجموعة عرقية مختلفة - ويزعمون أثناء ذلك أنهم فقط يصيغون تلك الآراء في إطار يمنحها أهمية سياسية. وفي جميع تلك الحالات يقتصر دورهم على السماح للخطاب بالتدفق عبر ألسنتهم. وعندما تثار الشكوك حول سلوكهم، فلا يردون ببساطة بعبارات مثل «لم أفعل ذلك» أو «فعلته»، بل يدعون البراءة أو يلتمسون العذر لأنفسهم عن طريق خطاب التقرير الصادر بشأن أفعالهم. في ذلك الإطار، يعبر أولئك السياسيون بالفعل عن نظام فوكو المعرفي السائد في عصرهم؛ ومن ثم عن عيوب تبني رؤية مسيسة بطبيعتها للمسئولية الفردية بدلا من رؤية أخلاقية.
صفحه نامشخص