بدأت مصمص تستعجب، ومصمص لم تكن سهلة ولا طيبة ولا مسكينة أبدا، إنها جهنم الحمراء إذا انفتحت، وإذا رأت في الأمر ما يريب .. وكانت سكينة قد زودتها في نظرها كثيرا وبشكل أصبح لا تفسير له ولا تبرير، تجلس مع الأقرباء والأصهار طوال الزيارة. ولا تغادرهم للحظة وكأنها منهم وعليهم. يتحدثون عن أدق أمورهم العائلية الخاصة فلا تخجل ولا تبتعد. بل أكثر من هذا بها وتناقشها مناقشة المتحمس الغيور، وتبدأ الآراء أيضا .. وتنتظر مصمص على أحر من الجمر أن «تحس» سكينة مرة فتقوم أو تغادر الفراش، أو على الأقل تولي انتباهها إلى الناحية الأخرى بلا فائدة، إذ كانت سكينة لا تفعل شيئا من هذا أبدا، بل تظل طوال الجلسة بأكملها، وبعد الجلسة أيضا، تتحدث وتعقب وتحاول أن تدخل مع مصمص في أخص الشئون وفي الغويط. ومصمص، تكظم وتكظم. فصحيح أن سكينة تتدخل، ولكنها تفعل هذا وهي راقدة في نفس فراشها لا تغادره. بالعكس إن زوارها هم الذين يجلسون على فراش سكينة، وبهذا يعطونها الفرصة للاندماج والتدخل.
بل تطور الأمر إلى ما هو أكثر، وبدأت سكينة تقتنص زائرا أو زائرة من الجالسين على فراشها وتنخرط في حديث لا ينقطع معه أو معها، بحيث تنتهي الزيارة وهم لم يتبادلوا كلمة واحدة مع قريبتهم مصمص، وكأنهم جاءوا لزيارة سكينة أصلا.
ولقد تكرر الأمر مرة ومرة، ومصمص صابرة تكظم، إلى أن كان هذا اليوم الذي قررت أن تنفجر فيه، وهكذا ما كاد آخر زائر في يوم الزيارة يخرج ويفرغ العنبر محتوياته المكتظة كقطار وصل إلى محطة النهاية حتى التفتت مصمص إلى سكينة التفاتة حادة، وقالت بصوت بالغ العلو. - بقى اسمعي يا ...
واحتارت قليلا .. أتقطع العشم والعلاقة والعيش والملح مرة واحدة وتقول يا بت يا سكينة، أم تكتفي بنهرها وتقول يا سكينة فقط، فإذا قالت لها يا سكينة فكيف تستطع أن تصب عليها بهذه البداية ما يتفجر به صدرها الضخم العالي الأسمر من غضب وضيق، احتارت مصمص .. وكالبندقية صوبت عينيها إلى سكينة وكأنما لتزيد برؤيتها لها جرأتها وعنف انفجارها .. كانت قد قررت أن توقفها عند حدها، وأن تنذرها بأنها إذا استمرت في اقتناص زائر أو أكثر من زوارها هكذا، فسوف تمرمط الأرض بزوارها. زوار سكينة إذا جاءوا، والعين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم.
صوبت مصمص عينيها إلى سكينة لتجدها راقدة في سريرها نصف مغطاة الجسد تحملق أمامها كمن يجتر ذكرى لحظة سعيدة مرت .. وفجأة اكتشفت مصمص الجهنمية أن تهديدها الذي يكاد يفلت من فمها لا معنى له بالمرة. أجل هكذا. في وضمة مفاجئة اكتشفت مصمص أن سكينة لا يأتيها زوار ولا ينتظر أن يأتيها أحد .. وهكذا بعد أن كانت قد استدارت واستدار السرير لاستدارتها وقالت: بقى اسمعي يا ...
وحين التفتت سكينة بدهشة ونوع من الذعر تسأل: نعم يا ست مصمص .. لم تغير مصمص رقدتها ولا رفعت عينيها عن وجه سكينة .. كل ما في الأمر أن صوتها انخفض فجأة حتى كاد لا يسمع.
وقالت: لا .. ولا حاجة .. ده كانت كلمة كدة وعدت!
قالت هذا وهي ترمق الفتاة بعينين مشتتتين فوق وجهها. يكاد يطفر منهما الدمع .. وظلت مثبتة عينيها فوق وجه سكينة، لا ترفعهما، وكأنها تراها لأول مرة .. رفيعة نحيلة مقطوعة من شجرة!
ديسمبر سنة 1962م
معاهدة سيناء
صفحه نامشخص