طوال أيام الجمع والاثنين، والحقيقة طوال أيام الأسبوع، يفد العشرات والمئات والآلاف على المستشفى ويوزعون على عنابره ثم على أسرته، وقد يخص كل سرير زائر أو خمسة أو عشرة .. ما عدا سريرها هي، لم يكن يهوب ناحيته أحد، أو للدقة كان زوار جارتها مصمص يتخذون سريرها كأريكة يجلسون عليها، وهي من خجلها لا تعترض أو تأتي بحركة تسبب حرجا لأحد، كانت تغادر الفراش نهائيا وتذهب تتمشى في الطرقة أو تخرج إلى شرفة العنبر القذرة هناك، حيث تتخذ مستودعا لأكوام الزبالة وقشر البرتقال والموز واليوسفندي الآتي لا بد مع كل زيارة.
وهناك .. في تمشيها هذا، كانت سكينة تحزن وتنقبض وتحس أنها مظلومة، وأن لا بد ثمة خطأ في الكون جعلها تبقى بغير زوار .. إن أخاها باستطاعته أن يخطئ مرة ويزورها، وكم زارت هي أخوتها وبنات خالاتها وكان واجبهم في هذه الحالة أن يردوا الزيارة. ماذا حدث حتى جمد قلوبهم، وقساها؟ ماذا حدث حتى نسيها الجميع هكذا، ونسوا أنها في مستشفى! ماذا حدث حتى تنقطع صلتها هكذا بعائلتها وأقربائها وحتى بصديقاتها وبالدنيا كلها؟ لم تكن تدري، حتى مجرد إرسال خطاب، ما أرسل لها أحد خطابا أو بعث بسلام!
إحساس لم يكن يشاركها فيه أحد .. كانت أعمق أعماق قلبها هي التي تكتئب وتحزن فقط .. أما كل ما على السطح من وجه وملامح فقد كان يلتف دائما بابتسامة لا فرق بينها وبين مئزر الصوف الذي تتلفع به.
وطالت المدة ثلاثة أشهر .. وأربعة وخمسة، والمرضى يتغير معظمهم حتى لم يبق من القدامي سوي جارتها مصمص، والوضع على ما هو عليه، وضع عجيب غريب. فهي صحيح ضيقة بالمستشفى والبقاء فيه، تريد بشق النفس أن تخرج وتغادره. ولكنها في نفس الوقت، وإذا ما سألت نفسها لا تعرف أبدا لمن وإلى أين تذهب وماذا بالضبط ستفعل .. لقد كانت قبل دخولها تحيا مع أخيها تخدمه، في انتظار أن يتزوج هو، أو يأتيها هي عريس، ولكنها مرضت وكانت تقضي الليل كله تنهج وتكح حتى ضاق بها الأخ وانتهز أول فرصة أدخلها المستشفى، ربما كي لا تعالج بقدر ما يتخلص منها ومن حشرجات أنفاسها. بل إنها سمعت أنه بعد دخولها المستشفى تزوج وعزل من البيت .. وشقيقاتها كلهن متزوجات، وهي ليست جميلة حتى يرحب بها زوج أي أخت، بل لقد ذبلت وكبرت حتى على الزواج، فإلى من تذهب وإلى أين؟
وضع عجيب غريب، فهي ضيقة بالمستشفى ضيقا لا حد له، ومستسلمة لهذا الضيق والحياة في المستشفى استسلاما لا حد له أيضا، كالسجين الذي يتوق إلى الخروج من السجن إلى الحياة والحرية، ولكنه حين يجد أنه إذا خرج فلن يعرف ماذا ولا كيف يفعل بحريته تلك، يستسلم للسجن. يضيق به ويستسلم له ويكاد يجن بين الضغطين.
ولم تأت المسألة فجأة .. بل وإلى الآن لم تفكر فيها سكينة تفكيرا جديا أو تدبرت ما فعلت، ولكنها هكذا جاءت .. مصمص كانت زوجة أحد المعلمين الكبار الذين لا يقل عدد أقربائهم وأنسبائهم وأولادهم ونسائهم وبناتهم عن المئات بأي حال من الأحوال، ولهذا كان لا يمر يوم دون أن يزور مصمص لا أقل من خمسة أو ستة زوار.
يوم العطلات والأعياد يرتفع الرقم حتى يصل إلى الخمسين .. وكان يبدو على مصمص أنها في الوقت الذي تعتب فيه على فلانة الفلانية لأنها لم تزرها، ما يكاد الزوار يغادرونها حتى تلهث تعبا وحتى تغمغم ببرطمة لا يفهم منها سوى الضيق الشديد بالزيارة والزوار، والمسألة بدأت بأن راحت سكينة تسأل مصمص عن الزوار إذا قدموا، من هم، وما هي درجة قربهم لها، وماذا يشتغلون. ولم يكن الأمر مجرد سؤال. دأبت سكينة على ملاحظتهم بدقة ومعرفتهم بالاسم، حتى لتطفح السعادة من وجهها حين تقول لمصمص بعد خروج زائر: مش ده كان مصطفى ابن خالتك اللي بيشتغل في السكة الحديد؟
فتبهت مصمص وتقول: الله .. وانتي إيه اللي عرفك؟
حينئذ تحس سكينة الناحلة الهادئة الساكنة بسعادة داخلية لا حد لها .. غير معقول بالمرة أو مقبول فقد أصبحت لمجرد أنها عرفت من الزائر وخمنته وجاء تخمينها بالضبط مطابقا للحقيقة.
ولكن هذه السعادة، بالتكرار، لم تعد تحدث. ووجدت سكينة نفسها مدفوعة إلى خطوة أخرى كي تحس بنفس سعادتها السابقة. فبدأت تقدم مساعدات، وتسرع مثلا وتحضر كراسي لزوار مصمص، أو إذا أرادت الأخيرة أن تعزم عليهم بالقهوة أو الشاي أو الغازوزة أسرعت سكينة إلى البوفيه .. تحضر الطلبات بنفسها .. وكانت مصمص تأخذ الأمر في أوله باعتبار أنه نوع من الطيبة من سكينة لا أكثر، ولكنها بدأت تعجب فعلا وقد راحت سكينة تقوم بأعمال غير معقولة أبدا؛ تأخذ الأطفال من الأمهات الزائرات وتداديهم أو تذهب بهم إلى دورة المياه، وتلعب مع الأبناء الكبار وتقول لهذا الزائر .. والنبي وحياتك ابقى سلم على فلانة وفلان وكأنهم أقرباؤها هي!
صفحه نامشخص