وكلم مدير الشرقية أبي في غزالة، وكنت بجواره، وقال المدير: إننا نرجو أن تأمر بالجلاء عن نقطة بردين.
فضحك أبي وهو يقول للمدير: لا أستطيع ... فإنني إن طلبت هذا المطلب من شباب أسرتي فلن يقبلوه.
وسلم المدير أمره إلى الله، وظل شباب الأسرة مع الصناديق حتى تم فرزها، وكنا واثقين أنه إذا تخلى الشباب عن الصناديق فإن الوزارة ما كانت لتخجل أن تحل مكانها صناديق أخرى لصالح مرشحها، وتم الفرز ونجح أبي نجاحا باهرا، وأحست الوزارة أن الشعب غير راض عنها، ولكن لا يهم ما دامت باقية في دست الوزارة.
الفصل الرابع
حين عاد أبي إلى مجلس النواب كان معارضا عنيفا، ولكن الأغلبية الساحقة كانت وفدية، وكان مكرم عبيد باشا قد انشق عن الوفد، وكون حزب الكتلة وأصدر جريدة للحزب، وفي ذلك الحين كتب كتابه الشهير المعروف باسم «الكتاب الأسود» وكانت الأحزاب المعارضة تتولى توزيع هذا الكتاب، وكانت نسخ منه كثيرة توزع من بيتنا، والكتاب جدير بأن نقول عنه إن أعظم التهم فيه لا تساوي شيئا بالنسبة لأيسر ما ارتكب في عهد الناصرية، فقد كان أعظم ما فيه اعتقال بعض الزعماء السياسيين، وقد كانوا يعتقلون في بيوت مريحة ويلقون كل رعاية وعناية، وما كان أهل هذا العصر يدرون ما يخفيه الزمان في عهد الناصرية من اعتداء على الأعراض والكرامات والأموال والأنفس مع الألوان التي لم تسمع عنها البشرية من التنكيل والعذاب، ولكن على أي حال في ذلك الحين كان الكتاب الأسود سبة في جبين الحكم وقد تقدم أبي باستجواب عن الاعتقالات التي تقوم بها الحكومة، وفي نفس اليوم المحدد لنظر الاستجواب اعتقلت حكومة النحاس مكرم عبيد باشا، ووقف أبي في مجلس النواب يندد بهذا التصرف، وصاح بالحكومة إننا متضامنون مع كل ما فعله مكرم عبيد باشا وكل ما كتبه ولتفعل بنا القوى الغاشمة ما تريد ... وقد علق المرحوم كامل الشناوي على هذه الخطبة يومذاك بقوله: لولا خوفي على الرجل لألقيت بنفسي من شرفة الصحفيين لأقبل دسوقي أباظة.
وعاد أبي إلى البيت، وكنت أتلقى درسا في اللغة الإنجليزية من أستاذي الذي كان يشرف على دراستي جميعا الأستاذ لويس مرقص الذي أصبح فيما بعد د. لويس مرقص رئيس قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، وذكر لنا أبي ما فعله بالمجلس، ثم نادى عم أحمد وأمره أن ينقل كل نسخ الكتاب الأسود ومنشورات أخرى ضد الحكومة إلى بيت ابن عمه الأصغر الضابط عمر أباظة - رحمه الله - متوقعا أن تفتش الحكومة منزلنا في نفس الليلة، وقد حدث أن فوجئنا بقوة من الشرطة قبيل منتصف الليل تحاصر المنزل وتقتحمه لتفتش عن الكتاب الأسود والمنشورات. ولكن أين هذا التفتيش مما فعله العهد الناصري بعد ذلك؟ شتان لا يقارن ما فعله النحاس بما صنعه بعد ذلك عصر الطغيان.
حسبك أن تعلم أن أبي أمسك بمسدسه، وقال لقائد القوة: نحن فلاحون وسأسمح لك بتفتيش البيت جميعه، ولكن لن تدخل الحجرة التي بها السيدات مطلقا.
وقبل الضابط، فما كان أهونه من تفتيش، وانصرفوا دون أن يعتقلوا أبي، وإنما قدموا له كل إجلال واحترام وتوقير.
الفصل الخامس
في يوم 7 أكتوبر عام 1944م طلبني أبي من حزب الأحرار الدستوريين وقال لي: إن وزارة النحاس أقيلت، وإن أحمد باشا ماهر يؤلف الوزارة الآن في لاظوغلي.
صفحه نامشخص