الفصل الأول‏

الفصل الثاني‏

الفصل الثالث‏

الفصل الرابع‏

الفصل الخامس‏

الفصل السادس‏

الفصل السابع‏

الفصل الثامن‏

الفصل الأول‏

الفصل الثاني‏

الفصل الثالث‏

الفصل الرابع‏

الفصل الخامس‏

الفصل السادس‏

الفصل السابع‏

الفصل الثامن‏

لمحات من حياتي

لمحات من حياتي

سيرة شبه ذاتية

تأليف

ثروت أباظة

الفصل الأول

لم يدر بذهني يوما أن أكتب هذه المذكرات، فأنا شخصيا لا أرى في حياتي ما يستحق الرواية، ولكن حدث في الأسبوع الماضي أن قصد إلي مذيع ليدير معي حديثا عن حياتي استغرق حوالي الساعة - وتركت نفسي على سجيتها - ورحت أروي للميكرفون بعض ذكريات من حياتي كان بعضها يمسك برقاب بعض وتستدعي الذكرى صاحبها، ولاحظت أن المذيع يضحك في سعادة غامرة مما أروي، فلما انتهى الحديث ساءلت نفسي: وما لي لا أروي هذه الذكريات لقارئي ربما وجد فيها من المتعة ما وجده هذا المذيع.

والذي بيني وبين القارئ أمر ميسور، فهو يستطيع أن يضم دفتي الكتاب الذي بيده ويقطع صلته به وأذكر له بيت الشعر القديم:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

وحسبه الله بعد ذلك فيما خسر من ثمن الكتاب، فإن وجد المتعة التي أتمناها له وأنشدها وأسعى إليها، فالحمد لله على الحالين وليمض في قراءة الكتاب.

وربما زاد من ترددي كتاب كتبته قبل هذا بعنوان «ذكريات لا مذكرات»، ولكني قضيت على هذا التردد بأن كتابي الأول كان يحمل صلاتي بمن عرفتهم من مشاهير وغير مشاهير.

ولكنني أعتقد أن هذا لن يكون المنحى الذي سأنحوه في كتابي هذا الذي بين يديك، أما كيف أنحو فعلم هذا عند علام الغيوب، فما خططت خطة بذاتها ولا انتهيت إلى رأي معين، وإنما سأسير وإياك عبر أيامي منذ وعيت الحياة حتى اليوم الذي بدأت فيه كتابة هذا الكتاب، وإني إن شاء الله واجد له عنوانا، ولكنك لا بد أن تعلم أن هذا العنوان قفز إلى ذهني وأنا أكتب هذا الكتاب ولم أضعه قبل بدء الكتاب كما كان ينبغي أن أفعل، فقد خشيت أن يحول العنوان بيني وبين الترسل الذي أحب أن أتركه يحدو قلمي، ويسير به سيرا متحررا من كل قيد بعيدا عن القيود جميعها.

من الطبيعي أن أبدأ بالسنوات الأولى من حياتي:

قيل لي إنني ولدت بمنزل بشارع جوهر القائد بحي المنيرة، ولكنني لم أر هذا البيت إلا مرورا به، وأشارت إليه والدتي وكنت أركب معها السيارة، وقالت إنني ها هنا ولدت فما وعيت منه إلا اللمحة العابرة التي تتيحها سيارة تمضي في طريقها ولا تتوقف، أما البيت الذي نشأت فيه وأقمت فبيت كان ملكا لأبي بشارع الملك الناصر رقم 24 بحي المنيرة أيضا، وكان البيت هو المبنى الثاني في الشارع من ناحية شارع الدواوين، وكان المبنى الأول مدرسة أهلية دخلتها وانتظمت فيها لبضعة أشهر، وقد كان المبنى المقابل لها مستشفى الملك، ولا بد أن اسمها قد تغير حين أرادت الثورة حذف الملكية من تاريخ مصر، وكان يلاصق المستشفى مدرسة الخديو إسماعيل التي لا أدري اسمها الآن هي أيضا، فإن الثورة قررت أنه لم يكن في مصر خديو اسمه الخديو إسماعيل إلا أن يذكر مشتوما ملعونا، أما أن يذكر بدون تعليق فأمر لا ترضاه الثورة الاشتراكية.

نشأت في هذا البيت ودخلت المدرسة الملاصقة لبيتنا، وأذكر أن والدي ووالدتي كانا يطلان علي من إحدى نوافذ بيتنا، وكان أبي يحرك لي منديلا في يده حتى أتنبه إلى وجودهما بالنافذة، وأذكر أنني في اليوم الأول لذهابي إلى هذه المدرسة رفضت أن أذهب إلا إذا صحبت محمد أبو عثمان الذي كان يعمل طباخا في بيتنا، وكان يلاعبني ويضاحكني وكنت معجبا به كل الإعجاب، وهو ما زال على قيد الحياة أطال الله عمره، وقبل ناظر المدرسة أن يدخل محمد أبو عثمان الفصل معي، وكان في الفصل يقف بجانب الباب، فكان وقوفه هذا يرد عني الوحشة التي كانت تلم بي وأنا مع تلاميذ لا أعرفهم ولا يعرفونني.

وفي اليوم التالي كنت بالفصل أكثر أنسا حتى لم أنتبه إلى أن محمد غادر الحجرة إلا بعد حين، وسألت عنه فوجدته بالمدرسة ما زال فعادت إلي الطمأنينة. أما في اليوم الثالث فقد صدر الأمر من والدي أن يصحبني محمد إلى باب المدرسة الذي كان يقع بشارع الدواوين ثم يتركني وحدي، وقد بكيت لهذا الإجراء بكاء حارا، ولكنه كان أمرا صارما لا رجعة فيه، ذكرياتي في هذه المدرسة تكاد تكون معدومة ولا أذكر من رفاقي بها أحدا؛ إلا أنها كان لها الفضل أن أذهب إلى مدرسة المنيرة لرياض الأطفال وأنا غير مضطرب الفؤاد ولا هالعا، والذي أذكره عن المدرسة الجديدة أن ناظرة المدرسة كان اسمها السيدة روفية رمضان، ولا زالت صورتها في ذاكرتي حتى اليوم، وأذكر من مدرساتها أيضا السيدة توحيدة الدمرداش، وكانت ترعاني بحدب ورضاء، وأذكر أن أستاذة الرسم كان اسمها الأستاذة نعيمة التي جعلتني أرسم رسما جميلا، الأمر الذي لم يتكرر في المدرسة الابتدائية أو الثانوية رغم أن الذي كان يدرس لي الرسم في المدرسة الابتدائية الأستاذ الفنان الكبير حسين بيكار، كما كان يدرس لي فنان الكاريكاتير العظيم الذي اشتهر باسم مفرد هو رمزي، ومع ذلك كنت دائما لا أجيد الرسم مطلقا لدرجة أن والدتي وأنا أنتظر نتيجة الابتدائية كانت دائما تقول إنها خائفة أن أرسب في مادة الرسم، والعجيب أن حدسها أوشك أن يتحقق وحصلت في مادة الرسم في شهادة الابتدائية على أربع درجات من عشرين، وهي الحد الأدنى للمرور ولا أقول النجاح.

قضيت في مدرسة الروضة سنتين وأذكر أنني كنت متقدما لأنني سبقت زملائي في تعلم اللغة العربية والحساب على يد الشاعر الأستاذ أحمد القرعيش ببلدتنا غزالة، وقد كان مدرسا بالمدرسة الإلزامية بها، وكان أول من علمني بادئا بالخط الأفقي والخط الرأسي، وأذكر أنه كان يشكل هذه الخطوط على الرمال، فقد كنا نجلس على أريكة خارج المبنى الذي يعمل به كتاب الحسابات لزراعة أبي، وأشهد أن الأستاذ القرعيش هو أحسن أستاذ تلقيت عنه العلم، فقد كان قديرا على تيسير المعلومات علي، وكان حريصا على تشجيعي حتى إنه كان يحمل معه أقراص النعناع الصغيرة يتحفني بواحد منها كلما أجدت الإجابة، فإذا علمت أنه كان من كبار البخلاء أدركت التضحية التي كان يقوم بها ليصل بتلميذه إلى أحسن مستوى. وقد كان الأستاذ القرعيش شاعرا مجيدا، وحين بلغت السنة الثانية الثانوية كنت أقرأ معه ومع قريبنا الشاعر العصامي توفيق عوضي أباظة الذي علم نفسه ولم يختلف إلى مدرسة في حياته لشدة فقره، كنا نقرأ معا الشوقيات في بيتنا بالقرية، وكنا نبدأ القراءة بعد أن يصعد أبي إلى الدور الأعلى من المنزل في حوالي الساعة التاسعة مساء، ونظل نقرأ على الكلوب الذي ينير بالجاز حتى يطلع علينا الصبح، ونقرأ على ضوء الشمس وكنت أنا الذي أقرأ، والشاعران يستمعان ويستجيدان ويعلقان. وللأستاذ القرعيش فضل علي لا أنساه أبدا، فقد كنت أكثر من اللحن في قراءتي، وكان يصحح لي، وقال لي إذا كنت تريد أن تكون أديبا فلا بد أن تقيم لسانك وإلا فلن تصبح أديبا مطلقا، ويا ليته عاش حتى اليوم حتى يرى مقتل اللغة العربية على أيدي أدبائها. لا علينا. خجلت من هذه الملاحظة، فحين ابتداء العام الدراسي في السنة الثالثة الثانوية أعدت قراءة النحو، وأخذت نفسي طوال السنة الثالثة الثانوية - وهي تقابل السنة الأولى الثانوية اليوم - أن أقرأ كل المواد العربية من تاريخ وجغرافيا وطبيعة وكيمياء بصوت مرتفع وأصحح لنفسي الإعراب في كل قراءتي، حتى إذا جاءت الإجازة، وبدأ ثلاثتنا قراءة الشوقيات فوجئ الشاعران بي وأنا لا أخطئ في النحو مطلقا أو أكاد، وهكذا استقام لساني العربي، كما استقامت كتابتي والفضل في ذلك لمعلمي العظيم الأستاذ أحمد حسين القرعيش.

نعود إلى مدرسة المنيرة لرياض الأطفال التي مكثت بها كما أخبرتك سنتين، وقد وقع لي مع هذه المدرسة نادرة طريفة، فقد دعاني ناظر مدرسة لا أعرفها وأنا كاتب بالأهرام أن أعقد ندوة مع تلاميذ مدرسته ولبيت دعوته وذكر لي العنوان، وذهبت وفوجئت أنني أعرف معالم المدرسة، وإن كانت معرفة باهتة، كما يقول الشاعر عن ذكرياته أنها تلوح كباقي الوشم بظاهر اليد. وما لبثت أن تبينت أن المدرسة التي أعقد بها ندوتي هي روضة الأطفال التي كنت أتعلم بها وأصبح اسمها مدرسة المنيرة الابتدائية، وقد سعدت بهذه المصادفة كل السعادة.

دخلت بعد ذلك مدرسة المنيرة الابتدائية متقدما عن سني بسنة؛ لأنه كان من المفروض أن أظل سنة ثالثة بالروضة، إلا أن أبي رأى أن أقفز سنة، وهكذا لم يكن غريبا أن أرسب في السنة الأولى الابتدائية، وأذكر أن أبي استاء كل الاستياء من رسوبي هذا، وكان له صديق قريب إليه كل القرب وهو عبد الله أفندي العربي من بلدة الخيس القريبة من بلدتنا غزالة بمركز الزقازيق، وقد فاتني أن أذكر لك أنني حين ولدت بالقاهرة رفض أبي أن يقيدني من مواليد القاهرة، وقد ولدت في 28 يونيو عام 1927م، فانتظر أبي إلى أن ذهب إلى غزالة، وقيدني بها في 15 يوليو 1927م حرصا منه أن أنتسب إلى بلدتنا غزالة التي كان يحبها كل الحب، حتى إنه كان يوقع مقالاته السياسية بتوقيع الغزالي أباظة.

نعود إلى عبد الله أفندي العربي صديق أبي الذي اكتسب لقب أفندي من أنه كان مدرسا بالمدارس الابتدائية، وكان يدرس لشقيق أبي الأصغر عبد الله بك فكري أباظة حين كان تلميذا بالمدرسة الابتدائية، وكان معجبا بطريقة تدريسه.

وكانت صلة الأستاذ العربي بوالدي وثيقة غاية الوثوق حتى إنه كان يسافر معه إلى الخارج على نفقته الخاصة، فقد كان ميسور الحال، وقد لبست أول ساعة في حياتي هدية من عبد الله أفندي العربي.

حين رأى عبد الله أفندي الحزن يخيم علي لرسوبي في السنة الأولى الابتدائية ورأى الاستياء الشديد من أبي لهذا الرسوب جاء إلى منزلنا قبيل المغرب في يوم من هذه الأيام ودعاني أن أخرج معه ليرفه عني، وذهبنا إلى مقهى بالجيزة ربما يكون هو المقهى الذي تعود بعض الأدباء أن يجلسوا به، وقد كنت أشاركهم في الجلوس به في بعض الأحيان، ولو أنني لست واثقا أنه نفس المقهى فقد صحبني إليه عبد الله أفندي في أوائل الثلاثينيات وجلست مع الأدباء في الستينيات، فمن الصعب أن أؤكد إن كان المقهى هو نفسه الذي جلست به وأنا طفل، واشترى عبد الله أفندي لي وله جبنا وسلطانية زبادي ورغيفا لكل منا من الخبز الإفرنجي، فكانت من أمتع الأكلات التي طعمتها في حياتي. وإني أروي هذه الواقعة على بساطتها لأن عبد الله أفندي العربي قال لي في هذه الجلسة جملة لم أنسها حتى اليوم، وكانت تمثل لي في ذلك اليوم ضوءا ساطعا من الأمل في ظلام اليأس الذي ران علي من سقوطي في السنة الأولى الابتدائية؛ قال: يا بني لا تخف ... لا بد أنك ستفلح في حياتك ... فإن الخير الذي قدمه أبوك للناس لا يمكن أن يذهب هباء ... سيكرمه الله فيك إن شاء الله ... لا تخف.

بعد ذلك بسنوات - ما دمنا نذكر عبد الله أفندي العربي - مرض رحمه الله نتيجة إبرة طبية كسرت في فخذه وهو يتداوى بها، وحين كنا ننتظر نتيجة الشهادة الابتدائية، وكنا قد انتقلنا إلى العباسية كان هو طريح الفراش، وفي أحد الأيام دق جرس التليفون في الساعة السابعة صباحا ليبشرني عبد الله أفندي العربي أنني نجحت في الابتدائية، فقد صحا مع الفجر ليعرف نتيجة الشهادة التي كانت تنشر في صحف الصباح في هذه الأيام.

والعجيب أن عبد الله أفندي العربي مات في اليوم نفسه، وكأنه كان يستمهل الموت حتى يبشرني بنجاحي.

كانت مدرسة المنيرة الابتدائية من أعظم مدارس مصر، وكان ناظرنا فيها الرجل العظيم فهمي بك الكيلاني والد المذيعة المتميزة سميرة الكيلاني، وكان لها أخ يزاملنا في المدرسة اسمه سمير، وكان بها أساتذة من أحسن أساتذة المدارس أذكر منهم الأستاذ الشيباني الذي لا أنسى واقعة لي معه، يوم دخل إلى الفصل وكتب على السبورة بضعة أبيات أذكر مطلعها:

انظر لتلك الشجرة

ذات الغصون النضرة

وكان اسم القصيدة «الله» جل جلاله، وألقى بالطباشيرة والتفت إلى التلاميذ وسأل من يستطيع أن يقرأ هذه الأبيات، فرفعت أصبعي، وكنت لطول قامتي أجلس في آخر الفصل، وأوليت ظهري للسبورة وألقيت أبيات القصيدة جميعها، وحين استدرت صفق لي التلاميذ ووجدت الأستاذ مذهولا، وقال لي: ماذا أقول لك يا ابني، ماذا أقول؟ ابن الوز عوام.

وأعطاني الدرجة النهائية.

أذكر أن هذا كان في السنة الثانية الابتدائية، وقد كنت متفوقا في هذه السنة تفوقا لم تشهده حياتي الدراسية قط، لدرجة أنني في أحد امتحانات الفترة كان ترتيبي الخامس، وأعتقد أن هذا التفوق كان نتيجة لرسوبي في السنة الأولى.

ومن المدرسين الذين أذكرهم في مدرسة المنيرة الأستاذ محمد البابلي والد الممثلة الرائعة سهير البابلي، وكان هناك أيضا حبشي أفندي الذي أعتقد أن كل زملائي في مدرسة المنيرة يذكرونه معي، وكان دائما يسأل التلاميذ مين باباتك بس، فيجيب التلميذ حبشي أفندي بس، وفي مرة قال لي: يلعن أبوك. وكان متعودا أن يقولها للتلاميذ ولا يعلقون. أما أنا فاستهولت الأمر ونقلته إلى أبي، وأعتقد أنه كان في ذلك الحين وكيلا لمجلس النواب، وكان من عظماء مصر بشخصيته وبتاريخه الشاهق في ثورة 1919م، ولم يكن محتاجا إلى منصب، فقد كان الجميع يحترمونه ويقدرونه لذاته لا لمنصبه.

وذهب إلى الناظر فهمي بك الكيلاني، وقال ربما يكون ثروت قد أخطأ، فما ذنبي أنا، واستدعى الكيلاني بك حبشي أفندي، وسأله: هل لعنت أبا ثروت؟ فقال: نعم. وقبل أن يغضب أبي استمهله حبشي أفندي ثم نظر إلي: مين باباتك بس. - قلت حبشي أفندي بس.

ونظر إلى أبي: سعادتك لا شأن لك بالموضوع أنا أشتم نفسي.

ولم يملك أبي إلا أن يضحك وينصرف.

وقبل أن أبتعد عن القصيدة التي ألقيتها فور كتابتها أذكر أن أبي كان يجتمع في كل يوم بمكتبه بالمنزل بجماعة لا أعرف منهم أحدا، وفهمت أنهم كانوا يعدون لإقامة حفلة تأبين في ذكرى شاعر النيل حافظ إبراهيم، وحدث أن فتحت الغرفة بمظنة أن أبي وحده، ولكني وجدت معه هذه الجماعة، فاستدرت لأخرج، ولكن أبي ناداني وطلب إلي أن ألقي بينهم شيئا من محفوظاتي، فألقيت الأبيات التي عنوانها الله سبحانه وتعالى والتي مطلعها:

انظر لتلك الشجرة

ذات الغصون النضرة

فإذا بواحد من الجالسين يصيح: رفع الله رأسك كما رفعت رأسي ... أنا صاحب هذه الأبيات.

وعرفت أن الشاعر هو محمد الهراوي ، وقد كان صاحب شهرة هائلة في هذا النوع من السهل الممتنع الذي كان يحفظه تلاميذ المدارس في ذلك الحين.

وما دمت قد ذكرت هذه الاجتماعات فلا بد أن أذكر ما نتج عن تجمعها فقد أقيمت حفلة تأبين ضخمة في دار الأوبرا المصرية، وقد شهدت هذا الحفل، ولا أنسى الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني الذي كان بين المتحدثين، وقد كان معروفا عنه وعن أستاذنا العملاق عباس العقاد أنهما كانا من أشد المهاجمين لأمير الشعراء شوقي ولشاعر النيل حافظ إبراهيم.

وأذكر أن الأستاذ المازني العظيم تقدم إلى مقدمة المسرح وقال ما معناه: «أشهد الله والحق أننا هاجمنا شوقي وحافظ لنهدمهما ونقف على أنقاضهما، فلم ننل إلا من الحق ومن أنفسنا.»

وكنت في هذه السن الباكرة أصحب أبي في كل تنقلاته، وقد جعلني هذا التنقل أتعود مجالسة الكبار وأحترمهم دون أن أرهبهم، وأذكر أن محمد باشا محمود الزعيم النبيل كان يأتي أحيانا لزيارة أبي قبل أن يكمل أبي لبس ملابسه فيأمرني أبي أن أنزل إلى صاحب المقام الرفيع محمد باشا محمود، وأجلس إليه حتى يكمل هو ملبسه.

وكان الباشا يهش لي ويأنس إلي حتى ينزل أبي وأترك الكبيرين وأنصرف إلى ملعبي.

وكان أبي يصحبني وأنا في هذه السن إلى مجلس النواب لأشهد الجلسات من شرفة الزوار، وأذكر أن رئيس المجلس في ذلك الحين كان توفيق باشا رفعت، وكان رجلا رقيق الجسم ضخم الشاربين ووقعت عينه علي في شرفة الزوار، ويبدو أنه تعجب من وجود طفل في مثل سني في هذا المكان، فشهدته يشير إلى الساعي الخاص بالرئاسة ويهمس في أذنه، فإذا بهذا الساعي يصعد ويسألني: من أنت؟ وقلت له وشهدته يعود إلى الباشا ويهمس في أذنه، ويهز الباشا رأسه موافقا.

وحين دخلت كلية الحقوق وجدت الغالبية الكاثرة من الطلبة لم يشهدوا جلسة واحدة لمجلس النواب أو الشيوخ، بل إن أغلبهم لم يذهب إلى البرلمان في حياته ولا مرة واحدة، كان أبي يحرص على أن أكون معه أغلب الوقت دون إخوتي ، أما إخوتي فهم شامل الذي نال الدكتوراة من تولوز بفرنسا، ثم ارتقى في الوظائف بالشركات حتى وصل إلى رئيس مجلس إدارة شركة الأقطان بالإسكندرية، كما كان عضوا بمجلس الشعب في انتخابات 1976م، وكم أسعدني أن أمر معه في الدائرة، فكان الناخبون يقولون لي في وجهي: نحن لا ننتخب أخاك ولا ننتخبك، وإنما ننتخب أباك، وكان قد مر على وفاة أبي قرابة ربع قرن، فقد توفي في يناير 1952م، ولا شك أن أغلب الذين كانوا يقولون لي هذا من أبناء من عرفوه أو من أحفادهم، وكان ربع القرن هذا الذي يفصل بين وفاة أبي وبين الانتخابات فترة كلها هجوم على الباشاوات والسياسيين الذين يمثل أبي فيهم صورة جلية الملامح، ولهذا لم يكن غريبا أن أقول يوما للدكتور ثروت عكاشة وهو وزير للثقافة والإعلام نحن إقطاعيون ولو أن الثورة لم تأخذ منا مليما واحدا ولا سهما من أرض، فنحن لسنا أغنياء، ولكننا إقطاعيون بحب الناس لنا، وبحبنا للناس، وهو إقطاع لم تستطع الثورة ولن تستطيع أن تمسه أو تنقص منه.

وشامل يصغرني بسنتين وبضعة أشهر، فهو من مواليد أبريل 1930م وأنا لا أذكر أحداث اليوم الذي ولد فيه، وإنما نشأت وأنا أجده، وشامل شاعر متمكن وإن كان قليل النشر، وقد نظم الشعر في سن باكرة مع أنه نال بكالوريوس التجارة ويعتبر اليوم من أكبر خبراء الاقتصاد في شئون القطن، وقد نال الدكتوارة في الإصلاح الزراعي، وهو أخي الوحيد وله ابنة (هدى) الحاصلة على ماجستير في الآداب ومدرسة بكلية الآداب، وإبراهيم الحاصل على ليسانس الآداب، ولي بعد ذلك أختان أكبرهما زينات، وأذكر يوم ميلادها ذكرا هشا فقد ولدت بغزالة، وأذكر أن البيت كان هائجا وقيل لي إن ذلك الهياج كان بسبب حالة الولادة، وقد تزوجت زينات ابن عمنا طوسون أباظة الذي تربى في المدارس الإنجليزية، وهذا ما يجعلنا نمازحه ونعتبره خواجة وقد أنجب الزوجان ابنا هو أبو بكر ونال بكالوريوس التجارة، ويعمل بالبنوك، وابنة أسمياها دلبار على اسم جدتي لوالدي، وقد نالت بكالوريوس الطب ولم تعمل بها، وإنما تزوجت وتقيم مع زوجها في أمريكا، وقد نشأت زينات متعلقة بالأطفال منذ صغرها، وإن فيها حنانا لو وزع على الكرة الأرضية لملأها رحمة ومحبة.

وأختي الصغرى هي كوثر، وأذكر مولدها في حلوان، وكنت في التاسعة من عمري، وأذكر في يوم مولدها أن أبي كان جالسا في حجرته وحلا له أن يعلمني بعض كلمات في الإنجليزية فكتب عشر كلمات، وقال احفظ هذه الكلمات، فأخذت الورقة ونظرت فيها لحظة وأعطيتها له، فدهش وقال في غيظ: اسمع أنت لم تكن ترى الورقة، فإن كنت حفظت في هذه اللحظة الوجيزة كل الكلمات فسأعطيك عشرة قروش، وإن أخطأت في كلمة واحدة سأضربك.

وأبي لم يكن ضربني حتى ذلك اليوم إلا مرة واحدة يوم أخبرته المربية العجوز أنني أذهب إلى المدرسة دون أن أغسل وجهي، ولهذا وقع تهديده من نفسي موقعا مخيفا، ولكن الله ستر وأخذت القروش العشرة.

وكوثر أختي كانت تعتبرني المربي الأول لها، فقد كنت أخالطها أكثر مما تخالط أبي، ولهذا كانت في طفولتها تخشاني ولكن ما لبثت هذه الخشية أن زالت مع الزمن وحل مكانها الحب الذي يكون بين أخ وأخته لا يرنق صفاءه شيء، وقد تزوجت كوثر من الطبيب الشهير أحمد عبد العزيز إسماعيل نجل الطبيب العملاق الأشهر عبد العزيز باشا إسماعيل، وقد أنجبا بنتين هما سناء، وهي حاصلة على الدكتوراة من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وتدرس بها، وهي متزوجة من المهندس شريف نجل المستشار العظيم الخريبي بك، وأختها وفاء حاصلة على الماجستير من نفس الكلية وزوجها د. محمد الخولي طبيب أطفال وابن الطبيب الشهير الدكتور الخولي، كما أنجبت أختي وزوجها ابنهما الوحيد عبد العزيز وهو مهندس.

تلك هي أسرتي، وقد شهد أبي زواج زينات وزواج كوثر، وقد صحبها زوجها إلى أمريكا بعد الزواج مباشرة ليكمل دراسته بها، ولم يشهد أبي زواج شامل فقد تم بعد وفاته، ولو كان شهده لفرح به وباركه كل المباركة، فقد اختار شامل شريكة حياته ابنة محمود فهمي النقراشي باشا الذي كان صديقا لأبي في مطالع شبابهما، ثم افترق الصديقان فترة حين نشأ حزب الأحرار الدستوريين عام 1922م وكان أبي من منشئيه وأصبح أبي حرا دستوريا، وظل النقراشي باشا في الوفد حتى خرج عليه هو وأحمد ماهر باشا عام 1938م ليكونا حزب الهيئة السعدية، وقد ألف النقراشي باشا الوزارة، وكان أبي وزيرا فيها معه، ونال الباشوية فيها وعادت الصداقة تربط بينهما من جديد كأنهما ما تفرقا، وظلا صديقين حميمين إلى أن استشهد النقراشي باشا على يد أحد مجرمي الإخوان المسلمين.

الفصل الثاني

تراني أسوق إليك الحديث في عفوية ودون إعداد، فأنا لم أضع خطة للحديث إليك، وإنما أترك حياتي تتواكب في ترسل تمسك فيها الواقعة بالواقعة والمناسبة بالمناسبة، وما هكذا عهدت الكتب التي كتبت في السيرة الذاتية، ولكن أي بأس علي وأي بأس عليك أن يكون حديثنا حديث صديق لصديق أو أخ إلى أخيه في غير تنسيق أو تبويب أو تجمل. فخذ بيدي ولنمض معا على هذا الطريق، وأنا وإياك على فيض الكريم.

كان من بين الجماعة التي تنظم حفلة تأبين حافظ إبراهيم الأستاذ العظيم كامل الكيلاني، وكان في هذه الأيام قد بدأ كتابة مؤلفاته الرائعة في أدب الأطفال أو قصص الأطفال إن شئت، وهي مكتبة ليس لها مثيل في الأدب العربي أجمع، فقد استطاع الأستاذ الكيلاني أن يبسط الأدب العالمي ويجعل الطفل في سن باكرة يتعرف على أمهات هذا الأدب، وقد كانت أعظم هدية أتلقاها من أبي في هذه الفترة هي كتب كامل الكيلاني، وأذكر وأنا في الثامنة من عمري أن الأستاذ الكيلاني أهدى عشرة كتب من مؤلفاته إلى أبي وأعطاني أبي الكتب، ودخلت إلى غرفتي وانبطحت أرضا، وبدأت أقرأ الكتب فما زلت بها حتى أتيت عليها وأنا في عالم سحري عجيب. أعتقد أن هذه السنوات كانت أجمل سنوات حياتي وأجمل أوقاتها هي تلك التي بدأت فيها أتعرف على الكتاب وأصاحبه صحبة دامت حتى يومنا هذا.

وقد استطعت بفضل مكتبة الكيلاني أن أنتقل إلى الأدب الكبير دون أن أشعر بأي جهد ، فحين بدأت قراءته سيطرت علي متعة القراءة، وانتقلت بعد ذلك إلى تيمور، ثم في غير ترتيب زمني رحت أقرأ للعمالقة مبهورا بهالة العوالم التي تفتحت آفاقها أمام عقلي ووجداني وكياني كله وأنا أقرأ لطه حسين وهيكل والعقاد والزيات وأحمد أمين والمازني الذي كثيرا ما جعلني أقهقه وأنا أقرؤه وحدي في غرفة مغلقة، وتعلو قهقهتي ويسمعها الذين بخارج الغرفة، والله وحده يعلم ماذا كان يظن بي الجالسون خارج الغرفة.

وأذكر في هذه الأيام أنني كنت في مدرسة المنيرة الابتدائية، وقد تضحك كثيرا إذا علمت أنني كنت في فريق الكشافة، ورقيت في هذا الفريق حتى أصبحت رئيسا للفريق، وقبل أن أحصل على الابتدائية اشترى أبي بيتا جديدا في العباسية، وظللت بضعة أسابيع أستقل ترام رقم 22 لأذهب من العباسية إلى المنيرة، ولكن هذا كان يكلفني أن أصحو مبكرا عن موعد المدرسة بساعة أو أكثر، وقد عشت عمري أكره شيء إلى نفسي أن أبكر في الاستيقاظ، وما هذا إلا لأنني كنت أسهر إلى ساعات متأخرة من الليل أقرأ، وكانت القراءة تستهويني، وتبتلعني حتى ما أفيق إلى الساعة التي أنا فيها، وقد ظللت عمري كله لا أنام إلا بعد أن أقرأ، وقد أقرأ أربع ساعات متصلة أو أقل أو أكثر، ولكن لا بد أن أقرأ على أي حال، حتى في رأس البر، ولم تكن الكهرباء متاحة لي فكنت أضع على صدري بطارية جيب وأقرأ عليها حتى يخفت نورها وتصبح الكلمات غير مقروءة فأنام مرغما.

وهكذا انتقلت إلى مدرسة العباسية الابتدائية في منتصف العام الذي كان مفروضا أن أتقدم فيه لنيل الشهادة الابتدائية.

والحقيقة أنني ليست لي ذكريات كثيرة في مدرسة العباسية إلا أنه كان لنا مدرس حبيب إلى نفوسنا نحن التلاميذ اسمه التاجي أفندي، ومنذ أسابيع قليلة التقيت بطبيب يحمل نفس الاسم، فإذا به ابنه الذي يبلغني أن أباه - أطال الله عمره - يتمتع بصحة جيدة والحمد لله، وكان الأستاذ التاجي هو المسئول عن فريق الكشافة وما إن علم أنني كنت رئيس الكشافة في مدرسة المنيرة حتى جعل مني رئيس الكشافة في مدرسة العباسية أيضا.

ومن بين تلاميذ فصلي زميل لي لن أذكر اسمه حفاظا مني على حق الزمالة، جاء في الحصة رسول إلى هذا الزميل فأبلغه بموت أبيه فرحنا جميعنا نعزيه وخرج التلميذ، وانقضى العام وتفرق فصلي.

ومرت أعوام ودخلت إلى كلية الحقوق وأصبح أبي وزيرا للأوقاف من بين الوزارات التي تولاها في هذه الفترة، وفوجئت بهذا الزميل يرسل إلي خطاب توصية لأعين حامله إماما بأحد المساجد، واهتممت بالشيخ وأخذته معي في السيارة لأذهب به إلى وزارة الأوقاف، وبعد المنزل ببضعة أمتار توقفت السيارة في حاجة إلى بنزين فنزلت وناديت خادما من بيتنا ليأتيني من والدتي بثمن البنزين، وكان كل ما أطلبه لا يزيد على عشرة قروش، فقد كانت سيارتي صغيرة وكان البنزين يباع في هذه الأيام بوحدة الجالون، وكان الجالون أربعة لترات، وقد كانت كافية أن أسير بالسيارة يومين أو أكثر، وفي انتظار القروش العشرة نزلت من السيارة أنا والشيخ، وإذا بالشيخ يخرج من جيبه ظرفا فيه بضعة نقود جديدة قدرت بالنظرة السريعة أنها خمسة جنيهات وقدم الشيخ النقود إلي، وفي لحظة وجدت الدماء تصعد إلى رأسي، وأتناول النقود وأمزقها وألقي بها إلى الأرض وما زلت ألوم نفسي على هذا الذي فعلته حتى اليوم، لا يخفف عني اللوم إلا أنني حين مزقت النقود لم أجعلها غير صالحة للاستعمال بعد ذلك.

وطردت الرجل الذي راح يلملم النقود وانصرف، ومرت السنوات وتزوجت وأقمت بشقة بالزمالك، وكنت مع زوجتي في سينما في الحفلة الأخيرة وعدت إلى منزلي الساعة الثانية عشرة مساء تقريبا، فوجدت هذا التلميذ الذي أبلغ بموت أبيه في فصلنا بالعباسية ودهشت لوجوده، فإذا به يبلغني أن أباه مات اليوم، وأنه لا يملك ما يدفنه به وطلب مني مبلغا من المال لم يكن من اليسير وجوده في هذه الأيام ورحنا أنا وزوجتي نجمع ما معنا حتى أكملنا المبلغ وأعطيته له وأنا أعلم كذبه، وأغلب الأمر أنه نسي أنني شهدت علمه بموت أبيه قبل اليوم الذي قصد إلي فيه بأكثر من أحد عشر عاما ولعله توهم أنني نسيت ذلك اليوم.

ولم أقل له إنني أذكر يوم وفاة أبيه، ولكنني لم أره بعد ذلك اليوم، ولعله رأى في عيني ما حاولت أن أخفيه عنه.

انتقلت بعد ذلك إلى مدرسة فاروق الثانوية وربما كانت أفخم مدرسة في مصر في ذلك الحين، فقد كانت حديثة الإنشاء والذي أنشأها رجل التعليم الشهير الأستاذ إسماعيل القباني على أساس أن تكون مدرسة نموذجية، وتولى هو نظارتها، ولكنني حين ذهبت إليها كان قد تركها، وكان الناظر فيها الأستاذ العظيم عبد الواحد بك خلاف، ثم تلاه الرجل العظيم الآخر نجيب هاشم الذي أصبح بعد ذلك وزيرا للتعليم، ثم سفيرا لمصر في الفاتيكان. ولعله من الطريف أن أروي أنه كان سفيرا في أول مرة أزور أنا فيها روما مقر سفارته، وقبل سفري عثرت على خطاب منه إلى أبي يشكو فيه من كثرة تغيبي عن المدرسة، وعلى ظهر الخطاب رد أبي الذي كتبه لينقله سكرتيره ويرسله إلى حضرة الناظر، وكان خطاب أبي يحث نجيب بك أن ينزل بي ما يشاء من عقاب، وأن أبي من جهته سيحرص على ألا أتغيب عن المدرسة، وقد استقبلني نجيب بك في روما أحسن استقبال وقدمت له هذا الخطاب الذي لا يشرفني، وضحكنا كثيرا مما يحويه، وقد تفضلت السيدة الكريمة باصطحابي أنا وزوجتي إلى كثير من معالم روما ونوافيرها، وكنت في ذلك الحين قد أصبحت أديبا معروفا وكنت حصلت قبل زيارتي لروما بعشر سنوات على جائزة الدولة التشجيعية، وهكذا كان نجيب بك سعيدا بي سعادة أب بابنه، وقد كان محقا في شكواه من تغيبي فقد كنت قارئا متهوسا، ولم أكن أترك المدرسة لأذهب إلى أي مكان، وإنما كنت أنزل من الطابق الأعلى في بيتنا وأتسرب إلى حجرة في الطابق الأدنى وأقفل الباب وأروح أقرأ في كتب الأدب.

وكان كبير الخدم عندنا اسمه عم أحمد، وكنا نناديه بلقب عم أحمد توقيرا له، وفوجئت يوما وأنا في خلوة قراءتي بباب الحجرة يكاد ينخلع من شدة الخبط عليه، وفزعت إلى الباب وفتحته، فإذا بوالدتي أمامي تتميز من الغيظ، ولولا أنني كنت قد تجاوزت الطفولة إلى مطالع الشباب لانهالت علي ضربا، وأمرتني أن أذهب إلى المدرسة فورا، فقد كانت أمي حريصة حرصا مبالغا فيه أن أنال الشهادة العالية لدرجة أنني كنت إذا ظهرت نتيجة العام وأنا لي ملحق في مادتين أو أكثر تمرض والدتي بضعة أيام وتمتنع عن الطعام. وكان حزن والدتي يتمثل في النوم، كانت إذا حزنت نامت، وهذا من لطف الله بها وكانت رحمها الله تستحق هذا اللطف من الله، فإني لم أعرف أما رءوما في مثل حنانها، وكانت تعين البائسين وذوي الحاجة، وتسعى لهم لدى أبي حتى يقضي حوائجهم، ولا أذكر أنها تأخرت عن قاصد لها مطلقا.

لم أنته بعد من قصة أمي وضبطها لي متخلفا عن المدرسة، عدت من المدرسة وذهبت إلى والدتي، وكانت - رحمها الله - قريبة الرضى، وظللت أتلطف معها حتى عرفت أن الذي أبلغها بعدم ذهابي إلى المدرسة هو عم أحمد، ومن العجيب أنني في هذه السن قدرت له ما فعل وشكرته في نفسي، فما كان يبغي إلا مصلحتي من وجهة نظره، وبحثت عنه فقيل لي إنه ذهب إلى البلد هو وأسرته الكبيرة، وكلهم من بلدتنا غزالة، ولكنه كان يقيم مع زوجته وأولاده ببيتنا بالعباسية بحجرة بالبدروم، وكانت حجرته دائما غاية في النظام والنظافة، فقد كان هو دائما حسن الهندام نظيفا، وكذلك زوجته أم زكية التي أرضعتني على ابنها عبد العظيم، وكثيرا ما كنت أزورها في حجرتها بالبدروم، بل كثيرا ما كنت أتناول طعامي في هذه الحجرة.

طالت غيبة عم أحمد بالبلدة وهمس لي سائقنا الذي كان من البلد أيضا أن عم أحمد لن يعود. - لماذا؟ - لأنه قدر أنك ستكون غاضبا عليه.

ودهشت من إخلاص هذا الرجل، لقد وازن بين بقائه في عمله الذي هو مورد رزقه الوحيد وبين أن يغمض عينيه عن تخلفي عن المدرسة، الأمر الذي قد يؤدي إلى عدم فلاحي كما يعتقد، فأبلغ والدتي بأمري وترك عمله وتوكل على الله، وقد كان لصيقا بأبي، فقد كان خادمه الخاص، وكان يسافر معه أوروبا، ويعرف كيف يريحه ويلبي كل طلباته دون أن يطلبها، فقد قضى حياته كلها مع أبي هو وأبوه كذلك، وأقاربه جميعا يعملون في الأرض عند أبي.

سارعت فطلبت عم أحمد في غزالة بالتليفون، وطبعا لم يكن ببيتنا هناك، ولكني طلبت من الذي أجابني بالبيت أن يناديه لينتظر مني مكالمة ... وكلمته. - ماذا يا عم أحمد ... لماذا لم تأت؟

فقال في صوت به آثار ضحك: أتريدني أنت أن أجيء؟ - طبعا. - بكرة سآتي.

وأرجو الله أن أكون قد أكرمت هذا الرجل على قدر ما شهدت من تضحيته وحبه وإخلاصه لنا.

في مدرسة فاروق بدأت رحلتي مع الملاحق، فكنت دائما أنتقل من السنة إلى الأخرى بملحق حتى حصلت على شهادة الثقافة، وهي تعطى لمن يتجاوز الامتحان في السنة الرابعة الثانوية، وهي السنة السابقة على شهادة التوجيهية التي أصبح اسمها الثانوية العامة.

وقد كان يوم حصولي على شهادة الثقافة يوما مشهودا في حياتي، كنت في ذلك اليوم أترقب ظهور مقالتي الثانية في مجلة الثقافة التي كانت تصدرها لجنة التأليف والترجمة والنشر، وهي أعظم لجنة أدبية عرفها تاريخ مصر، فقد كانت تضم عمالقة الأدب جميعا بلا استثناء.

ومع أنني كثيرا ما رويت كيف نشرت أول مقالة لي في حياتي إلا أنني أعتقد أنني لن أستطيع أن أقدم إليك هذا الكتاب دون أن أذكر بداية حياتي مع الكتابة، وأنا قبل كل شيء وبعد كل شيء كاتب، وفي العام القادم أكون قد قطعت من عمري خمسين عاما في الكتابة.

كنت طالبا في الثقافة السنة الرابعة الثانوية في مدرسة فاروق الأول الثانوية، وكان يدرس لنا اللغة العربية أستاذ طيب اسمه الأستاذ ضاحي كتبت له موضوع إنشاء استعملت فيه كلمة تساءل فيما أذكر، فإذا يضع تحتها خطا ويقول لي: تساءل على وزن تفاعل، وتفاعل لا تكون إلا في تبادل الشيء بين شخصين فاستعمالك لها غير صحيح.

وعجبت من هذا الذي يقول، فما إن ذهبت إلى المنزل حتى هرعت إلى القاموس وما لبثت أن تبينت أن الأستاذ أخطأ خطأ فادحا، وكان خطأ الأساتذة في ذلك الحين كبيرة من الكبائر، كتبت كلمة عنوانها تصحيح أوراق، وكان الأستاذ الشاعر العظيم العوضي الوكيل قد عرف أبي وعرفني بصديق امتدت صداقتي الوطيدة به حتى اختاره الله إلى جواره هو الأستاذ عثمان نويه. وكان والد عثمان نويه يعمل في ذلك الحين مدرسا بمدرسة خليل أغا زميلا للشاعر العوضي الوكيل شيخا معمما، وكان والدي زميلا لأحمد بك أمين الذي كان في ذلك الوقت عميدا لكلية الآداب، وأديبا من أدباء الصدارة في العالم العربي، وكان قبل ذلك زميلا لوالد عثمان نويه في مدرسة القضاء الشرعي، وكان أحمد بك أمين يعتبر نفسه والدا روحيا لابن زميله عثمان نويه.

قرأ عثمان نويه الكلمة الصغيرة التي كتبتها عن خطأ الأستاذ وقال سأعرضها على أحمد بك أمين.

وانتظرت عودة عثمان من زيارة أحمد بك أمين بصبر نافد، فقد كنت في السادسة عشرة من عمري، وكان نشري بمجلة الثقافة التي كانت تحتل هي وأختها الرسالة مكان الصدارة في الحياة الأدبية أمرا يفوق كل أحلامي.

وعاد عثمان نويه، وقال إن أحمد بك رضي عن الكلمة وسينشرها، ولم أصدق ورحت أسأل عثمان عن تفاصيل ما دار بينه وبين العميد الجليل، فقال إنه قرأها ... سأل: هل هي لمدرس زميلك؟

فقال عثمان في سرعة بديهة: بل هي لصديق محام.

ولم يجرؤ أن يصارحه أنها لطالب في الثقافة، ونشرت الكلمة، وكان زملائي في مدرسة فاروق يقرءون الثقافة والرسالة ويهتمون بالأدب حتى أننا أنشأنا لأنفسنا مكتبة خاصة في الفصل يضع فيها التلاميذ كل الكتب التي يشترونها في دولاب أحضرته أنا من منزلنا، وتظل الكتب في الفصل طوال العام الدراسي، ويسترد كل تلميذ كتابه بعد أن يكون الفصل كله قد قرأه.

ولم أكن أخبرت أحدا من زملائي شيئا عن كلمتي التي أرسلتها للثقافة فكانت المفاجأة مذهلة وعرف الزملاء أنني صاحب الكلمة على الرغم من أنني وقعتها بتوقيع: «تلميذ قديم»، وتبادل تلاميذ المدرسة كلها وأساتذتها أيضا قراءة الكلمة، واستدعاني نجيب بك هاشم - رحمة الله عليه - وطلب إلي في لطف وكياسة ألا أهين أساتذتي وأذكر أنني قلت له: ما دمت أملك قلما فلا يستطيع أحد أن يظلمني. ولك أن تقدر كبر هذه الكلمة من صبي يافع ما زال تلميذا بالثانوي. ولم تنشر له إلا كلمة صغيرة بدون توقيع، وحتى يومنا هذا كلما ذكرت هذه الكلمة تأكد عندي أن الغرور لا يكون إلا مع المبتدئين، وأنه يتلاشى ويتخافت ويذوب كلما كبر المرء وبلغ مبالغ النضج.

كان من الطبيعي بعد أن نشرت الكلمة أن يصارح الأستاذ عثمان نويه أحمد بك بأن الكاتب تلميذ بالسنة الرابعة الثانوية، وطلب أحمد بك أن يلقاني وذهبت إليه، وكانت بداية تلمذة مني للأديب العملاق، وقد طلب إلي أن أقرأ بعض كتب التراث وسمى لي أسماءها، وسارعت إليها وقرأتها جميعا ووجدت في قراءتها متعة عظيمة، أذكر منها على سبيل المثال كتاب العمدة لابن رشيق، وكتاب الكامل للمبرد وغيرهما وغيرهما، وقد جعلني هذا أقرأ كتاب الأغاني ولم أستطع أن أكمله إلا حين أهدى إلي عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين كتاب الأغاني مختصرا ومرفوعا منه العنعنة الذي حققه هو والأستاذ إبراهيم الإبياري، وقد قرأت هذا الكتاب أكثر من مرتين أو ثلاث.

وأعطيت أحمد بك أمين مقالة أخرى عنوانها «شعراء مغمورون»، وكتبت فيها عن الأستاذ أحمد القرعيش والأستاذ توفيق العوضي أباظة.

وما لي لا أذكر لك ما اخترته لكل من الشاعرين في هذه المقالة.

أما الأستاذ أحمد القرعيش فقد أخذت له هذه الأبيات:

قالت: أحبك صادق؟

قلت: الدلائل قاطعات

قالت: وعهدك؟ قلت:

باق ما رعت عهدي الحياة

قالت: وحبي؟ قلت: فصل

مثلته الغانيات

قالت: وعهدي؟ قلت:

ذاك هو الأماني الكاذبات

ضحكت وقالت: هكذا

من قبلك العشاق ماتوا

أما أبيات توفيق العوضي، فقد كانت خطابا منه إلى المستشار الأديب المحقق جمال الدين بك أباظة عم الشاعر العملاق عزيز باشا أباظة، وفي الأبيات يشكو توفيق إلى جمال بك ابن أخيه أنه أرسل إليه خطاب تحية فلم يرد عليه، تقول الأبيات :

جمال الدين والدنيا سلاما

يضوع شذى كأنفاس الخزامى

وبعد فهل أتاك حديث قوم

نكلمهم فيأبون الكلاما

بعثت إلى عزيز القول شعرا

أحييه فما رد السلاما

فإن يك أكبر الشعراء طرا

وأعظمهم وأسماهم مقاما

فقد نادى إله الناس موسى

وناجى العبد من خلق الأناما

وبنت النمل كلمها نبي

وبادلها المحبة والوئاما

فلست أقل من نمل ضعيف

وليس أجل من ملك تسامى

وكان إعطائي المقالة لأحمد بك أمين مواكبا في الزمن مع فراغي من الامتحانات واستعداد منزلنا للذهاب إلى رأس البر للمصيف، فقد كانت الحرب العالمية على أشدها وانتقل المصطافون من الإسكندرية إلى رأس البر.

وذهبنا إلى رأس البر، ومكثت أترقب ظهور المقال، وقد كنت لا أطيق أن أبحث عنها مع بائع الجرائد، بل كنت أستبق الزمن وأذهب إلى شارع النيل في رأس البر أنتظر المركب الذي كان يأتي بالصحف، وأشتري المجلة، ولكني لا أجد بها المقالة فتضيق بي الحياة، وأحسب اليوم أن انتظاري لظهور المقال كان يؤزني إذا لم أشعر به في انتظار نتيجة شهادة الثقافة، وكنت قد أخبرت أبي أنني أعطيت مقالة لأحمد بك أمين، وكان يشعر بحزني كلما ظهر عدد من مجلة الثقافة وليس به مقالتي.

حتى كان ذلك اليوم المشهود الذي بدأت به هذا الحديث إليك، في ذلك اليوم ذهبت أستحم في البحر، وطبعا نزلت إلى البحر بدون نظارة النظر التي كنت قد بدأت لبسها قبل هذه الفترة بسنتين تقريبا وأنا بها أرى حتى السطر الأخير من اللوحة بدرجة 6 / 6 وبغيرها يكون نظري ضعيفا لا أستطيع أن أحدد الأشياء البعيدة.

وفي البحر استطاع بصري أن يرى عن بعد رجلا مسنا يحتزم بقرعتين ليعيناه على البقاء طافيا على سطح الماء، ولا أدري لماذا اقتربت من هذا المسن، ربما لأنني منذ طفولتي أحس حنينا لكبار السن، وربما لأنني عجبت من استعمال القرع المجفف للطفو وكانت العجلات هي المستعملة في هذا الغرض.

وفوجئت حين اقتربت أن هذا الرجل لم يكن إلا أستاذنا العظيم أحمد بك أمين الذي لقيني أجمل لقاء، وسألته عن مصير مقالتي فقال لي شيئا لم أكن أتوقعه قط، قال إنهم لم يشاءوا أن ينشروا شيئا عن عزيز بك أباظة، ولم يكن قد نال الباشوية بعد، وأنهم أرسلوا إليه خطابا يستأذنونه في نشر أبيات توفيق العوضي عنه، وقد أعجبت كل الإعجاب بمنطق المجلة وبخلق المشرفين عليها، وقلت لأحمد أمين إنني أستطيع أن أرسل أبياتا أخرى غير هذا فقال: «يكون أحسن.» وملأت نفسي الفرحة، وخرج أحمد بك من البحر وتبعته أنا ذاهبا إلى عشتنا وأخبرت أبي بسبب تأخير نشر المقالة، وبعد الظهر من اليوم نفسه ذهبت إلى مسرح برأس البر وحجزت لنفسي تذكرة لمشاهدة عميد الفن الكوميدي في مصر والشرق نجيب الريحاني، وعند عودتي كانت الشمس لم تغرب بعد، وإنما تميل إلى الغروب وجدت عامل تلغراف يدور بين العشش تائها، سألته عمن يريد؟ فقال: أريد عشة دسوقي بك أباظة. قلت له: أنا ابنه. فسلمني برقية من قريبنا المرحوم الأستاذ عبد الله عوضي أباظة الذي كان مدرسا بالثانوي، وكانت البرقية تحمل تهنئة بنجاحي في شهادة الثقافة، ومنذ ذلك اليوم وأنا أستبشر خيرا كلما رأيت الريحاني في السينما أو في التلفزيون، ذهبت في اليوم نفسه إلى عشة أحمد بك أمين ووجدت عنده العلامة القانوني العظيم السنهوري باشا، وسلمت أحمد بك مقالة أخرى فيها أبيات لتوفيق غير هذه التي أوقفت النشر.

وهكذا كان هذا اليوم يوما مشهودا في حياتي كما ترى، حدث بعد ذلك أن رافقت أبي إلى بلدتنا غزالة، وكانت المقالة قد نشرت، فوجدت الأستاذ القرعيش قد نظم أبيات تحية لي سأذكر البيت الأول منها فقط؛ لأنها تؤرخ الفترة جميعها يقول في مطلع الأبيات:

نال الثقافة وازدهى

ببراعة صدر الثقافة •••

في غمرة حديثي عن تلك المرحلة لم أذكر أن أبي تولى الوزارة لأول مرة في 26 يونيو سنة 1941م، وكنت في السنة الثالثة الثانوية، وكان توليه الوزارة قبل تاريخ مولدي بيومين، وقبل أن يتولى أبي الوزارة كان حزب الأحرار قد رشحه لرياسة مجلس النواب بينما رشحت الهيئة السعدية أحمد ماهر باشا وكان رئيس الوزارة المرحوم حسن صبري باشا، وقصة هذا الرجل مع أبي عجيبة، فقد حدث في سنة 1938م أن أبي كان بصفته سكرتير عام حزب الأحرار يقوم بإعداد أسماء مرشحي الحزب في الانتخابات، وكان رئيس الوزراء محمد محمود باشا، ولم يشترك أبي في الوزارة، وكان هذا موضوع دهشة كبرى من الناس ألا يشترك سكرتير عام الحزب في الوزارة، ولكن محمد باشا اعتذر له اعتذارا شديدا، وجد أبي نفسه مضطرا أن يقبله لما لمحمد باشا محمود من مكانة خاصة في نفسه، وبينما أبي مشغول بإعداد الانتخابات كلمه حسن باشا صبري في التليفون وكان في ذلك الحين وزيرا في وزارة محمد باشا، وكان مقربا من الإنجليز، وطلب إلى أبي أن يضع أحد الأسماء مرشحة في دائرة معينة، ولكن أبي اعتذر بأن هذه الدائرة بها عضو قديم في الحزب؟ ولا يستطيع أن يتخطاه فإذا بحسن صبري يقول لأبي: أتناقشني؟!

فوضع أبي سماعة التليفون في وجهه ...

وبعد ذلك ببضعة أشهر حدثت في الوزارة أزمة استدعت إخراج وزير الزراعة من وزارته، وكان مجلس الوزراء مجتمعا حين قال محمد باشا للوزراء إنه مضطر أن يفض الاجتماع؛ لأنه على موعد مع الملك ليوقع منه مرسوم تعيين وزير الزراعة، وسأله الوزراء: من الوزير؟

وقال محمد باشا: إنه برلنتة (أي شخص من ألماس). - من؟! - دسوقي أباظة.

فإذا حسن صبري باشا يقول: إذا دخل دسوقي أباظة الوزارة من هذا الباب، فسأخرج من الباب الآخر؟

وهكذا لم يعين أبي وزيرا في وزارة محمد باشا محمود، وظلت الوزارة بغير وزير زراعة حتى استقالت.

وجاءت بعدها وزارة مستقلة يرأسها علي باشا ماهر لم يشترك فيها أحزاب.

ثم ألف بعد ذلك حسن صبري الوزارة، وكان طبيعيا ألا يشترك أبي في وزارته.

ولعل القارئ يدهش أن أبي رغم هذا الذي فعله معه حسن باشا صبري كان دائم المديح له في العلن، ولنا نحن أبناءه والمقربين إليه، فإنني لم أجد أحدا في العالم ولا في التاريخ يفصل بين الحق وبين مشاعره الشخصية، كما كان أبي يفعل.

وبهذه المناسبة أذكر لأبي قصة جديرة بأن تروى، كان المدرس الخاص الذي يدرس لي مادة الرياضة على صلة وثيقة بأسرة وزير وفدي كبير، وكنت خليقا أن أذكر اسم الأستاذ لولا خشيتي أن يكشف اسمه عن شخصية الوزير الوفدي، وهو أمر لا أقبله، فإنني إن فعلته أكون بهذا قد خرجت عن النهج الذي انتهجه أبي، والذي سيتضح لك من هذه القصة، جاء أستاذ الرياضة، وطلب إلى أبي أن يحدد موعدا ليلقاه فيه أخو الوزير الوفدي الكبير، وجاء الأخ والتقى بأبي وإذا به يقدم أوراقا لأبي تثبت أن الوزير الوفدي يأكل أموال إخوته ويغتصبها لنفسه، وطلب الأخ إلى أبي أن ينشر هذه الوثائق في جريدة السياسة التي كان يصدرها حزب الأحرار الدستوريين، وإذا بأبي يقول له: يا ابني نحن لا نحارب خصومنا السياسيين بالإيقاع بينهم وبين إخوتهم وأسراتهم، فهذه الأمور لا تتصل بالسياسة الشريفة، أنا لا أعرف أخاك معرفة شخصية، ولكنني مستعد أن أدعوه إلى بيتي، وأدعوك أنت وإخوتك معه وأصفي ما بينكم من خلافات في جلسة أسرية، أما أن أنشر هذه الخلافات الخاصة فليس من أخلاقنا.

وانصرف أخو الوزير الوفدي ومعه أوراقه.

ونعود إلى حسن باشا صبري.

وحدث أن اختلف السعديون مع حسن باشا صبري، وتركوا الوزارة، وجاء موعد انتخابات الرئاسة لمجلس النواب، وكان رئيس المجلس أحمد باشا ماهر، وكان لا بد أن تجرى الانتخابات حسب النص الدستوري، ورشح حزب الأحرار أبي كما قدمت، وكان نجاح أبي مرجحا.

وفي أثناء حملته الانتخابية، وقبل موعد الانتخابات بيومين، كنا جالسين مع أبي أنا وخالي علي واثنان أو ثلاثة من الأصدقاء وكان باب المكتب مغلقا، ففوجئنا بالباب يفتح بقوة، وتشريفاتي رئيس الوزراء واقفا به، وكان اسمه الأستاذ ميشيل ساويرس، وكان معروفا بأدبه الجم، وكان يعمل مع كل رؤساء الوزراء؛ لأنه لم يكن له شأن بالسياسة مطلقا، وإنما كان خبيرا بشئون وظيفته، صاح ميشيل ساويرس في دربة ومران: دولة رئيس الوزراء.

وقام أبي إلى بهو المنزل، وتبعناه، ورأينا حسن باشا صبري يحتضن أبي وهو يقول: أهلا سعادة رئيسنا العظيم.

ورحب به أبي ودخلا معا إلى حجرة الاستقبال، وأغلقت عليهما الأبواب، وبقي معنا في المكتب ميشيل ساويرس نتحدث في أي شيء ما عدا السياسة.

وطالت الجلسة بين أبي وبين رئيس الوزراء، وأخيرا خرجا وودع أبي رئيس الوزراء وشملنا الحبور، فلو لم يكن نجاح أبي مرجحا ما زاره رئيس الوزارة لتصفو علاقته به، فقد أدرك أن الأمور لن تستقيم إلا إذا كان رئيس مجلس النواب على علاقة طيبة مع رئيس الوزراء.

وجاء موعد الانتخابات، وبدأ اليوم بداية طبيعية، وقد كان لافتتاح البرلمان في ذلك العهد مراسم رائعة. كان الملك يركب عربة تجرها خيول، والعربة مفتوحة وتسير في طرقات القاهرة من عابدين إلى مجلس النواب، ويكون رئيس الوزراء بجانب الملك في هذا الموكب تحف بهما الخيول يركبها الحرس الملكي ويتقدم الموكب الموتسيكلات وتقف جموع الشعب على الصفين تصفق وتهلل، شأنها دائما، حتى يصل الموكب إلى دار البرلمان وتنطلق المدافع مؤذنة بوصول الموكب، ويدخل الملك إلى قاعة مجلس النواب، ويجلس بين تصفيق الأعضاء على كرسي العرش بالمجلس الذي لم يعد موجودا الآن بالقاعة، وإنما نقل إلى متحف مجلس النواب، وبعد ذلك يبدأ رئيس الوزراء في إلقاء خطبة العرش، وكان المفروض أن الملك هو الذي يلقي خطبة العرش، ولكن لأن الدستور النيابي بدأ في عهد الملك فؤاد الذي كان لا يجيد العربية فقد استقر العرف الدستوري على أن يلقى رئيس الوزراء خطبة العرش باسم الملك فيقول: «وستعمل حكومتي»؛ لأنه يتكلم بلسان الملك لا بلسان رئيس الوزراء.

بدأ حسن باشا صبري يلقي الخطبة، ولكن فجأة يسقط حسن باشا صبري على الأرض مصابا بأزمة قلبية لا تمهله دقائق ويلقى ربه، ويقوم الملك عن عرشه إلى حجرته بالمجلس ويعلن تأجيل افتتاح البرلمان لأول مرة في التاريخ ولآخر مرة أيضا، فإن هذا الحدث ليس من شأنه أن يتكرر ويموت رئيس الوزراء، وهو يلقي خطاب العرش، بل أحسب أن هذا الذي وقع لم يقع في أي بلد آخر على مدى تاريخ الحياة النيابية في العالم.

وألف الوزارة بعد حسن صبري المرحوم حسين سري باشا، ولم يشرك في الوزارة رشوان محفوظ باشا الذي كان طامعا فيها كل مطمع. ويغضب رشوان محفوظ فيطلب من أنصاره من نواب الصعيد ألا ينتخبوا مرشح الحزب الذي ينتمي إليه والذي كان أبي رغم صداقة رشوان باشا لأبي، فينسلخ من أنصار أبي أكثر من سبعة عشر صوتا، ويصنع الصنيع نفسه حفني محمود شقيق محمد باشا محمود للأسباب نفسها التي أغضبت رشوان محفوظ، وكان أنصار حفني محمود حوالي عشرة نواب، وهكذا يفقد أبي قرابة خمسة وعشرين صوتا ولم يكن محتاجا إلا لأحد عشر صوتا لينجح.

وهكذا شاء الله أن يسيء حسن صبري باشا إلى أبي حيا وميتا، حيا حين رفض أن يزامله في الوزارة، وميتا حين تسبب موته في انسلاخ ما يقرب من خمسة وعشرين صوتا عن انتخاب أبي لرئاسة مجلس النواب.

كان محمد باشا محمود على قيد الحياة أثناء هذه الانتخابات، ولكنه كان مريضا لا يترك غرفته، وقد زاره أبي وأبدى الرجل العظيم أسفه لتفتت كلمة الحزب وكان أكبر أسف الزعيم النبيل الذي اشتهر بهذا اللقب ما فعله أخوه حفني وما فعله قريبه رشوان محفوظ، ولكن أبي قال له ليخفف عنه سخطه على الحزب: إن الانتخابات قد جرت في غيبة الزعيم، وحين تسترد صحتك إن شاء الله ستعود وحدة الحزب وسيسترجع تماسكه.

وشاء الله أن يختار محمد باشا محمود إلى جواره، وانقسم الحزب حول الرئيس الجديد، حول من يختاره خليفة للزعيم الراحل، منهم من كان يؤيد مصطفى باشا عبد الرازق وعلى رأسهم أحمد باشا عبد الغفار لصلته الوثيقة بأسرة عبد الرازق وبحجة أن هذه الأسرة قد ضحت باثنين من زعمائها في سبيل الحزب.

والفريق الآخر كان يؤيد الدكتور محمد حسين هيكل باشا مرتئيا أنه أكثر خبرة بالحياة السياسية من مصطفى باشا الذي عرف عنه العزوف عن المجادلة أو المصاولة.

وأنت ترى كم كان كل مرشح من المرشحين يمثل قمة في الثقافة العربية وواجهة مشرقة مضيئة لمصر حتى يومنا هذا.

على أيه حال رأى الحزب أن يلجأ إلى عبد العزيز باشا فهمي يرجوه أن يقبل الرئاسة لفترة قصيرة حتى يستقر الحزب على واحد من المرشحين العلمين.

وقبل عبد العزيز باشا رغم ضعف صحته، وأصبح رئيسا للحزب، وانتخب هيكل باشا نائبا لرئيس الحزب.

حين أصبح عبد العزيز باشا فهمي رئيسا للحزب، فإن أول ما قاله لأبي أنه لم يقبل رئاسة الحزب إلا ليرفع الظلم الذي أوقعه الحزب على أبي مرتئيا أن بقاءه بعيدا عن الوزارة طوال هذه المدة يدل على أن الحزب لا يعرف كيف يقدر رجاله، وكان عبد العزيز باشا يحب أبي غاية الحب، وأغلب الأمر أن ذلك الحب يرجع إلى تقارب أخلاق الرجلين تقاربا لصيقا، فقد كان كلاهما لا يخشى في الحق لومة لائم ولا يمنعه شيء عن محاربة الظلم وعن الانتصار للعدالة والشرف مهما تكلفا في سبيل ذلك من خسائر مادية كانت هذه الخسائر أم كانت أدبية، وكان عبد العزيز يضع يده على صدر أبي ويمررها عليه وهو يقول: هذا الصدر كله إخلاص، كله إخلاص. ويكررها.

وكنت أزور عبد العزيز باشا فهمي في رفقة صديق عمري عبد الفتاح الشناوي فكان يقول: «مفيش زي أبوك في كل السياسيين دول، مفيش زي أبوك.»

وأهداني مرة كتابه عن الحروف اللاتينية فكتب الإهداء: «لسيدي ثروت بك أباظة»، وكدت أدوخ من هول الكلمة الصادرة عن هذا الجبل الشامخ من العلم والسياسة والقانون والوطنية، وكنت ذاهبا في ذلك اليوم إلى عمي عزيز باشا أباظة، وكانت معي تجارب روايته العباسة، فلم أترك حقيبتي في السيارة، وإنما صحبتها معي، وقلت لعمي عزيز: تصور أن عبد العزيز باشا فهمي كتب لي إهداء يقول فيه كذا!

ولم يصدق عزيز باشا، وقال لي: الفضاء واسع.

وهي عبارة تقال حين يسمع الإنسان شيئا يتصور أنه «فشر»، ففتحت حقيبتي وأنا أقول: ولماذا؟ لا واسع ولا ضيق، هاك الكتاب.

وقرأ عزيز باشا الإهداء وبدا عليه الذهول الذي أصابني.

نعود إلى عبد العزيز باشا فهمي وأبي والوزارة، فوجئ أبي بعبد العزيز باشا فهمي يقول له: الرجل حسين سري يعتمد على حزب الأحرار وحده في المجلس ولا يمثل الحزب إلا خمسة وزراء فقط.

وبجرأة عبد العزيز باشا فهمي المعروفة قابل حسين سري، وأصر أن يمثل الأحرار الدستوريين في الوزارة سبعة وزراء، وتم التعديل فعلا في 26 يونيو سنة 1941م، ودخل أبي وزيرا للشئون الاجتماعية ورشوان محفوظ وزيرا للزراعة.

واستقبل تعيين أبي وزيرا برنة فرح كبرى في الشرقية وفي مصر جميعها، وأذكر أن مصورا فوتوغرافيا كان في شارع من أهم شوارع القاهرة وضع صورة أبي ورشوان باشا في معرض صوره الذي يطل على الشارع وكتب تحتها بخط أنيق: الوزيران الجديدان.

بقيت هذه الوزارة في الحكم قرابة شهر، وكانت الشرقية تقيم حفل تكريم لأبي بمناسبة توليه الوزارة، وكان اليوم المحدد لهذا التكريم هو اليوم الذي استقالت فيه الوزارة، وكان سبب الاستقالة أن سري باشا كان قد أزال الخلافات التي كانت بينه وبين الحزب السعدي، وتم الاتفاق بينهما على أن يشارك الحزب السعدي في الوزارة ويمثله فيها خمسة وزراء، فكان طبيعيا أن تستقيل الوزارة ويعاد تشكيلها وينقص عدد الوزراء من حزب الأحرار الدستوريين إلى خمسة وزراء بدلا من سبعة، وكان طبيعيا ألا أذهب أنا أيضا إلى الزقازيق لحضور الحفلة فقد كنت يومها لا أدري إن كان المكرم أبي سيظل في الوزارة أم سيخرج منها.

وفي الساعة الرابعة من بعد ظهر اليوم دق جرس التليفون في منزلنا وكان أبي نائما في القيلولة، فما كان - رحمه الله - يعنيه أن يبقى في الوزارة أم لا يبقى، فقد كانت شخصيته أكبر من أي منصب، رفعت سماعة التليفون وجاء في الصوت على الطرف الآخر: منزل معالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة. - نعم. - معالي الوزير موجود؟ - من يريده؟ - مجلس الوزراء؟

فلم أشأ أن أخبره أن أبي نائما وإنما تجرأت وقلت للمتحدث: نعم موجود.

وتجرأت مرة أخرى وأدخلت التليفون إلى أبي في قيلولته، وكان المتحدث يستدعي أبي للذهاب إلى مجلس الوزراء في الساعة السادسة، ووعد أبي بالحضور، وطلب مني أن أتركه ليكمل قيلولته، وكأن شيئا لم يحدث، كم كان عظيما لا يهزه عاصف من فرح أو غيره.

وعاد أبي إلى الوزارة في وزارة الشئون الاجتماعية، وخرج اثنان من وزراء حزب الأحرار الدستوريين، من بينهما رشوان باشا محفوظ الذي عين قبل شهر من الوزارة الجديدة، وكانت هذه آخر مرة يشترك فيها في الوزارة.

وبقيت هذه الوزارة في الحكم حتى 4 فبراير سنة 1942م الشهيرة حين حاصر الإنجليز القصر الملكي، وطالبوا بتعيين النحاس باشا رئيسا للوزارة أو يعزلوا الملك فاروق، وكان ما كان من اجتماع زعماء الأحزاب ورؤساء الوزارات السابقين بقصر عابدين، وعرض المجتمعون على النحاس باشا أن يؤلف وزارته مؤتلفة من الأحزاب ليواجه الحالة الخطيرة التي تمر بها البلاد، فرفض هذا العرض بكل إصرار، وصاح أحمد ماهر باشا في وجه النحاس بكلمته الشهيرة: إنك تأتي إلى الحكم على أسنة الحراب الإنجليزية. فلم يأبه النحاس بهذا، وخضع الملك لتهديد الإنجليز وأصدر مرسومه بتأليف الوزارة.

الفصل الثالث

ولا أنسى في اليوم التالي كنت أركب السيارة الخاصة، لا سيارة الوزارة طبعا مع أبي، وقلت له: كيف سيواجه النحاس الجماهير بعد هذا؟ وفي ذكاء السياسي العملاق قال لي: سيقول: لقد أنقذت عرش مصر.

وما لبث النحاس أن قال هذه الأضحوكة وكأن أبي كان في عقله حين توقع أنه سيدعي هذا الادعاء، والغريب أن الجماهير الوفدية تجمعت حول مجلس الوزراء لتهنئ النحاس ووزارته القادمة بالحراب الإنجليزية، وفي أثناء تجمعها حضر إلى مجلس الوزراء السير مايلز لمبسون، وكان ضخم الجثة بصورة غير مألوفة، فقد كان طويل القامة إلى حد بعيد، كما كان بالغ السمن، والعجيبة أن الجماهير الوفدية حملته على أكتافها وهتفت باسمه ولم تشعر بالهوان وهي تحمل المندوب السامي البريطاني على أكتافها بعد أن زلزل عرش مصر، وكان الملك إلى ذلك الحين محبوبا من الشعب حبا لم يحظ به ملك، وقد استطاع بغبائه الشديد أن يبدد هذا الحب بطريقة العربيد الأبله، الذي اختاره لنفسه واعتقد اعتقادا يقترب من اليقين أن أمه الملكة نازلي لها أثر كبير في اضطراب عقله ومسلكه جميعا بأفعالها المخزية التي كانت ترتكبها، والتي انتهت بزواجها من أحمد حسنين باشا، مما كان له أسوأ الأثر في نفوس الناس ومن باب أدق في نفسية الملك، وما فعلته بعد ذلك أدهى وأمر.

أعلنت وزارة النحاس حل البرلمان وإجراء انتخابات، وطلب حزب الأحرار مقابلة النحاس باشا للاتفاق على الأسس التي سيدخلون عليها الانتخابات، وتحدد موعد اللقاء واختار الحزب أبي وأحمد باشا عبد الغفار ليمثلا الحزب في مفاوضاته مع النحاس باشا، وكان اللقاء طريفا، ولذلك فإنه لم يفر من ذهني.

قال لهما النحاس باشا: الانتخابات حرة، ولكم أن تقولوا ما تشاءون، على ألا تذكروا شيئا عن حادث 4 فبراير، ولا تهاجموا الإنجليز نظرا للظروف التي نمر بها، ولا تذكروا شيئا عن زوجتي، ولكم أن تقولوا بعد ذلك ما تريدون.

ودهش أبي ولم يتكلم، وتكلم أحمد باشا عبد الغفار قائلا في غضب: وماذا بقي أن نقوله ضد المرشح الآخر؟ أنقول له أبويا أحسن من أبوك؟ أم نقول له وشي أحلى من وشك؟

ولم يرد النحاس، وخرج أبي وأحمد باشا دون أن يتفقا مع النحاس، وعرفت بعد ذلك أن النحاس باشا حين روى هذه الواقعة للهيئة الوفدية قال: جاءني من حزب الأحرار معالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة والولد أحمد عبد الغفار.

مع أن أحمد باشا كان حاملا رتبة الباشوية عند هذا اللقاء.

وهكذا رفض حزب الأحرار والهيئة السعدية دخول الانتخابات، وانفرد حزب الوفد بهذه الانتخابات.

ولكن أبي كان حريصا على وجوده في مجلس النواب، وفي نفس الوقت لم يستطع أن يخوض الانتخابات العامة، وهو سكرتير حزب الأحرار الدستوريين.

وهكذا ارتأى أن يدخل أخوه عبد الله بك فكري أباظة الانتخابات، وكان في ذلك الحين سكرتير عام وزارة التجارة، ومرشحا أن يكون وكيل وزارة، وكان الدستور يقضي أنه إذا أصبح موظف عضوا بمجلس نيابي فله مهلة ثلاثة أشهر يختار في أثنائها بين البقاء في الوظيفة وترك المجلس، أو البقاء في المجلس وترك الوظيفة.

وبعد انقضاء المدة استقال عمي عبد الله من المجلس، وتقدم أبي للترشيح بالدائرة التي خلت، ورشح الوفد ضده أحد المحامين واسمه عبد العظيم الهادي رسلان، وكانت انتخابات مريرة غاية المرارة جيش الوفد لها كل جيوشه من شرطة إلى قوات مسلحة إلى تزوير علني لا يتوارى ولا يخجل، وفي هذه الانتخابات كسرت ذراع فكري أباظة باشا في بلدة قريبة من الغار بلد المرشح اسمها كفر عوض الله حجازي، وكان من فجور الوفد أنه في توزيع الناخبين كان يجعل البلاد المؤيدة لأبي تدلى بأصواتها في بلاد بعيدة عنها كل البعد، بينما يحرص على أن يجعل الناخبين المؤيدين لمرشحه يدلون بأصواتهم في بلاد قريبة غاية القرب منهم، فلا يتكلفون إلا مشية هينة، أما الناخبون المؤيدون لأبي فقد كان عليهم أن يركبوا السيارات أو يتعذر عليهم الإدلاء بأصواتهم.

أما معركة كفر عوض الله التي كسرت فيها ذراع عمي فكري فقد تجمع فيها بعض أنصار المرشح الوفدي، وبأيديهم العصي الغليظة، وأرادوا أن يمنعوا ممثلي أبي من الاقتراب إلى لجنة الانتخاب، فاعتدوا عليهم بالضرب دون أن يراعوا أي معنى للخلق أو قيم الوافدين عليهم.

وتمت الانتخابات، وكان فوز أبي واضحا، وتجمعت صناديق الانتخاب بنقطة شرطة ببلدة بردين، وهي البلدة التي سميت الدائرة كلها باسمها، وحرص شباب الأسرة أن يبيت فوق الصناديق يتزعمهم عمي عبد الله، وقد هيأ له مأمور دائرة الأمير طاهر باشا الذي يملك أبعادية في بردين مكانا مناسبا يبيت فيه، بينما لازم شباب الأسرة الصناديق، وحاولت الشرطة وقوات من الجيش أن يخرجوهم من النقطة، فكشفوا عن أسلحة مرخصة يحملونها.

وكلم مدير الشرقية أبي في غزالة، وكنت بجواره، وقال المدير: إننا نرجو أن تأمر بالجلاء عن نقطة بردين.

فضحك أبي وهو يقول للمدير: لا أستطيع ... فإنني إن طلبت هذا المطلب من شباب أسرتي فلن يقبلوه.

وسلم المدير أمره إلى الله، وظل شباب الأسرة مع الصناديق حتى تم فرزها، وكنا واثقين أنه إذا تخلى الشباب عن الصناديق فإن الوزارة ما كانت لتخجل أن تحل مكانها صناديق أخرى لصالح مرشحها، وتم الفرز ونجح أبي نجاحا باهرا، وأحست الوزارة أن الشعب غير راض عنها، ولكن لا يهم ما دامت باقية في دست الوزارة.

الفصل الرابع

حين عاد أبي إلى مجلس النواب كان معارضا عنيفا، ولكن الأغلبية الساحقة كانت وفدية، وكان مكرم عبيد باشا قد انشق عن الوفد، وكون حزب الكتلة وأصدر جريدة للحزب، وفي ذلك الحين كتب كتابه الشهير المعروف باسم «الكتاب الأسود» وكانت الأحزاب المعارضة تتولى توزيع هذا الكتاب، وكانت نسخ منه كثيرة توزع من بيتنا، والكتاب جدير بأن نقول عنه إن أعظم التهم فيه لا تساوي شيئا بالنسبة لأيسر ما ارتكب في عهد الناصرية، فقد كان أعظم ما فيه اعتقال بعض الزعماء السياسيين، وقد كانوا يعتقلون في بيوت مريحة ويلقون كل رعاية وعناية، وما كان أهل هذا العصر يدرون ما يخفيه الزمان في عهد الناصرية من اعتداء على الأعراض والكرامات والأموال والأنفس مع الألوان التي لم تسمع عنها البشرية من التنكيل والعذاب، ولكن على أي حال في ذلك الحين كان الكتاب الأسود سبة في جبين الحكم وقد تقدم أبي باستجواب عن الاعتقالات التي تقوم بها الحكومة، وفي نفس اليوم المحدد لنظر الاستجواب اعتقلت حكومة النحاس مكرم عبيد باشا، ووقف أبي في مجلس النواب يندد بهذا التصرف، وصاح بالحكومة إننا متضامنون مع كل ما فعله مكرم عبيد باشا وكل ما كتبه ولتفعل بنا القوى الغاشمة ما تريد ... وقد علق المرحوم كامل الشناوي على هذه الخطبة يومذاك بقوله: لولا خوفي على الرجل لألقيت بنفسي من شرفة الصحفيين لأقبل دسوقي أباظة.

وعاد أبي إلى البيت، وكنت أتلقى درسا في اللغة الإنجليزية من أستاذي الذي كان يشرف على دراستي جميعا الأستاذ لويس مرقص الذي أصبح فيما بعد د. لويس مرقص رئيس قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، وذكر لنا أبي ما فعله بالمجلس، ثم نادى عم أحمد وأمره أن ينقل كل نسخ الكتاب الأسود ومنشورات أخرى ضد الحكومة إلى بيت ابن عمه الأصغر الضابط عمر أباظة - رحمه الله - متوقعا أن تفتش الحكومة منزلنا في نفس الليلة، وقد حدث أن فوجئنا بقوة من الشرطة قبيل منتصف الليل تحاصر المنزل وتقتحمه لتفتش عن الكتاب الأسود والمنشورات. ولكن أين هذا التفتيش مما فعله العهد الناصري بعد ذلك؟ شتان لا يقارن ما فعله النحاس بما صنعه بعد ذلك عصر الطغيان.

حسبك أن تعلم أن أبي أمسك بمسدسه، وقال لقائد القوة: نحن فلاحون وسأسمح لك بتفتيش البيت جميعه، ولكن لن تدخل الحجرة التي بها السيدات مطلقا.

وقبل الضابط، فما كان أهونه من تفتيش، وانصرفوا دون أن يعتقلوا أبي، وإنما قدموا له كل إجلال واحترام وتوقير.

الفصل الخامس

في يوم 7 أكتوبر عام 1944م طلبني أبي من حزب الأحرار الدستوريين وقال لي: إن وزارة النحاس أقيلت، وإن أحمد باشا ماهر يؤلف الوزارة الآن في لاظوغلي.

كانت الحرب قد أوشكت على الانتهاء، وعرف الملك أن الإنجليز لم يعد يعنيهم شأن النحاس أن يبقى في الوزارة أو لا يبقى، فأقال النحاس باشا. سارعت إلى الحزب فوجدت الجموع الحاشدة، وكان الحزب في عهد وزارة الوفد محاصرا بالشرطة، وقد خشي أبي أن تعتدي الزحوف القادمة للتهنئة على القوة المحاصرة للحزب، فاستدعى رئيس القوة وأخبره بسقوط وزارة الوفد، ونصحه بأن ينسحب هو وقوته حتى لا يتعرض للصدام مع الجماهير القادمة لتهنئته، فراح رئيس القوة يشكر أبي، ويدعو له بطول العمر، وانسحب هو وقوته.

علمنا في الحزب أن مفاوضات تشكيل الوزارة تواجه صعوبات سببها أن مكرم باشا عبيد يصر أن يكون عدد وزراء حزب الكتلة مساويا لعدد وزراء الأحرار والسعديين، وكان هذا غير طبيعي، ولم يكن ماهر باشا موافقا على ذلك، وطال وقت التأليف ولغط الحاضرون في حزب الأحرار وتناثرت الإشاعات بأسماء المرشحين وأبي في حجرته بعيد كل البعد عما يدور بين الحاضرين بالخارج، وقد أبى ترفعا أن يذهب إلى لاظوغلي ليشارك في تأليف الوزارة، مع أن هذا كان أمرا طبيعيا، فهو سكرتير عام الحزب، والمفروض أن يشترك في تأليف الوزارة.

في هذه الليلة قمت بتجربة لا أنساها، حلا لي أن أبث إشاعة أن الملك هدد باستدعاء النحاس باشا إذا لم تؤلف الوزارة في وقت معقول. ولم تمر دقائق حتى طلبتني والدتي من البيت وسألتني هل صحيح أن الملك استدعى النحاس باشا.

أدركت منذ ذلك اليوم السرعة التي تسري بها الإشاعة وتحرف أيضا.

ووافق حزب الأحرار والسعديين أخيرا على مطلب مكرم باشا، وأصبحت المشكلة هي أين يجد وزراء، فرشح المحامي سيد سليم الذي لم يعرفه أحد في ذلك الحين، وقد نال رتبة الباشوية فيما بعد، كما رشح طه باشا السباعي، ولم يكن عضوا في حزب الكتلة، وإنما انضم إليه ليدخل الوزارة، وقد كان قبل ذلك يشغل منصب وكيل وزارة.

تألفت الوزارة وأسند إلى أبي منصب وزير المواصلات، ثم تقلب طوال خمس سنوات في المناصب الوزارية، فكان وزير أوقاف ووزير خارجية.

ولتوليه منصب وزير الخارجية قصة، ولتركه لها قصة أكثر طرافة، فقد طلب أحمد خشبة وزير الخارجية أن يتولى منصب نائب رئيس الوزراء، ولم يكن هذا المنصب معروفا في التشكيلات الوزارية، فرفض طلبه. واستقال، واختير أبي وزيرا للخارجية ورشح هو رياض عبد العزيز سيف النصر المستشار وزميل دراسة أبي وزيرا للمواصلات فتولى المنصب.

ولكن ما هي إلا بضعة أشهر حتى قبض على أخي رياض بك بتهمة الشيوعية وهو إلهام عبد العزيز سيف النصر الذي كان في مثل سني، وقد عرفته بعد ذلك بسنوات حين تزوج بابنة عباس باشا سيد أحمد والد الشيوعي المعروف محمد سيد أحمد، وخال أمينة هانم صدقي حرم عزيز أباظة باشا، وقد قبض على إلهام في العهد الناصري وعذب تعذيبا وصفته المحكمة التي رفع أمامها قضيته في عصر الحرية بأنه تعذيب لم تعرفه البشرية، وأغلب الأمر أن هذا التعذيب كان السبب ربما غير المباشر في موت إلهام، دون أن تعلو به السن، فهو في مثل عمري تقريبا.

وعودة إلى أخيه الذي رفض أن يبقى في الوزارة وأخوه متهم بالشيوعية، فقدم استقالته واستطاع حزب الأحرار أن يقنع أحمد باشا خشبة بالعودة إلى الوزارة، فعاد إلى وزارة الخارجية، وعاد أبي إلى وزارة المواصلات.

في وزارة الخارجية حدثت واقعة لا بد من ذكرها، كان مرتب وزير الخارجية يضاف إليه مرتب وزير تحت بند ما يسمونه بدل تمثيل ، وإذا بأبي يرفض أن يتقاضى بدل التمثيل هذا، وناهيك بمرتب وزير في ذلك الحين، ولم يكن أبي واسع الغنى بدليل أن الإصلاح الزراعي لم يأخذ منه قيراطا واحدا، وقال المسئولون في الوزارة لأبي: معاليك ستحرج الذين قبلك والذين بعدك.

قال: أما الذين قبلي فلا شأن لهم بما أفعل؛ لأنهم سبقوني في الوزارة، أما الذين بعدي فإذا كانوا قادرين فليفعلوا مثلما أفعل، وإذا كانوا غير قادرين فلا لوم عليهم إذا لم يفعلوا وتقاضوا بدل التمثيل، أما أنا فلن آخذ من الحكومة نقودا مقابل الدعوات التي يحتم علي منصبي أن أقيمها في بيتي، وأصر على رفضه.

الفصل السادس

حصلت على شهادة الثانوية العامة، وكان اسمها في عهدنا التوجيهية في عام 1946م، وكان أبي يومذاك وزيرا للأوقاف في وزارة صدقي باشا التي قامت بمفاوضات صدقي-بيفن، ولم يشترك الوفد في المفاوضات واستطاع أن يثير المظاهرات الصاخبة في الجامعة قبل أن تبدأ المفاوضة، ومع أن صدقي باشا حصل من ستانجيت القائد الإنجليزي على تصريح من جانب واحد أن تنسحب جنود الاحتلال من القاهرة وجميع عواصم مصر لتقيم في ثكنات لها بالقنال، إلا أن هذا لم يخفف من حدة المظاهرات في الجامعة، ولم يشترك السعديون مع صدقي باشا في الوزارة فكان يعتمد على الأحرار الدستوريين وحدهم في الفترة الأولى من حكمه. وقد انضم شباب السعديين إلى الوفديين في الجامعة، ولعله ينبغي أن أذكر جلسة مجلس النواب التي فاز فيها صدقي باشا بالثقة رغم أن السعديين لم يشتركوا معه في الوزارة، وكان عددهم يزيد على الأحرار ببضعه مقاعد.

في هذه الجلسة هاجم السعديون صدقي باشا هجوما ضاريا، فقد حل محل رئيسهم النقراشي باشا الذي أصبح رئيسا للوزارة بعد مقتل الزعيم العظيم أحمد ماهر باشا برصاصة خائنة وادعى القاتل أنه قتله؛ لأنه كان يريد أن يدخل الحرب مع الإنجليز، وكانت حجة ماهر باشا أن الحرب كانت موشكة على الانتهاء واشتراك مصر فيها لن يكلفها شيئا ولكنه سيتيح لها أن تكون عضوا في هيئة الأمم وتعرض قضيتها على العالم، ولكنه قتل، ودخلت مصر الحرب شريكة مع الحلفاء في عهد النقراشي باشا الذي خلف ماهر باشا في رئاسة الوزارة.

ولنرجع إلى جلسة مجلس النواب. هاجم السعديون صدقي باشا وراحوا يذكرونه بالعنف الذي عرف عنه في وزارة سنة 1930م وظل الرجل صامتا حتى انتهى طالبوا الكلمات من هجومهم ووقف العملاق العجوز يقول في ثبات ما معناه تحدثتم عن صدقي سنة 1930م، ولن أدافع عنه فأنا مقتنع بكل ما فعلته في هذه الوزارة، ولكن صدقي سنة 1930م هو نفسه الذي كان عضوا مع المرحوم أحمد ماهر باشا والنقراشي باشا في الجبهة القومية، وهي جبهة تكونت بعد حادثة 4 فبراير لتناهض وزارة النحاس باشا، وكان أبي وهيكل باشا من أعضائها فذكر صدقي باشا زمالته لزعيمي السعديين فيها ثم قال في حسم: «هذه الجبهة يا حضرات النواب التي كان لها الفضل في وجودكم على هذه الكراسي التي تجلسون عليها الآن.» وراح يشير بيده إلى مقاعد المجلس العتيد، والعجيب أن صدقي باشا نال الثقة مع تحديه للأغلبية السعدية في المجلس.

حين بدأت الدراسة في الكلية كانت بداية مضطربة كل الاضطراب، وكانت المظاهرات يومية حتى إننا لم نكمل يوما دراسيا قط، وفوجئ الطلبة بصدقي باشا في الكلية، وكنت قد عدت إلى البيت، وإنما عرفت ما دار بين الطلبة ورئيس الوزراء من حوار، فقد قال لهم: ماذا تريدون؟ - خروج الإنجليز. - وماذا نفعل نحن غير ذلك، ألا يحسن بكم أن تذاكروا أنتم حتى نجد في مصر رجالا مثقفين نعتمد عليهم بعد خروج الإنجليز من مصر.

وطبعا لم يجد الطلبة شيئا يجادلون به منطق الرئيس العبقري وانصرف صدقي باشا.

ولكن المظاهرات استمرت كأن شيئا لم يحدث، فكنا نذهب إلى الكلية ونجلس في المدرجات، وقبل أن يدخل الأستاذ تنفجر المظاهرة ونخرج.

وما هي إلا أيام حتى أعلنت الصحف أن رئيس الوزراء إسماعيل صدقي باشا سيلقي في الساعة كذا بيانا بالإذاعة حول مظاهرات الجامعة. وتجمعنا حول أجهزة الراديو لنستمع إلى بيان رئيس الوزراء الذي لم يستغرق سوى بضع ثوان قال ما معناه: «يتدخل بعض الغوغاء بين صفوف الطلبة ويثيرون الشغب، ولما كانت الحكومة حريصة على استتباب الأمن فسوف تعمل على ذلك بالطرق المشروعة وغير المشروعة.»

وذهبت إلى الجامعة في اليوم التالي فوجدت الحكومة قد أمرت بعودة الشرطة إلى مقارهم حتى إننا لم نجد شرطيا واحدا من القوات الكبيرة التي كانت تحيط بالجامعة، ودخلت إلى المدرج فلم أجد مكانا أجلس فيه إلا بشق الأنفس والذين دخلوا بعدي ظلوا واقفين.

ولم تقم مظاهرة واحدة في عهد صدقي باشا بعد بيانه هذا حتى تذاءب عليه زعماء مصر من المستقلين ورفضوا المعاهدة التي كانت أحسن ما توصلت إليه مصر في تاريخها، والتي تفضل - ولا شك - المعاهدة التي خرج بمقتضاها الإنجليز بعد ذلك بأعوام عديدة، ويكفي المعاهدة التي خرج بموجبها الإنجليز أنها أفقدتنا السودان إلى الأبد.

وقد كان أبي متحمسا لمعاهدة صدقي-بيفن وأذكر أنه في أيام تكوين وفد المفاوضين جاء أبي إلى البيت متأخرا قليلا عن موعده وجلسنا على مائدة الغداء، وكان على المائدة بعض ضيوف لنا. وقال أبي: لقد خرجت من الوزارة.

وكان وزيرا للأوقاف في ذلك الحين، فقلت أنا: إذن انضممت إلى وفد المفاوضة. - نعم.

ولم تمض دقائق حتى دق جرس التليفون، فتركت المائدة وذهبت أجيب التليفون، وطالعني صوت لم يغب عني طبعا: معالي الباشا موجود.

وقلت: نعم. وأردت أن أستوثق من الصوت فقلت: نعم. من يريده.

وجاء الصوت: صدقي باشا.

وكان هو شخصيا المتحدث ولم يكن مكتبه.

وكلمه أبي وعدت أنا طبعا إلى المائدة حريصا أن أخلي غرفة المكتب التي بها التليفون، وجاء أبي إلى المائدة وقال: لقد بقيت في الوزارة.

وعرفنا سر هذا التعديل بعد ذلك، فبعد أن كان الرأي قد استقر على أن يكون وفد المفاوضين من أحزاب الوزارة عدل عن هذا الرأي ليتكون الوفد من رؤساء الوزارات السابقين ومن رئيس حزب الأحرار الدستوريين والسعديين.

ولم يغضب أبي رغم ذلك، وبعد أن أجمع رؤساء الوزارات على رفض المعاهدة حقدا منهم أن يقوم صدقي باشا بهذا النجاح الخالد وخوفا من بعضهم مما أثاره عليه حزب الوفد الذي لم يرع وجه الله ولا وجه الوطن.

وأذكر في هذا الشأن حديثا بين صدقي باشا، ولطفي باشا السيد في هذا الشأن.

قال صدقي باشا: ألم يصل بنا السن والخبرة يا لطفي أن نقود نحن الرأي العام.

فقال لطفي باشا السيد: أريد أن أموت على سريري يا إسماعيل.

واستقال صدقي باشا من الوزارة وتألفت وزارة جديدة برئاسة النقراشي باشا وكان أبي وزيرا للمواصلات بها، وأبى في شجاعته ووطنيته أن يخفي إعجابه بمعاهدة صدقي-بيفن، فكتب هذه المقالة بأهرام 5 ديسمبر سنة 1946م رغم علمه أن النقراشي باشا يكره صدقي باشا كل الكراهية، ورغم التيار الجارف الذي ساد حينذاك ضد المعاهدة.

ظهر أهرام ذلك اليوم وبه عنوان آراء وأفكار «حول مشروع المعاهدة» ثم عنوان مقالة أبي «لماذا أوافق على المعاهدة»، وقالت الأهرام:

نشرنا منذ يومين بحثا لحضرة الشيخ المحترم زكريا مهران باشا عنوانه: «لماذا لا أوافق على المعاهدة» وننشر اليوم بحثا لمعالي إبراهيم دسوقي باشا يرد فيه على من سأله «لماذا يوافق على المعاهدة؟» قال الجواب سهل بسيط: ذلك لأنني أحب بلادي وأعتقد أن المعاهدة تحقق استقلالها وتحدد يوم الجلاء «بغير دماء ...»

ولست أتكلم عن مشروع المعاهدة فأتناول بالبحث سائر مواده وأشرح ما أدخله عليها دولة صدقي باشا من تحسين واضح جلي عظيم، بل أكتفي بالكلام عن مادة الدفاع المشترك، فإن عيوب المعاهدة كادت في نظر المعارضين تنحصر فيها، وكانت تلك المادة في أول أمرها مشوبة بشيء من الغموض، فأزال دولة صدقي باشا غموضها ثم أحاطها بتحفظات قوية كافية، ودعمها لمصلحة مصر بسياج جعل المساس باستقلالها - اعتمادا عليها - ضربا من المستحيل إلا إذا تجرد المصريون من الوطنية والرشد والكرامة.

وكان المفاوضون قد قبلوها جميعا، عدا واحد، قبلوها على ما كان بها من غموض، فلما أزال صدقي باشا غموضها في مفاوضته الأخيرة وجلا ما كان فيها من إبهام ولبس مريب، وأصبحت لا غبار عليها ولا خوف منها، رفضها المعارضون وادعوا أنها الحماية مقنعة بل إنها الحماية سافرة: (1)

لم يكن هناك نص على أن رأي اللجنة استشاري، فجاء النص صريحا. (2)

وأصبحت لا تجتمع إلا إذا دعتها الحكومتان للاجتماع. (3)

ولا تنظر إلا في البيانات المتفق عليها من الحكومتين.

فبربك قل أيها المعارض ما الذي يخيفك منها بعد ذلك، وما الذي تخشاه إذا كنت لا تريد أن تجتمع، فليس ثم ما يكرهك على دعوتها، وإذا رأيت أن تدعوها بسبب كوارث تريد أن تتخطاها أو عواصف تخشى عقباها، فاحذر أن تقبل في بيانات الإنجليز شيئا يضر باستقلالك أو تدخلا منهم في شئون بلادك وامتنع عن البحث في أي أمر لم يرد في بيانك.

وفي آخر الأمر إذا دعوتها للبحث في المسائل الواردة في البيان الذي قدمته أنت إليها، ثم لم يجبك رأيها فارفض لأن رأيها استشاري وحكومتك لها حق الرفض.

هكذا تقول معاهدة صدقي ...

أتريد أن تعرف بماذا أجاب أحد الشجعان من المفاوضين؟ إنه قال وكلمته مشهورة: إنني لا أطمئن على أي حال؛ لأن الإنجليزي من أعضاء اللجنة إذا نظر إلى المصري فإن المصري ترتعد فرائصه، فأجاب صدقي قائلا: إذن يا أخي، إن مصر - إذا صح هذا - لا تستحق الاستقلال!

أي عار يسربل هذه البلاد إذا صدق هذا المفاوض؟ وكيف يصور لهم الوهم أن المصري يرتعد جزعا وينتفض خوفا وهلعا إذا ألقى عليه البريطاني نظرة تهديد؟

وقرأت في «الأهرام» بحثا لشيخ معارض هممت بأن أرد عليه ومضيت في تلاوته إلى أن وجدته يقول: «وماذا علينا - لو صح أن معاهدة 1936م لا تزال قائمة - إذا انتظرنا سبع سنوات أخرى بعد السنوات الثلاث.» فحدقت في جملته ووقعت من يدي «الأهرام» وقلت على الوطنية السلام. ثم عدت إلى الجريدة فأخذتها وإلى الجملة المشئومة فحدجتها واسترسلت في القراءة فإذا به يقول بأن الإنجليز لا يعنيهم الآن إلا الاحتلال المادي الاقتصادي، وهم يربطوننا برباط الاسترليني، فعجبت لهذه «السلطة» إذ ما دخل الاسترليني فيما نحن فيه؟ وفي العالم ممالك عديدة مستقلة تربط نفسها به طائعة مختارة وجميع كبار الاقتصاديين في مصر يرون الانفصال عن دائرة الجنيه الاسترليني في الوقت الحاضر كارثة مالية.

وبهذه المناسبة أذكر أن الكثيرين طوح بهم العناد إلى اللجاجة في المقارنة بين معاهدة 1936م ومشروع المعاهدة الأخيرة، ومعاهدة 1936م تفرض على مصر محالفة أبدية، بينما تفرض هذه المعاهدة عشرين عاما، ومعاهدة 1936م تبقي جنود الإنجليز بعدها إذا ثبت أن مصر أصبحت قادرة على الدفاع عن نفسها، ومعاهدة 1936م لا تسمح بالجلاء عن المدن المصرية إلا إذا بنينا ثكنات من منطقة القنال تتسع لجيوش الاحتلال تكلف خزينتنا ما لا قبل لنا به، وقد بذل المغفور له محمد محمود باشا جهودا جبارة لاشتراك الإنجليز في النفقات لإقامة هذه الثكنات، وقد فات الباشا عضو الشيوخ المعارض صاحب مقال «الأهرام» أن البريطانيين يشترطونها في معاهدة 1936م.

ولا أذكر كل ما في معاهدة 1936م من عيوب فقد قبلها المصريون على علاتها وبكل عيوبها من محالفة أبدية إلى بعثة عسكرية تدخل في شئوننا الداخلية، ورفرف سرب من الحمام على المفاوضين عند قدومهم، وأطلقت المدافع تكريما لهم، وأسرع مكرم باشا إلى الجامعة يخطب الطلبة ساعات ويؤكد لهم قول النحاس باشا: «اسجدوا لله شكرا فقد جئتكم بمعاهدة الشرف والاستقلال.»

ثم تناول معاليه مسألة السودان فقال:

لم يكن يدور في خلد الكثيرين أن صدقي باشا سيأتي بالنصوص التي أتى بها «وحدة مصر والسودان تحت التاج المصري» والفرق بين ما كان المفاوضون قد طلبوه وما جاء به صدقي باشا هو أنهم كانوا يرون التأجيل، ورأى دولته التعجيل.

أما ما يدعيه المعارضون من أن النص يحتمل التأويل ويخول للسودان حق الانفصال فلا نسلم به بأي حال، وقد فسر دولة صدقي باشا النصوص بما يطمئن أشد الناس تعنتا وأكثرهم مكابرة، وترك الباب مفتوحا بعد ذلك للمفاوضة لأن التعاون بين المملكتين على العمل الباب لرفاهية السودان وترقيته وجعله أهلا للحكم الذاتي يجعل لنا الحق في المطالبة بتمكين مصر من ممارسة حقوقها، ويكفل لها الهيمنة التي كفلتها المعاهدة لها، وتفسير دولة صدقي باشا هو الذي نقره ونعتمد عليه، وكل ما يحصل عليه السودان بعد ذلك من حقه في الحكم الذاتي والنظام الذي يترتب عليه لا يخرج عن نطاق وحدة وادي النيل تحت التاج المصري. يبقى مجلس الأمن، وأمر المعارضين فيه غريب فقد كان مجلس الأمن رجسا إلى وقت قريب، وحمل الوفد على سياسة الاشتراك في جمعية الأمم المتحدة وأخذ يشهر بها وينكر الفائدة من وجودها، وقتل الشهيد أحمد ماهر في سبيلها.

فلما وجدت وتكونت هيئاتها وأصبحت مصر من أعضائها وتشكك بعض المصريين في نتيجة عرض قضيتها عليها، انقلبت جمعية الأمم خيرا عميما وفوزا للحرية عظيما وقاضيا عادلا صادقا رحيما.

وأرد الله أن يجلو الشك باليقين فطرح ممثلنا في هذه الجمعية منذ أسبوع واحد مسألة الجلاء، جلاء الجيوش الأجنبية عن بلاد الأمم المشتركة في الجمعية، وأخذت الأصوات فأسفرت عن 29 صوتا بالرفض و13 صوتا بالموافقة على الاقتراح أكثرها من الأمم العربية، هذه النتيجة العظيمة، هذا البرهان القوي الملموس الدافع، هذا الرد السريع الصريح، لا يفتح عيون المعارضين ولا يبصرهم بالعواقب يتغنون بأنشودتهم المحبوبة: مجلس الأمن! مجلس الأمن!

ولست في حل من الكلام عن مجلس الأمن، ومن الوطنية أن أكف عن الاسترسال في بيان رأيي فيه، ولكني أحيلكم إلى ساستنا الوطنيين الأكفاء المخلصين الذين خبروه عن قرب واشتركوا في اجتماع هيئة الأمم المتحدة وفي مجلس الأمن وفي سائر المؤتمرات، فوقفوا في اتجاهها وتبينوا حقيقة نياتها.

هؤلاء الساسة المصريون لا يرقى الشك إلى وطنيتهم، ولا يجرؤ إنسان على الطعن في كفاءتهم، فقد رفعوا رءوسنا ولفتوا أنظار العالم لنا، فوقف باهتا مشدوها مأخوذا بتلك الجرأة العجيبة والكفاءة الممتازة والحماسة الوطنية التي جعلت بريطانيا تتململ متوجعة تشكو، وكانت تنتظر منهم بعض مظاهر الود والمجاملة.

أنأخذ بكلام رجالنا هؤلاء، وتلك خبرتهم وهذه مواقفهم، أم نأخذ برأي المتفائلين الذين كانوا متشائمين، ونتأثر بحملات بعض المعارضين، وقد كانوا إلى وقت قريب موافقين يحبذون ويصفقون؟

إذا وقعت المعاهدة فإن الجلاء عن القاهرة والإسكندرية وبلاد الدلتا يتم في شهر مارس، أي بعد ثلاثة أشهر وبضعة أيام، وبعد ذلك بسنتين ونصف سنة يتم الجلاء عن بلادنا بأسرها في يوم محدد هو أول سبتمبر، والفضل لصدقي باشا في هذا التحديد، أتريد من وطني صادق الوطنية ومن مصري مخلص صادق النية أن يتردد في الموافقة على خلاص بلاده من أسرها واستكمال حريتها واستقلالها وتريد من مصري نزيه عاقل يحب بلاده ويفديها بحياته أن يستبدل ذلك بقضية خاسرة يقدمها إلى محكمة يعتقد أنها ستحكم فيها بالإعدام ولديه على ذلك ألف برهان؟

كان المغفور له قاسم أمين يقول: «أعرف قضاة يحكمون بالظلم ليشتهروا بالعدل.» وأنا أعرف رجالا يسيئون إلى وطنهم ليشتهروا بالوطنية. •••

كانت هذه المقالة ذات صدى بعيد عندما نشرت، ولكن متى ناقش الوفديون بالمنطق، لقد رفضوا أن يتحقق هذا النجاح الفائق الذي بلغه صدقي على غير أيديهم ولتذهب مصر والوطنية إلى أي جحيم تشاء. •••

في وزارة النقراشي باشا التي أعقبت استقالة صدقي باشا قررت الوزارة أن يذهب وفد مصري إلى هيئة الأمم، وتكون الوفد وكان وزير الخارجية من بين أعضائه وتولى أبي وزارة الخارجية بالنيابة.

رأس وفد مصر النقراشي باشا، وبلغت وطنية النحاس الحضيض في هذه الأيام، فقد أرسل برقية إلى هيئة الأمم يقول فيها إن هذا الوفد لا يمثل مصر، كان ينبغي لو كان يحمل ذرة من الشعور بالوطنية أن يؤيد النقراشي باشا والدرجة الأدنى أن يصمت وينتظر، أما إرسال برقية إلى هيئة الأمم يبلغ فيها أن النقراشي باشا لا يمثل مصر فتلك كبيرة من كبائر الخيانة العظمى لا نستطيع أن ننساها للنحاس باشا أو لحزب الوفد.

في هيئة الأمم وعلى ملأ من العالم وقف النقراشي باشا وصاح في وجه الإنجليز: اخرجوا من بلادنا أيها القراصنة. ودوت الصيحة في أنحاء الدنيا، فهي المرة الأولى التي تسمع فيها إنجلترا مثل هذه العبارة، وهي في هذه الأيام الإمبراطورية التي لا تغيب الشمس عن الدول التابعة لها.

وقد استقبل الشعب النقراشي استقبالا حافلا حين عاد، ولكن رحم الله شوقي حين وصف مصر بقوله:

نسيت روعته في بلد

كل شيء فيه ينسى بعد حين

لم يمض وقت كثير حتى قتل النقراشي باشا بيد غادرة ممن يسمون أنفسهم بالإخوان المسلمين، وما هم بإخوان وما هم بمسلمين.

وتولى الوزارة إبراهيم باشا عبد الهادي الذي كان يومذاك رئيسا للديوان الملكي وكان هذا طبيعيا، فقد كان الشخص التالي في حزب الهيئة السعدية، ولو أن الملك اختار بدلا منه هيكل باشا رئيس حزب الأحرار الدستوريين لكان في هذا شبه موافقة من السراي على قتل النقراشي باشا. واختير أبي وزيرا للمواصلات في وزارة إبراهيم باشا عبد الهادي.

وفي لقاء بين هيكل باشا وبين الملك قال له الملك: رئاسة الوزارة تنتظرك وستنالها في يوم من الأيام حتما.

فإذا الأديب العملاق والزعيم العظيم يقول له: إنني يا مولاي حين أجلس إلى مكتبي تصغر في عيني كل وظائف العالم.

استمرت حكومة إبراهيم باشا عبد الهادي إلى أواخر عام 1949م وكان مجلس النواب بهذا قد أكمل دورته الخامسة، وأعتقد أن هذا المجلس هو المجلس الوحيد في الحياة النيابية التي بدأت بدستور 1923م الذي أكمل في مقاعده خمس سنوات كاملة تقريبا، وأصبح لا بد من التفكير في حل المجلس.

استقال إبراهيم باشا عبد الهادي وظهرت في الأفق بعض آمال أن تتكون وزارة مؤتلفة من كل الأحزاب، وتمهيدا لهذا الأمل كلف الملك حسين سري باشا بتأليف الوزارة من كل الأحزاب وقبل حزب الوفد أن يشترك في الوزارة، وكان أبي وزيرا فيها وفي الإسكندرية راح الوزراء يدعون إخوانهم لموائد الغداء لتأكيد التآلف، وكان من ضمن أعضاء الوزارة كريم ثابت باشا الذي فرضه الملك فرضا فكان الوزراء يدعونه مع الأعضاء الآخرين على موائدهم حتى جاء دور أبي ليدعو الوزارة فوجه إليهم الدعوة للغداء في بيته بالإسكندرية، ولكنه رفض أن يدعو كريم ثابت، وكنت أنا موجودا في هذه الدعوة.

قليلا ما بقيت هذه الوزارة وتفجر الائتلاف، وهو أمر كان منتظرا طبعا، وألف سري باشا وزارة من المستقلين كان أوضح ما فيها أنه أشرك منه زوج ابنته الدكتور محمد هاشم باشا وأطلق عليه الشعب لقب شيانو مشبها إياه بزوج ابنة موسيليني الذي كان الديكتاتور القتيل يطلق يده في حكم إيطاليا أيام رئاسته، وقد قتلهما الشعب معا وعلق كليهما من أرجليهما في ميدان عام.

وقد توثقت صلتي بعد ذلك بالمرحوم محمد هاشم باشا، وأشهد أنه كان كفئا للمنصب الذي تولاه مع حميه ، بل كان أكبر منه بعلمه وثقافته واتزانه، وقد نال في هذه الوزارة لقب الباشوية، وأجرت وزارة سري باشا الانتخابات وقد اكتسح الوفد، وكان اكتساحه لسببين؛ أولهما وأهمهما طول بقاء الوزارات المعادية للوفد في الحكم والشعب المصري تواق إلى التغيير، حتى وإن كان التغيير إلى الأسوأ؛ ولذلك فإنني أعتقد أن الوفد لم يحافظ على شعبيته إلا لأن الملك كان يقيله دائما، وكانت هذه الإقالة ترفع أسهمه عند الشعب الذي يقدر أي إنسان يقف في وجه الحاكم الأعلى، ولو أن الوفد ترك في الوزارة ليكمل دورة واحدة لفقد شعبيته التي كان يتمتع بها إلى الأبد.

أما السبب الثاني لنجاح الوفد نجاحا باهرا في هذه الانتخابات فهو شعور رجال الشرطة أن التيار العام مؤيد للوفد فأعملوا تزويرهم لحسابه حتى يطالبوا بالمكافآت حين يقتعد الوفد كراسي الوزارة.

ومع ذلك فحين أحصى أهل الإحصاء الأصوات التي نالها حزبا الأحرار الدستوريين والهيئة السعدية في هذه الانتخابات أوضحت الإحصاءات أنها كانت تفوق بكثير عدد الأصوات التي نالها الوفد مع أن كلا من الحزبين لم ينل إلا حوالي ثلاثين مقعدا في البرلمان، وهكذا كانت المعارضة ممثلة في ستين نائبا ونيف من مجموع عدد الأعضاء الذي كان مائتين وخمسين عضوا في تلك الأيام.

نهج الوفد في هذه الوزارة نهجا جديدا كل الجدة على سياساته السابقة، والجدة فيه أنه أخذ نفسه بالنفاق الرخيص كل الرخص للملك، وقد بدأ ذلك في اليوم الذي حلفت فيه الوزارة اليمين برئاسة النحاس باشا؛ إذ قال النحاس للملك فجأة وبدون مقدمات: مولاي إن لي عندك رجاء أنا مصمم أن أناله. - ما هو؟ - أن أقبل يدك.

وبهذه الجملة وهذا الشعار بدأت الوزارة الوفدية الجديدة عهدها الذي نسبت فيه الملك إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - والذي قال في أثنائها النحاس باشا حين سئل عن رأي له في إحدى المشكلات : «إن في «كابري» قبلة نتجه إليها جميعا.» وكان الملك يصطاف في «كابري» في هذه الأيام، وأذكر أن روز اليوسف ظهرت في أحد أعدادها وفي صدرها صورة لحذاء ضخم وكتبت تحته: القبلة التي يتجه إليها رئيس الوزراء.

على أي حال، دخل أبي طبعا هذه المعركة الانتخابية وكنت في ذلك الحين في السنة النهائية من كلية الحقوق، وقد شاركت في هذه الانتخابات مشاركة جدية ونجح أبي طبعا نجاحا ساحقا، ومن الطرائف التي لا أنساها أنه طلب مني أن أحضر له من كاتب الحسابات المبالغ التي أنفقها في المعركة الانتخابية، وكانت هذه المبالغ تنفق على الولائم التي كانت يومية طبعا في بيتنا، وفعلت ما أمر به وأحضرت الحساب وصعدت به إليه في الطابق الأعلى، وكان المبلغ أقل من ألف جنيه فنظر في الورقة ومزقها ونظر إلي قائلا: لا أحب أن يعرف أحد هذا المبلغ. فقلت: طبعا. وأدركت أنه يستكبر أن يعرف الناس أنه ينفق في الانتخابات هذا المبلغ مع أنه أنفق كله على مواجهة الزوار، فلم نكن نعرف في هذه الأيام كلمة الرشوة للأصوات ولا عرفناها في انتخابات أخي في انتخابات 1976م والحمد لله.

أصبح أبي في مجلس النواب زعيم المعارضة عن الأحرار الدستوريين، وكان الأستاذ حامد جودة الذي كان رئيسا للمجلس السابق زعيما للمعارضة عن الهيئة السعدية.

وظل الأمر كذلك حتى حريق القاهرة وانهيار الحياة البرلمانية في مصر.

الفصل السابع

لعن الله السياسة فقد جرفتني عن الحديث إليك عن نفسي في هذه الفترة، وماذا كنت مستطيعا أن أفعل، وقد كانت الأحداث يأخذ بعضها برقاب بعض، وقد حذرتك من أول هذا الحديث أنني لن أتقيد بسنوات ولا بالأيام المتتاليات، وإنما سأترك الأحداث تقدم نفسها إليك في عفوية وفي غير ترتيب أو تدبير.

مضيت في دراسة الحقوق غير متعثر ولا متفوق، وظللت أكتب في مجلة الثقافة والرسالة معا.

وفي يوم فوجئت بعمي عزيز باشا، ولم يكن قد نال الباشوية بعد يطلبني بالتليفون ويهنئني على مقالة لي ظهرت في مجلة الثقافة، فملأني الفرح العظيم، فقد كان عزيز باشا في ذلك الحين قد انبثق كالشهاب في سماء الشعر العربي بديوانه الأول الذي اختص به ذكرى زوجته السيدة زينب هانم أباظة، وقد كانت هذه السيدة من أحب الناس إلى أمي، كما كانت أمي من أحب الناس إليها، وكانت صلتنا بأسرة عزيز باشا وثيقة كل التوثيق، فقد كان عزيز باشا يعتبر أبي أخا أكبر له، ولعل من الطريف أن عمي عزيز هنأ أبي بزواجه بقصيدة أعلقها في بيتي الآن، فالمادح والممدوح جدا ابنتي وابني، وربما يكون من المعقول أن أثبت هذه القصيدة في هذا الحديث الذي أتقدم به إليك، فهي على أية حال قصيدة لم تعرف لآخر عمالقة الشعر العربي وموضوعها أبي، وهذا الكتاب يحمل إليك ما لا تعرفه عن حياتي، فما بغريب أن أقدم إليك القصيدة التي أنشأها جد أولادي عن جد أولادي في عام 1924م، وهو العام الذي تزوج فيه أبي، وكان عزيز باشا قد تزوج فعلا من السيدة زينب هانم بعد قصة حب رائعة، والذي لا شك فيه أن قليلين الذين يعرفون أنها كانت تكبره بعامين، ولكن صلتنا بأسرة عزيز باشا لم تكن تتمثل في كثرة التزاور، فقد كان في هذه الفترة مديرا في مديريات مصر، وكان مجيئه إلى القاهرة قليلا.

ومكالمته هذه لي التي حدثتك عنها كانت وهو مدير لأسيوط، وكانت روايته قيس ولبنى قد ظهرت أيضا فوضعت قدمه بعظمة على المسرح الشعري، وشاءت الأقدار أن تكون لي به وبأسرته وبرواياته أعمق الصلات وأقواها، طبعا لأنني تزوجت ابنته الصغرى فكانت ولا زالت حياتي، أو هي - والله أعلم - أحب إلي من حياتي وهي ابنتي أمينة وابني دسوقي، ولكن حبي لها فهي زوجة وشقيقة روح وخدن عمري أقوى من حبي لها أما لابنتي وابني.

إليك القصيدة وقد تلحظ فيها أن عزيز باشا يمتدح زواج الأقارب، وما هذا بغريب، فزوجته زينب هانم بنت عمه سليمان بك عثمان أباظة عضو مجلس الشيوخ، كما تزوج أبي ابنة عمه عبد الله بك السيد أباظة، وقد كان عضوا بمجلس شورى القوانين ، وهو ابن السيد باشا أباظة والد جدي لوالدي إبراهيم بك أباظة، الذي كان عمدة غزالة بلدتنا، وقد أنجب سيد باشا أربعين ابنا وابنة، وربما من الطريق هنا أن أذكر أن السيد باشا هذا أهدى الخديو تفتيشا قدره 12 ألف فدان مما يدحض قول الجاهلين إن الخديو كان يوزع الأرض على الأعيان، فالحقيقة أن الأعيان هم الذين يهدون الأرض إلى الخديو.

أما توزيع الأرض من الملوك على الأمراء والإقطاعيين فلم يكن إلا في فرنسا، وما عرفته مصر على الإطلاق، وما عرفت الإقطاع الذين يهرفون به في حياتها.

إليك القصيدة:

حي الغزالي

1

وقد بلغت منزلة

منفوسة في الشباب المونق الحالي

موفورة الحظ من شأو يقصر عن

إدراكه غيره إلا بآمال

قالوا الشبيبة طرف اللهو محتده

فقلت بل طرف أخلاق وأعمال

وقفت أنضر أيام الحياة على

درك المحامد فينا والسنا العالي

فنلت في غير ما نهضت له

والمجد صعب على طلابه غالي

يا صاحب القلم السحري ترسله

فيبعث الآي في أسلوبها الحالي

وصاحب الخطبة الفيحاء تنثرها

نثر اللائي في قاعات لآل

2

ليهنك اليوم أن تبنى بطاهرة

بين الندى نشأت والنبل والمال

غني بفضل أبيها الناس قاطبة

ووفقت بعد في عم وفي خال

زين الغواني

3

الأباظيات قد ظفرت

بالنافع المرتجى والباذل النال

الساكب العرف والمأمول جانبه

والصائب الرأي والتدبير والقال

إن الزواج لمؤت خير عاقبة

إذا التزاوج لم يخرج عن الآل

لا تصغ للطب في هذا وخذ

ثمر التجريب تحيا رضى النفس والبال

تحنو علي وترعى غيبتي أبدا

على الليالي بنات العم والخال

يرضين علمي وجهلي لا يضقن به

ذرعا ويحمدن إكثاري وإقلالي

ويغتبطن بإجمالي يشدن به

قد يكون ضئيلا شأن إجمالي

لا زلتما تشهدان العيش متسقا

والدهر في حدب منه وإقبال

توثقت صلتي بعد ذلك بعمي عزيز وكنت كثيرا ما أكلمه في أسيوط بالتليفون، وبدأت صلتي أيضا بزوجتي، صلة من نوع آخر غير صلة القرابة، فأنا طبعا أعرفها منذ وعينا الحياة، وأنا وهي بحكم القرابة ولكن هذه الآصرة الجديدة التي بدأت كانت من ذلك النوع الذي يعرفه تاريخ البشرية، والتي كانت سببا في بقاء هذه البشرية على قيد الحياة.

وحبا في هذه النبضات الجديدة التي بدأ قلبي ينبضها عرضت على عمي عزيز أن أشرف على طبع روايته العباسة، وفي المطبعة رأيت شخصا توثقت به بعد ذلك، وكنت حين رأيته أول مرة وكنت أعرفه؛ لأنه كان أصبح حينذاك قصاصا مشهورا، ولم أكن بعد مشهورا، ولهذا خجلت أن أكلمه في المطبعة، إنه المرحوم الأخ الحبيب الإنسان الملاك يوسف السباعي، وأصبحت بعد ذلك مسئولا عن طبع روايات عزيز باشا، وقد مثلت روايته العباسة أمام الملك في ذلك الحين وأحب أن ينعم عليه برتبة الباشوية في دار الأوبرا، ولكن النقراشي باشا الذي كان رئيسا للوزراء ووزيرا للداخلية رجا الملك ألا يفعل؛ لأن عزيز باشا لم يكن في ذلك الحين أقدم المديرين، ولم يكن أقدم منه إلا شمس الدين عبد الغفار الذي نال الباشاوية فيما بعد، وحين حاول الملك أن يفهم النقراشي باشا أنه يمنحه الباشاوية كشاعر وليس كمدير لأسيوط، ألح النقراشي باشا في الرجاء، فكان هذا خيرا لعزيز باشا دبرته له السماء، فقد أقام الملك حفل تكريم خاص لعزيز باشا وجميع الممثلين في المسرحية والمخرج ولجنة القراءة والإداريين، وفي هذا الحفل أنعم الملك بالباشاوية على عزيز باشا.

من ذكرياتي عن هذه الأيام أن عزيز باشا كلفني أن أحضر بروفات روايته الناصر في الفرقة القومية، لأصحح اللغة العربية للممثلين، وكنت حينذاك طالبا بكلية الحقوق، وهكذا تعرفت بأكبر ممثلي مصر في هذه المناسبة.

وهكذا ازددت قربا من عزيز باشا ومن عفاف، وكنت قد أحسست بوجيب الحب قبل هذا بشهور، وكنا في الإسكندرية وكنت أختلق الأعذار لأزور بيت عزيز باشا الذي كان بالشاطبي في ذلك الحين، وكنا وعفاف نتحدث في الأدب كثيرا مما قوى حجتي أن أحضر لها الروايات التي ظهرت في المكتبات، وكنت أقرأ لها شعر شوقي، وفي عفاف خاصية عجيبة - أو ربما لا تكون عجيبة بالنسبة لها - فإنها تحس بأي كسر أو عيب في عروضي من الشعر بأذنها دون أن تدرس العروض طبعا فقد تلقت أغلب تعليمها في مدارس الفرنسيين، وهي اللغة التي تجيدها كل الإجادة لدرجة أنني أذكر أننا كنا في يوم ما أنا وهي في باريس ووقفنا في أحد مواقف التاكسيات واتصل الحديث بيننا وبين أحد المنتظرين معنا وعرف أننا مسافران إلى مصر، فقال لي أنت تسافر لأنك واضح أنك مصري ولكن لماذا تسافر السيدة. فقد ظن لإتقانها اللغة الفرنسية أنها فرنسية.

في إحدى زياراتي لمنزل الشاطبي جلست أنا وعفاف ورحت أقرأ لها بعض أبيات لشوقي في جزئه الرابع. وفجأة قلت: ما رأيك أقرأ البخت بالشعر. - طيب. - أفتح الديوان وأقرأ البيت الذي يقع عليه نظري دون قصد. - وهو كذلك.

وفتحت الديوان وقرأت فإذا بختها: لا بأس عليك يا حوريتي أنت وأبناؤك حتى يكبروا في خفرتي.

فكأنما كان هذا البيت إيذانا بالزواج.

نجحت في السنة الثانية في كلية الحقوق وكان د. شوقي باشا مديرا للجامعة، وقد تفضل معاليه بأن ينقل إلى أبي درجاتي كلما ظهرت نتيجة علم من العلوم حتى تمت النتيجة كلها ونجحت نجاحا موفقا.

وطبعا كنت قد فاتحت أمي برغبتي في خطبة عفاف ووجدت عندها ترحابا شديدا، فأم عفاف رحمها الله - كما قلت لك - كانت من أحب سيدات العائلة إليها إن لم تكن أحبهن، وعرضت الأمر على أبي فرحب هو أيضا، وهكذا خطب أبي عفاف من عمي عزيز وقال عمي عزيز: هل أجد لها أحسن من ثروت.

فقال أبي: أنا طبعا أعرف حبك لثروت ولكني أريد أن أعرف رأيها هي.

ولعلك تعجب أن عفاف قالت لأبيها أخاف أن يكون فارق العمر بيننا قريبا، وفعلا الفارق بيني وبينها سنتان وبضعة شهور، ربما كان ما قالته هذا خجلا من أبيها أو ما لا أدري من مشاعر المرأة التي أعترف حتى اليوم أنني لست خبيرا بدخائلها، بل وأحسب أنه ليس هناك من هو خبير بشأنها.

وتمت الخطبة وسط أفراح واضحة من خاصة زوجتي ومن خاصتي على السواء، وتم الاتفاق طبعا ألا يكون الزواج إلا بعد أن أحصل على الليسانس .

نجحت من السنة الثالثة إلى الرابعة، ولا شك أن الخطبة ألهتني عن المذاكرة التي تكفل لي النجاح في الليسانس، وتزوجت في 11 يونيو عام 1950م، ولم تكن النتيجة قد ظهرت بعد، وفوجئت بأنني لم أنجح وأنه لا بد لي أن أؤدي ملحقا في المرافعات والتجاري، وهكذا بدأت حياتي مع زوجتي وأنا بعد طالب في كلية الحقوق، ورحت أذاكر في منزل الزوجية وأنا أشعر بحرج شديد ألا أنجح فتكون فضيحة لي كزوج وهو تلميذ، وشاء الله أن يكتب لي النجاح، وربما من الذكريات التي تستحق أن تقال أنني عرفت نتيجة الليسانس وأنا أتكلم من تليفون في مطبخ مطعم الكورسال الذي كان مواجها لسينما ديانا في ذلك الحين، فقد كان يحلو لي أنا وزوجتي أن نتناول غداءنا خارج البيت، ونذهب إلى السينما في حفلة 3، وخطر لي ونحن ننتظر الغداء أن أسأل نسيبنا الدكتور العظيم عثمان خليل عثمان أستاذ القانون الدولي إن كان عرف شيئا عن نتيجتي، ولم أتوان وقمت أبحث عن التليفون في المطعم، فإذا هو داخل المطبخ فلم أجد بدا من أن أقتحم المطبخ وبين لغط الطهاة أجابني الدكتور عثمان خليل وبشرني أنني أصبحت محاميا، وبشرت زوجتي، وما دمت ذكرت الدكتور عثمان، فلا بد أن أذكر فضله علي وموقفه الذي يدل على منتهى الأمانة مع النفس ومع شرف المهنة.

الدكتور عثمان متزوج من السيدة هدى هانم أباظة ابنة عمي عبد العظيم بك أباظة الذي كان مديرا لحسابات السكة الحديد وهو ابن عمة والدي، فحين دخلت كلية الحقوق رجوت د. عثمان أن أزوره ليشرف على مذاكرتي فرحب بذلك، فكنت أقصد إليه وأنا في السنة الأولى من كلية الحقوق ويسترجع معي المواد جميعا، فهو لم يكن يدرس للسنة الأولى، وفي السنة الثانية كان أستاذنا في المدرج للقانون الإداري، ولم أتوقف عن الذهاب إليه وكنت دائما أتناول عشائي عنده كلما زرته، وفي مرة تمنعت عن العشاء خجلا مدعيا أنني تعشيت فألح علي قائلا: نقنق.

أي كل شيئا بسيطا.

وأثناء العشاء نسيت نفسي وأكلت فإذا هو يبتسم ويقول لي: في المرات القادمة نقنق في بيتكم وتعشى عندنا.

وضحكنا. ومما أذكر من أفضاله أنني ذهبت بعد ذلك بسنوات إلى الكويت فاستضافني في بيته وأكرمني هو وزوجته كل الإكرام ، وقد كان يعمل في الكويت مستشارا دستوريا للمجلس التشريعي بها.

وقبل أن أروي موقفه الشريف مني يحلو لي أن أروي الموقف الذي ترك من أجله العمل في الجامعات المصرية، فقد نشأ خلاف بينه وكان عميدا في ذلك الحين وبين الوزير العسكري الذي كان وزيرا للمعارف، فقدم د. عثمان استقالته ففرحت زوجه بهذا فرحا عظيما؛ لأنها كانت ترجوه أن يترك الجامعة ويفتح مكتب محاماة حتى يستطيع أن يواجه المصاريف المتزايدة التي يضطران لها لكثرة ما أنجبا من بنين وبنات، ولكن الفرحة لم تتم، ففي ذلك اليوم الذي قدم فيه استقالته طلبه مكتب الوزير في التليفون وأبلغه أن الوزير يريد أن يراه مساء هذا اليوم، ولم يستطع طبعا أن يعتذر وتوجست زوجته شرا أن يلح عليه الوزير ليسحب استقالته، فطلبت إلى زوجها أن تذهب معه وتنتظر في السيارة حتى ينتهي من مقابلة الوزير. وفعلت، وصعد إلى مكتب الوزير ومكث قرابة ساعتين ونزل وقد بدا على وجهه الضيق والألم وقالت له زوجته: سحبت الاستقالة؟ - كان الإلحاح أكبر من قدرتي.

فبكت زوجته.

وظهرت الصحف في الصباح أن الدكتور عثمان خليل عثمان سحب الاستقالة التي كان قدمها.

وفي اليوم التالي ظهرت الصحف أن وزير المعارف أو التربية والتعليم لا أذكر ماذا كان اسمها في الحين أصدر قرارا بإحالة الدكتور عثمان خليل عثمان إلى المعاش.

وهكذا كان عهد الطغاة يأبى للإنسان أن يحتفظ بكرامته، وإن كان لا بد أن يترك عمله فإنه حتم عليه أن يتركه مفصولا لا مستقيلا.

وعرضت الكويت على د. عثمان العمل بها فقبل.

أما موقفه معي وهو يدرس لي الإداري في السنة الثانية فقد كان عظيما، وإن كنت أنا الغارم فيه، كنت عنده في البيت كعادتي وكان بيننا وبين الامتحان ثلاثة أشهر فإذا هو يقول لي. - حضرتك لا تأتي إلي بعد اليوم.

ودهشت. - لماذا؟ - سأبدأ في وضع الامتحان، فإذا بعدت بك عن موضوعات الامتحان ظلمتك، وإن أشرت إليك إلى أهمية مواضيع الامتحان خنت الأمانة، وظلمت نفسي.

هكذا كان الأستاذ العظيم د. عثمان خليل عثمان. وهكذا كان أساتذة هذا الزمان، أتناول عنده الطعام، ويأبى ضميره أن يكون على صلة بتلميذه وقريبه في الفترة التي يضع فيها الامتحان وربما حتم علي أن أقول إن الصلة بيني وبين الدكتور لم تقف عند مكان التلميذ من أستاذه؛ بل اتخذ مني أخا أصغر يفضي إليه بدخيلة نفسه ويستأمني على خاصة أسراره التي لا يستأمن عليها أحدا من خاصته، ولكن الصلة الشخصية أمر يختلف كل الاختلاف عن نقاء الضمير وشرف النفس.

حين تخرجت في الكلية كان همي أن أبحث عن وظيفة، وكان أبي قد ترك الوزارة ولو كان باقيا بها ما فكر أن يعينني فيها على الإطلاق، وهل أدل على ذلك مما حدث لي مع أبي؟! إليك:

كان حافظ عفيفي باشا رئيس مجلس إدارة بنك مصر حين تخرجت، وحافظ عفيفي باشا صديق لأبي منذ ما قبل ثورة 1919م، وهو كما لا يعرف الكثيرون طبيب متخصص في الأطفال، وكنت قد مرضت بعد شهور من ولادتي مرضا كاد يودي بحياتي، فقد أصبت بالدوسنتاريا الحادة، وكان يعالجني طبيب أجنبي ومعه الدكتور إبراهيم شوقي باشا، والدكتور حافظ عفيفي باشا، وربما تدرك خطورة المرض مما قال الطبيب الأجنبي لوالدتي أنني كفوطة على مشجب، الله وحده يعلم كانت تبقى أم تسقط، وتولت عمتي تمريضي في إصرار حتى كانت لا تنام في الليل أو النهار. وما أظنني بحاجة أن أقول إنني نجوت من الموت وإلا فما كنت التقيت بك وكتبت لك هذا الحديث الذي أكتب.

أظنك تبينت مدى العلاقة التي تصل بين أبي وبين د. حافظ عفيفي باشا.

كنت مع أبي في حجرة نومه، وكان يحلق ذقنه كعادته وأحضرت له التليفون وقلت له: ألا تكلم لي د. حافظ باشا ليعينني في القسم القانوني ببنك مصر.

وترك الحلاقة ونظر إلي في دهشة: أتنتظر مني أن أرفع سماعة التليفون وأطلب من أحد مهما يكن أمره أن يعين ابني، هل تتصور هذا؟!

وسكت طبعا وعجبت فإنني لم أكن أتصور غير هذا.

كان ثمن هذه الكلمة أربعة وعشرين عاما من عمري قضيتها بلا وظيفة واضطررت في أثنائها إلى بيع معظم ما تركه أبي لي من أرض حتى أواجه حاجات الحياة الضرورية، فأنا لم أكن يوما لاعب قمار ولا شارب خمر والحمد لله، ومع ذلك لم يبق لي من أرضي التي ورثتها إلا قدر أخجل أن أذكره والحمد لله على ما وهب والحمد لله على ما منع.

كان عزيز باشا قد وعدني أن يهيئ لي وظيفة في إحدى شركات البترول، وانتظرت الوظيفة دون جدوى، ولولا شغفي بالقراءة وكتابة بعض التمثيليات الإذاعية فقد كنت قد بدأت أكتب تمثيليات للإذاعة منذ عام 1949م لأملأ الفراغ الذي أصاب حياتي كلها، ولعل بقائي هذا في البيت كان السبب المباشر لكثرة الشجار بيني وبين زوجتي، ولعل هناك سببا آخر أهم من ذلك، فقد تزوجنا على حب جارف، فكان كل منا ينتظر من الآخر ما لا يطيق الآخر أن يقدمه، وربما كانت سننا الباكرة سببا أيضا في التمسك بتوافه الأمور وصغيرها وتضخيم الأخطاء والمبالغة في تقويمها، ولا شك أن قلة المال في يدنا كانت سببا جوهريا آخر على الرغم من أننا لم نكن قد رزقنا بابنتنا وابننا بعد، وقد استمرت هذه الحالة من الشجار حتى علا بنا السن وبلغنا الأربعين تقريبا، فاستقر ما كان مضطربا وهدأ ما كان عاصفا.

الفصل الثامن

ظللنا ثلاث سنوات لا ننجب حتى إذا كانت السنة الثالثة ظهرت بوادر الحمل، ورحنا ننتظر مولودنا بفرح وشغف شاركنا فيهما جميع أهلنا.

وحدث لسوء الحظ أن توفي في فترة الحمل هذه عم زوجتي المرحوم عثمان بك أباظة الذي كان عضوا بمجلس النواب لفترة طويلة، وحزنت زوجتي لوفاته حزنا شديدا، وأغلب الأمر أنها أجهدت نفسها في المأتم أكثر مما ينبغي لحامل أن تفعل، وكانت النتيجة القاسية المرة أن مات الجنين قبل أن يولد وكان باقيا على ولادته فترة قليلة.

وأحسبني في غنى أن أذكر حزننا لهذا الحادث، وخاصة أنه جاء بعد وفاة والدي بفترة قليلة.

وفاة أبي

في 31 ديسمبر عام 1952م شعر أبي ببوادر مرض عرفنا جميعا أنه ليس مرضا هينا، وكانت أمينة هانم صدقي حرم عمي عزيز باشا تحب أن تحتفل برأس السنة في الربعماية بلدة عزيز باشا، وأصرت أن أحضر مع زوجتي هذا الاحتفال، وذهبنا فقد كنت أحب أمينة هانم كل الحب وأقدرها أنا وزوجتي التي تولت شأنها منذ كانت في السادسة عشرة من عمرها، فكانت لها أكثر حنوا من الأم؛ ولهذا أسمينا ابنتنا أمينة على اسمها، ذهبت إلى الربعماية، ولكنني وجدت نفسي لا يقر لي قرار خوفا على أبي، فإنني لا أعرف أحدا أحب أباه كما أحببت أنا أبي، ولعلك في غير حاجة إلى التعرف على هذا الحب الذي يزيده عمقا الإجلال والتقدير والإعجاب بل والإبهار، فإن ما قرأته في الصفحات السابقة نبض بكل هذه المعاني.

لم أستطع البقاء في الربعماية وهمست لزوجتي أنني عائد إلى أبي في القاهرة، وأدركت ما يدور بنفسي ولم تعترض، وفي الليل البهيم قدت سيارتي إلى بيتنا في العباسية وحرصت أن أتسلل إلى الحجرة التي كنت أنام فيها قبل زواجي حتى لا أشعر أمي أو أبي بالرعب الذي تولاني خوفا على أبي، ولكني لم أستطع في تسللي أن أتخفى عن الخدم الذين أنبئوا أمي وأبي بعودتي فاضطررت أن أدخل إلى أبي في حجرته، ولا شك أن مظاهر الانزعاج كانت بادية علي، ولكنني اختلقت أعذارا واهية لعودتي أحسب أنها لم تجز على السياسي المحنك، ولكنه تظاهر بتصديقها، وتركت بيتي ولحقت بي زوجتي في اليوم التالي، وأقمنا ببيت أبي طوال أيام مرضه.

تدهورت حالة أبي الصحية في سرعة عجيبة، فلم يستمر مرضه أكثر من اثنين وعشرين يوما، وفجعت بموته فجيعة لم أعرف مثيلا لها في حياتي حتى حين توفيت والدتي، فقد عانت قبل الوفاة المرض سنوات طوالا ولم يخفف موتها حزني عليها، فقد ظلت إلى آخر لحظة من حياتها متنبهة تشاركنا الحديث بذكائها الحاد، وقد توفيت والدتي في السبعين من عمرها، أما أبي فقد توفي وهو في الرابعة والستين من عمره، وكنت في يوم الوفاة مضطرا أن أذهب إلى المحكمة لأحضر في قضية غير ذات قيمة، ولكن شعوري بالمسئولية حتم علي أن أرسل القضية إلى الأستاذ إبراهيم أباظة قريبي الذي كنت أتمرن في مكتبه ليتصرف فيها وارتاح ضميري إلى ما فعلت، وتفرغت بعد ذلك إلى الكارثة التي حاقت بنا، وراح بيت من الشعر يلح علي دون أن أستدعيه:

من شاء بعدك فليمت

فعليك كنت أحاذر

وكانت جنازة أبي بالقاهرة من الجنازات الكبرى ولم تتخلف جريدة ولا تخلف كاتب عن رثائه، وكان طبيعيا أن يكون مثواه الأخير غزالة، وقد أبى أهل غزالة أن يدفن دون جنازة أخرى، وما أحسب أحدا تخلف عن هذه الجنازة.

وقد أقمنا المأتم لمدة ثلاثة أيام بغزالة، ومما لا أنساه أن مدني بك حزين أقام مأتما لأبي ببلدته إسنا وأرسل لي برقية يعتذر فيها عن عدم الحضور إلى غزالة؛ لأنه يتلقى العزاء بالسرادق الذي أقامه في إسنا، وبعد ذلك أقيمت حفلات التأبين لأبي في جميع بلاد القطر من أسوان إلى الإسكندرية، حتى إني لم أستطع أن أذهب إليها جميعا، ومما لا أنساه موقف الشيخ شعيشع الذي كان أحد القراء الذين رتلوا القرآن في المأتم، وحين حاولت أن أقدم إليه مكافأته عن جهده قال: إذا كنت تريدني أن أقبل هذه المكافأة فهات لي يد الباشا لتقدمها إلي.

ورفض في حسم أن ينال مكافأته.

وجاءتني برقية من الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات بك لا أنساها قال فيها:

جل خطب عن عزاء، فلا أقول عزاء ولا أقول صبرا.

ثم أقام له بعد ذلك رجال حزب الأحرار الدستوريين حفل تأبين مع أن الحزب كانت الثورة قد حلته عندما حلت الأحزاب جميعا، ولا أنسى واقعة من عميد الأدب العربي د. طه حسين في هذه المناسبة، فقد كنا في بيت هيكل باشا وهو يعد الإجراءات لحفلة التأبين، وقال هيكل باشا اطلبوا لي طه حسين على التليفون، وكنت بجوار هيكل باشا وهو يكلم طه باشا، وقال هيكل باشا: يا طه نحن نقيم حفل تأبين لدسوقي في يوم كذا.

فقال الرجل العظيم وأنا أسمع ما يقول: في هذا اليوم أنا مرتبط بمحاضرة ألقيها، سألغيها وأحضر التأبين وأتكلم.

وقد فعل، وكان المتكلمون جميعا من أعظم رجال مصر، وألقى العقاد قصيدة رائعة نشرتها في كتابي «ذكريات لا مذكرات».

لا أريد أن أطيل في هذا الشأن فإنه يعيدني إلى حالة من الحزن والألم والأسى لم تعد سني تحتملها، ولكن لا أستطيع أن أترك هذا الأمر دون أن أذكر أن هذا الحدث كان في 22 يناير عام 1953م أي بعد الثورة ببضعة شهور، كان لا عمل للإعلام في أثنائها إلا الهجوم على رجال السياسة وزعماء مصر جميعا بعنف لم تشهد له مصر مثيلا، ولكن الحب الذي كان يربط هذه الجموع بأبي - رحمه الله - كان أقوى من كل هذا الهجوم الضاري الشرس الظالم، فإنه سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملا. •••

عدت إلى الفراغ الذي كنت أعانيه من عملي بالمحاماة، فقد كان المكتب الذي أعمل به مع المرحوم الأستاذ إبراهيم أباظة قليل القضايا، ومن شأن المحاماة أن تنكمش في أيام الحكم الشمولي، فكنت أذهب إلى المحكمة مرة كل أسبوع أو مرتين على الأكثر، ويحيط بي الفراغ من كل جانب.

ورحت أبحث عن وظيفة عبثا، فالوظيفة التي وعدني بها عمي عزيز تأبت علي ولم تظهر لها أي بوادر.

وكان خالي مدحت أباظة يعمل بإحدى شركات النقل فعرض علي أن أعمل بها، وسارعت بالقبول وذهبت إلى الشركة، وكان قد تحدد لي مرتب ثلاثين جنيها، وقد كان مرتبا عظيما في تلك الأيام، ومرت الأيام بي في الوظيفة دون أن أعمل شيئا، فقد كان المفروض أن أكون محاميا للشركة مع المحامي الرئيسي لها، وأشهد أنه كان من أسفل الناس خلقا ورفض أن يكلفني بأي عمل خشية منه أن يستغنوا بي عنه، وكم كان تافها في التفكير، فأين محام في أول حياته مثلي من محام مثله ذي خبرة ودربة ومران، والغريب أنه عين محامية أخرى كلفها بالحضور في القضايا، ولم يكلفني بقضية واحدة.

ظللت بضعة شهور أتقاضى مرتبي وأنا كاره له غاية الكراهية، فلم أجد نفسي تقبل مالا بلا عمل واستقلت وعدت إلى الفراغ لا يحميني منه إلا القراءة الجامحة تصاحبها سعاة غامرة وكتابات للإذاعة أو الصحف والمجلات من الخارج، ووضح وضوحا تاما أن هناك أمرا ألا أنتظم في العمل بأي جريدة، وكان الصديق الأخ إسماعيل الحبروك أكثر الناس اهتماما بإيجاد عمل لي، ولكنه كان يجد دائما حائطا خفيا قاسيا يحول بيني وبين التعيين.

في هذه الفترة تعرفت بالأستاذ فتوح نشاطي؛ لأني كنت أجلس معه لمدارسة مسرحية الناصر التي كان سيقوم بإخراجها وكان عزيز باشا قد سافر إلى أوروبا، وكلفني أن أدارس الرواية مع الأستاذ فتوح وأكون حلقة صلة بين المؤلف وبين المخرج، وقال لي فتوح إنه معجب بالحوار الذي أكتبه في تمثيلياتي الإذاعية، بل والحوار الذي أكتبه في مقالاتي بالرسالة والثقافة والمصري، وفكر أن نؤلف مسرحية معا واختار موضوع المعتمد بن عباد الأندلسي، وتمهيدا لكتابة هذه المسرحية طلب إلي الأستاذ فتوح أن أقرأ كتاب دوري عن تاريخ الأندلس ترجمة الأستاذ كامل الكيلاني، وقرأت الكتاب بمتعة عظيمة، وكتبت المسرحية مع الأستاذ فتوح، وطبعا توليت أنا الحوار فيها كلها، وكان باللغة العربية المبسطة.

وقدم الأستاذ فتوح المسرحية إلى الأستاذ يوسف وهبي الذي كان مديرا للفرقة القومية في ذلك الحين، ورفض الأستاذ يوسف المسرحية، ولست أدري حتى اليوم لماذا رفضها، أكان ذلك لأنها تستحق الرفض أم كان للخلاف الذي كان بين يوسف وهبي وفتوح نشاطي.

كل هذا كان في حياة أبي، فحين اختاره الله إلى جواره تذكرت كتاب دوري واخترت شخصية بهرتني سيرتها، وفكرت أن أتغلب على أحزاني بكتابة رواية عن هذه الشخصية يكون التاريخ فيها أساسا، ولكن لا يكون في نفس الوقت قيدا علي. وهكذا بدأت أكتب رواية ابن عمار، أنسى به ما واجهته من موت أبي أحب إنسان وأعظم مثل أعلى عرفته من الأحياء وموت ابني قبل أن يولد.

أتممت ابن عمار ولم أجد لروايتي ناشرا خيرا من دار المعارف، خاصة أن الرواية صغيرة مما يجعلها مناسبة لعد من سلسلة اقرأ، وذهبت بكتابي إلى الأستاذ عادل الغضبان مستشار النشر بدار المعارف حينذاك، والشاعر الرقيق، وكان يعرف اسمي مما يقرؤه لي في الرسالة والثقافة والمصري وما يسمعه لي من تمثيليات في الإذاعة، وقال لي كلمة لم أكن أعرفها، وكنت قد كتبتها في سياق الرواية، فقد استعملت كلمة شراك بمعنى شرك، فقال لي إن الشراك رباط الحذاء، وليس بالمعنى الذي تقصده من السياق، وحمدت الله أن عادل الغضبان لم يجد في كل الرواية إلا كلمة واحدة في غير مجالها، وقد كان عادل الغضبان من المهتمين كل الاهتمام باللغة العربية وأسرارها.

ونشرت ابن عمار في عام 1954م بعد أن تعاقدت عليها مع دار المعارف، وكان العقد يقضي بأن أتقاضى خمسين جنيها عن كل طبعات الكتاب، وقد أصبح هذا النوع من العقود باطلا الآن، ولكنني أنا كنت مستعدا للتوقيع حتى ولو لم أنل مليما واحدا عن الكتاب، فقد كان أول كتاب لي وهذا الذي خالجني بشأنه أمر طبيعي أن يخالج كل من يحاول المحاولة الأولى.

أرسلت كتابي إلى كل الصحف وإلى كل النقاد، سواء من عرفتهم أو لم أعرفهم، فلم تظهر عنه كلمة واحدة تشعرني أني كتبت شيئا حتى كان يوم ذهبت فيه كعادتي إلى توفيق بك الحكيم في بترو بالإسكندرية وقصة تعرف توفيق بك علي نشرتها في كتابي «ذكريات لا مذكرات»، ولا أرى داعيا لإعادة نشرها.

وجدته يجلس وحده في بترو، فقد كان الوقت مبكرا، ولم يكن رفاق الندوة قد تقاطروا عليه بعد، فما إن جلست حتى بادرني توفيق بك: مبروك يا سيدي. - علام؟ - قرروا كتابك ابن عمار على السنة الإعدادية.

فرحة غامرة انسكبت في نفسي دفعة واحدة وصحت: صحيح؟

قال وهو يعطيني جريدة الأخبار: خذ اقرأ.

وقرأت الخبر وصمت توفيق بك قليلا ثم قال بعد أن مصمص شفتيه: شوف ولاد ... يأخذون كتابك ويتركون كتابي.

وتلقيت الكلمة بدهشة كبيرة وأين أنا من توفيق الحكيم حتى يقارن نفسه بي.

هذه الفرحة الغامرة نادرا ما شعرت بمثلها في حياتي كلها، فأنا في سني التي أنا عليها الآن أصبحت أكاد أفقد الشعور بالفرح، وإن شعرت به يتمشى في أوصالي فمشية واهنة الخطو هينة الشأن.

وحين عدت إلى القاهرة من المصيف وجدت في انتظاري خطابا من دار المعارف ومعه شيك قيمته خمسون جنيها، والخطاب يخبرني أن هذا المبلغ هدية لي من الدار لتقرير كتابي على الإعدادية وليس حقا لي.

وكان تقرير الكتاب إشارة لي أنني أسير على الطريق، وأنني أستطيع أن أكتب الرواية، وكانت فكرة روايتي «هارب من الأيام» قد بدأت تراودني فبدأت أكتبها على وجل وبعد تقرير ابن عمار على الإعدادية، لم يكن من العسير أن أجد ناشرا فقد طمع الناشرون أن يقرر كتابي على المدارس فيربحوا هم الربح الوفير.

وجدت ناشرا لروايتي وظهرت «هارب من الأيام» في عام 1957م على ما أذكر، وكانت جائزة الدولة التشجيعية قد أنشئت في هذا العام، فعزمت أن أتقدم بروايتي لهذه الجائزة، ولكني كنت حذرا غاية الحذر، فرأيت أن أنتظر إلى اللحظة الأخيرة من التقديم لأعرف جميع المتقدمين معي، ووجدت بينهم أسماء على قدر من الشهرة ووجدت بينهم من يكبرني في السن بمدى طويل، ولكنني تجرأت وقدمت روايتي، وفوجئت في يوم بالتليفون يرن في بيتي وأحد أعضاء اللجنة التي تنظر في الأعمال يهنئني بفوزي بالجائزة، وكانت فرحة غامرة لا شك، وعرفت بعد ذلك أن الذي هنأني بنيل الجائزة هو الوحيد الذي يكان يعارض منحها لي في اللجنة، وحين سئل عن سبب رفضه قال في بساطة إن الرواية لم تعجبه، ولكن اللجنة أصرت أن يبدي سببا معقولا لهذا الرفض، فلم يجد العضو بدا من الموافقة على منحي الجائزة، وهكذا نلتها بالإجماع.

وقبل ظهور نتيجة الجائزة بفترة لا أذكرها زارني أخي الحبيب أمين يوسف غراب في البيت وأخبرني أن الدكتور طه يريد أن يراني، وأخبرني أمين أن الدكتور قرأ روايتي، وأنه معجب بها فكدت أطير من الفرح وصحت بأمين وماذا ننتظر هلم بنا، وحين دخلت حجرة د. طه وجدت معه الأستاذ عباس خضر - رحمه الله - وكنت أعرفه معرفة وثيقة، وما هي إلا دقائق حتى قال الدكتور: لقد قرأت روايتك يا ثروت وأعجبت بها كل الإعجاب. - هذا شرف لم أتصور أنني سأناله يا معالي الباشا. - أنت أديب قلت ما يريد أن يقوله عن طريق الرواية. - الحمد لله.

وصمت قليلا ثم قال: الحق أنه لم يكتب في تاريخ الأدب العربي عن الريف المصري، مثلما كتبت أنت في روايتك هارب من الأيام.

أصبحت الدنيا في ناظري زغاريد وموسيقى وبهجة لم أشعر بها حتى وأنا أتلقى خبر نيلي الجائزة.

وبعد أن جلسنا بعض الوقت استأذنت أنا وأمين، فإذا الدكتور طه يقول وهو يودعني: لا تحسب أنني سأمدحك حين أكتب عنك، ولكني سأشد أذنك.

فقلت والفرحة تزيد قلبي خفقا: مرحبا بكل ما يأتي منك يا معالي الباشا.

وما هي إلا أيام حتى طلبني محرر من جريدة الجمهورية يريد مني صورة ليضعها في المقال الذي كتبه عن روايتي د. طه حسين، وسارعت بالصورة إلى الجريدة.

ولم أنم في هذه الليلة حتى الصباح وبكرت إلى الجمهورية وقرأت المقال، فوجدت المقالة الكبيرة التي كتبها د. طه ووجدته يأخذ علي أن جعلت فئة تتظاهر بأنها تأخذ من الأغنياء لتعطي الفقراء بينما تستولي هي على الجانب الأكبر مما تستلبه. قال د. طه إن هذا ليس في حياتنا وإنما كان أيام صعاليك العرب، أما باقي المقال فكان مديحا لي ما زلت أشعر بالزهو أنني نلته من الأستاذ الذي أعتقد أن الأدب العربي الحديث قد تخرج على يديه.

انتظرت حتى أصبح الوقت مناسبا وفي الساعة العاشرة كنت أقف على باب رامتان، وهو اسم الفيلا التي يقطنها الدكتور العميد، وكان جالسا في مكتبه، واستقبلني وهو يقول: إذن أنت لم تزعل مني. - أزعل! بل أنا أسبح في بحور من السعادة.

وصمت قليلا وقال: ثروت! ماذا تقصد بروايتك؟ - لقد قلت لي معاليك إنني قلت ما أريد عن طريق الرواية. - لا شأن لك بما قلت. أخبرني أنت ماذا تقصد؟ - أرسم عهد الطغيان الذي نعيش فيه. - نعم، هذا ما فهمته. - إذا لم تفهمه أنت فكأنني ما كتبت شيئا على الإطلاق. - ثروت اسمع أستحلفك برحمة والدك، وإني أعرف مدى حبك وإكبارك له وبحياتي، وأنا أعرف مكانتي عندك، ألا تخبر أحدا بهذا الذي تقول، ولقد قصدت أن أموه في مقالتي ذاكرا صعاليك العرب، وما إلى ذلك حتى تقول إذا ما سئلت بصفة رسمية إذا كان طه حسين لم يفهم أنني أهاجم العهد، فكيف تفهمون أنتم هذا المعنى، ولهذا كتبت ما كتبت من نقد لك لأتظاهر بأنني لم أفهم المعنى الذي قصدت إليه في روايتك يا ثروت، نحن نحكم بجماعة ليس لها حدود في الظلم والطغيان، والله وحده يعلم ماذا هم صانعون بك إن تبادر إلى ذهن أحدهم المعنى الذي تدور حوله روايتك.

وتأثرت بحديث الدكتور طه كل التأثر، وكنت في ذلك اليوم مسافرا إلى غزالة لبعض شأني، فما إن وصلت إلى البيت في البلدة حتى بادرت بكتابة خطاب للدكتور طه أقول فيه ما معناه إنك بما كتبت عني أثبت اسمي في سجل الكتاب، وهذا أمر ربما كانت الأيام تستطيع أن تصل بي إليه في قابلها مهما يكن هذا التقابل بعيدا، أما الحديث الذي دار بيني وبين معاليكم اليوم فقد وهب لي أبا بعد أن فقدت أبي، وهذا ما أثق أن الأيام تعجز أن تقدمه إلي.

ذهبت إلى الدكتور بعد نيلي الجائزة، فإذا هو يبادرني قائلا: ضحكت على الدولة يا أستاذ. - مقالة معاليك أهم عندي من الجائزة.

كان مقدار الجائزة خمسمائة جنيه، ونلت معها أيضا وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى. •••

نلت الجائزة ولكنني ما أزال بلا عمل وخطر لي أن أذهب إلى عبد الملك بك حمزة، فقد كان صديقا لأبي، بل إن أبي تمرن في مكتبه حين تخرج في كلية الحقوق عام 1912م، وكان عبد الملك بك رئيسا لمجلس إدارة شركة الملح والصودا. وأحسن عبد الملك بك استقبالي ووعدني أن يجد لي عملا وطلب إلي أن أعود إليه بعد أسبوع، وفعلت ثم أجل موعدي أسبوعا آخر. كان كتابي ابن عمار قد ظهر في ذلك الحين، فأخذت معي نسخة له وأهديتها إليه فتقبلها وطلب أن أعود بعد أسبوع آخر. وذهبت فكان العجب.

ما إن جلست حتى بادرني عبد الملك بك قائلا: أنا لن أعينك.

وطبعا سكت والدهشة لا شك قد طفرت إلى عيني. - أنت عبقري وأنا أرفض أن أدفن عبقريتك في الوظيفة.

لست أدري لماذا يظن الناس حتى الكبار منهم وأصحاب التجارب والثقافة أنهم أذكى من كل الناس، وأن الناس كلهم أغبياء إلا هم، لقد واجهت هذه الظاهرة من علماء ومن رجال سياسة ومن فطاحل في علومهم ومكانتهم الاجتماعية لا يقدرون ذكاء الآخرين ويحسبون أنهم يستطيعون أن يستغفلوا جميع الناس، والحقيقة أنهم لا يستغفلون إلا أنفسهم.

وبصورة أكثر احتراما واجهت هذا المصير من عبد الخالق حسونة باشا حين كان أمينا للجامعة العربية، فقد توسط لي عنده عمي عزيز باشا لأعين بجامعة الدول العربية، وبين عبد الخالق باشا وأبي قصة طريفة سأذكرها لطرافتها.

كان أبي وزيرا للشئون الاجتماعية وكان عبد الخالق باشا وكيلا للوزارة، وكان في الوزارة موظف حصل على اثنتي عشرة دكتوراة في القانون، ومع ذلك كانت حركة الترقيات تتخطاه دائما، ولشدة شعوره بالظلم كان يضع على باب الحجرة التي يجلس بها ورقة تحمل اسمه وعناوين الدكتوراهات (إن صح الجمع) التي يحملها.

وشعر أبي بالظلم الفادح الذي يلاقيه فطلب إعداد مذكرة بترقيته إلى الدرجة الخامسة، وأعدت المذكرة وسارت في طريقها المرسوم حتى وصلت إلى وكيل الوزارة تمهيدا لعرضها على الوزير، فإذا بعبد الخالق باشا يكتب على المذكرة لا يرقى، وجاءت المذكرة إلى مكتب أبي، فإذا به يكتب همزة واحدة فوق لا بسخرية من وكيل الوزارة، وليوضح له أن الأمر أولا وأخيرا للوزير وليس للوكيل، وضع أبي همزة على لا وفصلة، بعدها فأصبح القرار: لأ، يرقى. ورقي الدكتور بقرار وزاري دون حاجة للرجوع إلى الوكيل أو غيره، واستشاط عبد الخالق حسونة باشا لهذه التأشيرة وقدم استقالته وكان وكيل الوزارة إذا استقال تعرض استقالته على مجلس الوزراء، ولم يشأ مجلس الوزراء قبول الاستقالة لموضوع ليس من العسير معالجته، وتصدى عبد المجيد إبراهيم باشا الذي كان وزيرا حينذاك للموضوع وطلب إلى مجلس الوزراء إرجاء النظر في الاستقالة حتى يبذل مساعيه بين أبي وبين عبد الخالق باشا، وفعلا دعا أبي والوكيل إلى الغداء في بيته، وبدأ عبد الخالق باشا العتاب، وكان رجلا في غاية الأدب والكياسة وحسن التأني، وكان دائما يقول كلمة مونشير لمحدثه، وهي كلمة فرنسية تعني يا عزيزي، قال لأبي: يا مونشير تكتب على تأشيرتي لأ، يرقى.

فقال أبي: وأنت تتمنع عن ترقية موظف تعلم أنني أمرت بترقيته. - يا مونشير إنه لا يفهم شيئا. - يا عبد الخالق بك أنت وكيل وزارة وأنا وزير، وكل منا لا يحمل إلا ليسانس الحقوق، أكثير أن أرقي موظفا يحمل 12 دكتوراه إلى الدرجة الخامسة. - إنه ليس كفئا. - وهل رقيته إلى مدير عام، إنها مجرد الدرجة الخامسة. - بردون يا مونشير.

وانتهى الأمر وأصبح أبي من أحب الناس إلى عبد الخالق حسونة باشا، كما أصبح عبد الخالق باشا من أحب الناس إلى أبي، وسحب الاستقالة وظل هو وأبي صديقين حميمين طوال الفترة التي قضاها أبي في وزارة الشئون، وامتدت الصداقة بينهما بعد ذلك لم تنقطع.

وعودا إلى بدء حين ذهب عزيز باشا إلى حسونة باشا يرجوه أن أعين بالجامعة وقال له: إن لم يكن من أجلي أنا فمن أجل والده الذي أعرف أنه كان صديقا أثيرا لك.

وكنت في ذلك الحين قد أصبت نصيبا من الشهرة، فقال حسونة باشا في أدبه الجم: يا مونشير ثروت أباظة لا يحتاج أن يستند إليك ولا إلى والده، فهو نفسه مكسب للجامعة وجدير بكل احترام.

ومع ذلك لم يستطع حسونة باشا أن يجد لي مكانا في الجامعة، وعلمت بعد ذلك ممن لا أستطيع أن أذكر اسمه إنجازا لوعد قطعته على نفسي أن الدولة منعت حسونة باشا أن يعينني، فعجز الرجل مع كل النيات الطيبة نحوي أن يعينني بالجامعة.

وهكذا كنت أقبل أي عمل يعرض علي حتى لا تتسع أمامي هوة الفراغ، ومن بين الأعمال التي قبلتها على كره شديد وظيفة رئيس تحرير مجلة الإعلان، وقبل أن أمارس عملي حدث لي أمر جدير بالرواية كنت في منزلي ونزلت إلى سيارتي وجلست في مقعد القيادة، وإذا برجل لا أعرفه يفتح الباب الخلفي في سرعة ويدخل إلى السيارة ويبدأ بحديث عجيب. أنت فلان بن فلان وفي لحظات روى لي كل صغيرة وكبيرة في حياتي ثم قال: شكرا، أنا مكلف من المخابرات بعمل تحريات عنك؛ لأنك ستصبح رئيس تحرير مجلة الإعلان، وأنا أعلم أنه ليس في تاريخك ما يستحق البحث وراءه، فقلت أسألك بدلا من اللف والدوران، أرجوك لا تخبر أحدا بهذا الذي صنعته معك، وإلا اعتقلت وشردت وخرب بيتي، سلام عليكم.

ونزل من السيارة.

وقد نلت جائزة الدولة التشجيعية وأنا رئيس لتحرير مجلة الإعلان (بالنون وليس بالميم) وصدر مرسوم وسام العلوم والفنون باسمي يحمل هذه الصفة في صلبه دليلا على حقارة العهد الذي كنا نعيش فيه وطغيانه وتخبطه وصغاره.

بعد هذا طلب مني عمي فكري باشا أن أعمل بدار الهلال وطلب إلي أن أنقل اسمي من جدول نقابة المحامين وأقيد نفسي في نقابة الصحفيين، ووافقت فقد كنت ضقت ذرعا بالمحاماة ووضح لي تماما أنني لن أصلح مفاوضا مع الموكلين، وإن كنت أصيب كثيرا من التوفيق في ساحة القضاء، حتى كان بعض المستشارين إذا وقفت أمامهم في مرافعة يتهامسون أنهم سيسمعون كلاما رائعا، وقد أتيح لي أن أسمع هذا الهمس؛ لأن حاسة السمع عندي قوية إلى حد بعيد وراثة عن أبي - رحمه الله - ولكن حدث لي مع الموكلين حادثتين جعلتاني أعزف عن المحاماة كل العزوف، وأرحب بنقل اسمي إلى جدول غير المشتغلين في نقابة المحامين وإثبات اسمي بجدول المشتغلين بنقابة الصحفيين، وكان ذلك في عام 1958م.

وأعتقد أن الحادثتين جديرتان بالقص، فإحداهما أن قصد إلي أحد الموكلين يطلب مني أن أتولى قضية له في مصلحة الضرائب، وكان مدير عام مصلحة الضرائب في ذلك الحين ابن عمتي المرحوم محمد كامل أباظة الذي كنت أعتبره أخا أكبر لي، فحين جاءني هذا الموكل أدركت ما بعث به إلي. قلت له: لماذا جئتني؟ - لأنك محام شهير وعظيم، وأنا مستعد أن أدفع لك أربعمائة جنيه أتعابا في هذه القضية.

ولعل أبناءنا من جيل هذه الأيام لا يدرك ضخامة هذا المبلغ وفخامته، ولكن الذي لا شك فيه أن أبناء جيلي والذين يصغرونني ببضع سنوات يدركون معنى هذا الرقم وقوته.

قلت للموكل: لا. إنك جئتني لأن ابن عمتي مدير عام مصلحة الضرائب، فهذه قضية وساطة وليست قضية محكمة، وسأتولاها ولكن لن أتقاضى منك مليما واحدا؛ لأنه سيكون رشوة ولن يكون أتعابا.

وسعيت في القضية ووفقت فيها ولم أتقاض أية أتعاب.

أما الحادثة الأخرى فكانت حين جاءني موكل أعرف أسرته لأترافع عن أخيه المتهم بالاشتراك في قتل سيدة عجوز ابنها ضابط بالجيش، وكان القتل بقصد السرقة، وكانت أسرة المتهم على صلة ببيتنا فقد كنا نبرهم، وكانت القضية شهيرة وقد كان كثير من المحامين على استعداد أن يدفعوا هم أموالا لأقارب المتهم ليترافعوا في هذه القضية، وكان المحامون عن المتهمين الآخرين أحمد بك رشدي، واحد من أعظم المحامين في عصره. وعلي بك أيوب الوزير السابق والمحامي العملاق، وكان مجرد وقوفي إلى جانب هذين الاسمين الجليلين أمرا من شأنه أن يجلب لي شهرة واسعة في دنيا المحاماة.

وعدت أن أطلع على الدوسيه، واطلعت وجاء أخو المتهم فقلت له: هل ارتكب أخوك الجريمة.

فأطرق وقال: نعم.

قلت: لقد قضى أخوك بعض الوقت في مستشفى الأمراض العصبية، وهذا يتيح لي أن أطلب التخفيف وليس البراءة، فإن قبلت أنا تحت أمرك، وإلا فاذهب إلى محام آخر فنحن أقسمنا ألا نقول إلا الحق، ولا أستطيع أن أحنث بقسمي.

وطبعا لم يعد، وقد تتبعت هذه القضية في الصحف وكانت قضية ذات شهرة أسمتها الصحف قضية أم الضابط، وقد تخلى عن القضية كل من أحمد رشدي وعلي أيوب وتولاها محام ذو شهرة واسعة حتى الآن، واستطاع بفضل ألمعيته أن يحصل للمتهمين الأربعة على الإعدام، ولعله من الطريف أن أذكر تعقيبا على هذه الواقعة حدث بيني وبين كبير المحامين في عصرنا مصطفى بك مرعي الوزير السابق، فقد رويت له هذه الواقعة فذكر لي قاعدة لم أكن أعرفها، قال لي: إن المحامي لا يسأل الموكل إن كان ارتكب الجرم أم لا، ولا شأن له إلا بالأوراق التي أمامه هي التي تكلمه، وهكذا يتخلص كبار المحامين من تأنيب الضمير.

وهكذا وجدت نفسي لا أصلح محاميا على أية حال.

وذهبت إلى عمي فكري باشا وقابلت إميل زيدان وتم تعييني فلم أمكث محررا بالمصور إلا نصف ساعة، ولم تكن الصحف قد أممت بعد طبعا، والذي حدث أنني أعطيت مقالة لرئيس القسم الذي سأعمل معه فوجدته يبدي ملاحظات تدل على أنه لا صلة له مطلقا لا بالأدب ولا بالصحافة، وأدركت أنني كل يوم سأظل رائحا جائيا بين مكتبي ومكتب عمي فكري باشا لأكلمه في الخلافات التي ستقع بيني وبين رئيس القسم الذي أعمل معه، والتردد على رئيس التحرير إذا جاز لكل المحررين والكتاب، فإنه لا يجوز لشخص هو بمثابة ابن أخي رئيس التحرير.

فخرجت من دار الهلال إلى لا عودة، وإن ظللت أمدها بقصصي القصيرة من الخارج.

وطبعا بعد أن أممت الصحافة أصبح تعييني أمرا مستحيلا، ولكنني ظللت أكتب من الخارج وكان من أعظم من أتاح لي فرصة الكتابة أخي وصديقي فتحي غانم، فقد أفسح لي صفحة أسبوعية في الجمهورية كتبت فيها مقالا عن الشيوعيين بعنوان من خلال مجهر صدرت بعدها الأوامر إلى فتحي غانم ألا أكتب عنده مطلقا، وقد أبى الرجل العظيم أن ينفذ الأمر، وطلب إلي أن أكتب في غير السياسة، وكانت هذه منه جرأة فائقة تمثلت في هذه الشخصية الفذة، وتكرر منه هذا الموقف الجريء المشرف حين نشر لي روايتي (شيء من الخوف) في صباح الخير حين كان رئيسا لمجلس إدارة روز اليوسف، وكنت قد أعطيته الرواية وقال لي إذا جاءني مقال من طه حسين فإني أدفع به إلى المطبعة مباشرة دون أن أقرأه، وكذلك الأمر إذا جاءتني رواية من ثروت أباظة فإني أدفع بها إلى المطبعة مباشرة. وقذفت بي هذه الكلمة إلى حيرة شديدة وإشفاق على الرجل العظيم فتحي أن ينشر الرواية ويفصل من عمله إذا لم يعتقل، وأيد حيرتي أستاذي وصديق عمري نجيب محفوظ، الذي قال لي لا بد أن تجعله يقرأ الرواية بأية طريقة، وطلبت من فتحي غانم وقلت له أنا لا أريد مجرد نشر الرواية، وإنما يهمني أكثر من نشرها أن أعرف رأي الروائي الكبير فتحي غانم. وقرأ الرجل العظيم الرواية وقال لي إنك لأول مرة تكون من وحدات شكلا متكاملا كالزخرفة العربية التي تكون فيها الأجزاء شكلا متكاملا وكأنما ليس بالرواية رمز، ونشر الكاتب الجريء الرواية في رجولة يندر أن يعرفها هذا الزمان.

أصبح التفكير في عمل صحفي بعد التأميم أمرا يعتبر نوعا من العبط الذي لا مثيل له، فاكتفيت بالكتابة غير المنتظمة في الصحف وبكتابة رواياتي والحمد لله على ما وهب، والحمد لله على ما سلب، له الشكر على الحالين. •••

نسيت في غمرة الحديث عن حياتي العامة أن أذكر لك حياتي الخاصة، فقد رزقت في هذه الفترة بابنتي أمينة في أكتوبر عام 1955م، وقد ولدت في يوم المولد النبوي في ذلك العام، وولدت يوم الجمعة ساعة الأذان وقد حصلت على ليسانس الآداب قسم اللغة الفرنسية وعملت قليلا بأجر خيالي في البنك العربي الدولي، ثم وجدت نفسها غير صالحة للتعامل مع المال مهما يكن الأجر فلكيا، شأنها في ذلك شأن أبيها، واستقالت، وهي تعمل الآن بعقد في التلفزيون ورفضت التعيين به حتى لا تمسك الوظيفة بتلابيبها، وهي قارئة في الفرنسية والعربية شديدة النهم في القراءة، وقد ترجمت لي رواية (شيء من الخوف)، ونشرت الترجمة، والحب بيني وبينها من نوع عظيم، فأنا أحب فيها خلقها الرقيق شديد الرقة، ورهافة الحس، ونقاء السريرة إلى درجة لا أجد لها مثيلا في كل من عرفت في حياتي وبصورة تجعلني دائما أشفق عليها، فطيبتها وحرصها على معاونة الإنسان والحيوان مما يجعلانها في حالة شبه روحانية دائمة لا يرتاح صاحبها أبدا، وكيف له أن يرتاح وقد جعل هموم العالم جميعها من بشر وحيوان همومه هو الشخصية؟! أسأل الله أن يهب لها من الخير والتوفيق قدر ما تهب هي لمخلوقاته جميعا.

ورزقت في يناير 1958م بابني دسوقي، وقد نال ليسانس الحقوق وعمل بالنيابة ثم القضاء، واليوم وأنا أكتب هذا الحديث تفضل الدكتور عصمت عبد المجيد فأصدر قرار تعيينه بالجامعة العربية.

وقد تعلم دسوقي في المدارس الفرنسية فهو يجيد الفرنسية إجادة تامة، وهو كثير القراءة في العربية والفرنسية على السواء، ولعله من الطريف أن أروي كيف دخل كلية الحقوق، فهو حين حصل على الثانوية العامة كان مجموعه لا بأس به، وقال لي إنه يريد أن يدخل كلية الآداب قسم الفلسفة، فقد كان كثير القراءة في كتب الفلسفة مما جعله يتعلق بها، فقلت له افعل ما تريد، وكل ما أرجوه منك أن تتحدث في هذا الأمر مع عمك نجيب محفوظ، فهو خريج آداب فلسفة أيضا، فقال وهو كذلك، وكنا في الإسكندرية وكنت أجلس مع نجيب بك في كازينو جليم، وكان كل منا يتحرى أن يذهب مبكرا إلى الكازينو ليتاح لنا جلسة خاصة نتبادل فيها خاصة شأنينا قبل أن يأتي الأصدقاء الآخرون، وصحبت دسوقي إلى هذه الجلسة، وقال لنجيب: أريد أن أدخل كلية الآداب قسم فلسفة.

وقال نجيب بك: عظيم ... ولكن هناك شرط. - ما هو؟ - أن تكون أول دفعتك.

واندهش دسوقي وقال: وكيف أضمن هذا؟ - إنك تدخل إلى قسم الفلسفة لأنك تهوى الفلسفة، فإذا لم تكن الأول وتعين معيدا بالكلية لتظل وثيق بالصلة بهوايتك فسينتهي بك الأمر أن تعمل موظفا في الجمعية التعاونية.

وطبعا اقتنع دسوقي ودخل إلى كلية الحقوق، وكان متقدما في دراسته، وحين تخرج ظل سنة تلميذا في معهد الدراسات القانونية الذي لا بد أن ينتسب إليه الآن كل من يصدر القرار بتعيينه في النيابة، وكان حظ دسوقي أن كان الأول على دفعته لإتقانه للفرنسية، مما أتاح له السفر في بعثة ستة شهور للدراسة في فرنسا ، ثم عاد وعمل أستاذا للغة الفرنسية بعض الوقت في نفس المعهد، ثم تدرج في النيابة حتى جلس على كرسي القضاء، وحين يظهر هذا الكتاب سيكون إن شاء الله قد مرت عليه فترة يعمل فيها بجامعة الدول العربية.

ودسوقي - بحمد الله - على أحسن صلة بربه ويقوم على الإشراف على زراعتنا، فهو متعلق ببلدتنا غزالة كل التعلق، ومن نعم الله علينا أنه شاب جاد غير هازل وإن كان هذا يجعله قريب الغضب، ولكنه أيضا قريب الصبر.

وقد تزوج دسوقي من ابنة الأستاذ منير حتاتة المحامي، ووهب لنا ياسمين وهي في الرابعة من عمرها وعفاف على اسم جدتها زوجتي وهي في الثانية من عمرها، والحفيدتان هما مصدر سعادتي التي لا أشعر بمثيل لها في أي منحى من مناحي الحياة إلا في لعبهما حولي. •••

في هذه الفترة شهدنا حربين، أما الحرب الثالثة فلها حديث خاص بها. صباح تأميم القنال كنت في الإسكندرية وذهبت إلى بترو كشأني في كل صباح، فقد كنت متعودا أن أجلس في ندوة الحكيم حتى الساعة الثانية عشرة، ثم أذهب إلى نادي السيارات وأستحم في مسبحه، وذهبت إلى توفيق الحكيم، وكان وحده متحمسا كل التحمس للتأميم، فعارضته معارضة شديدة متوقعا حربا ضروسا لا قبل لنا بها، وذكرت له أن هذه مسرحية ستدفع مصر وشعبها فيها ثمنا غاليا في مقابل لا شيء، فالقناة ستعود إلينا بعد سنوات قلائل ليس لها قيمة في عمر الشعوب.

وقال توفيق بك أنت تكره العهد، ولكن الإنسان في المناسبات الوطنية الكبرى ينسى كراهيته ولا يذكر إلا وطنه، واحتدم الخلاف، وكنت طبعا لا أستطيع أن أعنف به ففارق السن له في نفسي نوع من التقديس، فصمت قليلا وبدأ أهل الندوة يتقاطرون، فقمت مزمعا ألا أعود، وقد فعلت.

ومر يومان أو ثلاثة وإذا بالتليفون يطلبني في نادي السيارات، وإذا بي أجد توفيق بك على الطرف الآخر يعتذر لي ويرجوني أن أعود إلى الندوة، وكان رقيقا رقة زائدة، فغفرت له ما كان بيننا من نقاش عنيف، وعدت إلى الندوة فإذا الغالبية فيها من رأيي.

وفي أكتوبر حدث عدوان 1956م وكان الدمار الماحق إلى جانب الأرواح والأموال الطائلة التي فقدناها مع مهانة لمصر لا مثيل لها، وكانت خطبة رئيس الجمهورية في الأزهر تدل على الانهيار الكامل الذي دب في كيان عهده، ومع إصراره على القتال فقد كان واضحا أنه في حالة ثورة عارمة، وما دام هو ثائرا فلتذهب الأرواح والبنايات وكرامة الوطن إلى الجحيم.

وفي أثناء العدوان كنت ألتقي بتوفيق بك وقال لي يوما: كم كنت أنت محقا وأنا كنت أعارضك وكم كنت مخطئا في رأيي!

وسكت طبعا ولم أعلق.

ولولا أن أمريكا بخلق رعاة البقر غضبت لأن إنجلترا وفرنسا وإسرائيل أشعلت نيران الحرب دون إذن منها مما جعلها توجه إلى الدول الثلاث إنذارها الشهير لكان الخراب الكامل لمصر، وكان الإعلام المصري في هذه الحرب قد بلغ حضيضا لم يستطع أن يسفل عنه إلا في حرب 1967م.

وفجرت الأغاني المصرية لتجعل من هذه المهانة نصرا، فكنا بين شعوب العالم سخرية وأضحوكة لم يعرف العالم لها مثيلا إلا بعد ذلك بقرابة ثلاثين عاما على يد صدام حسين في حرب الخليج. •••

ومرت السنوات وأقفل رئيس الجمهورية الطاغية شرم الشيخ، وما حدث بيني وبين توفيق الحكيم حدث بيني وبين أخي الأكبر وتوأم روحي عبد الرحمن الشرقاوي حين رأى هو هذا العمل بطولة ورأيت فيه خرابا، وقد جرى الحوار بيننا في مكتبه بمؤسسة السينما بشارع سليمان باشا، واحتدم بيننا النقاش وتركته على نوع هين من المغاضبة ورغم حبي له نويت ألا أتصل به في هذه الفترة حتى لا تتسع هوة الخلاف، ونشبت الحرب وما كانت حربا، وإنما كانت ما عهدتم من سحق كامل لجيوشنا وأرواح أبنائنا وأموالنا في مدن القتال.

وكنت طوال أيام الحرب في بيتي أتتبع الأنباء من محطات العالم كلها إلا مصر، فلم تكن مصر تذيع إلا الأكاذيب.

وفي يوم اضطررت أن أذهب إلى المجلس الأعلى للفنون والآداب لأستخلص بعض مستحقات لي، فقد كان السفر إلى البلد مستحيلا ونفد المال من بيتي تماما ، وبعد أن حصلت على هذه المستحقات هممت بمغادرة المجلس، وبينما أنا في ممشاه سمعت اسمي على ألسنة السعاة يلهثون خلفي، وقفت وأبلغني المنادون أن يوسف بك السباعي يريدني في حجرته، فصعدت إليه فإذا هو يقول لي: الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة يريدك. - يريدني أنا. - نعم. - خيرا. - والله لا أدري كلمني وقال إنه يريدني ويريدك معي. - متى؟ - الآن. - لا بأس، نذهب. - هل معك سيارة. - نعم. - إذن أذهب معك. - أهلا وسهلا.

وركبنا سيارتي هذه المسافة القصيرة بين المجلس الأعلى للثقافة وبين قصر عيشة فهمي حيث كان مقر وزير الثقافة، ولم نكد نتحدث أنا ويوسف بك، فقد كان واضحا أن الألم يعتصر نفوس المصريين كلهم، وكنت أضرب أخماسا في أسداس حائرا فيما يتخفى وراء هذا الطلب، أأكون قلت شيئا يدل على غضبي ولكنني لا أخرج من بيتي وأنا أعيش بين إذاعات العالم منذ باكر الصباح إلى أن يتوقف الإرسال، لم تطل حيرتي فسرعان ما وصلنا.

وحين دخلت مقر الوزير هدأ طائري لم أكن أنا ويوسف بك وحدنا المدعوين، بل كان هناك ما يقرب من عشرين كاتبا وصحفيا من بينهم عبد الرحمن الشرقاوي الذي صالحته طبعا، كنا جميعا تحت وطأة شعور بالسخط والتشوف والتوقع ويغلف هذا جميعا ألم يعتصر النفوس.

وجلسنا على كراسي كانت معدة وأمامها منضدة ووراء المنضدة باب يفتح من الجانبين، ولم يطل بنا الانتظار وفتح الباب المواجه لنا وخرج الوزير وراح ينظر إلى كل الحاضرين فردا فردا، فإن كان يعرفه ذكر اسمه وإن لم يكن استبان منه الاسم فيذكره صاحبه.

ثم بدأ الوزير الحديث وعرفنا رسميا أن الجيش المصري قد انسحب، وقال الوزير إن الانسحاب لا يعني الهزيمة، وإنما هو لون من ألوان القتال لا يدل على الهزيمة، وعرفنا من الوزير أيضا أن الطيران المصري كله قد دمر، ولكنه قال ولكنني أؤكد لكم تأكيد مثقف لمثقفين أن روسيا سترسل لنا طائرات أخرى إن لم تكن قد وصلت فعلا، فهي في طريقها إلى الوصول في أقرب وقت، وتحدث الحاضرون وأذكر أنني قلت إنني أطالب الإعلام المصري أن يذكر لنا الحقائق حتى نكون على بينة من أمورنا، فإن الذي تطالعنا به الإذاعات الأجنبية مروع وفظيع، ويبدو أنني تكلمت بلهجة حادة، فراح الوزير يهدئ من روعي بكلمات رقيقة.

خرجنا من الاجتماع وصحبني عبد الرحمن الشرقاوي ونجيب محفوظ لأذهب بهما إلى منزليهما، وفي الطريق كان أستاذنا نجيب مروعا حزينا، وكذلك كان عبد الرحمن الشرقاوي، ولو أنه كان يكتب مقالا يوميا في تحية الجيش، وقد أثارني منه قوله في إحدى مقالاته إنه لا يجوز أن يتكلم الشعب عن الخطط العسكرية لأنه لا يفهم شيئا في هذا المضمار، ولكني لم أشأ أن أحدثه في شأن هذه المقالة ونحن في السيارة فقد كان ثلاثتنا في حال لا تسمح بمزيد من الجدل، وأذكر مما قاله عبد الرحمن الشرقاوي في السيارة: أليس من المحتمل أننا نسحب الجيش الإسرائيلي لنطوقه في عملية كماشة.

فقلت له: وهل كنا ذاهبين إلى فلسطين لنحررها من اليهود أم لنطبق جيشها في كماشة.

فقال نجيب محفوظ: لك حق. - والله الواحد أصبح لا يعرف شيئا.

وفي المساء في نفس هذا اليوم أعلن مندوبنا في هيئة الأمم استسلام مصر الكامل، وكانت للإذاعة قناة متصلة بهيئة الأمم تعمل طوال فترة الاجتماع التي تعمل فيها الهيئة، ومع توقعي لهذا توقعا لا جدال فيه وجدت نفسي أنخرط في نشيج عال من البكاء، وراحت زوجتي أعزها الله تخفف عني غير واجدة من الكلمات ما تقوله؛ إلا أنه ربما كانوا مخطئين، ربما يقول شيئا آخر.

وأحسب أنني ما زلت أبكي حتى اليوم على الرغم من الانتصار الخالد الذي حققه الجيش بقيادة السادات ومعاونة حسني مبارك، وبعد أيام طلبت عبد الرحمن الشرقاوي في التليفون وقلت له: أنا لن أعاتبك على مقالاتك إلا عن مقالة واحدة نهيت فيها الشعب أن يتكلم في وقائع الحرب، أهذا معقول؟

وفي لهجة من كان ينتظر المكالمة قال لي: أتأتي إلي أم أجيء إليك؟ - تعال.

وبعد لحظات كان عندي في البيت وبدأ كلامه: أولا أعتذر إليك لاختلاف رأيي عن رأيك ، فقد كنت أنت على صواب منذ الوهلة الأولى.

ولم أجد شيئا أقوله وعاد نمير الأخوة الصافي بيننا إلى جدوله لا يرنق صفاءه شيء. •••

أحسب الأيام سارت بي سيرا رتيبا بعد حرب أكتوبر، وأحسب أنني في غير حاجة أن أقص أنباء رواياتي التي كتبتها ، فكل هذا ظهر في أحاديث إذاعية وتليفزيونية ومقالات، وبعضها ذكرته في كتب.

بعد حرب 1967م انتقلنا إلى المعادي لنقيم مع عمي عزيز باشا والسيدة الفاضلة زوجته أمينة هانم في محاولة منا لضغط المصروفات كما يقول الاقتصاديون، وأجرت شقتي بالزمالك مفروشة، وكان ما نناله منها يواجه حاجاتنا الضرورية، ثم كان اعتمادي بعد ذلك في مواجهة مصاريف الأولاد والملبس وبنزين السيارة على بيع أرضي، وما كنت أتقاضاه من مكافآت من مقالاتي وقصصي ما ينشر منها في الصحف أو ما يذاع من رواياتي أو ما يؤخذ للسينما أو للتليفزيون، وفي هذه الفترة كان هناك وفد رسمي إلى العراق اشتركت فيه وكان معي فيه المرحوم صالح جودت وأخي الحبيب أنيس منصور أطال الله عمره، واتفقنا ثلاثتنا أن نذهب معا في سيارة إلى الكويت لنزور بها بعض الأصدقاء، وقد كانت المرة الأولى التي أزور فيها العراق أو الكويت، وكان معنا في العراق أيضا أخونا الشرقاوي، وقد كان الاستقبال لأشخاصنا في العراق رائعا، فقد قصد إلينا الصحفيون والإذاعيون، وكنا موضع تقدير لا شك فيه، أما الهجوم على مصر فكان في كل خطب المهرجان وقصائده، لقد كنا السخرية والنقد الضاري المروع، فقد كانت هزيمتنا مذلة للعرب أجمعين.

وأذكر حادثة طريفة أنني ذهبت أنا والشرقاوي إلى فندق آخر غير الفندق الذي كنا ننزل به في بغداد، وبالصدفة وجدت جماعة كبيرة من أساتذتي في كلية الحقوق أذكر منهم د. علي راشد ود. سليمان مرقص وغيرهم، وكانت جلستي بجانب د. علي راشد فروى لي أمرا غريبا، كان هذا اللقاء في عام 1969م، وأنا كنت تلميذا للدكتور علي راشد في عام 1948م، وأذكر أني أديت امتحان الجنائي في السنة الثانية أداء لا بأس به، ولكنني وجدت الدرجة التي نلتها 6 من عشرين، وهي أقل درجة تسمح بالنجاح بشرط أن يجبرها امتحان الشفوي، وكنت قد نجحت فلم أشأ أن أثير موضوع ضعف الدرجة في الكلية، ولكني في جلستي مع د. علي راشد تبينت الأمر وذهلت له. قال د. علي: هل تعرف أنك كنت ستودي بي في داهية؟ - لماذا؟ - الورقة التي أجبت فيها على الجنائي ضاعت مني.

فصرخت: ألهذا أعطيتني 6 من 20؟ - قلت أعطيه أقل درجة للنجاح وإن كان تلميذا جادا يحصل على درجة أعلى في الشفوي. - أهذا عدل يا دكتور؟ على الأقل أعطني 10 من عشرين، لقد ظلمتني ظلما لن أنساه لك.

وفعلا لم أنسه.

وذهبنا إلى الكويت في هذا العام، ومما لا أنساه تلك الحفاوة البالغة التي لقيها ثلاثتنا هناك، سواء من وسائل الإعلام أو من الهيئات والجماعات والأفراد على السواء. •••

حين تولى الرئيس الخالد الذكر أنور السادات الحكم، تلقيت النبأ بمشاعر بعيدة كل البعد عن الرضى، وكنت في ذلك الحين أذهب كثيرا إلى الزعيم العظيم إبراهيم باشا عبد الهادي، فقد كنت أقيم بالمعادي في ذلك الحين حيث كان يقيم إبراهيم باشا، وقلت له فيما قلت إنني لا أعرف أنور السادات إلا أنه كان يرسل لي بطاقة معايدة في كل عيد، ولم ينقطع عن إرسالها قط، رغم أنني لم أكن أشكره على هذه المعايدة لأنني لا أعرف له عنوانا أرسل الشكر عليه، أو لأنني كنت أعتقد أنها بطاقة عامة ترسل للجميع، ولكني عرفت بعد ذلك من صديق عمري عبد الفتاح الشناوي أن أنور السادات كان على صلة بأبي، وهي صلة لم أعرفها أنا إلا من الشناوي الذي كان سكرتيرا فمدير مكتب لأبي، ثم قلت لإبراهيم باشا إنني لست متفائلا مطلقا برئاسته، فإذا بالسياسي العظيم يقول لي: سترى يا ثروت أن هذا الفتى هو خير من عرفت وسترى مصر على يديه خيرا لم تكن تحلم به.

وكنت أثق بآراء الزعيم السياسي أحد أبطال ثورة 1919م والرجل الذي واكب الحياة السياسية، وكان من صناعها فترة طويلة من الزمان تتجاوز نصف القرن.

ومرت الأيام وبدأت الأحداث تتوالى، فإذا السادات سياسي داهية من الطراز الأول.

ولكن وعده بحرب فلسطين ليرد إلى مصر شرفها لم يكن يدور بخلدي أنه سينفذه، وقد أكد لي هذا تأكيدا لا يقبل الشك مقالات محمد حسنين هيكل بالأهرام التي كانت جميعها تجعل الحرب ضربا من المستحيل لا يتحقق إلا بقنبلة ذرية.

وفي أحد الأعوام أطلق عليه السادات عام الضباب يقصد بذلك أن الأمور لم تكن واضحة أمامه في ذلك العام، ولذلك امتنع عن الحرب، وأقيم معرض للكتاب في ذلك العام وكانت روايتي (الضباب) معروضة في المعرض، كانت الجماهير تقف أمام الرواية وتضحك، أهذا هو الضباب الذي يقول عنه الرئيس.

إلى هذا الحد كنت ومعي الأغلبية الكاثرة من الشعب المصري لا نصدق أسطورة الحرب هذه.

وكان الأستاذ توفيق الحكيم والأستاذ نجيب محفوظ يشاركاني هذا الرأي، وفي يوم دخلت إلى مكتب توفيق بك في الأهرام، ولم أكن عملت به فأطلعني على بيان مكتوب بلهجة عنيفة معناه أنه ما دام أمر الحرب مستحيلا فلا أقل من أن ننال حريتنا ونعود إلى الديمقراطية الغائبة عنا منذ سنوات.

وأمر هذا البيان معروف فقد عزلونا من الاتحاد الاشتراكي، والذي وقع قرار عزلي زميلان لي هما د. كمال أبو المجد ومحمد حامد محمود، وكلاهما متخرج معي في نفس الدفعة وقد أرسل لي محمد حامد مع شقيق زوجتي محمد واثق يقول لي: إنه يعلم أنه عزلني من الاتحاد الاشتراكي رغم أنني لست عضوا به، ولعل في هذه الجملة ما يغنيني عن التعليق. ومنع السادات أسماءنا أن تظهر بالصحف، ونشرت الصحف أنه سينظر في أمر كل كاتب على حدة إذا قدم الكاتب تظلما من قرار العزل هذا، وكلمت أخي الأكبر الحبيب يوسف السباعي: طبعا ستشفع لي ليرفع عني قرار العزل والحظر.

فقال: طبعا. - أرجوك ألا تفعل فإنني لن أقدم تظلما.

وثار بي أخي يوسف بك، ولكنها كانت ثورة حبيبة إلى نفسي؛ لأنها كانت صادرة عن حبه العميق لي.

وحدث في هذه الفترة أنني كنت مرشحا لمرافقة وفد أدبي فيه عمي عزيز باشا إلى تونس، فرفع اسمي من الوفد وأبلغت بذلك فلم أهتم أي اهتمام، إلا أنني أسفت لأنني حرمت من مرافقة عمي عزيز خارج مصر، فقد شاء الله - على كثرة أسفاره وأسفاري - ألا يجمعنا بلد آخر خارج مصر حتى وفاته رحمة الله عليه.

وحدث أن ذهب الشاعر الرقيق صالح جودت ويوسف بك السباعي إلى عزيز باشا وطلبا إليه أن يقنعني بالعدول عن موقفي، فكان عزيز باشا عظيما وهو يقول لهما: إن ثروت ليس زوج ابنتي فقط، ولكنه عندي أنا ابني المقرب، وأنا على استعداد أن أحادثه في أي شيء إلا في مواقفه السياسية، فهذا شأنه وحده.

واستدعى الرئيس السادات توفيق بك للقائه وروى لي توفيق بك بعد ذلك أنه في أثناء الحديث لم يذكر من أسماء الموقعين جميهم إلا اسمي أنا. - كيف؟ - قال في حدة وغضب وثروت أباظة. - هذا مبتدأ فأين الخبر؟ - لم يكمل الجملة.

وقدرت أنا استنتاجا أنه كان يتوقع مني التأييد لا المعارضة بعد القدر من الحرية الذي أتاحه ومع علمه بمعارضتي الشديدة للعهد السابق لعهده.

وسافر عزيز باشا إلى تونس وعاد، وبعد فترة سافر إلى الكويت وما هي إلا أيام حتى جاءنا خبر بأنه أصيب هناك بأزمة قلبية حادة، ورحنا نعد أنا زوجتي للسفر فإذا بي أفاجأ في الجوازات أنني ممنوع من السفر، ورحمه الله يوسف السباعي مثلا أعلى في الوفاء والإخلاص والقلب الكبير الذي يسع الناس أجمعين، ما هي إلا ساعة حتى أبلغ الجوازات برفع الحظر عن اسمي، وسافرت وزوجتي إلى الكويت.

وكانت الأزمة حادة، ومكثنا بجوار عزيز باشا لا نتركه إلا للنوم، وحين اطمأنت نفسنا بعض الشيء طلبت مني إذاعة الكويت أن ألقي بها بضعة أحاديث، فرأيت أن أكتب عن روعة السرد القصصي في القرآن الكريم، وقد جمعت أحاديثي هذه بعد ذلك في كتابي السرد القصصي في القرآن الكريم.

وحين اطمأنت نفوسنا على عزيز باشا عدنا إلى مصر ولحق بنا بعد أيام، وقد شاء الله أن يكرمه فاختاره إلى جواره وهو في بيته وبين أهله . وقد فقدت بفقده أبا حانيا لي ولابنتي وابني، وكانت كارثة عظمى ربما مهد لها الله سبحانه وتعالى بمرضه الذي أنذرنا بالخطب قبل وقوعه.

وكنا قد انتقلنا في هذا العام إلى القاهرة، سبقت أنا بالعودة ولحق بنا الباشا وأمينة هانم، ليسكنا الفيلا الواقعة بأعلى العمارة التي أقيم بها أنا وأسرتي في الدور الأول منها، توفي عزيز باشا في 10 يوليو عام 1973م، ولم يشهد الحرب. •••

كنت أنا وعبد الفتاح الشناوي وعبد الرحمن الشرقاوي ومحمود محمد محمود بك وعبد المجيد باشا بدر ود. محمد هاشم باشا نقضي فترة الظهيرة من رمضان في مقهى مواجه للبنك الأهلي صغير اسمه بار الأنجلو، وكان جميعنا صائما، فكنا ندفع أثمان طلبات لا تقدم إلينا، ولكننا نبرر بها وجودنا في المقهى، وكنا نظل نتحدث في شتى الأمور حتى يقترب موعد صلاة العصر فنقوم ونستقل سياراتنا إلى واحد من المساجد الكبرى بالقاهرة أو نتجه إلى مسجد أثري ونقيم الصلاة جماعة، ثم نتمشى في الحي بعض الوقت ويكون المغرب قد آذن بالأذان فنتجه إلى بيوتنا قبيل الإفطار بدقائق، وفي أوائل أكتوبر فوجئنا بقرار من الرئيس السادات برفع الحظر عن أسمائنا وإعادة أعضاء الاتحاد الاشتراكي إليه.

وفي العاشر من رمضان سمعنا بنبأ الحرب ونحن مجتمعون بالمقهى وتولانا جميعا الذهول، ولا أخفي أنني أصبت بهلع فإن مصر لم تكن تحتمل هزيمة أخرى، ولا يعقل أن جيشا هزم هزيمة 5 يونيو سنة 1967م يستطيع بعد ست سنوات أن يقلب الهزيمة إلى نصر.

ولكن المعجزة الإلهية تحققت على يد القائد العملاق الخالد أنور السادات وبمعاونة رئيسنا العظيم حسني مبارك أطال الله عمره وأيده.

ما كان أهون ما عاقبنا به أنور السادات لو وقع منا هذا الذي فعلنا في عهد الرئيس السابق عليه لكان الموت أقل ما يواجهنا. وأذكر في هذه المناسبة أن صديقا لي من الكتاب اقترح علي بعد هزيمة يونيو أن نكتب بيانا ندعو فيه رئيس الجمهورية إلى إعادة الحرية لمواجهة عواقب الهزيمة، وتحمست لهذا القرار وكتبت البيان ووقعته، فكان أول الناكصين عن توقيعه الكاتب الذي اقترحه، ولم يوقع معي البيان إلا نجيب محفوظ وحده، وأبى جميع الكتاب التوقيع، ولن أذكر أسماء الذين عرضت عليهم التوقيع، وطبعا لم أرسل البيان.

أصبحت أنا وتوفيق بك ونجيب بك من أشد المتحمسين لأنور السادات، ورغم أنني لم أكن كاتبا ثابتا بأي جريدة فقد حرصت على نشر تأييدي الصريح للزعيم العملاق في تحمس لا مثيل له، وكذلك فعل الكاتبان الكبيران توفيق الحكيم ونجيب محفوظ.

وبعد فترة عرفني خالي مدحت بالسيد بك مرعي، وقد وجدت فيه إنسانا غاية في الرقة والعذوبة، كما وجدت فيه سياسيا حاذقا متمرسا.

وأبلغني السيد مرعي أن الرئيس السادات معجب بما أكتب، واقترح خالي مدحت أن الأوان قد آن لأعين بمكان ما في الصحافة، وقد وجدت الفكرة ترحيبا من السيد بك. وأبلغنا بعد ذلك أن الرئيس أيضا يرحب بالفكرة، وبعد قرابة سنتين علمت من السيد بك أن الرئيس سيأمر بتعييني في مجلة الإذاعة والتليفزيون كرئيس لمجلس إدارتها، وكان د. كمال أبو المجد في ذلك الحين وزيرا للإعلام الذي تتبعه المجلة، والتقيت به وأخبرني برغبة الرئيس، كما أخبرني أن الرئيس يهنئني على روايتي، والواقع أن لقائي بكمال لم يترك في نفسي أثرا طيبا، ولا وجدت منه ما كنت أتوقعه من زميل دراسة وصديق.

وأذكر أنه عرض علي أن أعمل معه بالوزارة فرفضت، فراح يثير حديثا عن العقبات التي ستواجهني في المجلة فلم يقنعني، وكنت في يوم لقائه أعد نفسي لرحلة عمرة اتفقنا أن يتم تعييني بعد عودتي منها واعتمرت وعدت، وكانت أمينة هانم صدقي في لوزان بسويسرا في ذلك الحين، فاستدعت زوجتي أن تذهب إليها ورحبت زوجتي فهي تحب السفر إلى الخارج حبا جما، وتحرص عليه حرصا شديدا مهما تكن العقبات، وسافرت وبقيت أنا، وشاء الله أن يخرج كمال أبو المجد من الوزارة ويوقع قرار تعييني أخي الأكبر وواحد من أقرب الناس إلى قلبي يوسف السباعي، وأبلغت زوجتي بسويسرا أنني عينت، وأتولى رئاسة مجلس إدارة الإذاعة والتليفزيون، ولن أذكر عن الفترة التي قضيتها بها شيئا، ولكن ما قاله لي عميد الصحافة العربية المعاصرة مصطفى بك أمين: كيف استطعت أن تجعل من الفسيخ شربات؟

وأحمد الله.

وحدث أن كتب الأستاذ جلال الحمامصي مقالا يشكك في نزاهة الرئيس الأسبق، ووقف السادات في خلق الفلاح الأصيل يدفع التهمة في إصرار دون أن يدفع الحجة بالحجة، وإنما كان دفاعا عن صديق له مهما يكن الدفاع نوعا من الخطابة وليس تفنيد وقائع.

وقلت في نفسي كنا نكتب رمزا حين كنا لا نستطيع أن نصارح، واليوم أنا مسئول وحدي عن المجلة التي أكتب فيها، فمتى أقول الحق الصريح إذا لم أقله اليوم.

وكنت أنتظر توفيق بك الحكيم في صباح أحد أيام الجمع بالطابق الأعلى من فندق النيل، وكنا قد اتخذنا منه مكانا لندوتنا، ويبدو أنني ذهبت مبكرا فوجدت نفسي أخرج بعض أوراق وجدتها في جيبي بها كتابات، ولكن بها أيضا فسحات من البياض تتيح لي الكتابة، فرحت أقطع الانتظار بكتابة المقالة التي غيرت مجرى حياتي، وقد كانت أول مقالة صريحة تظهر في الصحافة العربية تهاجم الطاغية، وحين جاء توفيق بك كنت قد انتهيت من كتابة المقال ووضعته في جيبي ولم أذكر عنه شيئا لأحد حتى ذهبت في صباح السبت إلى مكتبي في المجلة.

وإني أعتقد أن من حقك علي أن تقرأ هذا المقال فقد بعد العهد به، فهو قد نشر في 14 فبراير سنة 1976م، ونحن في أكتوبر سنة 1992م، وإليك المقال:

وفي أي شيء صدق؟

أية غريبة أن يقال ما يقال؟ وما المال وقد سرق أمننا، ولص كرامتنا، وامتص دماء أبنائنا، وأهدر على رمال سيناء شرف مصر والعرب وتاريخ أمة ومستقبلها.

وفي أي شيء صدق حتى يصدق في ذمته؟!

قال ارفع رأسك يا أخي، وحطم كل رأس فكر في الارتفاع أو فكر فقط، وأبى أن يجعل أحدا من الناس أخا، بل أرغم الجميع أن يكونوا عبيدا له أو هم أعداء.

قال ديمقراطية، ثم فشا وحده مسعورا، منفردا بالحكم، مسئولا وحده عن كل خفقة نفس في البلاد.

وقال قضينا على الإقطاع، فإذا بأصحاب الملايين في عهد الرأسمالية كانوا لا يتجاوزون أصابع اليدين عددا، فأصبحوا خمسمائة نتيجة لعهده، ثروة الواحد منهم مهما تبلغ من الضآلة تلتهم ملايين الإقطاع جميعا والإقطاعيين.

وقال ثورة بيضاء، ثم أهدر دماء الشباب في حروب اليمن وحربي سيناء من أجل مجده الشخصي، ومن أجل خراب مصر في دمائها ومالها وكرامتها.

وأسال الدماء في خسة غادرة مجرمة وراء أسوار السجون والمعتقلات.

قال الشرف وهدد الرجال في عفة زوجاتهم وشرف بناتهم وأخواتهم.

قال تكافؤ الفرص وأغدق الأموال على أبنائه، حتى لقد كان الواحد منهم يلهو بقيادة الطائرة لا يحلم أغلب الشعب أن يركبها مرة في حياته، وتقدمت ابنة له تفكر في شراء أرض يتجاوز ثمنها مائة وخمسين ألف جنيه، ولقب ابنه بالمليونير في إذاعة لندن، وسكب أموال الدولة على إخوته وعلى كلابه من ماسحي أحذيته، ولاعقي نعاله، فهم ينبحون باسمه حتى اليوم وقد فجعتهم فيه الفاجعة، وزالت من أفواههم دماء الشعب التي أتاح لهم أن يمتصوها، تؤيدهم في نباحهم فئة أخرى اعتدى عليهم في المعتقلات وجعل زوجاتهم بلا موئل لطول حبس الأزواج ولحبس المال عنهم، ومع ذلك ينبحون باسمه مع كلابه النابحة.

لأن الحكم الجديد ... قال الله.

وقال الحرية.

وقال القانون.

ونفذ ما قال وانتصر.

في أي شيء صدق؟!

قال الرجل المناسب في المكان المناسب ثم اختار أهون الناس وجعل منهم رؤساء على العمالقة، ووضع في أغلب المناصب رئيسا جاهلا؛ لأن الجهلاء هم علماء النفاق، فانهار العمل في الحكومة وفي القطاع العام، وحين قال محافظ من علمائه:

أعطى القانون إجازة. رقي إلى وزير؛ لأنه عبر عن شعار الدولة.

في أي شيء صدق؟!

دعا إلى الاشتراكية، وعاش، وعاش خدمه والمحظوظون من أتباعه عيشة تتضاءل عندها عيشة الفجار من العاهرين في الرأسمالية، فسمعنا عن فواكه تأتي بالطائرات وعن سيارات نقل تحمل الفراء والسجاجيد، ويعلن هذا علينا حين يغضب على الفاعل، ويستر علينا حين يترضاه ويضع رأسه تحت قدميه، ألا، إلى غير رجعة يا زمن الهمس والصراخ، والنوم المفزع، والقلق الشائع، والخوف المبيد، والعرض المباح ، والدم المسفوك، والشرف الجريح، والتاريخ الممزق، والأمل المظلوم، واليوم الكالح، والغد العبوس، والحق المضاع.

ويقولون اكتموا على السرقات أن تذيع، فإنها إن شاعت أحجمت أموال العالم عن مصر والانفتاح، جهلوا الحقيقة، لن تأتي الأموال وأصحابها يعرفون أن اللصوص هنا تتخفى وراء الأستار تحمل التشكيك في أمانة بلادنا، يوم تنكشف الحقائق ويعرف العالم أننا أصبحنا على الطريق القويم، شريفة أيدينا، واثقة نفوسنا، مطمئنا اقتصادنا، يأتي إلينا أصحاب الأموال الشرفاء واثقين مطمئنين، والحق دائما بالدول أجدر.

ولست بحاجة أن أذكر الدوي الذي تفجر عن هذا المقال، وكان الأستاذ حسن عبد المنعم رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون، وكانت مجلة الإذاعة تابعة له تبعية اسمية، فأرسل إلي بكلمة لأنشرها مؤداها أن ما كتبته لا يعبر عن رأي الاتحاد، فنشرت الكلمة وعلقت عليها في نفس الصفحة بما معناه أن أصابع الكتاب حرة حتى لا يتخللها أصابع الآخرين من ذوي المناصب الحكومية أو من غيرهم.

وهاج يوسف بك السباعي وكان وزيرا للإعلام والمجلة تابعة له طبعا، وقال لي: هل أكتب أنا هذا الكلام؟ - ولماذا تكتبه أنت؟ وهل كتبت أنت هارب من الأيام وقصر على النيل وشيء من الخوف، أنت تعرف قدر حبي لك، ولكن هذا لا يعني مطلقا أن أكتب بقلمك.

وبيعت النسخة من المجلة في هذا اليوم بخمسين قرشا وكان ثمنها الرسمي عشرة قروش، وعرفت أن الكثيرين وضعوا المجلة في إطار وعلقوها في بيوتهم وأصحاب المحلات علقوها في محالهم.

وظلت المقالة حديث الناس فترة طويلة، وفوجئت يوما بيوسف السباعي يستدعيني إلى مكتبه في الوزارة ويفاجئني بقوله: ما رأيك أن تأتي للعمل معي وكيلا للوزارة؟

فقلت في حسم: لا يمكن، أستقيل أحسن. - أترفض العمل معي؟ - أرفض أن أترك الكتابة وأنا بهذا أحمي عهد السادات الذي يذيع أنه يتيح الحرية للكتاب، ثم ينقل كاتبا إلى عمل إداري؛ لأنه كتب مقالا لم تأمر الحكومة بكتابته. - يا أخي إنك لم تعين إلا بطلوع الروح. - ما زال عندي بضعة أفدنة أبيعها ولا تحمل همي. - الوزراء غاضبون وثائرون. - هذا شأنهم.

وفي يوم أبلغت أن أحضر جلسة مجلس الشعب التي سيلقي فيها الرئيس السادات خطابه، وذهبت ووجدت جميع رؤساء مجلس الإدارة للصحف والمجلات قد دعوا إلى الجلسة، وكان معنا عمي فكري باشا رحمه الله، وجلسنا في مقصورة الملكة بالدور الثاني من الشرفة وألقى الزعيم خطابه الذي ألغى المعاهدة التي كانت قائمة بين مصر وروسيا ، وفي أثناء الجلسة صعد إلينا من أخبرنا أن الرئيس يريد لقاءنا بعد الخطاب في حجرة رئيس المجلس وانتهى الخطاب وذهبنا إلى لقاء الرئيس، وكنت حريصا أن أقود خطوات عمي فكري نظرا لضعف نظره، وكان الزعيم السادات واقفا حين دخولنا، فوقفنا حوله بعد أن صافحنا وقال: نحن قلنا ما نريد قوله، ولا أرى ضرورة لمهاجمة روسيا.

فوافق الحاضرون على رأيه ثم التفت إلي قائلا: يا ثروت اكتب مقالة أخرى أحسن الجماعة زعلانين، اكتب مقالة أخرى.

قلت: لقد كتبت مقالة بعدها هل قرأتها سيادتك؟

قال في سماحة: قرأتها إنما المقالة الأولى لم أقرأها. اكتب مقالة أخرى. - أمرك.

وخرجنا وسرت مع عمي فكري باشا وقال لي: ماذا ستفعل؟ - لا أدري. - إنه لم يستدعنا جميعا إلا ليقول لك ما قال. - هذا واضح. - امدح الرئيس السابق. - الموت أهون.

وذهبت إلى البيت وأدركت أنني إذا حاولت النوم فإن النوم سيستعصي علي، فأمسكت بالقلم وكتبت ما معناه في ظل الحرية التي أتاحها لنا أنور السادات سننسى ما فات ونحاول أن نقيم ما تحطم من نفوسنا.

وكان مقررا أن يسافر الصحفيون مع الرئيس السادات إلى السعودية، وسافرت فطالعني في السعودية أمر لم أكن أتصور أنني ملاقيه، فقد تعرفت في الطائرة بالدكتور محمد عبده يماني وزير الإعلام حينذاك. وحين وصلت إلى الفندق لم تمض إلا بعض الساعة وحدثني في التليفون من يبلغني أن وزير الإعلام في انتظاري على الغداء، وقد دعا معي الأستاذ أحمد زين وذهبنا، وهناك التقيت لأول مرة بعالم الدعوة الإسلامي العالمي فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، وفرحت بلقائه كل الفرح، وكنت قد شهدته يخطب جموع الحجاج في البيت الحرام، وكانت الدمعات تتقاطر من عيني ومن عيني زوجتي ونحن نستمع إلى خطابه وقلت له هذا فإذا هو يقول في خفة ظل لا تتأتى إلا له: أي خطبة يا مولانا. سمع علي سمع.

وإذا هو يلقي علينا مقالتي «في أي شيء صدق؟» من الذاكرة فقد حفظها عن ظهر قلب، ولا أحد يتصور ما داخلني من شعور في هذه اللحظات فما تصورت أن أسمع كلامي محفوظا من أحد مطلقا، فما بالك وحافظه هذه الظاهرة التاريخية في العالم الإسلامي.

وقال الشيخ الجليل: لقد قرأتها ثم ظللت أنظر إليها فما رفعت عنها عيني إلا وقد حفظتها جميعا.

وكان في رفقة الرئيس واحد من أنسباء الرئيس السابق، وحاول أن يقوم ببعض السخافات في خفية عني طبعا، ولم يحاول أن يواجهني فتجاهلت أمره، وكأنه شيء غير موجود، وقد كان كذلك بالنسبة لي فعلا.

وعدنا إلى القاهرة وكان من المقرر أن يحدث تغيير عام في الوزارة وفي الصحف على السواء في نفس الوقت الذي كنا نستعد فيه للسفر في رحلة إلى أوروبا مع الرئيس، وظهر التأليف الوزاري الجديد فعلا وخرج يوسف السباعي من الوزارة وجاء مكانه جمال العطيفي وبدأت التغييرات في الصحافة، وكان رئيس الوزراء الرجل المهذب الإنسان ممدوح سالم.

وبينما كنت في مكتبي بالمجلة طلبني رئيس الوزراء وحدد لي موعدا للقائه يخيل إلي فيما أذكر أنه كان في نفس اليوم.

ولا أنسى الجزع الذي بدا على أسرة المجلة، الأمر الذي أسعدني ولم أتصور أن يتغير مكاني بعد أن طلب مني الرئيس أن أكتب مقالة أخرى، ولكنني على كل حال لم أكن مهتما، وذهبت إلى مكتب رئيس الوزراء فوجدت معه الأستاذ إحسان عبد القدوس الذي كان إلى هذه اللحظة رئيسا لمجلس إدارة الأهرام فانتظرت، وقليلا ما أنتظر ودخلت إلى ممدوح بك وكان رقيقا إلى درجة أنه لم يجلس إلى مكتبه وإنما جلس إلى الأريكة وجلست بجانبه، وقال لي دون مقدمات: الرئيس يريد أن تكون كاتبا في الأهرام؟

ودون ريث تفكير قلت: قوي. - عظيم، إذن لا تخبر أحدا واستمر في عملك حتى يصدر القرار . - والسفر إلى ألمانيا؟ - إذا لم يصدر القرار قبل السفر رافق الرئيس.

وودعني الرجل في أدب جم.

وتجمع بعض المحررين في المجلة وراحوا يسعون لدى رئيس الوزراء ولدى سيد بك مرعي رئيس مجلس الشعب ولدى الرئاسة أن أبقى في مكاني، مما جعلني أكلم سيد بك مرعي، وأرجوه ألا يتغير قرار نقلي للأهرام ، وأن الذي يقوم به بعض المحررين يتم دون علم مني. فقال سيد إنهم يعرفون ذلك على وجه اليقين، والجمع هنا تفيد الرئيس لا شك في ذلك.

وحدث في هذه الفترة أن التقيت بالسيد بك مرعي ربما في نفس يوم لقائي برئيس الوزراء، وعرفت منه أن يوسف السباعي سيكون رئيسا لمجلس إدارة الأهرام.

فحين خرجت من مقابلة رئيس الوزراء حرصت أن أكلم اثنين صديق عمري علي حمدي الجمال وأخي الحبيب يوسف بك، وجدت علي الجمال بسهولة، وقد فرح - رحمه الله - بنبأ ذهابي معه إلى الأهرام فرحا هائلا، أما يوسف بك فعلى غير العادة لم أجده في أي مظنة من مظانه التي أعرفها جميعا، فلم يطلبني إلا بعد ما يزيد عن ساعة فقلت له: أنا وراك وراك.

فضحك وقال: ورائي فين؟ - أنا ذاهب معك إلى الأهرام. - ماذا؟ - أخبرني رئيس الوزراء اليوم أن الرئيس يريدني كاتبا في الأهرام. - صحيح؟ - صحيح. - وأنا، كيف عرفت أني ذاهب إلى الأهرام؟ - معلوماتي الخاصة. - يعني من أخبرك؟ - المفروض إنه سر. - علي أنا؟ - لك حق، ليس عندي سر عنك، أخبرني سيد مرعي، يكفي؟ - يكفي جدا.

طلبت من مكتبي في المجلة الوزير الجديد جمال العطيفي لأهنئه بالوزارة، وصاح في فرح: أخيرا سنعمل معا.

ودهشت أن ذهابي إلى الأهرام ما زال سرا عليه فقلت: كم كنت أتمنى ذلك. - تتمنى. وماذا حدث لهذا التمني؟ - أنا ذاهب إلى الأهرام.

ودهشت دهشة واضحة في التليفون ظهرت من ألفاظ كثيرة ثم سألته عن السفر إلى أوروبا، فقال لي إنني رسميا ما زلت في مكاني، وأن علي أن أمضي في عملي كأن شيئا لم يكن.

وفعلا سافرنا إلى ألمانيا ليبدأ الرئيس رحلته إلى أوروبا، وفي اليوم التالي لوصولنا عرفنا أن قرارا قد صدر بتعيين الأستاذ يوسف السباعي رئيسا لمجلس إدارة الأهرام والأستاذ أحد بهجت رئيسا لمجلس إدارة الإذاعة، ولم يذكر اسمي في شيء من القرارات.

وكانت رحلتي هذه رحلة ممتعة فأنا غير مطالب بعمل أو بكتابة شيء، وكل ما علي أن أتنزه، وكان علي حمدي الجمال معنا فطلب إلي ونحن في الرحلة أن أتولى القسم الأدبي في الأهرام فلم أمانع، وحين عدنا مرت بضعة أيام ثم استدعاني يوسف السباعي ليخبرني أن قرار نقلي إلى الأهرام قد صدر.

وبدأت عملي بالأهرام، ولم يمر طويل وقت حتى فجعت بالرصاصة الغادرة المجرمة التي أصابت رجلا من أعظم الرجال الذين عرفتهم وأحببتهم في حياتي يوسف السباعي، كان يوسف السباعي في عهد الطغيان هو مانعة الصواعق عن الأدباء، ولولاه لدمر الأدباء في مصر تدميرا كاملا شأن كل ما هو كريم مشرق في حياتنا، رحمه الله رحمة واسعة وتقبله بين الصديقين والشهداء. •••

دق جرس التليفون في بيتي في أحد الأيام وكان المتحدث د. طلبة عويضة أمين عام الحزب الوطني بالشرقية، وأخبرني أن الرئيس يريدني أن أنضم إلى الحزب الوطني؛ لأنه يريد أن يرشحني لمجلس الشورى، ولما كنت مؤيدا كل التأييد للسادات فلم أجد ما يمنعني من الانضمام وأرسل إلي الدكتور طلبة أوراق العضوية، وانضممت إلى الحزب الوطني.

وكلمت زميل دراستي الوزير حلمي عبد الآخر أن يرشح الحزب عبد الفتاح الشناوي في المطرية ووعد خيرا، وعلمت بعد ذلك أن اسمي عرض في اجتماع الهيئة البرلمانية لمجلس الشعب في الشرقية، كان الحزب قد ارتأى أن يعرض أسماء المرشحين في كل محافظة على أعضاء مجلس الشعب بها، وكان الحاضرون في الجلسة خمسة وعشرين عضوا عرفت أنهم وافقوا بالإجماع على ترشيحي في مجلس الشورى، فحمدت الله على هذه الثقة، وسافرت لقضاء المصيف بالإسكندرية، ومن هناك وقبل ظهور الترشيحات بيوم واحد طلبت أخي المرحوم حلمي عبد الآخر لأطمئن على ترشيح عبد الفتاح الشناوي فقال لي: لن يظهر اسمه في الترشيحات ولن يظهر اسمك أنت أيضا.

فضحكت وقلت: أنا لم أطلب الترشيح لنفسي.

فقال: الرئيس السادات قال إن ثروت أباظة لا يجوز أن يرشح عن دائرة واحدة في القطر المصري، بل من حقه أن يمثل مصر كلها، ولذلك فقد قررت أن يكون اسمه بين المعينين لا بين المرشحين.

وقد سعدت بهذا التقدير وحمدت الله أن وقاني من جهد الانتخابات المضني.

وفي هذه الأثناء كان اتحاد الكتاب قد أعلن أنه يرجو الرئيس السادات الموافقة على أن يكون الرئيس الفخري للاتحاد، ووافق الرئيس السادات، وكان رئيس الاتحاد في ذلك الحين توفيق بك الحكيم، وكنت نائب الرئيس، وحدد لنا الرئيس السادات موعدا للقائه وإهداء وثيقة الرئاسة الفخرية له في منزله بالمعمورة، وكنا في رمضان وتناول أعضاء الاتحاد طعام الإفطار بنادي السيارات بالإسكندرية، وكنت قد أعددت كلمة ألقيها أمام الرئيس وبعد الإفطار قصدنا إلى استراحة الرئيس واستقبلنا بكثير من الحفاوة وأحببت أن أمازح توفيق بك الحكيم الذي أجلسه الرئيس بجانبه، فذهبت وملت على أذن الرئيس السادات، فإذا بالرجل العظيم يهب واقفا لا أحادثه وأنا واقف وهو جالس فقلت له بصوت يسمعه توفيق الحكيم: أتعرف سيادتكم لماذا أنابني توفيق بك في إلقاء كلمة الاتحاد؟ - لماذا؟ - لأنه سيكتب ولا ينال أجرا على ما كتب.

وضحك الرئيس ملء فمه وقال لتوفيق بك: لماذا يعاكسك أبناؤك يا توفيق بك؟

وضحك توفيق بك.

وألقيت كلمتي وعلق عليها الرئيس السادات تعليقا كريما، ومن طريف ما دار حول الكلمة أن عضوا من الاتحاد مشهورا بتفاهته سألني هل أنت الذي كتبت هذه الكلمة؟ فلم أجب سؤاله وإنما رويته على سبيل الفكاهة لصديقي سعد وهبة، فضحك وقال: إن لم يكن أنت كاتبها فلا بد أن يكون طه حسين هو الذي كتبها، فهذا الأسلوب لا يكتبه إلا هو.

وقد رويت هذه الواقعة لأظهرك على مدى التفاهة التي قد يصل إليها بعض مدعي الأدب.

ومن طريف ما حدث في ذلك اليوم أن الرئيس السادات بعد انتهاء مراسم الاحتفال ظل بيننا يجوس الحديقة متحدثا للأدباء وأذكر أنني قلت له: يا سيادة الرئيس أنت أول إنسان في التاريخ يضحك على اليهود.

فضحك وقال: بيجن يقول دائما لن أنسى ما فعلته بي عمري كله.

قلت له: يا سيادة الرئيس سيادتك غضبت من البيان الذي كتبناه بينما كان البيان من ضمن علامات التمويه التي استعملتها سيادتك بذكاء شديد قبل المعركة.

فضحك وقال: فعلا، فعلا لك حق.

ولم يتركنا الرئيس إلا بعد أن رجوته أن يصعد إلى البيت حتى يصيب قدرا من الراحة بعد هذا الجهد فقال: شكرا، لك حق.

وصعد.

ولقيته بعد ذلك في أوائل أيام اجتماع مجلس الشورى في لقاء استدعاني إليه، فازددت به إعجابا في الاجتماع الذي لم يكن معنا فيه ثالث.

وانتهى المصيف وعدت إلى القاهرة، وفي يوم بينما كنت في مكتبي بالأهرام طلبني أخي أنيس منصور في التليفون، وقال لي إن الرئيس يهنئك بتعيينك في مجلس الشورى، فشكرت صديق عمري ورجوته أن يشكر الرئيس باسمي.

أما كلماتي في مجلس الشورى فقد نشرت بالجرائد ولا أستطيع أن أجمعها، ولا أرى داعيا لذلك أيضا.

ولكن وقعت قصة طريفة أجد من حقها أن أنشرها، في إحدى الجلسات تكلم أخي عبد الرحمن الشرقاوي وكنت أعارض كل ما قاله، فوقفت بعد جلوسه لأرد عليه وأذكر أنني شددت عليه النكير وتكلمت بحماسة معارضا له، وجلست وكان عبد الرحمن يجلس ورائي في المجلس فغمز كتفي وقال: ألا تحب أن تشرب فنجان قهوة. - أحب جدا. - هيا بنا.

وخرجنا أنا وهو نرتشف القهوة ونتحدث في كل شيء إلا ما دار في الجلسة، وكان الأعضاء كلما رأونا دهشوا وأبدوا لنا تعجبهم من جلستنا معا، فكنا نقول لهم اختلاف الرأي شيء والصداقة شيء آخر. •••

في يوم مصر الحزين الذي فقدت فيه زعيما من أعظم زعمائها كنت في سويسرا والله وحده يعلم كم بكيت وأمليت رثاءه بالتليفون من لوزان. ولم أطق أن أكمل الفترة التي كنت مقررا أن أبقى فيها خارج مصر حزنا على السادات، فقطعت إجازتي وعدت إلى القاهرة.

وكان د. صبحي عبد الحكيم رئيس مجلس الشورى في ذلك الحين قد أصيب في ساقه في يوم المنصة المشئوم، فبادرت بزيارته، فأخبرني أن الرئيس مبارك يريد أن يراني.

وكنت قد التقيت بالرئيس العظيم في اجتماعات الحزب الوطني وتكلمت أمامه حين كان نائبا لرئيس الجمهورية، ومن أفضاله علي وعلى كتاب مصر أنني طلبت في أحد الاجتماعات أن تعفي الحكومة الكتاب الأدبي من الضرائب أسوة بالكتاب الجامعي ، وكانت حجتي أن الكتاب الجامعي سيوزع حتما أما الكتاب الأدبي فمصيره مجهول.

وفي الاجتماع التالي أعلن السيد الرئيس مبارك: وأعفينا الكتاب الأدبي من الضرائب علشان خاطر الأستاذ ثروت.

وأذكر أنني تكلمت أمامه بضع مرات وكنت ألمح في وجهه رضاءه عن كلماتي.

فحين أخبرني د. صبحي أن الرئيس يريد أن يراني بادرت بطلب المقابلة، وبعد أيام قلائل كلمني صديق لي على صلة بالحزب الوطني ليخبرني أن الرئيس سيراني في الساعة الواحدة من يوم كذا.

وقبل الموعد بربع ساعة كنت في مقر الرئاسة، فلقيني الرجل الذي أصبح من أحب أصدقائي أخي جمال عبد العزيز سكرتير الرئيس، وفي ابتسامة مشرقة قال لي: إنك ستقابل الرئيس، ولكن لماذا تأخرت؟ - كيف إن موعدي الساعة الواحدة؟ - بل موعدك الساعة الحادية عشرة. - لقد كلمني فلان أخبرني أن موعدي الساعة الواحدة، وليس من المعقول أن أتأخر عن موعد مع رئيس الجمهورية، وأنا أدور بالسيارة منذ نصف ساعة حول المقر حتى أحضر قبل الموعد بربع ساعة.

وضحك جمال بك، وقال إن الذي كلمك لا شأن له بمواعيد الرئيس، وعلى كل حال حصل خير.

ولقيت الرئيس العظيم ومنذ ذلك اليوم وأنا أشعر أنني أحظى بثقته؛ لأنه أدرك أنني لا أكذبه في شيء قط، وأدرك أيضا أنني غير طامع في شيء على الإطلاق.

وكلفني الرئيس العظيم بعد ذلك ببعض مهام أرى من حقه علي أن أبقيها طي الكتمان فقد كانت جميعها لمصلحة مصر ومصر وحدها، وفي يوم من الأيام فوجئت بالأستاذ سامي متولي صديقي وزميلي بالأهرام يكلمني في بيتي: مبروك. - مبروك ماذا؟ - ألا تعلم؟ - لا والله لا أعلم. - لقد رشحك الرئيس لتكون وكيلا لمجلس الشورى. - أنا لا أعرف شيئا عن هذا مطلقا.

وكان موعد نومي في القيلولة قد حان، فدخلت حجرتي ونمت كأنني لم أسمع شيئا، وحين صحوت أبلغني أهل بيتي أن الأستاذ كمال الشاذلي سأل عني وقبل أن أطلبه طلبني، وقال وهو يضحك قائلا: أنت نائم يا أخويا!

فضحكت وقلت: هل هناك مانع؟

وأبلغني بنبأ ترشيحي لوكالة مجلس الشورى التي ما زلت أشغلها حتى اليوم.

أيها القارئ العزيز

هذه لمحات من حياتي ورأيت أن أقدمها بين يديك قبل أن يجف مني القلم وترتعش مني اليد، ربما أكون قد أخفيت شيئا ولا شك أنني نسيت أشياء، ولكني أحسست أن من حق القراء الذين وهبوا لي رضاءهم الذي أحيا به وله، أن يعرفوا بعض الخوافي من حياتي، وأحمد الله إليهم أنني اليوم لا أطمح إلى أي منصب، فإن أي منصب سيقف حائلا بيني وبينهم إلا هذا المنصب الذي أشغله اليوم، والذي أقنع به كل القناعة؛ لأنه يتيح لي أمرين هما كل ما أعيش له، أولهما: أن أخدم في مجلس تشريعي مصر التي أعبدها بعد الله عبادة محب مقدس أرضها وسماءها وشعبها وهواءها وكل ما فيها. أما الأمر الثاني: فهو أن أظل ممسكا بهذا القلم ليكون صلة بينك وبيني، وهي صلة أعتبرها أنا أكرم الصلات وأشرفها وأرفعها قدرا في صلات البشرية جميعا، والحمد لله على الكثير الكثير الذي أعطى والقليل القليل الذي منع، له الشكر والفضل على الحالتين تقدست آلاؤه.

ثروت أباظة

الأهرام في 30 أكتوبر سنة 1992م

الموافق 3 ربيع ثاني سنة 1413ه

صفحه نامشخص