في كلمات من التأميل والسخط والألم والنفرة وغيرها مما هو من لغة الحرص على الحياة؛ فهو على الأرض وكأنه يعيش في سحابة تجري بها الريح، ولعمري كيف تهنأ الحياة مثل هذا إلا إذا كان أديم الأرض من ورق الزهر، وكانت مزابل هذه الدنيا رياضا غناء، وعدت الطيور الجميلة من كلاب هذه المزابل؟!
كذلك لا يسعد أكثر الناس بالحياة ولكنهم يشقون بالحياة والموت؛ ومن ثم ظلموا التعاسة فجعلوها أصغر مما هي، كما ظلموا السعادة فتوهموها أكبر مما تكون.
قال «الشيخ علي»: واعلم يا بني، أن القدر وإن كان من السماء، ولكن تاريخه ثابت في الأرض، وما كانت المصائب جديدة في الحياة، وهذه المحابر التي كتب منها تاريخ الإنسان لا تزال كما كانت من قبل تشرق بالدماء وبالدموع، ولا يزال الدهر يمد منها ولا يزال يكتب من هذا المداد؛ فمم يخاف هذا الإنسان الجديد، وليس فيما ينزل به إلا ما نزل بمن قبله، وما هو بخالد ولا هو بمتروك لما يحاوله، ولقد علم يقينا أن الله لم يخلق فيما خلق مقراضا يقلم أظفار الموت؟ يريد من قدر الله زلالا صافيا كأنه ماء مرشح يصب من حياته في كأس من البلور! ويبتغي أن يكون في الأرض تاريخا جديدا سلسا منقحا ليس فيه شيء من تلك الألفاظ الجافية في نبوها وخشونتها: ألفاظ التخريب والتدمير والتقتيل والجوع والمرض والأحزان والهموم ونحوها.
فأما أن يكون من ذلك التاريخ القديم الذي تمليه قدرة الله على الطبيعة، ثم لا يكون إلا كالطبيعة نفسها في النظم والنسق ، ولا يجيء الإنسان الجديد فيه إلا طباقا أو ناسخا أو منسوخا؛ فهذا هو موضع النفرة ومكان الأذاة، ومنه مثار الهم وإليه مسرب الدمع، وذلك والله معنى إن لم تنشأ منه تعاسة الإنسان فهو على كل حال من تعاسته.
الإنسان كله يا بني منطو في رأسه، وما هذا الجسم إلا أداة، منها ما يحمل الرأس، ومنها ما يحمل إليه، ومنها ما يحمل عنه؛ فالجسم دابة من الدواب لا أكثر ولا أقل، والرءوس لا يمكن أن توزن بميزان حتى يعلم فرق ما بين رأس ورأس آخر، فالإنسان مختبئ محجب، وكأنه لا يزال منه جزء عند الله، فما ينفك يجد من نفسه ما يبعثه على النزوع إلى الغيب والفكر في المستقبل؛ لأن هذا المستقبل تمام له، ولا يبرح يشعر بالحياة شعور المتألم أو المتعب أو المكدود أو المغيظ أو المفزع أو أي ما يكون من أشباهها؛ لأن هذا الحاضر غير تام به ولا كامل معه، وليس ذلك بعجيب، ولا من العجيب أن يألم الإنسان لحياته؛ ألا يرى أنه في جسم لا راحة للروح إلا بعد تحطيمه؟
ومن ههنا تفاوت الناس؛ فمنهم من تراه كأنه يحاول أن يكشف عن جزئه الذي في الغيب ويصل بينه وبين حاضره، فيتوهم في الحياة ما ليس فيها ويسخرها لأوهامه باطلا، ومنهم من يقبل على شأنه ويأخذ الحاضر بما فيه، ويعرف أنه حي ولكن على شروط لا بد منها للحياة.
فأما الجاهل الأحمق المخدوع فكأنما يرى في مرآة خياله الغيب كله، أو ما يظنه الغيب كله، فلا يعدو أن يسترسل في ظنونه وأوهامه استرسالا أشبه بالأبد الذي لا حد له؛ ومن ثم لا يرضيه شيء ما دام في هذه الحياة شيء لا يرضيه، ولا يقنعه شيء ما دام في الدنيا شيء لا يناله، وكل مصيبة يخشاها أو يتوقعها فكأنما هي نازلة به أو قد نزلت، وعنده أن كل ما يمكن أن يكون فينبغي أن يكون، وما هو جائز فليس ما يمنع أن يكون واجبا، وما قيل إنه غير جائز فهو غير مستحيل، وما الذي يمنع أن تخسف به الأرض، أو تقع عليه السماء، أو ينحدر إليه رجم من الشهب، أو ينهتك حجاب قلبه،
21
أو يسل البلاء خيط عظامه، أو يخالط جوفه كل داء دوي، ثم ما شئت من «أو» بعد «أو» ... إلى أبعد حد مما انتهى إليه أهل الفقر في الفقر، وأهل الأمراض في الأمراض، وأهل الأحزان في الأحزان، وأهل المصائب في المصائب؛ فيذهب العمر باطلا بالذي عليه والذي له، ويجني هذا الإنسان على نفسه من أثر الخوف والطمع ما لا يستقيله أبد الدهر، فلا يهنأ بموجود، ولا يطمئن إلى مرجو، ولا تكون آماله إلا مخاوف مستبهمة لا مأتى لها من الحقيقة، فيجد روح التعاسة في أشياء كثيرة، ولا يكاد يصيب العزاء في شيء قليل!
وهنا يا بني الحفرة التي يقبر فيها بعض الأحياء ليعيشوا عيشة وهمية، أو ليموتوا موتا وهميا، تلك الحفرة التي يقضي الأحمق شطرا من عمره واثبا في الأوهام بين شاطئي الدنيا والآخرة، حتى إذا انتهى إليها تردى فيها، وكان الرأي لو ادخر لها بعض تلك الوثبات.
صفحه نامشخص