قال «الشيخ علي»: يا بني إن الحرص جبن، والجبن ذل، والذل استعباد، وما يدخل من هذه الأبواب إلا الشر، فكن حرا من الأهواء كما خلقت، وكما خلقت الحرية التي لا قيد لها من رذائل الدنيا، فإنك لن تراع ولن تعرف مما يسميه الناس تعاسة أكثر مما تعرف مما يسمونه سعادة، ولن تجد في مصائب الحياة ما يموت دونه الصبر الجميل؛ فإن عمر هذا الصبر أطول أبدا من عمر الصابرين!
لذلك لا يغضب الفيلسوف، ولا يخاف الشجاع، ولا يبخل الكريم، ولا يذل الأنوف، ولا ينافق الرجل الحر، ولا يكذب الرجل الشريف؛ وإنما هذه مظاهر محدودة من حرية النفس، فكيف بالنفس إذا كانت حرة من كل أقطارها؟!
وقديما علم الناس أن من لا يبالي بشهوات جسمه هو الذي يستريح وادعا، ويتعب التعب في البحث عنه، وما علمت ولا علم الحكماء والأطباء غذاء تسمن عليه المصائب والأحزان إلا الحرص على الشهوات!
وليت شعري ما هي هذه الشهوات؟ أما إنها في الحقيقة نزعات طبيعية لا بد منها بمقدار؛ لأن الطبيعة الإنسانية تعالج نفسها بما يعينها على البقاء،
19
وما يجعلها صالحة له على الوجه الأفضل؛ فهي تغري الإنسان مرة وتؤلمه مرة، كل ذلك ليجلب لها أو يدفع عنها، فما تسميه لذة من لذات الجسم إنما هو علاج طبيعي من ألم طبيعي لا أكثر ولا أقل، كالأكل مثلا، فما كانت الطبيعة لتغري به هذا الإغراء حتى فات عند أكثر الناس حد اللذة، لولا أن الجوع انحلال في الجسم؛ فإن هو أسرف عليه أو استمر به أوقع فيه الفساد وركبه بالضعف علة بعد علة.
غير أن الإنسان بما فيه من شبه البهيمة ينجذب إلى طبع البهيمة غالبا، ونسي أن للبهائم وازعا طبيعيا هو فضيلتها الخاصة بها، فأقبل يرتع ما شاء، وجد به الحرص بمقدار ما يطمع فيه، وغلبه الطمع على بصيرته، فلا يكون في إنسانيته إلا بهيمة تتخيل وتتفنن ما لا يتفنن إنسان ولا بهيمة، وما تجد من مستهتر بالشهوات إلا وجدته من أجل ذلك راضيا مغتبطا يتمنى لو أنه في هذه الشهوات بهيمة البهائم كافة!
أف لهذه الدنيا! يحبها من يخاف عليها، ومتى خاف عليها خاف منها، فهو يشقى بها ويشقى لها، ومثل هذا لا يكاد يطالع وجه حادثة من حوادث الدهر إلا خيل إليه أن التعاسة قد تركت الناس جميعا وأقبلت عليه وحده، ولولا الخوف يزلزل قلبه لأدرك الفرق بين النسمة والعاصفة، وعلم أن اللفظة لا يلزم منها أن تخلق معناها، وأن ليس كل ما نسميه تعاسة يكون في حقيقته من التعاسة.
وترى الواحد من هؤلاء لا يزال يلوك لسانه
20
صفحه نامشخص