والسبب الثاني: الجهل؛ ونعني به الجهل بأن الناس مثلنا، يحسون إحساسنا، ولهم من الحقوق مالنا، وعلينا من الواجبات ما عليهم، فالإنسان يتخيل أن ليس لغيره مثل إحساسه، وأنهم لا يتألمون من الشر كما نتألم، وأن ليس لهم من الحق في الحياة والسعادة ماله، ومن أجل ذلك يتخذهم وسائل لمنفعته الشخصية، وقد حمله على هذا التفكير السيئ السبب الأول وهو الأثرة.
إذا زال هذا الجهل واتسع مجال الفكر وعرف الإنسان حقا أن الناس مثله سواء بسواء في شعورهم وحقوقهم وواجباتهم حقق القواعد الذهبية التي وضعها الأنبياء والمصلحون مثل «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به» و«أحب لأخيك ما تحب لنفسك» و«اليد العليا خير من اليد السفلى» وفي ذلك تحقيق المثل الأعلى للأخلاق. •••
مراعاتك جسمك حتى يكون صحيحا قويا، وعقلك حتى يكون صحيحا قويا، وخلقك حتى يكون صحيحا قويا، هو ما يجب عليك نحو نفسك، وهذا وحده السبيل لسعادتك وسعادة أمتك بك. (2-3) واجب الإنسان نحو أسرته
لكل الحيوانات - تقريبا - مأوى تأوى إليه، فللطائر وكره، وللسبع عرينه، وللنحل خلاياه، ويكاد يكون هذا المأوى أعز شيء عندها، فما أسعد الطائر يرفرف بجناحيه يروح ليلا إلى وكره، وما أخوفه إذا اقترب أحد منه فهدد بيضه أو فرخه، وما أضرى السبع إذا قصد أحد عرينه، لا شىء يثير الخوف والغضب عند هذه المخلوقات أكثر من أن يمس بسوء مأواها.
كذلك الإنسان يجب أن يكون بيته أعز بقعة على الأرض عنده، إن علاقة الإنسان ببيته أقوى من علاقة الحيوان بمأواه، ذلك لأن حاجة الحيوان الصغير إلى أبويه قليلة إذا قيست بحاجة الطفل، فصغار الطيور مثلا بعد أسابيع قليلة تقوى وتطير، وتفارق عشها وتستقل بنفسها، وتبني لها عشا خاصا بها، وتضعف علاقتها بآبائها إن كان ثم علاقة. أما الطفل فلا بد له من سنين طويلة حتى يستطيع أن يستقل بنفسه، وإذا استقل فلا تزال العلاقة بينه وبين أسرته قوية متينة، وسبب ذلك أن بناء الإنسان أكثر تركبا، ومطالب الحياة لديه أكثر تعقدا، فهو محتاج إلى زمن أطول حتى يتسلح للكفاح في هذا العالم ويؤدي واجبه.
في هذا البيت يتعلم الطفل أهم دروس الحياة، ولو خرج إلى العالم قبل أن يستكمل تربيته المنزلية لكان متوحشا، فالبيت في الحقيقة هو أكبر ممدن له.
في هذا البيت يتعلم كثيرا من الدروس، فمن حبه لإخوته وأخواته ووالديه يتعلم درس حب الناس وحب الوطن، ومن طاعته لوالديه يتعلم طاعة قوانين البلاد وقوانين الأخلاق.
وإذا كان للبيت من المنزلة ما بينا كان علينا نحوه واجبات نجملها فيما يأتي:
يجب على كل فرد في الأسرة أن يعمل على أن يكون بيته أسعد مكان، فخشونة المعاملة وخشونة القول والإساءة وإثارة الشحناء ونحو ذلك كل هذه إذا كانت خارج البيت رذيلة فهي في البيت أرذل.
ومما يؤسف له أن كثيرا من الناس يتجملون في أخلاقهم مع أصدقائهم ومن يتعاملون معهم فإذا حلوا في بيتهم تبدلت أخلاقهم إلى قسوة وخشونة وفظاظة وانقلب ذلك الصوت الهادئ المؤدب إلى هجر في القول وسوء في الأدب، والحق أن أدل شيء على الأخلاق الحقيقية هو خلق البيت لا خلق الشارع، فخلق الشارع خلق التصنع، والإختلاف في المعاملة بين أهل بيته ومن في الخارج يدل على أن الخلق الجميل ليس شيئا في نفسه، وإنما هو كالثوب الجميل يلبسه إذا خرج ويخلعه إذا عاد.
صفحه نامشخص