فهز الملك رأسه الكبير وقال: يحسن بك أيها الكاهن أن تصغي إلي، إن قانون الهكسوس لا يتغير على مدى الأيام والأجيال، وهو سنة الحرب والقوة إلى الأبد، نحن بيض وأنتم سمر، ونحن سادة وأنتم فلاحون، فالعرش والحكومة والإمارة لنا، فقل لقومك: من يعمل في أرضنا عبدا فله أجره، ومن تأب عليه نفسه فليول نفسه وجهة يرضاها في غير هذه الأرض، وقل لهم: إني أهدر دم بلد كامل إذا امتدت يد بسوء إلى أحد من رجالي، وإذا أردت أن أحقن دماء الناس - فيما عدا أسرة سيكننرع - فليأت إلي سادتكم بمفاتيح طيبة سجدا ... أما أنتم أيها الكهنة فعودوا إلى معبدكم وأغلقوا عليكم أبوابه إلى الأبد!
ولم يرد أبوفيس أن تمتد المقابلة إلى أكثر من هذا، فقام واقفا إيذانا بانتهائها، فانحنى الكاهن مرة أخرى وفارق المكان.
وشربت طيبة الكأس حتى ثمالتها، فحمل الوزراء والقضاة مفاتيحها وذهبوا إلى أبوفيس وسجدوا له .. وفتحت طيبة أبوابها ودخلها أبوفيس على رأس جيوشه الغازية الظافرة.
وفي ذلك اليوم أهدر الملك دماء أسرة حاكم طيبة، وأمر بإغلاق الحدود بين مصر والنوبة، ثم احتفل بالنصر احتفالا عظيما اشتركت فيه الجيوش جميعا، وقسم الأرض والأموال بين رجاله، فصار الجنوب ملك يده أرضا ورجالا.
بعد عشرة أعوام
1
انقشعت سحب الظلام عن زرقة الفجر الناعسة، فتبدت صفحة النيل تتنفس نسائم الغسق،
قائداها - اللذان جلسا بمقصورة السفينة المتقدمة - فكانا مصريين كما يدل لون بشرتهما الأسمر، وقسماتهما الواضحة، وكان أولهما شابا لا يكاد يبلغ العشرين من عمره، حبته الطبيعة طولا فارعا، وقدا نحيلا دقيقا، وصدرا عريضا متينا، ينطق وجهه المستطيل بالنضارة والجمال الفائق، وعيناه السوداوان بالصفاء والحسن، وأنفه المستقيم الأشم بالقوة والتناسق، فهو من الوجوه التي أودعتها الطبيعة جلالها وجمالها معا، يرتدي لباس التجار الأثرياء، ويلف جسمه الرشيق في عباءة ثمينة، قدت على صورة جسمه، وكان صاحبه شيخا في الستين، يميل إلى النحافة والقصر، بارز الجبهة في استواء وارتفاع، تدل جلسته على الهدوء الذي يلازم الشيخوخة غالبا، وأما نظرة عينيه فتنفذ إلى الأعماق .. وكان يبدو أن همه منصرف إلى العناية بالشاب، أكثر مما هو منصرف إلى التجارة التي تحملها السفن، فلما دنت القافلة من منطقة الحدود، برحا المقصورة ومضيا إلى مقدمة السفينة، يتطلعان بعينين مشوقتين جرى فيهما الحنين، ثم سأل الشاب بحماس وجزع: هل ترى تطأ أقدامنا أرض مصر؟ قل ماذا نحن فاعلون الآن؟
فقال الشيخ: نرسي القافلة على هذا الشاطئ، ونبعث في قارب رسولا إلى الحدود، يبتغي لنفسه سبيلا يمهده بقطع الذهب. - إن اعتمادنا كله على ما عرف به القوم من طاعة الرشوة وتلبية نداء الذهب .. أما لو خاب ظننا ...
وسكت الشاب عن الكلام وقد لاح في عينيه القلق، فقال الشيخ: ما دام الظن سوءا فإنه لا يخيب مع هؤلاء القوم!
صفحه نامشخص